عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الموضوع أو المتعلّق الموصوف وعليه فلا يدلّ التعليق المذكور على أنّ الوصف علّة تامّة وعلى فرض التسليم لا ينفى احتمال تعدّد العلّة هذا مضافا إلى أنّه مجرّد إشعار وهو غير الدلالة.

ولا يقاس الوصف بالشرط لما عرفت من وضع الشرط للإناطة والعلّيّة ودلالة اطلاق الشرط على الانحصار ولا وضع ولا دلالة في الوصف كما لا يخفى.

ودعوى أنّ الوصف بعنوانه متمّم لقابليّة القابل والموضوع وهو معنى الشرط حقيقة وحيث أنّ الظاهر دخله بعنوان الخاصّ لا بعنوان كونه مصداقا للجامع بينه وبين غيره وأنّ المنوط بهذا الوصف نفس الوجوب بما هو وجوب لا بما هو شخص من الوجوب فلا محالة ينتفي سنخ الوجوب بانتفاء ما هو دخيل في موضوعيّة الموضوع لسنخ الحكم فقياس الوصف بالشرط في محلّه مندفعة بأنّ الوصف متمّم لقابليّة الموضوع وعلل قوامه لا من علل الحكم وهذا هو الفرق بين الوصف والشرط فإنّ الشرط من علل الأحكام والوصف من علل الموضوعات وانحصار تتميم الموضوع في وصف لا يدلّ على علّيّة الموضوع أو انحصار العلّيّة في الموضوع بالنسبة إلى الحكم وعليه فلا وجه لجعل الوصف في معنى الشرط وإرجاع القضيّة الوصفيّة إلى القضيّة الشرطيّة.

ومنها أنّ الأصل في القيود أنّها للاحتراز ولا معنى للاحتراز إلّا هو المفهوم.

وبعبارة أخرى أنّ التخصيص بأمر زائد على الذات كقولك صلّ خلف العادل لا بدّ فيه من فائدة وحيث أنّه لا فائدة إلّا نفي الحكم عن غير الموصوف بوصف كذا أوجب ذلك القطع بهذا النفي وليس ذلك إلّا هو المفهوم.

يمكن أن يقال لا كلام في ما إذا علم أنّ الموصوف علّة منحصرة في ترتّب الحكم عليه فإنّ الحكم حينئذ ينتفي بانتفاء الموصوف ولكنّه ليس من جهة دلالة الجملة الوصفيّة بل لقيام قرينة خاصّة.

٤٨١

والأصل في القيود وإن كان للاحتراز إلّا أنّه لدفع احتمال كون الوصف مذكورا من باب الاهتمام أو التوضيح أو الابتلاء وإثبات دخالته في تحقّق موضوع الحكم وهذا لا يوجب حمل الأوصاف والقيود على بيان العلّة فضلا عن انحصارها لأنّ الاحتراز يكفيه دخالة القيود والأوصاف في تحقّق موضوع الحكم وتضيقه ولا موجب للأزيد منه ما لم يقم قرينة خاصّة وبالجملة إثبات شيء لشيء لا ينفي إثباته عمّا عداه.

فإذا قيل جئني بحيوان ناطق لا يدلّ هذه الجملة إلّا على مطلوبيّة إيتاء الانسان للخدمة ولا ينافي هذا مطلوبيّة إيتاء الحيوان أيضا لجهة من الجهات كالركوب ونحوه ولذا لو قيل بعد هذه العبارة جئني بحيوان فهم منه تعدّد المطلوب فكما أنّ جئني بإنسان لا مفهوم له فكذلك جئني بحيوان ناطق لا مفهوم له ووصف الناطقية لا يدلّ على انحصار المطلوبيّة في الحيوان الناطق كما لا يخفى.

ومنها أنّه لو لم تدلّ القضيّة الوصفيّة على المفهوم فلا موجب لحمل المطلق على المقيّد وقد أنكر شيخنا بهاء الدين قدس‌سره على منكري مفهوم الوصف بقوله بأنّهم قد قيّدوا بمفهوم الصفة في نحو أعتق في الظهار رقبة مؤمنة فإذا لم يكن مفهوم الصفة حجة عندهم كيف يقيّدون بها فما هذا إلّا التناقض.

فممّا ذكر يظهر أنّ مورد عدم حجّيّة المفهوم مختصّ بغير موارد الإطلاقات وأمّا فيها فمفهوم الوصف حجّة.

يمكن أن يقال لا فرق في عدم حجّيّة مفهوم الوصف بين موارد الإطلاقات وغيرها ما لم يحرز وحدة المطلوب بقرينة خارجيّة إذ لا وجه لحمل المطلقات على المقيّدات في المثبتات لاحتمال مطلوبيّة كليهما فمع عدم إحراز وحدة المطلوب فالمقيّد يدلّ على مطلوبيّة المقيّد ولا ينافي ذلك مع مطلوبيّة المطلق أيضا بدليل آخر وعليه فانتفاء الوصف لا يدلّ على عدم حكم آخر بالنسبة إلى ذات الموصوف بعد احتمال تعدّد المطلوب.

٤٨٢

نعم لو كان المطلوب واحدا كما في مثال إن ظاهرت فأعتق رقبة وإن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة فاللازم هو حمل المطلق على المقيّد والمراد من الحمل أنّ المقصود من المطلق في الخطاب المذكور هو المقيّد فقوله أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة في قوّة أن يقال من أوّل الأمر أعتق رقبة مؤمنة فالقيد والوصف لتحديد الموضوع وليس ذلك من جهة دلالة الوصف على المفهوم بل من جهة العلم بوحدة الطلوب وحصول المناقضة العرضيّة بينهما.

فإنّ مقتضى المطلق أنّه هو المطلوب لا المقيّد ومقتضى المقيّد أنّه هو المطلوب لا المطلق والجمع بينهما يقتضي حمل المطلق على المقيّد لمنصوصيّة دلالته بالنسبة إلى المطلق ولأنّ رفع اليد عن المقيّد يوجب لغويّة المقيّد بخلاف العكس فإنّ المطلق بإطلاقه يشمل المقيد أيضا وهذا الجمع غير مرتبط بالمفهوم بل يكون من جهة المنطوقين المذكورين فتحصّل أنّ مفهوم الوصف ليس بحجّة لا في المطلقات ولا في غيرها ما لم يقم قرينة خاصّة كمقام التحديد ونحوه.

بل بعد العلم بوحدة المطلوب وحمل المطلق على المقيّد يحكم بعدم كون المطلق محكوما بالحكم المذكور في القضيّة ولا دلالة للقضيّة على انتفاء الحكم عن المطلق بجهة أخرى من الجهات بعد ما عرفت من عدم دلالة الجملة الوصفيّة على المفهوم فلا تغفل.

هنا تفصيلان :

أحدهما : الفرق بين الأحكام الوضعيّة والأحكام التكليفيّة بمنع المفهوم في الثانية دون الأولى لعدم التعدّد والشدّة والضعف فيها بخلاف الأحكام التكليفيّة فاللازم هو حمل المطلق على المقيّد في الوضعيّات وفيه أنّ وجه حمل المطلقات في الوضعيّات على المقيّدات هو العلم بوحدة السبب فيها غالبا وهو كما عرفت موجب للحمل المذكور مطلقا من دون فرق بين الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة ومع

٤٨٣

وحدة السبب يكشف عدم قابليّة المطلق للسببيّة فنفي السببيّة عن المطلق ليس من جهة مفهوم الوصف بل من جهة عدم قابليّة المطلق للسببيّة ووحدة السبب.

وثانيها : أنّه لا فرق في عدم دلالة الوصف على المفهوم بين نفي الحكم عن حصص أخرى غير الحصّة المذكورة كقولنا أكرم رجلا عالما فإنّه لا يدلّ على نفي وجوب الإكرام عن حصّة أخرى كالرجل العادل أو الهاشمي ونحوهما وبين نفي الحكم عن طبيعي موصوفه على نحو الإطلاق كقولنا أكرم رجلا عالما فإنّه لا يدلّ على نفي وجوب الإكرام عن طبيعة الرجل بجهة من الجهات غير الجهة المذكورة في شخص هذه القضيّة وبالجملة ، فكما لا دلالة للوصف على المفهوم بحسب الأوّل فكذلك لا دلالة له على المفهوم بحسب الثاني.

وظهور القيد في الاحتراز ودخله في الموضوع لا ينفي الحكم عن طبيعي موصوفه من سائر الجهات غير الجهة المذكورة في شخص هذه القضيّة إذ كلّ قيد وإن كان في نفسه ظاهرا في الاحتراز ودخله في الموضوع نفي أنّ الحكم غير ثابت له إلّا مقيدا بهذا القيد لا مطلقا وإلّا لكان القيد لغوا ولكن ذلك كلّه بالنسبة إلى شخص الحكم المذكور في القضيّة ولا نظر له بالنسبة إلى سنخ الحكم ولو من سائر الجهات وعليه فكما أنّ الوصف لا ينفي الحكم عن سائر الحصص فكذلك لا ينفي سنخ الحكم عن طبيعة الموصوف من سائر الجهات.

فلا مجال لاستنتاج حمل المطلق على المقيّد ولو كان التكليف متعدّدا بدعوى أنّ القيد ظاهر في الاحتراز فيدلّ على أنّ الحكم وهو وجوب الإكرام لم يثبت لطبيعة الموضوع على الإطلاق وإنّما يثبت لحصّة خاصّة منه وهو العالم العادل في مثل قوله أكرم عالما وأكرم عالما عادلا من دون فرق بين كون التكليف واحدا أو متعدّدا وذلك لما عرفت من عدم المنافاة بين عدم ثبوت شخص الحكم المذكور في هذه القضيّة لطبيعة الموضوع على الإطلاق وبين أن يكون محكوما بسنخ الحكم بجهة أخرى غير

٤٨٤

شخص هذا الحكم.

وعليه فلا منافاة بين أكرم عالما وأكرم عالما عادلا إلّا إذا أحرز وحدة المطلوب وهكذا لا منافاة بين لا تكرم عالما ولا تكرم عالما فاسقا إلّا إذا أحرز وحدة المطلوب وأمّا مع عدم إحراز وحدة المطلوب فمقتضى أدلّة أكرم عالما هو مطلوبيّة إكرام طبيعة العالم كما أنّ مقتضى قوله لا تكرم عالما هو النهي عن إكرام طبيعة العالم فتدبّر جيّدا.

٤٨٥

الفصل الرابع : في مفهوم الغاية

ويقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في دلالة الغاية على المفهوم.

ذهب المشهور بل المعظم إلى أنّ تقييد حقيقة الحكم بالغاية يدلّ على انتفاء الحكم رأسا وسنخا عمّا بعد الغاية بناء على دخول الغاية في المغيّى ويدلّ على انتفاء الحكم رأسا وسنخا عن الغاية وما بعدها بناء على خروجها واستدلّ له بالتبادر والانسباق والخلف.

وأمّا التبادر والانسباق فلأنّ تقييد حقيقة الحكم بحدّ ظاهر في ارتفاعه بحصول الحدّ بالخصوص. ومعنى ارتفاع حقيقة الحكم بالحدّ هو ارتفاع جميع أفراده إذ حقيقة الحكم وطبيعيّة لا يرتفع إلّا بارتفاع جميع أفراده.

وأمّا الثاني فلأنّ مقتضى تقييد الحكم بما هو حكم بالغاية هو الدلالة على ارتفاعه عند حصول الغاية وإلّا لما كان ما جعل غاية له بغاية وهو خلف وقد أشار إليهما في الكفاية.

لا يقال : أنّ الثابت في مقام الإيجاب هو الإيجاب الجزئيّ لا الحقيقة والطبيعة لأنّ الهيئة وضعت لإيقاع البعث وإيجاده وليس هو إلّا جزئيّا حقيقيّا ومعه فالمقيّد بالحدّ ليس هو الطبيعة والحقيقة بل أمر شخصيّ جزئيّ وارتفاع الحكم الشخصيّ والجزئيّ بحصول الحدّ لا يدلّ على ارتفاع طبيعة الحكم وحقيقته وسنخ الحكم.

٤٨٦

لأنّا نقول ـ كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره ـ من أنّ الهيئة لمّا كانت آلة محضة للبعث والإغراء ولا التفات عند الإنشاء إلى الخصوصيّة والجزئيّة لا ينتزع منه العرف إلّا نفس الوجوب من غير توجّه إلى الجزئيّة والكلّيّة فيفهم من قوله اجلس إلى الزوال وجوبه إلى هذا الحدّ من غير توجّه إلى أنّ إيقاع الوجوب لا يكون إلّا جزئيّا فحينئذ يفهم من القضيّة المغيّاة انتفاء سنخ الحكم بعد الغاية (١).

وبعبارة أخرى التي أفادها المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره يمكن أن يقال : كما أنّ علّة الوجوب بما هو وجوب لا بما هو متشخّص بالوجود ولوازمه إذا انحصرت في شيء فلا محالة لا يعقل ثبوت الوجوب بما هو وجوب لشيء آخر ومقتضاه هو انتفاء سنخ الوجوب بانتفاء العلّة المنحصرة وإلّا لما كانت العلّة علّة منحصرة. فكذلك الغاية فإنّ طبيعة الوجوب بما هو وجوب إذا كانت محدودة بحدّ فلا محالة تنتفي عند حصول الحدّ والغاية وإلّا لم تكن الغاية غاية للوجوب بما هو وجوب بل بما هو شخص من الوجوب (٢).

وممّا ذكر يظهر أنّه لا وقع لدعوى عدم الجزم بالتبادر وإنّ المتيقّن من التعليق على الغاية هو تعليق شخص حكم القضيّة لا طبيعته.

وذلك لما عرفت من أنّ جزئيّة الحكم ممّا لا يلتفت إليه وإنّما الالتفات إلى أصل الحكم وهو معلّق أو محدود بحدّ فمع دلالة الجملة الشرطيّة أو القضيّة المغيّاة على الانتفاء عند الانتفاء تمّت الدلالة.

وبالجملة فالجملة الشرطيّة الدالّة على انتفاء التالي بانتفاء المقدّم تدلّ على المفهوم بناء على استفادة العلّيّة المنحصرة وهكذا القضيّة التي تكون حقيقة الحكم فيها مقيّدة بالغاية تدلّ على انتفاء حقيقة الحكم بحصول الغاية هذا بخلاف القضيّة الوصفيّة

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٢٢.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٧٩.

٤٨٧

فإنّها مجرّد إثبات حكم لموصوف ولا دلالة فيها على الانتفاء عند الانتفاء كما هو المعروف من أنّ إثبات شيء لشيء لا يدلّ على نفي ما عداه.

نعم لو كانت الغاية قيدا للموضوع لا للحكم فلا ريب في أنّ الجملة حينئذ تكون كالجمل الوصفيّة في أنّها ليس لها مفهوم مثلا إذا قيل في قوله سر من البصرة إلى الكوفة أنّ السير مقيّد بالابتداء من البصرة والانتهاء إلى الكوفة فمرجعه إلى طلب فعل واحد وهو السير أوّله كذا ونهايته كذا فالطلب إنّما تعلّق بالفعل المحدود من جهة الابتداء والانتهاء ولكن لا يكون أصل الطلب محدودا بحدّ.

ولذا يمكن أن يطلب بعد ذلك سيرا آخر وتحديد الفعل تقييده والتقييد كتوصيف الفعل بل عرفت أنّ موضوع البحث في مفهوم الوصف أعمّ من الوصف النحويّ وعليه فالقيود الراجعة إلى الموضوع كلّها داخلة في الوصف ولا مفهوم له فإذا لم يكن للغاية التي هي قيد للفعل مفهوم فلا مانع من أن يطلب المولى بعد السير المحدود بالحدود المذكورة سيرا آخر فيما إذا لم ير المصلحة في ذكر طلباته دفعة واحدة مثلا إذا رأى مولى أنّ عبده لا نشاط له ولم يطعه إن أمره بكنس داره من أوّلها إلى نهايتها أمره أوّلا بكنس الدار من الباب إلى الحوض ثمّ بعد إطاعته ذلك أمره بكنس ما بقي منها من الحوض إلى الجدار.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره قال : تقييد الحكم بخصوص الغاية دون غيرها مع كونه في مقام البيان يقتضي بحكم مقدّمات الإطلاق مدخليّة خصوص الغاية المذكورة في انتفاء الحكم وإلّا لزم عليه أن يقول مكان خصوص الغاية إلى هذه الغاية أو غيرها من الغايات وحيث لم يقل الّا خصوص الغاية فمقتضى مقدّمات الإطلاق هو مدخليّة خصوصها فلو ذكر بعدها غاية أخرى لكان مخالفا للظهور الإطلاقيّ المذكور كما لا يخفى.

وبهذا ينقدح أنّه كما يحتاج في مفهوم الشرط إلى جريان مقدّمات الإطلاق

٤٨٨

فكذلك يحتاج إلى جريانها في مفهوم الغاية ومن هذه الجهة لا فرق بينهما.

ولا يخفى ما فيه فإنّ ذكر غاية بعد الغاية المذكورة ينافي كون الغاية المذكورة غاية أساسا إنّ أريد أنّ الغاية النهائيّة الأصيلة هي التي ذكرت بعد الغاية الأولى وإن أريد أنّ الغاية الثانية هي غاية بعد الغاية الأولى ففيه أنّ الأولى والثانية من الغايات الزمانيّة أو المكانيّة التي تكون بينهما الأقلّ والأكثر فمع وجود الأقلّ لا مجال للأكثر كما لا يخفى.

نعم يمكن الأخذ بالإطلاق لدفع احتمال وجود غاية قبل حصول الغاية المذكورة فتدبّر جيّدا.

وكيف كان فالأقوى هو ما ذهب إليه المشهور بل المعظم من أنّ تقييد حقيقة الحكم بالغاية يدلّ على المفهوم وهو انتفاء سنخ الحكم بحصولها.

ثمّ إنّ الظاهر من منتهى الأصول أنّ الغاية غالبا تكون مفاد أحد الحروف الجارّة فتكون من قبيل الجارّ والمجرور ولا بدّ من تعلّق الجارّ والمجرور لشيء وبمقتضى القواعد العربيّة يكون المتعلّق هي الجملة التي تمّ الإسناد فيها فيكون من قيود الجملة بعد تحقّق الإسناد فيها لا من قيود عقد وضعها أو عقد حملها فمثل قوله عليه‌السلام كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه أو قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) وغيرها من الموارد ظاهرة في أنّ الغاية قيد للحكم المستفاد من الجملة التي سمّيناها بنتيجة الجملة فيكون حال الغاية حال الشرط في كونه قيدا للحكم لا للموضوع ولا للمحمول ولا حال الوصف من كونه قيدا لعقد الوضع أو الحمل قبل الإسناد (١).

ولا يخفى ما فيه حيث أنّ قيد الموضوع أو المحمول أيضا يكون مفاد أحد الحروف الجارّة ويحتاج إلى المتعلّق المقدّر وهو لا محالة يكون الجملة فالطريق المذكور

__________________

(١) منتهى الأصول : ج ١ ص ٤٣٨.

٤٨٩

لتشخيص قيد الحكم عن قيد الموضوع أو المتعلّق غير تامّ.

قال في المحاضرات إنّ الحكم في القضيّة إن كان مستفادا من الهيئة فالظاهر أنّ الغاية قيد للفعل وهو المتعلّق دون الموضوع حيث إنّ حالها حال بقيّة القيود كما أنّ الظاهر منها هو رجوعها إلى الفعل باعتبار أنّه معنى حدثيّ فكذلك الظاهر من الغاية.

وأمّا رجوعها إلى الموضوع فيحتاج إلى قرينة تدلّ عليه كما في الآية الكريمة المتقدّمة حيث إنّ قوله تعالى : (إِلَى الْمَرافِقِ) في هذه الآية غاية للموضوع وهو اليد لا للمتعلّق وهو الغسل وذلك لأجل قرينة وخصوصيّة في المقام وهي إجمال لفظ اليد واختلاف موارد استعماله وهو قرينة على أنّه سبحانه في هذه الآية المباركة في مقام بيان حدّ المغسول من اليد ومقداره ومن هنا اتّفق الشيعة والسنّة على أنّ الآية في مقام تحديد المغسول لا في مقام بيان الترتيب.

ولذا يقول أهل السنّة بجواز الغسل من المرفق إلى الأصابع وأفتوا بذلك وإن كانوا بحسب العمل الخارجيّ ملتزمين بالغسل منكوسا.

ونظير الآية في ذلك المثال المشهور (اكنس المسجد من الباب إلى المحراب) فإنّه ظاهر بمقتضى قرينة المقام في أنّ كلمة (إلى) غاية للموضوع وبيان لحدّ المسافة التي أمر بكنسها وليست في مقام بيان الترتيب ومن هذا القبيل أيضا قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) حيث إنّ الظاهر بمقتضى خصوصيّة المقام هو أنّ كلمة (إلى) غاية لتحديد حدّ الممسوح لا لبيان الترتيب.

ومن هنا ذهب المشهور إلى جواز المسح منكوسا وهو الأقوى إذ مضافا إلى إطلاق الآية فيه رواية خاصّة.

هذا كلّه فيما إذا كان الحكم في القضيّة مستفادا من الهيئة وأمّا إذا كان الحكم فيها مستفادا من مادّة الكلام فإن لم يكن المتعلّق مذكورا فيه كقولنا (يحرم الخمر إلى أن يضطر المكلّف إليه) فلا شبهة في ظهور الكلام في رجوع القيد إلى الحكم.

٤٩٠

وأمّا إذا كان المتعلّق مذكورا فيه كما في مثل قولنا (يجب الصيام إلى الليل) فلا يكون للقضيّة ظهور في رجوع الغاية إلى الحكم أو إلى المتعلّق فلا تكون لها دلالة على المفهوم لو لم تقم قرينة من الداخل أو الخارج عليها (١).

وأنت خبير بما فيه فإنّ دعوى ظهور كون الغاية قيدا للفعل فيما إذا كان حكم القضيّة مستفادا من الهيئة خالية عن الشاهد إذ مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (صم إلى الليل) من الموارد التي يكون الحكم فيه مستفادا من الهيئة ومع ذلك يكون الغاية فيه غاية للحكم لا غاية للمتعلّق كما يكون كذلك إذا كان الحكم فيها مستفادا من مادّة الكلام فلا فرق في ذلك بين أن يكون الحكم مستفادا من الهيئة أو المادّة بل لا فرق أيضا بين أن يكون المتعلّق مذكورا وبين أن لا يكون مذكورا فالتفصيلات المذكورة لا موجب لها لظهور الغاية في كونها قيدا للحكم المذكور قبله سواء كان بالهيئة أو بالمادّة فالأولى هو الإحالة إلى الاستظهار العرفيّ.

المقام الثاني : في دخول الغاية أو خروجها فصّل في الكفاية بين غاية الموضوع وغاية الحكم وقال في الأولى والأظهر خروجها لكونها من حدود الموضوع فلا تكون محكومة بحكمه وبالجملة يكون البحث في هذا المقام بحثا منطوقيّا فإنّ البحث في أنّ مدخول «إلى» و «حتّى» محكوم بحكم المغيّى أو غير محكوم بحث عن شمول المنطوق كما لا يخفى.

والمحكيّ عن نجم الأئمّة هو ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّ الغاية وهي النهاية حدّ الشيء والحدّ خارج عن المحدود كما يقال إنّ حدّ الدار أو المسجد هو الشارع العامّ والمراد من حدّ الشيء هو الحدّ العرفيّ لا الحدّ الفلسفيّ حتّى يقال بأنّه لا مساس له بمحلّ الكلام وممّا ذكر يظهر ما في كلام شيخنا الأستاذ الأراكي قدس‌سره حيث

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ١٣٨ ـ ١٣٩.

٤٩١

قال فالاستدلال للخروج بأنّ غاية الشيء حدّه وحدّ الشيء خارج عنه لا مساس له بمحلّ الكلام والظاهر الدخول في الغاية كما هو الحال في المبدأ فالسير من البصرة إلى الكوفة لا يتحقّق إلّا بالمسير المبتدأ في جزء من البصرة المنتهى في جزء من الكوفة وهكذا (١).

وذلك لما عرفت من المراد من حدّ الشيء في كلام نجم الأئمّة هو الحدّ العرفيّ لا الفلسفيّ هذا مضافا إلى ما في استظهاره الدخول في الغاية كما هو الحال في المبدأ مع أنّه في محلّ المنع لأنّ مفاد الأمر بالسير من البصرة إلى الكوفة ليس إلّا الأمر بالسير الواقع بينهما ولا دلالة له على دخول جزء من البصرة أو الكوفة بل الظاهر خروجهما كما يشهد له أمثال ذلك كالأمر بالسعي بين الصفا والمروة فتدبّر جيّدا.

نعم لا ينافيه دخول المدخول في بعض الموارد بالقرينة كقوله حفظت القرآن من أوّله إلى نهايته.

وقال صاحب الكفاية في الثانية أعني غاية الحكم هذا الخلاف لا يكاد يعقل جريانه فيما إذا كان قيدا للحكم ولعلّ وجه عدم المعقوليّة هو لزوم اجتماع الضدّين إذا كانت الغاية علما بالحكم المخالف مثل قوله عليه‌السلام (كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر) إذ يلزم من دخول الغاية أن تجتمع الطهارة والنجاسة في شيء واحد وهو محال.

ولكنّه منظور فيه لإمكان النزاع أيضا فيما إذا كان الحكم مقيّدا كقوله صم إلى الليل فإنّه قابل لأن يبحث فيه عن انقطاع وجوب الصوم بانتهاء اليوم أو بقائه إلى دخول مقدار من الليل أو إلى انقضائه فلا وجه لاختصاص النزاع بغاية الموضوع ومحذور اجتماع الضدّين مخصوص بما إذا كانت الغاية هو العلم بالحكم المخالف مثل قوله عليه‌السلام كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام أو كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه

__________________

(١) أصول الفقه : ج ١ ص ٢٧١.

٤٩٢

قذر ولا يعمّ سائر الموارد التي يكون الحكم فيها مقيّدا بغاية أخرى كالليل ونحوه.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ النزاع مختصّ بما استعملت كلمة حتّى في الخافضة مثل قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ). وأمّا إذا استعملت كلمة حتّى في العاطفة فلا يجري النزاع فيها لظهورها في الدخول كقولهم أكلت السمكة حتّى رأسها بالفتح.

ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا فرق بين أن يكون الغاية غاية للموضوع أو غاية للحكم في ظهورها في الخروج لأنّ ما وجّهه نجم الأئمّة يعمّهما إذ المراد من الغاية هو ما ينتهي عنده الشيء لا آخر الشيء ومن المعلوم أنّ حدود الشيء خارج عن الشيء سواء كان الشيء موضوعا أو حكما نعم لو استعمل «حتّى» أو «إلى» في آخر نفس الشيء لا يدلّان على خروج الشيء كقوله قرأت القرآن من أوّله إلى آخره.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال : والظاهر عدم الدخول مطلقا ضرورة أنّه إذا قال : سر من البصرة إلى الكوفة وكانت الكوفة اسما للمحصور بجدار فسار إلى جدارها ولو لم يدخل فيها يصدق أنّه أتى بالمأمور به فإذا أخبر بأنّي قرأت القرآن إلى سورة يس لا يفهم منه إلّا انتهاؤه إليها لا قراءتها (١).

ولذا أفتى الأصحاب بكفاية السعي من الصفا إلى المروة ولو لم يذهب على المروة وبكفاية السعي من المروة إلى الصفا ولو لم يذهب على الصفا وليس ذلك إلّا لخروج الصفا والمروة كما لا يخفى.

ولا فرق فيما ذكر في فهم العرف بين كون الغاية من جنس المغيّى وعدمه.

وأمّا ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ قدس‌سره في المحكيّ عنه من الفرق في الجملة بين كون الغاية مدخولة لكلمة (إلى) وكونها مدخولة لكلمة (حتّى) حيث إنّ كلمة (حتّى)

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٢٤.

٤٩٣

تستعمل غالبا في إدخال الفرد الخفيّ في موضوع الحكم فتكون الغاية حينئذ داخلة في المغيّى لا محالة ففيه ما لا يخفى من أنّ الغلبة المذكورة في حتّى العاطفة لا الخافضة ولذلك قال في المحاضرات إنّ ما ذكره شيخنا الأستاذ نشأ من الخلط بين مورد استعمال كلمة (حتّى) عاطفة وموارد استعمالها لإفادة كون مدخولها غاية ما قبلها فإنّها في أيّ مورد من الموارد إذا استعملت لإدراج الفرد الخفيّ كما في مثل قولنا مات الناس كلّهم حتّى الأنبياء لا تدلّ على كون ما بعدها غاية لما قبلها بل هي من أداة العطف فالنتيجة أنّ مقتضى الظهور العرفيّ والارتكاز الذهنيّ عدم دخول الغاية في المغيّى (١).

ثمّ إنّه لو شكّ في ثبوت الحكم بعد حصول الغاية ولم يستظهر المفهوم من القضيّة المغيّاة بغاية قال شيخنا الأستاذ الأراكيّ قدس‌سره الظاهر هو الفرق بين ما إذا كانت الغاية قيدا للحكم وبين ما إذا كانت قيدا للموضوع ففي الأوّل يجري استصحاب الكلّيّ في القسم الثالث أعني ما إذا كان زوال فرد من الكلّيّ مقطوعا بعد العلم بوجوده ولكن احتمل حدوث فرد آخر من هذا الكلّي مقارنا لزوال الفرد الأوّل إذ في هذه الصورة أيضا يقطع بزوال وجوب الجلوس مثلا عند الزوال بعد العلم بثبوته قبله ولكن يحتمل حدوث شخص آخر من وجوبه بعد الزوال متّصلا بالشخص الأوّل فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى أصل الوجوب.

وهذا بخلاف الصورة الثانية فإنّ الشكّ فيها ليس في بقاء الحكم المتعلّق بموضوع واحد بل في حدوث الحكم المتعلّق بموضوع آخر مثلا نشكّ في حدوث الوجوب المتعلّق بالجلوس من الزوال إلى الغروب بعد العلم بزوال الوجوب المتعلّق بالجلوس من الصبح إلى الزوال فيكون مجرى البراءة دون الاستصحاب لاختلاف الموضوع (٢) ، فتدبّر.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ١٣٧.

(٢) أصول الفقه : ج ١ ص ٢٧٠.

٤٩٤

الخلاصة :

الفصل الرابع في مفهوم الغاية

ويقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في دلالة الغاية على المفهوم

ذهب المشهور بل المعظم إلى أنّ تقييد حقيقة الحكم بالغاية يدلّ على انتفاء الحكم سنخا بعد الغاية بناء على دخول الغاية في المغيّى أو يدلّ على انتفائه سنخا عن الغاية وما بعدها بناء على خروج الغاية.

ويشهد له التبادر إذ تقييد حقيقة الحكم بحدّ خاصّ ظاهر في ارتفاعه بحصول الحدّ بالخصوص ومقتضى ارتفاع حقيقة الحكم بحصول الحدّ الخاصّ هو ارتفاع جميع أفراده إذ حقيقة الحكم وطبيعته لا يرتفع إلّا بارتفاع جميع أفراده فكما أنّ علّة حقيقة الوجوب بما هو وجوب إذا انحصرت في شيء فلا محالة يقتضي انتفاء العلّة انتفاء سنخ الوجوب فكذلك في المقام إذا حدّدت طبيعة الحكم وحقيقته بحدّ خاصّ فلا محالة تنتفي حقيقة الحكم بحصول الحدّ المذكور وإلّا لزم الخلف في تحديده بذلك الحدّ كما لا يخفى.

ودعوى أنّ المحدّد بالحدّ ليس هو الطبيعة والحقيقة بل هو الحكم الجزئي الشخصي وارتفاع الحكم الجزئي والشخصي بحصول الحدّ لا يدلّ على ارتفاع طبيعة الحكم وحقيقته وسنخ الحكم.

مندفعة بأنّ جزئيّة إنشاء الحكم وخصوصيّته ليست مورد الالتفات عند الإنشاء لأنّ الهيئة آلة محضة للبعث والإغراء من غير توجّه إلى الجزئيّة والكلّيّة والمفروض أنّ القضية ليست القضيّة الشخصيّة بل القضيّة الطبيعيّة فالمحدّد هو الوجوب بما هو وجوب فإذا حصل الحدّ ينتفي الوجوب بما هو وجوب ومعنى انتفائه بما هو هو انتفائه بجميع أفراده.

٤٩٥

وبعبارة أخرى دلالة القضيّة المغيّاة على المفهوم من ناحية دلالتها على انتفاء حقيقة الحكم بحصول الغاية وهكذا دلالة الجمل الشرطيّة على المفهوم من ناحية دلالتها على انتفاء حقيقة الحكم بانتفاء العلّة إذ مقتضى دلالتهما على انتفاء حقيقة الحكم بانتفاء العلّة أو بحصول الحدّ الخاصّ هو انتفائه بجميع أفراده.

وليست هذه الدلالة في القضيّة الوصفيّة فإنّها لمجرد إثبات حكم لموصوف ولا دلالة فيها على الانتفاء عند الانتفاء وعليه فما ذهب إليه المشهور من دلالة القضيّة المغيّاة على المفهوم وهو انتفاء سنخ الحكم بحصول الغاية لا يخلو عن وجه ولكنّ ذلك مختصّ بما إذا كانت الغاية قيدا للحكم وأمّا إذا كانت قيدا للموضوع كقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) أو قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) أو كانت قيدا للمتعلّق كالأمر بالسير من البصرة إلى الكوفة فلا مفهوم لها لأنّ الجملة حينئذ تكون كالجمل الوصفيّة في الدلالة على مجرّد اثبات الحكم للموضوع أو المتعلّق ولا دلالة لها على الانتفاء عند الانتفاء.

ثم لا يخفى عليك أنه ذكر بعض أمورا لتشخيص كون الغاية غاية للحكم أو قيدا للموضوع أو المتعلّق ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ونظر فالأولى هو إحالة ذلك إلى لاستظهار العرفي

المقام الثاني : في دخول الغاية أو خروجها والظاهر أنّه لا فرق بين أن يكون الغاية غاية للموضوع أو غاية للحكم في ظهورها في الخروج لأنّ المراد من الغاية هو ما ينتهي عنده الشيء لا آخر نفس الشيء ومن المعلوم أنّ حدود الشيء خارج عن الشيء سواء كان الشيء موضوعا أو حكما نعم ربّما يستعمل الغاية في آخر نفس الشيء وحينئذ لا تدلّ على خروجها كقولك قرأت القرآن من أوّله إلى آخره وأمّا في مثل سر من الصبرة إلى الكوفة أو قوله عزوجل : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فالكوفة خارجة عن مورد السير الواجب فيجوز أن سار إلى جدارها ولم يدخل فيها كما أنّ الصيام ينتهى إلى الليل وكان الليل خارجا عن الواجب وهو صوم اليوم.

٤٩٦

الفصل الخامس : في مفهوم الحصر

ولا يذهب عليك أنّ حصر حكم في شيء يدلّ بمفهومه على نفي الحكم المذكور عن غيره ولا كلام فيه وإنّما الكلام في ما يفيد الحصر ويمكن استفادة الحصر من كلمات منها :

منها : كلمة الاستثناء نحو «إلّا» وهذه الكلمة إذا كانت بمعنى الاستثناء لا بمعنى الصفة والغير تدلّ على الحصر فإنّ قولنا جاءني القوم إلّا زيدا يدلّ على اختصاص الإيجاب بالمستثنى منه والنفي بالمستثنى فالخارج عن المجيء منحصر في زيد.

كما أنّ قولنا ما جاءني القوم إلّا زيد يدلّ على اختصاص النفي بالمستثنى منه والإيجاب بالمستثنى وعليه فالجائي منحصر في زيد.

ويدلّ عليه التبادر والانسباق عند أرباب المحاورة وهو كاف في إثبات الاختصاص والدلالة المذكورة ولذلك قال الشيخ الأعظم في محكيّ كلامه لم نعثر على حكاية خلاف في الحكمين (أي أنّ الاستثناء من النفي يفيد إثبات الحكم للمستثنى كقولك ما جاءني أحد إلّا زيدا والاستثناء من الإثبات يفيد نفي الحكم له كقولك جاءني القوم إلّا زيدا) إلّا من أبي حنيفة حيث إنّه ذهب فيما حكى عنه إلى عدم الإفادة والمعقول من كلامه أن يقال أنّ المستفاد من قولك ما جاءني إلّا زيد ليس إلّا عدم دخول زيد في الحكم المذكور وأمّا حكمه فيحتمل أن يكون موافقا أو مخالفا إلّا أنّ شيئا منهما غير مستفاد من الكلام المذكور فغاية ما يفيده الاستثناء خروج

٤٩٧

المستثنى عن كونه مخبرا عنه بالنفي والإثبات.

واحتجّ بمثل قوله لا صلاة إلّا بطهور فإنّه على تقدير عدمه (أي عدم الاهمال ودخول المستثنى في كونه مخبرا عنه بالنفي والإثبات) يلزم أن يكون الطهارة المقرونة مع فقد الشرائط صلاة ثمّ أشار الشيخ الأعظم قدس‌سره الى ردّه بقوله وهو ضعيف جدا فإن الحصر إضافيّ بالنسبة إلى حالة فقدان الطهارة مع فرض بقيّة الأجزاء والشرائط ومجرّد الاستعمال أعمّ وشواهد خلافه كثيرة أقواها التبادر كما يحكم به الوجدان السليم وادّعى جماعة الإجماع على ذلك ومنهم العضديّ (١).

وكيف كان فلا يخفى عليك سخافة قول أبي حنيفة من إهمال الاستثناء بالنسبة الى المستثنى لوضوح دلالة الاستثناء على الحكمين في مثل ليس لزيد عليّ دراهم إلّا درهم أحدهما نفي الدراهم وثانيهما إثبات الدرهم ولذا يحكم العقلاء بكون ذمّة القائل مشغولة بالدرهم لزيد وليس ذلك إلّا لدلالة الاستثناء وعليه فدعوى إهمال الاستثناء بالنسبة إلى المستثنى غير مسموعة.

ثمّ لا يخفى عليك أنّه أجاب في الكفاية وتعليقتها عن احتجاج أبي حنيفة بوجوه :

الأوّل : هو ما أشار إليه الشيخ الأعظم قدس‌سره في محكيّ كلامه من أنّ المراد من الصلاة في هذا التركيب هو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط ما عدى الطهور فيكون مفاده أنّ الصلاة التي كانت واجدة للأجزاء والشرائط لا تكون صلاة إلّا إذا كانت واجدة للطهارة وبدونها لا تكون صلاة على القول بالصحيح وصلاة تامّة على القول بالأعمّ.

أورد عليه في المحاضرات بأنّه واضح البطلان حيث إنّ لازم ذلك هو استعمال

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨٥.

٤٩٨

الصلاة في معان متعدّدة حسب تعدّد هذا التركيب فإنّها في هذا التركيب قد استعملت في جميع الأجزاء والشرائط ما عدا الطهور.

وفي مثل قوله عليه‌السلام لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب قد استعملت في جميع الأجزاء والشرائط ما عدا فاتحة الكتاب مع أنّ المتفاهم العرفيّ منها معنى واحد في كلا التركيبين (١).

ويمكن أن يقال إنّ الصلاة مستعملة في الماهيّة الجامعة للأجزاء والشرائط الدخيلة في ترتّب ما هو الباعث على الأمر بها عليه بنحو الإبهام من دون اعتبار نوع خاصّ أو صنف خاصّ من الأجزاء والشرائط وعليه فلا يلزم استعمال الصلاة في معان متعدّدة بل المصاديق متعدّدة ومختلفة كما لا يخفى (٢).

الثاني : إنّ عدم دلالتها على الحصر في مثل هذا التركيب إنّما هو من جهة وجود القرينة ولولاه لكانت دالّة عليه.

أورد عليه في المحاضرات بأنّه لا قرينة هنا على ذلك حيث إنّه لا فرق بين استعمالها في هذا التركيب واستعمالها في غيره من الموارد (٣).

وفيه منع لأنّ تلك التراكيب صادرة في مقام الإرشاد إلى الشرطيّة أو الجزئيّة كما هو واضح وعليه فلا مفهوم له كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

الثالث : إنّ كلمة (إلّا) في مثل هذا التركيب تدلّ على نفي الإمكان يعني أنّ الصلاة لا تكون ممكنة بدون الطهور ومعه تكون ممكنة فقضيّة ذلك ليس إلّا إمكان ثبوته معه لا ثبوته فعلا فالمعنى هكذا أي لا صلاة بممكنة إلّا بطهور فتمكن به لا أنّه لا صلاة بموجودة إلّا بطهور فتوجد به كي يقال أنّ الصلاة لا توجد بمجرّد الطهور.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ١٤٥.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٨٠.

(٣) المحاضرات : ج ٥ ص ١٤٥.

٤٩٩

أورد عليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره بأنّه إن لوحظ اقتران الهيئة التركيبيّة الواقعيّة بالطهارة فهي صلاة فعلا لا إمكانا وإن لوحظ نفس الطهارة أو كلّ مقرون بها فهي ليست بصلاة إمكانا هذا مضافا إلى ما في المحاضرات من أنّ موارد استعمالاتها تشهد بأنّها تستعمل للنفي الفعليّ أو الإثبات لذلك وبكلمة أخرى أنّ خبر (لا) المقدّر فيه موجود لا ممكن (١).

وأجاب في نهاية الدراية عن احتجاج أبي حنيفة بأنّ الظاهر من هذا التركيب وأمثاله إثبات صلاتيّة الهيئة الواقعيّة المقرونة بالطهارة لا إثبات صلاتيّة الطهارة أو صلاتيّة كلّ مقرون بالطهارة فهو نظير لا علم إلّا بالعمل فإنّ مفاده إثبات أنّ العلم المقرون بالعمل هو العلم حقيقة لا أنّ العمل علم أو كلّ مقرون به علم فلا نقض بمجرّد وجود الطهارة مع فقد غيرها (٢).

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد في جواب أبي حنيفة حيث قال وهذا الاستدلال ضعيف ضرورة أنّ مثل قوله (لا صلاة إلّا بطهور) و (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب) كان في مقام الإرشاد إلى اشتراط الصلاة بالطهارة وإنّ فاتحة الكتاب جزؤها لا بصدد الأخبار عن العقد السلبيّ والإيجابي وفي مثله لا مفهوم للاستثناء فمعنى قوله لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب أنّها جزؤها ولا تكون الصلاة بدونها صلاة لا أنّها تمام الصلاة أو إذا اشتملت عليها لا يضرّها شيء وأين هذا من مثل جاءني القوم إلّا زيدا (٣).

ثمّ جعل في مطارح الأنظار قبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلام من قال لا إله إلّا الله من أقوى الشواهد على ظهور الاستثناء في الاختصاص حيث قال وقبول رسول

__________________

(١) نفس المصدر : ص ١٤٦.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٨٠.

(٣) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٢٦.

٥٠٠