عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

وفيه أوّلا : أنّ نسبة ذلك إلى بعض الأعلام مع كونه من المحقّقين لا يناسب شأنه.

وثانيا : أنّ التوقّف على عدم مقتضي ضدّه مع أنّه أمر عدميّ لا وجه له كما عرفت ، فإنّ العدم لا شيئيّة له حتّى يتوقّف وجود الشيء على العدم ، بل وجود الضدّ في الفرض المذكور متوقّف على غلبة مقتضيه ، فملاك الوجود هو غلبة المقتضي ، فكلّ ضدّ غلب مقتضيه على مقتضي ضدّ الآخر فهو يوجب وجود معلوله وهو الضدّ ، فكلّ ضدّ لم يوجد لم يكن مقتضيه غالبا ويكون عدمه من جهة عدم مقتضيه ، ويكون وجوده متوقّفا على غلبة مقتضيه لا على أمر عدميّ والمقتضي المغلوب ليس بمقتض تامّ بالفعل ، ولو كان مع قطع النظر عن الطرف الآخر تامّا ، والأشياء محتاجة في بقاء الوجود إلى بقاء المقتضي ، فوجود الضدّ من ناحية تماميّة مقتضيه وعدم وجود ضدّه من ناحية عدم المقتضي وقصوره.

فالجواب عنه هو ما أشرنا إليه من أنّ عدم الضدّ لا شيئيّة له حتّى يكون متوقّفا عليه ، ولا فرق في ذلك بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم.

وهكذا أجاب عنه صاحب الكفاية بما اختاره من عدم سبقة عدم الضدّ على الضدّ الآخر من دون فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم.

وأمّا المقدّمة الثانية : وهي دعوى الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمات ، ففيها أنّ المختار هي اختصاص الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة والمقدّمات الموصلة. وعليه فترك الضدّ الواصل يكون واجبا دون غير الواصل ، فمن لم يرد الإزالة وأراد الصلاة فترك الضدّ على تقدير عدم الإيصال لا يكون واجبا ليكون فعله محرّما.

ولذلك صحّح في الفصول الصلاة عند ترك الإزالة من هذا الطريق ، كما نسب إليه في الوقاية حيث قال : وتخلّص (عن بطلان العبادة) من جهة تعلّق النهي في الفصول بما شيّده من تخصيصه المقدّمة الواجبة بالموصلة إذ ترك الضدّ حينئذ (أي

٢١

حين الإتيان بالصلاة وترك الإزالة) لا يكون واجبا على تقدير عدم الإيصال ليكون فعله محرّما (١).

وأمّا المقدّمة الثالثة فسيأتي حكمها بعد ذكر الوجه الثاني إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني : استلزام الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ ، وهو أنّ وجود الضدّ متلازم لترك الضدّ الآخر ، والمتلازمان لا يمكن اختلافهما في الحكم بأن يكون أحدهما واجبا والآخر محرّما. وعليه ، فإذا كان أحد الضدّين واجبا فلا محالة يكون ترك الآخر أيضا واجبا ، وإلّا لكان المتلازمان مختلفين في الحكم ، وهو مستلزم للخلف أو المحال ؛ فإذا كان ترك الآخر واجبا ففعل الآخر يكون محرّما وهو المطلوب من استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه.

وهذا الوجه أيضا مركّب من ثلاث مقدّمات :

الاولى : دعوى التلازم بين وجود كلّ ضدّ وعدم الضدّ الآخر.

الثانية : دعوى لزوم أن يكون المتلازمان محكومين بحكم واحد.

الثالثة : دعوى أنّ الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضدّه.

يستدلّ للاولى على ما في مناهج الوصول بأنّ الضدّ لا يصدق مع ضدّه لبطلان اجتماعهما ، فإذا لم يصدق هو فلا بدّ من صدق نقيضه لبطلان ارتفاع النقيضين ، ولمّا لم يمكن الصدق الذاتيّ بين الوجود والعدم فلا بدّ وأن يكون عرضيّا بنحو التلازم في الصدق ، وهو المطلوب (٢).

أورد عليه سيّدنا الإمام المجاهد بأنّ نقيض صدق إحدى العينين على الاخرى عدم صدقها عليها على نعت السلب التحصيليّ لا الإيجاب العدوليّ وإلّا لزم ارتفاع

__________________

(١) الوقاية : / ٢٩٩.

(٢) مناهج الوصول : ٢ / ١٧.

٢٢

النقيضين ، ضرورة كذب الإيجاب العدوليّ أيضا للزوم كون العدم صادقا على الوجود ومتلازما معه فيه.

هذا مع أنه لا شيئيّة له (أي العدم) حتّى يكون ملازما لشيء ، مضافا إلى أنّ التلازم في الوجود يقتضي عروض الوجود للمتلازمين فيلزم اجتماع النقيضين ؛ فالغلط ناشئ من عدم اعتبار الحيثيّات وتقديم الحمل على السلب وعدم التفريق بين السوالب المحصّلة والموجبات المعدولة ، وكم له من نظير (١).

والظاهر أنّ مقصود المستدلّ هو دعوى الملازمة بين وجود شيء وعدم ضدّه ، وهو أمر لا سترة فيه ، إذ وجود الإزالة ملازم لعدم ضدّها وهو الصلاة.

والظاهر الملازمة بينهما كما ترى. نعم ، لا يكون عدم الضدّ شيئا في الخارج وإنّما هو أمر ذهنيّ ينتزع من عدم مقتضيه كانتزاع عدم المعلول من عدم علّته ، وهو يرجع إلى الملازمة بين عدم المقتضي وعدم معلوله كالملازمة بين عدم العلّة وعدم معلولها ؛ فكما أنّ دعوى الملازمة بين الأعدام لا تحتاج إلى وجودهما كذلك دعوى الملازمة بين وجود الضدّ وعدم الضدّ الآخر لا تحتاج إلى وجودهما ، بل يكفي وجود الضدّ الموجود للملازمة بينه وبين عدم الضدّ الآخر.

ولم يدع المستدلّ التلازم في الوجود ، بل ادّعى التلازم بين وجود الضدّ وعدم ضدّه.

والتعبير بصدق النقيض مع عدم صدق وجود الضدّ عند وجود الضدّ الآخر لا يهدف صدق العدم على الخارج أو على الوجود الخارجيّ ، بل هدفه ومقصوده هو ما ذكرناه من الملازمة بين وجود شيء وعدم ضدّه بعدم مقتضيه ، ولا يلزم من ذلك صدق العدم على الخارج ولا صدقه على الوجود الخارجيّ حتّى يستلزم

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ١٧ ـ ١٨.

٢٣

المحاذير المذكورة.

فتحصّل أنّه لا إشكال في المقدّمة الاولى من دعوى الملازمة بين وجود شيء وعدم ضدّه بالمعنى الذي قلناه ، ولا فرق في صحّة هذه الدعوى بين أن يكون الضدّان كالحركة والسكون ممّا لا ثالث لهما ، وبين أن يكونا كالسواد والبياض أو القيام والجلوس ممّا لهما الثالث ؛ إذ الملازمة في كلّ واحد منهما بين وجود الضدّ وعدمه متحقّقة ، وإنّما الاختلاف بينهما في كون الاستلزام في الأوّل من الطرفين ، إذ وجود كلّ منهما يستلزم الآخر كما يكون عدم كلّ واحد يستلزم وجود الآخر دون الثاني ، فإنّ وجود كلّ واحد منهما يستلزم عدم الآخر دون العكس ، إذ يمكن انتفاؤهما معا ؛ فاستلزام وجود الضدّ لعدم ضدّه أمر يشترك فيه جميع الأضداد ، بخلاف استلزام عدم الشيء لوجود ضدّه فإنّه مخصوص بالضدّين اللذين لا ثالث لهما ، ولا ضير فيه بعد كون ملاك الملازمة هو ملازمة وجود كلّ ضدّ لعدم ضدّه الآخر.

يستدلّ للمقدّمة الثانية بأنّ حكم المتلازمين لزم أن يكون متوافقين وإلّا يلزم أن يكون محكوما بحكم آخر لعدم جواز خلوّ الواقعة عن حكم ، وحيث إنّ ما عدا الوجوب مشترك في جواز الترك ، فإذا لم يكن محكوما بالوجوب لجاز تركه ، ومع جواز ترك اللازم لزم إمّا خروج الواجب عن وجوبه وهو خلف ، أو التكليف بما لا يطاق ، وكلاهما باطل.

وفيه : أوّلا : كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّ العدم ليس من الوقائع فإنّه بطلان محض لا يمكن أن يكون بما هو محكوما بحكم. وما ترى من نسبة الحكم إلى بعض الأعدام لا بدّ من إرجاعه إلى مقابلاته كوجوب تروك الإحرام وتروك المفطرات (١).

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ١٨.

٢٤

فالتروك في الإحرام ترجع إلى الكفّ ، كما أنّ التروك في الصوم ترجع إلى الإمساك.

وثانيا : كما أفاد صاحب الكفاية أنّ غايته أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم الآخر به ، لا أن يكون محكوما بحكمه (١).

فالمحذور كما يندفع بالالتزام بكونهما متوافقين في الحكم كذلك يندفع بكون أحدهما غير محكوم بحكم من الأحكام ، فالالتزام بالتوافق في الحكم يحتاج إلى دليل.

وثالثا : كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد وغيره (قدّس الله أرواحهم) أنّ ترك الصلاة فيما إذا تزاحم الإزالة مع الصلاة فاقد للمصلحة ، ومعه فكيف يمكن أن يسري الإرادة عن الإزالة إلى ترك الصلاة مع أنّه لا ملاك فيه ، وموافقة أحد المتلازمين للغرض لا تستلزم موافقة الآخر للغرض ، بل هو ملازم لما يوافق الغرض. ولذلك ربما يقال إنّ الوجدان شاهد على أنّ الاشتياق إلى شيء لا يقتضي الاشتياق إلى لوازم وجوده من احتياجه إلى زمان ومكان. وبهذه الجهة أيضا نقول بأنّ الأمر بالطبيعة لا يقتضي سراية الاشتياق إلى الخصوصيّة ، بل ربما تكون الخصوصيّة مبغوضة لديه ، مع أنّهما حيثيّتان متلازمتان بل ومتّحدتان وجودا (٢).

ولا أثر لجعل الإباحة في المتلازم عند فقده للملاك ، لأنّ المفروض هو الإتيان به مع الآخر ، سواء جعل له الإباحة أم لم تجعل ، وما يقرع سمعك من أنّ لكلّ واقعة حكم إنّما هو فيما إذا ترتّب عليه الأثر. وعليه فيجوز خلوّ الواقعة عن الحكم في مثله.

ولعلّه إليه يؤول ما في مناهج الاصول أيضا ، حيث قال : لم يقم دليل على عدم خلوّ الواقعة عن الحكم ، بل الدليل على خلافه ؛ فإنّ الواقعة لو لم يكن لها اقتضاء

__________________

(١) ١ / ٢١٠

(٢) مقالات الاصول : ١ / ١١٨.

٢٥

أصلا ولم يكن لجعل الإباحة أيضا مصلحة ، فلا بدّ وأن لا تكون محكومة بحكم ، والإباحة العقليّة غير الشرعيّة المدّعاة ، ومع خلوّها عن الجواز الشرعيّ لا يلزم المحذور المتقدّم (١).

هذا مضافا إلى ما في الكفاية من أنّ عدم خلوّ الواقعة عن الحكم فهو إنّما يكون بحسب الحكم الواقعيّ لا الفعليّ (٢).

ويستدلّ للمقدّمة الثالثة بأنّ نفس تصوّر الوجوب والإلزام يكفي في تصوّر الحرمة والنهي عن الضدّ الخاصّ على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ. وعليه ، فنفس تصوّر وجوب ترك الصلاة لكونه مقدّمة للإزالة أو متلازما لها كاف في تصوّر النهي عن الصلاة وحرمتها من دون حاجة إلى أمر زائد ، وإن أبيت عن ذلك ، فلا أقلّ من أن يكون كذلك بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ.

اورد عليه بأنّ غايته هو الانتقال التصوّري ، وهو مضافا إلى ممنوعيّته لجواز الغفلة عنه أنّه لا يفيد لأنّه صرف انتقال تصوّريّ ، فلا دليل على أنّ المولى أراده واعتبره حراما حتّى يكون نهيا شرعيّا ، ومجرّد الانتقال من شيء إلى شيء لا يستلزم اعتبار الشارع حرمة ضدّه.

وإذا عرفت ذلك في اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، فالأمر في اللزوم البيّن بالمعنى الأعّم أوضح.

وإن اريد من دعوى أنّ الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضدّه اللزوم الواقعيّ بأن يدّعي أنّ المولى إذا أمر بشيء فلازمه أن ينهى عن نقيضه ، ففيه كما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أنّه واضح الفساد ، ضرورة أنّ الصادر من المولى ليس إلّا الأمر.

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ١٨.

(٢) الكفاية : ١ / ٢١٠.

٢٦

انتهى. ومع عدم صدور النهي عنه كيف يسند صدور النهي إليه تعالى ، فالأمر بترك الضدّ لا يرجع إلى النهي عن نفس الضدّ ، كما قلنا بأنّ الوجوب لا ينحلّ إلى حكمين أحدهما يتعلّق بالعمل والآخر بالترك حتّى يكون تارك الواجب مستحقّا للعقابين من جهة ترك الواجب وارتكابه للحرام.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّه إذا تعلّقت إرادة تشريعيّة بترك الضدّ الخاصّ عند إرادة الضدّ الآخر ، فمع الالتفات إلى فعل الضدّ الخاصّ تتعلّق كراهة تشريعيّة به ، وليست تلك إلّا حرمة الضدّ ، فإرادة ترك الصلاة تشريعا تستلزم كراهة نفس الصلاة تشريعا.

وفيه أنّه لا معنى لتعلّق الكراهة بنقيض ما تعلّق به الإرادة لعدم وجود مبادئ الكراهة ، فإنّ غاية الكراهة المذكورة هي ترك هذا النقيض ، والمفروض أنّ تركه متعلّق للإرادة التشريعيّة ؛ ففي مثل الإزالة والصلاة إذا فرض أنّ الأمر بالإزالة ملازم للأمر بترك الصلاة ، فالكراهة الشرعيّة بالنسبة إلى الصلاة لا تفيد ، لأنّ الغرض من الكراهة هو ترك الصلاة ، والمفروض أنّه متعلّق الإرادة التشريعيّة ، فتعلّق الكراهة بالصلاة مع كون تركها موردا للإرادة التشريعيّة لغو.

هذا مضافا إلى أنّ الصلاة ليست مشتملة على المفسدة حتّى يصحّ تعلّق الكراهة بها. وكيف كان ؛ فحيث لا فرق بين الأمر بترك الصلاة وبين حرمة الصلاة ، فلا يستلزم الأمر بترك الصلاة لحرمة الصلاة ، فلا يتمّ دعوى استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه.

فتحصّل أنّ الأمر بأحد الضدّين لا يستلزم الأمر بترك الضدّ الآخر ، كما أنّ الأمر بترك الضدّ الآخر لو فرض لا يستلزم النهي عن نفس الضدّ الآخر ، لعدم تماميّة المقدّمات في الدليل الأوّل والثاني.

قال في المقالات : فلا موجب لاقتضاء الأمر بأحدهما النهي عن الآخر ؛ إذ قد عرفت بأنّ ما هو مقتضى له من المقدّميّة فصغراه ممنوعة ، وما هو موجود من صغرى

٢٧

الملازمة فكبرى اقتضائه ممنوعة (١).

وأمّا ما في حاشية الدرر من المحقّق اليزدي قدس‌سره من أنّا إذا راجعنا وجداننا نجد من أنفسنا أنّه إذا أردنا فعلا نترك أضداده بإرادة منّا واختيار بحيث يصحّ المؤاخذة على ذلك الترك ولو لم يكن مسبوقا بالإرادة والاختيار لما صحّ. وبالجملة نجد الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة ترك أضداده الخاصّة ، كما نجد الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدّماته ؛ ألا ترى أنّك لو أردت الخلوة مع أحد وكان عندك شخص آخر فإنّك تتوسّل إلى قيامه من المجلس بأيّ وسيلة أمكنت. وعلى هذا نقول إن كان حال إرادة الآمر حال إرادة الفاعل بعينها لزم القول بهذه الملازمة ، ولكن عرفت منع الغاية المذكورة (٢).

ففيه أنّ إرادة الضدّ علّة لوجوده ومع وجود العلّة التامّة لوجود الضدّ لا مجال لوجود الضدّ الآخر ، بل هو عدم بعدم وجود علّته ، ولا حاجة إلى إرادة الترك. وأمّا المثال المذكور فهو ليس من باب إرادة الترك ، بل هو من باب إزالة إرادة وجود ضدّ لإرادة شيء آخر مضادّ له ، فلا تغفل.

تبصرة : ولا يخفى عليك أنّ سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره أفاد في المقام نكتة وهي بتوضيح منّي أنّه بناء على وجوب المقدّمات الموصلة لا يتمّ الدليل الأوّل بثلاث مقدّمات بل يحتاج إلى المقدّمة الرابعة وهي لزوم كون المتلازمين محكومين بحكم واحد ، فإنّ نقيض الترك الموصل هو ترك هذا الترك المقيّد ، فإذا وجب الترك الموصل يحرم تركه بمقتضى المقدّمة الثالثة وهي استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، ولكن هذه الحرمة متعلّقة بترك الترك الموصل ، ولا يفيد حرمة الفعل وإن كان بترك الترك

__________________

(١) المقالات : ١ / ١١٩.

(٢) الدرر : / ١٣٣.

٢٨

ملازما لوجود الفعل إلّا مع ضميمة مقدّمة اخرى ، وهي لزوم كون المتلازمين محكومين بحكم واحد ، وإلّا فمجرّد كون ترك الترك المقيّد محكوم بالحرمة لا يوجب حرمة ملازمه وهو وجود الفعل ، فإذا كان كذلك فالدليل الأوّل لا يتمّ إلّا بضمّ الدليل الثاني ببعض مقدّماته إليه ، وهو موجب لسقوط أحدهما ، فلا يكون في الباب دليلان مستقلّان (١).

يمكن أن يقال : إنّ ما أفاده ناشئ من توهّم الاثنينيّة والمغايرة بين ترك الترك المقيّد ووجود الفعل ، مع أنّهما متّحدان مصداقا وإن اختلفا مفهوما ، والقول بأنّ ترك الترك حيثيّة عدميّة والفعل والوجود حيثيّة إثباتيّة فلا يصحّ حملهما على واحد ، غير سديد ، بعد كون ترك الترك يوجب حيثيّة الإثبات ، لأنّ نفي النفي إثبات. وعليه ، فمع تسليم إفادة المقدّمات الثلاثة في الدليل الأوّل لحرمة ترك الترك الموصل ، لا حاجة في تعلّق الحرمة بوجود الفعل إلى مقدّمة اخرى من مقدّمات الدليل الثاني حتّى يلزم سقوط الدليل الأوّل ، ويرجع الأمر إلى دليل واحد وهو الدليل الثاني.

هذا مضافا إلى أنّ احتياج الدليل الأوّل إلى مقدّمة من مقدّمات الدليل الآخر لا يوجب سقوط الدليل الأوّل برأسه. وكيف كان ، فالدليلان مستقلّان ولا يرجع أحدهما إلى الآخر ، وإن عرفت عدم تماميّتهما في إفادة المراد فتحصّل أنّ الأمر بالشيء لا يستلزم النهي عن ضدّه الخاصّ.

المقام الثاني : في الضدّ العامّ :

ربّما يقال إنّ الأمر بالضدّ كالإزالة عين النهي عن الضدّ العامّ أو مشتمل عليه أو مستلزم له ، والضدّ العامّ هو الترك ، ومقتضى كون الترك منهيّا عنه هو سراية النهي

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢٠١ ـ ١٩.

٢٩

إلى محقّقاته من أضداد الإزالة ؛ فإذا كان ترك الإزالة منهيّا عنه كانت الصلاة أيضا منهيّا عنها لأنّها من محقّقات ترك الإزالة ، والنهي في الصلاة بضميمة أنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد ينتج فساد الصلاة.

وهذا الاستدلال يتوقّف على مقدّمات :

الاولى : كون الأمر بالشيء عين النهي عن الضدّ العامّ أو مشتمل عليه أو مستلزم به.

والثانية : أنّ الأضداد الخاصّة من محقّقات الترك الذي هو ضدّ العامّ.

والثالثة : سراية النهي من الترك إلى الأضداد الوجوديّة. وهذه المقدّمات كلّها ممنوعة.

أمّا الاولى ، فلمّا أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ طلب الفعل والنهي عن الترك بناء على أنّ النهي هو طلب الترك يرجعان إلى أمر واحد ، لأنّ النهي حينئذ بمعنى طلب الترك ، وهو يرجع إلى طلب ترك الترك ، وهو عين طلب الفعل. وعليه ، فلا ثمرة في دعوى عينيّتهما ، إذ لا تنتهي إلى الطلبين. هذا مضافا إلى أنّ مصلحة ترك الترك ليست مصلحة على حدة غير مصلحة الفعل ، فلا ملاك لتعدّد الخطاب. وعليه ، فلا وجه لتعدّد الخطاب لا ثبوتا ولا إثباتا ، بل هذا النهي لم يكن نهيا حقيقيّا ناشئا عن مفسدة ملزمة في متعلّقه ، بل هو في الواقع أمر ، وإنّما أبرز بصورة النهي في الخارج ، من دون فرق بين أن يكون النهي عن الضدّ العامّ عين الأمر بالشيء أو جزءا منه أو لازما له.

ولذلك قال في المحاضرات : إنّ القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه في قوّة القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي الأمر بذلك الشيء ، وهو قول لا معنى له

٣٠

أصلا (١).

هذا بناء على أنّ النهي هو طلب الترك ، وأمّا إذا كان النهي هو الزجر عن ترك الإزالة والأمر هو البعث نحو الإزالة فلا إشكال في عدم اتّحاد الزجر عن ترك الإزالة مع الأمر بالإزالة ، لمغايرة البعث والزجر وتعدّد متعلّقهما ، فدعوى العينيّة ممنوعة لاستحالة اتّحاد المتغايرين.

وهكذا لا مجال لدعوى الجزئيّة لأنّ البعث لا يكون عين الزجر ولا جزأه ، والقول بأنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك غير سديد بعد ما عرفت من بساطة الوجوب ، وأنّه أمر ينتزعه العقلاء من تعلّق أمر المولى بشيء من دون ترخيص لتركه.

هذا كلّه بناء على عينيّة النهي عن الضدّ العامّ أو جزئيّته ، وأمّا إذا اريد اللزوم الواقعيّ بين الأمر بالضدّ والنهي عن تركه ففيه منع ، لأنّ الصادر من المولى ليس إلّا الأمر ، ولا يرجع الأمر بالشيء إلى بعث نحو الفعل وزجر عن الترك ، لأنّ الزجر يحتاج إلى ملاك ، والمفروض أنّ الملاك في الفعل وليس في جانب الترك ملاك ، إذ ترك الواجب ترك ما فيه المصلحة الملزمة لا أنّ نفس الترك شيء فيه المفسدة.

فيجوز التفكيك بين الأمر والنهي في الاعتبار ، لأنّ كلّ واحد منهما محتاج إلى اعتبار مستقلّ ولا ملازمة بين الاعتبارين بعد عدم علّيّة أحدهما للآخر أو عدم معلوليّتهما لعلّة واحدة ، فدعوى التلازم مجازفة.

وإن اريد من الملازمة بين الأمر والنهي الملازمة بين الإرادة والكراهة ، ففيه : أوّلا : أنّها ممنوعة لإمكان غفلة طالب شيء عن تركه حتّى يكرهه.

وثانيا : أنّ مع الالتفات إلى الترك وخلوّه عن المفسدة لا يتعلّق الكراهة إلى

__________________

(١) المحاضرات : ٣ / ٤٦.

٣١

نفس الترك ، بل هو مريد الفعل لما فيه من المصلحة الملزمة ، وكراهة الترك لو كانت من باب المسامحة. وممّا ذكر يظهر ما في منتهى الاصول حيث قال : لو التفت إلى الترك فعلا وحصلت له الكراهة الفعليّة بالنسبة إليه ، فلا شكّ في أنّه يكون منشأ لاعتبار الحرمة (١).

وذلك لأنّ مع خلوّ الترك عن المفسدة الملزمة كيف تنقدح الكراهة بالنسبة إلى نفس الترك حتّى يكون منشأ لاعتبار الحرمة.

وأمّا المقدّمة الثانية : فهي ممنوعة لأنّ ترك الإزالة وإن لم ينفكّ عن الأضداد ولكنّه مقارن مع الأضداد الوجودية الخاصّة وليس متّحدا معها لأنّ الوجود حيثيّة إثباتيّة ولا يتّحد معها حيثيّة العدم ، ولا يكون الأضداد الخاصّة من محقّقات الترك ، بل الترك لازم لترك مقتضيه وهي إرادة الإزالة ، كما أنّ عدم المعلول لازم لعدم علّته ، فدعوى كون الأضداد الخاصّة من محقّقات الترك كما ترى.

وأمّا المقدّمة الثالثة : فهي أيضا ممنوعة لعدم دليل على سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر ، وقد عرفت أنّ الضدّ العامّ وهو الترك ملازم مع وجود الأضداد الخاصّة.

وأمّا النتيجة ففيها ما سيأتي إن شاء الله تعالى من أنّ النهي الغيريّ لا يدلّ على مبغوضيّة المتعلّق لأنّه لم يكن إلّا للإلزام بإتيان غيره ، وأمّا ما يقال من أنّ إتيان المنهيّ تجرّ على المولى ومبعّد عن ساحته فلا يصلح للتقرّب ، ففيه أنّ العصيان من جهة ترك الضدّ الأهمّ لا من جهة فعل المهمّ ، كما لا يخفى.

فتحصّل أنّ دعوى عينيّة النهي عن الضدّ العامّ أو جزئيّته أو ملازمته للأمر بالشيء غير ثابتة. وعليه ، فالأضداد الخاصّة لا تكون منهيّا شرعا أيضا من جهة

__________________

(١) منتهى الاصول : ١ / ٣٠٢.

٣٢

مقارنة الضدّ العامّ أي ترك الواجب معها ، فلا تغفل.

مقتضى الأصل

قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره : ثمّ إنّه لو شكّ في مقدّميّة ترك أحد الضدّين للآخر وعدمها فلا مجال للبراءة عن الوجوب مطلقا ، لأنّ البراءة العقليّة لا مجال لها إذ لا عقاب على المقدّمات ، والشرعيّة أيضا لا مجال لها لأنّ وجوب ترك الضدّ على تقدير المقدّميّة يتبع وجوب ذيه في الفعليّة بحكم العقل ، فلا يمكن رفع وجوبه مع حفظ وجوب ذيه ، لأنّه ترخيص في الحكم العقليّ. نعم يجري البراءة في احتمال حرمة الضدّ الواجب فتدبّر. هذا بناء على دعوى وجوب ترك الضدّ الواجب من باب المقدّميّة.

ولو شكّ في التلازم بين وجوب الضدّ ووجوب ترك الضدّ الآخر ؛ فإن قلنا بأنّ الحكم الذي يسري من متلازم إلى متلازم آخر هو الحكم النفسيّ لا الغيريّ ، فيمكن الأخذ بالبراءة العقليّة فيه عند الشكّ لأنّه عقاب نفسيّ على تقدير ثبوته ، ولكنّه ليس كذلك لعدم مصلحة موجبة لذلك ، وحينئذ لا مجال للبراءة العقليّة ، إذ لا عقاب على المتلازم بعد كون الحكم فيه غيريّا لا نفسيّا.

وأمّا البراءة الشرعيّة ، فمع كون الملازمة عقليّة لا مجال لها ، إذ وجوبه تابع بحكم العقل لمتلازمه رفعا ووضعا ، فلا يكون رفعه ووضعه بيد الشارع حتّى يجري فيه البراءة الشرعيّة ، فالترخيص فيه ترخيص في الحكم العقليّ.

نعم تجري البراءة الشرعيّة لو قلنا بأنّ مفادها هو رفع المؤاخذة لا رفع الحكم ، لأنّ رفع المؤاخذة شرعا لا ينافي الحكم العقليّ. وعليه ، فمع جريان البراءة فلا مانع من القول بصحّة الضدّ العبادي ، لأنّه مع جريان البراءة الشرعيّة الرافعة للمؤاخذة لا يكون الإتيان بالضدّ العباديّ مبعدا حتّى لا يصلح للتقرّب فيكون صلاته كصلاة من

٣٣

دخل في دار بزعم كونها له وصلّى فيها ، فكما أنّ صلاة من زعم ذلك صحيحة فكذلك تكون صلاة من جرى في حقّه البراءة الرافعة للمؤاخذة صحيحة ، واتّحاد الصلاة واقعا مع الحرام لا يكون مبطلا ، كما لا يخفى انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ مفاد البراءة الشرعيّة ليس رفع المؤاخذة بل جميع الآثار. وعليه فلا مجال لجريان البراءة لا عقلا ولا شرعا بالنسبة إلى وجوب ترك الضدّ الآخر عند وجوب الضدّ فيما إذا كان الوجوب غيريّا ، سواء كان ترك الضدّ الآخر من مقدّمات وجود ضدّه أو كان من مقارناته ومتلازماته. نعم ، لو احتمل الوجوب النفسيّ في ترك الضدّ الآخر جرت البراءة العقليّة والشرعيّة كما أنّه لو احتمل الحرمة النفسيّة في الضدّ الواجب الذي كان تركه مشكوكا وجوبه من باب المقدّميّة أو التلازم جرت البراءة العقليّة والشرعيّة ، ولكنّه لا ملاك لهما ، فلا مجال لهما ومعه لا تجري البراءة ، والصلاة المأتيّ بها في وقت الأهمّ محكومة بالإعادة كما لا يخفى.

ثمرة المسألة

ولا يخفى عليك أنّه ربّما يقال إنّه لو تمّت مقدّمات الاستدلال على أنّ الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضدّه كانت نتيجة المسألة هي النهي عن الضدّ ، فهذا النهي عن الضدّ يكون صغرى لكبرى أنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد ، ومقتضى ضميمة هذه الصغرى بتلك الكبرى هو فساد الضدّ إذا كان عبادة كالصلاة ، فكلّ عبادة متزاحمة مع الأهمّ محكومة بالفساد إذا أتى بها في وقت الإتيان بالأهمّ.

إنكار الثمرة بناء على عدم لزوم الأمر في تحقّق العبادة

اورد عليه أوّلا : بما أفاد سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّ اقتضاء النهي للفساد إمّا لأجل كشفه عن مفسدة في المتعلّق أو لأجل أنّ الإتيان بمتعلّق النهي مخالفة للمولى

٣٤

ومبعد عن ساحته فلا يمكن أن يقع مقرّبا ؛ والنهي فيما نحن فيه لا يكشف عن المفسدة ، بل العقل يحكم بتحقّق المصلحة الملزمة في الضدّ المزاحم لعدم المزاحمة بين المقتضيات.

وأيضا النهي الاستلزامي الذي يكون من جهة ملازمة شيء للمأمور به بالأمر المقدّميّ لا يكون موجبا للبعد عن ساحة المولى فلا يوجب الفساد. انتهى (١).

والحاصل أنّ النهي النفسيّ يقتضي الفساد لا النهي الغيريّ لأنّ العبادة مع النهي الغيريّ لا مفسدة فيها حتّى يكشف النهي عن وجودها ، وهي تقتضي الفساد والعصيان والمخالفة ليس من ناحية إتيان العبادة بل من ناحية ترك الأهمّ وهو الإزالة ، وهو متلازم مع اتيان العبادة ، وحكم ترك الأهمّ لا يسري إلى إتيان العبادة إلّا بالعرض والمسامحة ، والعرض والمسامحة غير مقتض للفساد والتزاحم من جهة عدم إمكان الجمع بينهما ، لا من جهة المقتضيات ، بل جهة الاقتضاء في كلّ واحد منهما تامّة للخطاب ، وإنّما تقدّم طرف الإزالة لأهمّيّتها على جهة الاقتضاء في طرف العبادة ، فالمزاحمة لا توجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلّق بالمهمّ فعلا مع بقاء المهمّ على ما هو عليه من المقتضيات ، والمفروض أنّ النهي الغيريّ لا يوجب مفسدة فيها ومعه ، لا وجه للبطلان. كما لا يخفى.

وثانيا : بما أفاده سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّه لو سلّمنا كشف النهي الغيريّ عن المفسدة لا يكفي ذلك في الحكم ببطلان فعل العبادة لإمكان مزاحمة المفسدة المكشوفة بالنهي الغيريّ مع مصلحة الفعل وغلبتها عليها. ألا ترى أنّ في ترك صوم عاشوراء مصلحة عدم المشابهة ببني أميّة ، ومع ذلك يكون الصوم في اليوم المذكور صحيحا لتزاحم مصلحة الصوم مع مفسدة التشابه وغلبتها عليها ، فمجرّد الكشف عن مفسدة لا يكفي في الحكم ببطلان العبادة بل يحتاج إلى غلبة المفسدة

__________________

(١) مناهج الوصول : ٢ / ٢٠.

٣٥

الغيريّة على مصلحة نفسيّة للعبادة.

هذا يمكن أن يقال : يكفي في فساد العبادة مع تسليم الكشف عن المفسدة قوله عليه‌السلام : «إنّ الله لا يطاع من حيث يعصى» ؛ إذ المفروض أنّ نفس الصلاة ذات مفسدة والإتيان بها موجب للعصيان.

والقول بأنّ حيثيّة العصيان مغايرة لحيثيّة الإطاعة والحديث يدلّ على عدم حصول الإطاعة من نفس حيثيّة العصيان غير سديد بعد كون الاتّحاد العرفيّ بينهما.

اللهم إلّا أن يقال بعد الكسر والانكسار وترجيح جانب العبادة لا حيث له إلّا حيث الإطاعة لعدم فعليّة حيثيّة العصيان ، فلا يشمله الحديث. فتدبّر جيّدا.

وأمّا ما يقال من أنّ المتقرّب به وإن لم يكن في نفسه مبعدا لكنّه مقدّمة للمبعد وهو ترك ضدّه الذي يكون أهمّ ، ولا يمكن التقرّب بما يكون مقدّمة للمبعد ، كما لا يمكن التقرّب بالمبعد ، فقد أجاب عنه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره بأنّ الفعل العباديّ وإن كان مبغوضا بالعرض لمحبوبيّة تركه المقدّمي ، لكنّ الفعل ليس مقدّمة لمبغوض مبعد حتّى لا يمكن التقرّب بمقدّمة المبعد ، إذ لا يقول أحد بمقدّميّة فعل لترك ضدّه للزوم الدور. نعم ، الفعل العباديّ مبغوض عرضيّ ملازم لمبغوض عرضيّ وهو ترك الأهمّ وهو لا يمنع عن التقرّب جزما (١).

ولعلّ قبول مقدّميّة ترك الفعل العباديّ للإزالة من باب المماشاة لمن ذهب إلى مقدّميّة ترك الضدّ لوجود الضدّ الآخر ، وإلّا فقد مرّ سابقا أنّ التحقيق أنّ المقدّميّة مطلقا ممنوعة ، لا من طرف ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر ولا من طرف الفعل لترك الضدّ الآخر ، وأيضا تقدّم أنّ وجه عدم تقدّميّة الفعل للترك ليس هو الدور ، بل من جهة أنّ الترك أمر عدميّ وهو لا يحتاج إلى علّة ، بل الترك ملازم لعدم علّته ، لا أنّ

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٢٤.

٣٦

فعل الضدّ مقدّمة وجوديّة لترك الضدّ الآخر. فتحصّل أنّ مع تسليم مقدّمات الاستدلال لاقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه لا ينتج ذلك إلّا بضميمة اقتضاء النهي للفساد ، والمفروض أنّ النهي الغيريّ لا يقتضي الفساد.

يمكن إنكار الثمرة لكفاية قصد الملاك في تحقّق العبادة ، سواء كان الأمر بالأهمّ مستلزما للنهي عن المهمّ أو لم يكن ، لأنّ بقاء المهمّ على ما هو عليه من الملاك موجب لصلاحيّة التقرّب به وصحّة عباديّته إذ صحّة العبادة لا تتوقّف على قصد الأمر بخصوصه ، لعدم الدليل على اعتبار أزيد من قصد التقرّب بالعمل في وقوعه عبادة ، والتقرّب يحصل بإضافة العمل إلى المولى بقصد كونه مأمورا به أو بقصد كونه محبوبا للمولى ، ولا يتقوّم العبادة بقصد الأمر. وعليه ، فإذا أتى به بقصد الملاك صحّت العبادة من دون فرق بين كون الأمر بالشيء مستلزما للنهي وعدمه.

إنكار الثمرة بناء على لزوم الأمر في العبادة

ذهب شيخنا البهائيّ قدس‌سره على المحكيّ إلى أنّ فساد العبادة لا يحتاج إلى استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه لكفاية عدم الأمر في الحكم بفساد العبادة ، لاحتياج العبادة إلى الأمر من دون فرق بين كون الأمر بالشيء مستلزما للنهي عن ضدّه وعدمه فلا ثمرة ، لأنّ العبادة على التقديرين فاسدة لتقوّمها بالأمر والمفروض أنّ العبادة لا أمر لها بسبب تزاحمها مع الأهمّ.

أجيب عنه بوجوه :

الأوّل : بالجواب المبنائيّ بما عرفت من كفاية قصد الملاك وعدم الاحتياج في تحقّق العبادة إلى الأمر وقصده ، لأنّ العبادة متحقّقة بإضافة العمل إلى المولى ، وهي حاصلة إمّا بقصد الأمر وإمّا بقصد كون العمل محبوبا للمولى. وعليه ، فعدم الأمر لا يوجب فساد العبادة.

٣٧

الثاني : بالجواب البنائيّ بأنّا لو سلّمنا حاجة العبادة إلى قصد الأمر ، فالحكم ببطلان العبادة لعدم الأمر صحيح بالنسبة إلى المضيّقين كالإزالة وصلاة آية الزلزلة ، وكإنقاذ الابن وإنقاذ الأخ في زمان واحد ، لعدم تعلّق الأمر بالمهمّ كإنقاذ الأخ ، سواء قلنا بأنّ الأمر بالأهمّ مستلزم للنهي عن ضدّه أو لم نقل. وأمّا إذا كان التزاحم بين الموسّع والمضيّق كالإزالة والصلاة فلا نسلّم بعدم الثمرة لما حكي عن المحقّق الثاني قدس‌سره من أنّ الثمرة متحقّقة فإنّ العبادة تقع فاسدة بناء على استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، وتقع صحيحة بناء على عدم الاقتضاء والاستلزام.

بيان ذلك كما في المحاضرات : أنّا قد ذكرنا في بحث تعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد أنّ الصحيح هو تعلّقها بالطبائع الملغاة عنها جميع الخصوصيّات والتشخّصات دون الأفراد ، وعلى هذا فالمأمور به هو الطبيعة المطلقة ، ومقتضى إطلاق الأمر بها ترخيص المكلّف في تطبيق تلك الطبيعة على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه من الأفراد العرضيّة والطوليّة ، ولكن هذا إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك مانع عن التطبيق ، وأمّا إذا كان مانع عنه ، كما إذا كان بعض أفرادها منهيّا عنه ، فلا محال يقيّد إطلاق الأمر المتعلّق بالطبيعة بغير هذا الفرد المنهيّ عنه ، لاستحالة انطباق الواجب على الحرام. ويترتّب على ذلك أنّه بناء على القول باقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضدّه كان الفرد المزاحم من الواجب المطلق منهيّا عنه فيقيّد به إطلاق الأمر به ، كما هو الحال في بقيّة موارد النهي عن العبادات ، لاستحالة أن يكون الحرام مصداقا للواجب ونتيجة ذلك التقيّد هي وقوعه فاسدا بناء على عدم كفاية اشتماله على الملاك في الصحّة ـ إلى أن قال ـ :

وأمّا بناء على القول بعدم الاقتضاء ، فغاية ما يقتضيه الأمر بالواجب المضيّق هو عدم الأمر بالفرد المزاحم لاستحالة الأمر بالضدّين معا ، وهذا لا يقتضي فساده ، لأنّ متعلّق الوجوب صرف وجود الطبيعة ، وخصوصيّة الأفراد جميعا خارجة عن

٣٨

حيّز الأمر ، والمفروض أنّ القدرة على صرف الوجود منها تحصل بالقدرة على بعض وجوداتها وأفرادها وإن لم يكن بعضها الآخر مقدورا. ومن الواضح أنّ التكليف غير مشروط بالقدرة على جميع أفرادها العرضيّة والطوليّة ، ضرورة أنّه ليست طبيعة تكون مقدورة كذلك.

وعليه فعدم القدرة على فرد خاصّ من الطبيعة المأمور بها ـ وهو الفرد المزاحم بالأهمّ ـ لا ينافي تعلّق الأمر بها ، فإنّ المطلوب هو صرف وجودها ، وهو يتحقّق بإيجاد فرد منها في الخارج ، فالقدرة على إيجاد فرد واحد منها كافية في تعلّق الأمر بها.

وعلى هذا الضوء يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة المأمور بها لانطباق تلك الطبيعة عليه كانطباقها على بقيّة الأفراد ، ضرورة أنّه لا فرق بينه وبين غيره من الأفراد من هذه الجهة أصلا ـ إلى أن قال ـ :

فإنّ متعلّق الأمر هو الطبيعة الجامعة بين الأفراد بلا دخل شيء من الخصوصيّات والتشخّصات فيه ، ولذا لا يسري الوجوب منها إلى تلك الأفراد هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ضابط الامتثال هو انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتيّ به في الخارج.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي صحّة الإتيان بالفرد المزاحم لاشتراكه مع بقيّة الأفراد في كلتا الناحيتين.

نعم ، يمتاز عنها في ناحية ثالثة ، وهي أنّ الفرد المزاحم غير مقدور شرعا ، وهو في حكم غير المقدور عقلا ، إلّا أنّها لا تمنع عن الصحّة وحصول الامتثال به لأنّ الصحّة تدور مدار الناحيتين الاوليين ، وهذه الناحية أجنبيّة عمّا هو ملاك الصحّة ضرورة أنّ المكلّف لو عصى الأمر بالواجب المضيّق وأتى بهذا الفرد المزاحم لوقع

٣٩

صحيحا لانطباق المأمور به عليه.

وإن شئت فقل إنّ ما كان مزاحما للواجب المضيّق وإن كان غير مقدور شرعا إلّا أنّه ليس بمأمور به ، وما كان مأمورا به ومقدورا للمكلّف ـ وهو صرف وجود الطبيعة بين المبدأ والمنتهى ـ غير مزاحم له. وعلى ذلك الأساس صحّ الإتيان بالفرد المزاحم ، فإنّ الانطباق قهريّ والإجزاء عقليّ.

ونتيجة ما أفاده المحقّق الثاني قدس‌سره هي أنّ الفرد المزاحم ، بناء على القول بالاقتضاء حيث إنّه كان منهيّا عنه ، فلا ينطبق عليه المأمور به ، وعليه فلا إجزاء لدورانه مدار الانطباق. وبناء على القول بعدم الاقتضاء حيث إنّه ليس بمنهيّ عنه ينطبق عليه المأمور به فيكون مجزيا (١).

اورد عليه في مناهج الوصول بأنّ ملاك استحالة الأمر بالضدّين وهو التكليف بالمحال موجود مع تضييق الوقت أو انحصار الفرد أو كون الأفراد طوليّة فإنّ معنى تعلّق الأمر بالطبيعة هو البعث إلى إيجادها والأمر وإن تعلّق بنفس الماهيّة ، لكنّ البعث إليها هو البعث إلى إيجادها ؛ فمع ضيق الوقت إن كان البعث إلى إيجادها فعليّا وكذلك إلى ضدّ مصداقها ينتهى الأمر إلى التكليف بالمحال ، لأنّ إيجاد الطبيعة وضدّ المصداق ممّا لا يمكن في الوقت المضيّق ، وكذا الحال مع انحصار المصداق ، بل مع كون الأفراد طوليّة فإنّ فعليّة الأمر بالطبيعة في وقت يكون فردها مبتلى بالضدّ الواجب لازمها التكليف بالمحال (٢).

ولا يخفى عليك أنّ المدّعى أنّ الأمر متوجّه إلى الطبيعة لا إلى الأفراد والقدرة في الجملة بالنسبة إلى مصاديقها كافية في جواز البعث إلى صرف الطبيعة ، ولذا لا يضرّ

__________________

(١) المحاضرات : ٣ / ٥٢ و ٥٤.

(٢) مناهج الوصول : ٢ / ٢٢.

٤٠