عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الطبيعة مورد الأمر ، فإنّ الحاكم بأجزاء كلّ فرد هو العقل ، فلا يمكن تصحيح هذا الطلب الإرشادي للعقل إلّا بهذا الوجه. فتحصّل أنّ تصوير الوجوب التخييريّ ـ كما صرّح به استاذنا الحائريّ قدس‌سره في درسه ـ كتصوير الشكّ ، فإنّ الشكّ احتمال هذا أو ذاك ، والوجوب التخييريّ هو البعث إلى هذا أو ذاك (١).

وإليه يؤول ما أفاده سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ ظاهر قولهم افعل ذلك أو ذاك ليس هو البعث نحو الواحد لا بعينه وإن كان هو ممكنا بحسب مقام الثبوت ، لأنّ إنشاء الوجوب لم يتعلّق بعنوان أحدهما ، بل هو أمر ينتزعه العقل منه. والخطاب المذكور نحو من الوجوب الذي يبعث المخاطب نحو الفعل ويرفع البعث ثانيا ويبعثه ثانيا نحو فعل آخر. وهو بالفارسية : (اين بله نه آن بله است) انتهى.

والحاصل أنّ الطلب واحد له شعب متعدّدة يبعث المخاطب نحو أشياء متعدّدة لا على الاستغراق ولا على المجموع ، بل بقرينة كلمة (أو) يبعثه نحوها على البدليّة ، أي ائت بهذا أو ذاك ، وهذا هو التخيير الشرعيّ ، وهو نوع مستقلّ في قبال الوجوب التعيينيّ.

لا يقال : إنّ النسبة البعثيّة جزئيّة والجزئيّ لا يكون قابلا للتقييد ، وعليه فكيف يمكن أن يبعث نحو شيء ثمّ تردّد فيه وبعث نحو شيء آخر ، مع أنّ لازمه هو تقييد النسبة البعثيّة مع أنّها جزئيّة ، لأنّا نقول إنّ النسبة الإنشائيّة البعثيّة من الامور الاعتباريّة التي تكون خفيفة المئونة ، فيمكن تقييدها من أوّل الأمر من باب ضيق فم الركية ، ولذا اتّفق أهل العربيّة على رجوع قيود الكلام إلى النسبة ؛ ففي قوله : ضربته يوم الجمعة أمام الأمير ، يرجع قوله يوم الجمعة أمام الأمير إلى النسبة. وعليه ، فكما لا مانع من تقييد نسبة الكلام بالقيود المذكورة فكذلك لا مانع من أن يقيّد الوجوب

__________________

(١) راجع اصول الفقه لشيخنا الأستاذ الأراكي قدس‌سره : ج ١ ص ١٠١ ـ ١٠٢ وغيره.

١٢١

المتعلّق بشيء بكلمة «أو بذلك».

لا يقال : إنّ اللازم من الوجوب التخييريّ هو التردّد الواقعيّ في الإرادة التشريعيّة ومتعلّقها وفي البعث ومتعلّقه فكلّ ذلك محال لاستلزامه الإبهام الواقعيّ في المتشخّصات والمتعيّنات الواقعيّة.

لأنّا نقول : أنّا نمنع الترديد والإبهام لا في الإرادة ولا في متعلّقها ولا في البعث ولا في المبعوث إليه ، لأنّ جميعها من المتعيّنات ، إذ الإرادة أمر وجوديّ متعيّن ولا تردّد في وجود الإرادة وتعلّقها بهذا أو ذاك ، أيضا لا تردّد فيه ، بل هو واقع بالنسبة إليهما على البدل ، ومتعلّق الإرادة أيضا متعيّن سواء كان هو هذا أو ذاك ، ومجرّد كون المتعلّق أمرين على سبيل التبادل لا يستلزم التردّد الخارجيّ ، كما أنّ الشكّ أمر وجوديّ وهو باعتبار كونه أمرا وجوديّا لا ترديد فيه ، ومجرّد كونه محتمل الطرفين لا يوجب جعله من المبهم وغير المتعيّن.

ولعلّ منشأ التوهّم المزبور هو توهّم أنّ متعلّق الإرادة في الخارج هو الفرد المردّد ، ولكنّه غفلة واضحة لأنّ المتعلّق هو المتعيّنات لا الفرد المردّد ، ثمّ إنّ الإرادة التخييريّة والبعث التخييريّ كالشكّ ؛ فكما أنّ الشكّ وجود وحدانيّ فكذلك الإرادة التخييريّة والبعث التخييريّ ، ومجرّد تعدّد المتعلّق لا يوجب تعدّد الشكّ ؛ والإرادة التخييريّة والبعث التخييريّ قول القائل ائت بهذا أو بذاك الظاهر في الوجوب التخييريّ حاك عن الإرادة الواحدة والبعث الواحد لا الإرادتين أو البعثين. نعم ، هذا البعث له شعبتين : إحداهما متعلّقة بهذا والاخرى متعلّقة بذاك ، ولا ينافي ما ذكر تحليل هذا الخطاب الواحد بالخطابات المتعدّدة كقوله : افعل هذا أو افعل ذاك.

وممّا ذكر يظهر ما في مناهج الوصول ، حيث ذهب في الجواب عن الإشكال الثبوتيّ في الوجوب التخييريّ إلى تعدّد الإرادة والبعث ، حيث قال : إنّ المولى إذا رأى أنّ في شيء أو أشياء مصلحة ملزمة واف كلّ منها بغرضه ، بحيث يكون كلّ من

١٢٢

الطرفين أو الأطراف محصّله ، فلا محالة يتوسّل لتحصيل غرضه بهذا النحو بإرادة بعث متعلّق بهذا وإرادة بعث آخر متعلّق بذاك ، مع تخلّل لفظة (أو) لإفهام أنّ كلّ واحد منهما محصّل لغرضه ولا يلزم الجمع بينهما ؛ فهاهنا إرادة متعلّقة بمراد وبعث متعلّق بمبعوث إليه ، كلّها متعيّنات مشخّصات لا إبهام في شيء منها. وإرادة اخرى متعلّقة بمراد آخر وبعث آخر إلى مبعوث إليه آخر كلّها معيّنات مشخّصات ، وبتخلّل كلمة أو وما يراد منها يرشد المأمور إلى ما هو مراده وهو إتيان المأمور بهذا أو ذاك إلخ (١). لما عرفت من أنّ سنخ الطلب في الوجوب التخييريّ غير سنخ الطلب في الوجوب التعيينيّ ، إذ الوجوب التعيينيّ ليس له إلّا شعبة واحدة والوجوب التخييريّ له شعبتان أو شعب في عين كونه طلبا وبعثا واحدا.

هذا مضافا إلى أنّ تعدّد البعث والإرادة مع عدم منافاة بين الأغراض يستلزم تعدّد استحقاق الثواب لو أتى بهما دفعة واحدة ، وهو كما ترى.

المقام الثاني في إمكان تصوير الوجوب التخييري وعدمه بين الأقلّ والأكثر ؛ فيمكن أن يقال بامتناعه بينهما لأنّ الأقلّ ـ ولو وجد في ضمن الأكثر ـ يكون هو الواجب لحصول الغرض به ، ومع حصول الغرض به يكون الزائد عليه من أجزاء الأكثر غير الواجب ، إذ بعد حصول الغرض لا يبقى الأمر ، ومع عدم بقاء الأمر لا وجوب للزائد. وهذا واضح في التدريجيّات من دون فرق بين كون الغرض واحدا أو متعدّدا ، لأنّه مع التعدّد لا يجب الجمع بينهما ، بل يكفي إتيان أحدهما في حصول الغرض وسقوط الأمر ؛ فإذا أتى بالأقلّ أتى بالغرض ، ومع الإتيان به يسقط الأمر ، ومع سقوط الأمر لا مجال لوجوب الأكثر ولو كان الغرض متعدّدا ، وإلّا خرج المورد عن الوجوب التخييريّ ودخل في الوجوبين التعيينيّين.

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٨٦ ـ ٨٨.

١٢٣

وأمّا في الدفعيّات ؛ فإن كان هنا غرض واحد ففي مناهج الوصول لا يعقل التخيير بينهما أيضا ، لأنّ الغرض إذا حصل بنفس ذراع من الخطّ بلا شرط كان التكليف بالزيادة بلا ملاك فتعلّق الإرادة ، والبعث بها لغو ممتنع ، ومجرّد وحدة وجود الأقلّ بلا شرط مع الأكثر خارجا لا يدفع الامتناع بعد كون محطّ تعلّق الأمر هو الذهن [الذي هو] محلّ تجريد طبيعة المطلوب عن غيره من اللواحق الزائدة.

وإن كان لكلّ منهما غرض غير ما للآخر ؛ فإن كان بين الغرضين تدافع في الوجود فلا يمكن اجتماعهما أو يكون اجتماعهما مبغوضا للأمر ، فلا يعقل التخيير أيضا ، لأنّ الأقلّ بلا شرط موجود مع الأكثر ؛ فإذا وجدا دفعة لا يمكن وجود أثريهما للتزاحم أو يكون اجتماعهما مبغوضا ، فلا يعقل تعلّق الأمر بشيء لأجل غرض لا يمكن تحصيله أو يكون مبغوضا.

وأمّا إذا كان الغرضان قابلين للاجتماع ولا يكون اجتماعهما مبغوضا وإن لم يكن مرادا أيضا فالتخيير بينهما جائز ، لأنّ الأقلّ مشتمل على غرض مطلوب والأكثر على غرض آخر مطلوب ، فإذا وجد متعلّق الغرضين كان للمولى أن يختار منهما ما يشاء (١).

ذهب في الكفاية إلى جواز التخيير بين الأقلّ والأكثر فيما إذا كان كلّ منهما بحدّه محصّلا للغرض ، بحيث لا يكون الأقلّ في ضمن الأكثر محصّلا وبعبارة اخرى أنّ الغرض إذا كان مترتّبا على الأقلّ بشرط لا عن الغير لا على الأقلّ مطلقا جاز التخيير بين الأقلّ والأكثر ، من دون فرق بين أن يكون للأقلّ وجود مستقلّ كتسبيحة واحدة في ضمن التسبيحات الأربع ، أو لا يكون له وجود كذلك كالخطّ القصير في

__________________

(١) مناهج الوصول : ص ٩٠ ـ ٩١.

١٢٤

ضمن الخطّ الطويل.

فإنّ الغرض لا يترتّب إلّا على الأقلّ الذي لا يجتمع مع الأكثر ، وأمّا الذي يجتمع معه فلا أثر له ولا يكون محصّلا للغرض ، سواء كان له وجود مستقلّ أو لم يكن.

وفيه أنّ ذلك التصوير ـ وإن كان أمرا معقولا ـ خروج عن محلّ البحث ، إذ تقييد الأقلّ بشرط لا يوجب أن يكون الأقلّ متباينا مع الأكثر ، ومع المباينة لا إشكال في جواز التخيير ، لما عرفت من جواز التخيير بين المتباينات.

هذا مضافا إلى أنّه خلاف ظواهر الأدلّة التي يتفاهمها العرف ، فإنّ المنصرف إليه عندهم من التخيير ـ كما أفاد المحقّق النائيني قدس‌سره ـ هو ذات الواحد والاثنين لا الواحد بشرط لا ، فإثبات التخيير بينهما بالمعنى المعقول يحتاج إلى دليل قويّ بحيث لا يمكن حمله على غير التخيير ، وأخبار الباب ـ أي باب التسبيحات الأربع ـ ليست كذلك لظهورها وقابليّتها لحمل الزائد على الأربع على الاستحباب ، فلا تصلح لإثبات التخيير. وهذا البحث مطّرد في أمثال المقام ، ممّا يحتمل فيه التخيير بين الأقلّ والأكثر كذكر الركوع. وبالجملة ، فإمكان التخيير المذكور لا يوجب حمل الأخبار عليه (١).

فتحصّل أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر ، فيما إذا كان الأقلّ ملحوظا بنحو لا بشرط ، غير معقول إلّا في بعض الصور كالدفعيّات عند تعدّد الغرض وعدم التدافع بينها ، وأمّا إذا كان الأقلّ ملحوظا بنحو بشرط لا فالتخيير بينهما معقول ، ولكنّ الأقلّ والأكثر يدخلان في المتباينين ويخرجان عن عنوان الأقلّ والأكثر ، وحيث إنّ ظواهر الأدلّة لا تساعد اعتبار بشرط لا فلا تحمل تلك الظواهر على التخيير المعقول ما دام

__________________

(١) تقريرات بحث الصلاة : ج ٢ ص ١٨٠.

١٢٥

أمكن حملها على غير التخيير كوجوب الأقلّ واستحباب الزائد ، كما ذهب إليه الأصحاب في مثل التسبيحات الأربع ونحوها من التدريجيّات ، أو كوجوب صرف الوجود وأصل الطبيعة بعد عدم مدخليّة الخصوصيّات الفرديّة من الطول والقصر في الدفعيّات ، فيكون التخيير بين الأفراد عقليّا لا شرعيّا.

١٢٦

الخلاصة :

الفصل التاسع

في تصوير الوجوب التخييري يقع الكلام في المقامين :

الأوّل : في إمكان تصوير الوجوب التخييري في المتباينات والتحقيق فيه أن يقال إنّ الطلب التخييري سنخ مستقلّ من الطلب وهو طلب واحد له طرفان أو ثلاثة أطراف أو أكثر قد تعلّق كلّ طرف منه بشيء خاصّ فحاله حال الشكّ في كونه متقوّما أو أكثر بطرفيه فكما أنّ الشكّ مرتفع بارتفاع أحد طرفيه فكذلك الطلب التخييري مرتفع بارتفاع أحد طرفيه.

والحاصل أنّ الطلب في الوجوب التخييري واحد له شعب متعدّدة يبعث المخاطب نحو أشياء متعدّدة لا على الاستغراق فإنّه لم يتعلّق بالجامع ولا على المجموع فإنّ الأشياء لم تلاحظ شيئا واحدا بحيث يكون الأطراف فيه أجزاء لواحد بل بقرينة كلمة «أو» يبعث المخاطب نحو الأشياء على البدليّة كقوله ايت بهذا أو ذاك وهذا هو الوجوب التخييريّ الشرعي وهو نوع مستقل في قبال الوجوب التعيينيّ.

وممّا ذكر يظهر أنّ الوجوب التخييريّ ليس هو البعث نحو الواحد لا بعينه لأنّ الإنشاء لم يتعلّق بعنوان أحدهما أو أحدها إذ العنوان المذكور ممّا ينتزعه العقل من الوجوب التخييريّ الذي عرفت إنّه البعث نحو ذلك أو ذاك.

بل الخطاب في موارد التخيير الشرعي متعلّق بالأشياء الخاصّة كخصال الكفّارات ورفع اليد عن ظاهر هذا الخطاب وإرجاعه إلى الجمع الانتزاعي خلاف الظاهر كما أنّه لا وجه لإرجاع الخطاب إلى الجامع الحقيقي لأنّه أيضا خلاف الظاهر.

والاستدلال عليه بقاعدة عدم صدور الكثير عن الواحد وقاعدة عدم صدور

١٢٧

الواحد عن الكثير غير سديد بعد اختصاص القاعدة المذكورة بالواحد الشخصي فلا تشمل الواحد النوعيّ ولذا نجد بالوجدان إمكان استناد الواحد النوعيّ إلى المتعدّد كالحرارة فإنّها واحد نوعيّ يمكن استنادها تارة الى النار واخرى إلى الحركة وثالثة الى الشمس وهكذا.

ومن المعلوم أنّ تدارك التخلّف في الصوم مثلا واحد نوعي ويمكن أن يستند إلى الأمور الثلاثة من خصال الكفّارات فلا وجه لرفع اليد عن ظاهر الخطابات الواردة في موارد التخيير الشرعيّ وإرجاعه إلى الجامع الحقيقي والقول بالتخيير العقلي كما يظهر من صاحب الكفاية وممّا ذكر أيضا ينقدح ما في دعوى أنّ الواجب في الوجوب التخييريّ هو المعيّن عند الله وهو ما يختاره المكلّف في مقام الامتثال.

وذلك لأنّه خلاف ظاهر الأدلّة الدالّة على عدم تعيّن الواجب على المكلّف في الواقع ونفس الأمر بل يكون الوجوب على نحو التخيير فما يختاره المكلّف مصداق للواجب لا أنّه الواجب بعينه هذا مضافا إلى أنّه مناف لقاعدة الاشتراك في التكليف ضرورة أنّ لازمه هو اختلاف التكليف باختلاف المكلّفين في الاختبار.

على أنّ لازم ذلك هو عدم وجوب شيء في الواقع لو لم يختر المكلّف شيئا لأنّ الوجوب منوط باختيار المكلّف والمفروض أنّه لم يختر شيئا ومقتضى عدم وجوب شيء في الواقع هو عدم العصيان بتركهما وهو كما ترى.

وهكذا يظهر ممّا تقدّم في الوجوب التخييريّ إنّه لا وجوه لقول من ذهب إلى أنّ الوجوب التخييريّ ليس إلّا بمعنى وجوب كلّ منهما تعيينا مع الحكم بسقوط الوجوب بفعل أحدهما.

فإنّه مضافا إلى أنّه مخالف لظاهر الوجوب التخييريّ من أنّه وجوب واحد له طرفان أو أطراف يلزم تعدّد العقاب لو تركهما رأسا مع أنّه كما ترى.

المقام الثاني : في إمكان تصوير التخيير الشرعي وعدمه بين الأقلّ والأكثر

١٢٨

ذهب صاحب الكفاية الى إمكانه فيما إذا كان كلّ منهما بحدّه محصّلا للغرض بحيث لا يكون الأقلّ في ضمن الأكثر محصّلا وبعبارة اخرى إنّ الغرض إذا كان مترتّبا على الأقلّ بشرط لا عن الغير لا على الأقل مطلقا ولو كان في ضمن الأكثر جاز التخيير بين الأقل والأكثر من دون فرق بين أن يكون للأقلّ وجود مستقلّ كتسبيحة واحدة في ضمن التسبيحات الأربع أو لا يكون له وجود كذلك كالخطّ القصير في ضمن الخطّ الطويل.

وفيه أنّ هذا التصوير وإن كان ممكنا ومعقولا ولكنّه خارج عن محلّ البحث لأنّ تقييد الأقلّ بشرط لا يوجب أن يكون الأقلّ متباينا مع الأكثر ومع المباينة لا إشكال لما عرفت من جواز التخيير بين المتباينات.

هذا مضافا إلى أنّه خلاف ظواهر الأدلّة فإنّ المنصرف إليه من التخيير في التسبيحات الأربع هو ذات الواحد والثلاث لا الواحد بشرط لا.

فإذا كان التخيير بين ذات الواحد والثلاث في التسبيحات الأربع مثلا فالتخيير بينهما ممتنع لأنّ الأقلّ ولو وجد في ضمن الأكثر يكون واجبا لحصول الغرض به ومع حصول الغرض به يكون الزائد عليه من أجزاء الأكثر غير الواجب إذ بعد حصول الغرض لا يبقى الأمر ومع عدم بقاء الأمر لا وجوب للزائد وهذا واضح في التدريجات.

وأمّا الدفعيّات فإن كان الغرض واحدا لا يعقل التخيير بينهما أيضا لأنّ الغرض إذا حصل بنفس ذراع من الخطّ بلا شرط كان التكليف بالأزيد منه بلا ملاك فتعلّق الإرادة والبعث نحو الزيادة لغو ممتنع ومجرّد وحدة وجود الأقلّ بلا شرط مع الأكثر خارجا لا يدفع اللغويّة والامتناع المذكور بعد كون الذهن محلّ تعلّق الأمر.

وهكذا الأمر لو كان لكلّ منهما غرض غير ما للآخر وكان بينهما تدافع في الوجود فإنّه لا يمكن اجتماعهما ومع عدم اجتماعهما لا يعقل التخيير بينهما إذ الأقلّ بلا شرط موجود مع الأكثر فإذا وجدا دفعة لا يمكن وجود أثريهما للتزاحم لأنّ

١٢٩

المفروض أنّ بينهما التدافع فلا يعقل تعلّق الأمر بشيء لأجل غرض لا يمكن تحصيله.

نعم لو كان الغرضان قابلين للاجتماع وإن لم يكن مرادا أيضا فالتخيير بينهما يكون جائزا لأنّ الأقل مشتمل على غرض مطلوب والأكثر على غرض آخر مطلوب فإذا وجد متعلّق الغرضين بوجود واحد كان للمولى أن يختار منهما ما يشاء.

فتحصل أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر فيما إذا كان الأقلّ ملحوظا بنحو لا بشرط غير معقول إلّا في بعض صور الدفعيات عند تعدّد الغرض وعدم التدافع بين الأغراض وعليه فيحمل ما ورد في التخيير بين الأقلّ والأكثر على وجوب الأقلّ واستحباب الزائد في التدريجات أو على وجوب صرف الوجود وأصل الطبيعة بعد عدم مدخليّة خصوصيّات الفرديّة من الطول والقصر في الدفعيّات فيكون التخيير بين الأفراد عقليّا لا شرعيّا.

١٣٠

الفصل العاشر : في تصوير الواجب الكفائيّ :

ولا يخفى عليك أنّ كلّ تكليف لا يخلو عن مكلّف ـ بالفتح ـ والمكلّف في الواجب الكفائيّ ، هل هو الواحد المعيّن عند الله تعالى أو فرد من أفراد المكلّف أو فرد مردّد بينهم أو صرف الوجود أو المجموع أو الجميع؟ فكلّ محتمل والظاهر ـ كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد ـ هو الأخير ؛ فإنّ لسان الخطابات الكفائيّة كلسان الواجبات العينيّة ، بخلاف الواجبات التخييريّة فإنّها مشتملة على كلمة أو. وعليه ، فنقول إنّ الواجب الكفائيّ كالواجب العينيّ في تعلّق التكليف إلى كلّ واحد ، ومقتضى ذلك هو تعدّد التكليف وتعدّد الامتثال لو أتوا به دفعة ، كما إذا صلّوا على الميّت دفعة ، لأنّ كلّ واحد منهم مؤدّيا للواجب وممتثلا.

وتعدّد العقاب لو لم يأتوا به لأنّ كلّ واحد منهم تارك للواجب ـ نعم ، إذا أتى واحد منهم به سقط التكليف عن الباقين لحصول الغرض وعدم بقاء الموضوع.

لا يقال ـ كما في تعليقة المحقق الأصفهاني قدس‌سره ـ : إنّ مقتضى تعلّق التكليف إلى كلّ واحد مستقلّا هو أنّه إذا اشرك الكلّ في فعل لا يمكن تعدّده كدفن الميّت ، فلا يصدق الامتثال بالنسبة إلى الجميع ، إذ لم يحصل من كلّ منهم دفن الميّت ، ولا أمر إلّا بدفن الميّت ، فما معنى امتثال كلّ منهم للأمر بدفن الميت؟

لأنّا نقول : إنّ مع اشراك الكلّ لا يبقى موضوع للامتثال ، كما لا يبقى موضوع للامتثال أحيانا للواجب العينيّ كالأمر بغسل الثوب المتنجّس إذا طرحه الريح في الماء

١٣١

الكرّ أو الجاري واغتسل الثوب بالماء المذكور ؛ فكما أنّه لا يبقى موضوع للامتثال في الواجب العينيّ فكذلك لا يضرّ في الواجب الكفائيّ. نعم ، إذا أتوا به مع الاشراك استحقّوا المدح عقلا ، لمكان الانقياد للمولى بتحصيل غرضه الوجدانيّ بنحو الاجتماع. وعليه ، فلا حاجة إلى القول بأنّ الواجب هو الأعمّ من الاستقلال في الدفن والاشتراك فيه ، وممّا ذكر يظهر ما في كلام المحقّق الاصفهاني قدس‌سره في كتاب الاصول على النهج الحديث : ص ٤٢ فراجع.

لا يقال أيضا كما في المحاضرات : إنّ تخصيص الجميع بالخطاب على نحو العموم الاستغراقيّ بلا مقتضي وموجب ، إذ بعد كون الغرض واحدا يحصل بفعل واحد منهم ، فوجوب تحصيله على الجميع لا محالة يكون بلا مقتضى وسبب (١).

لأنّا نقول : دعوى عدم الاقتضاء لتعلّق التكليف إلى الجميع بلا شاهد ، بل من الممكن أن يكون الواجبات الكفائيّة في حدّ من الأهمّيّة بحيث يطلبها الشارع من الجميع لئلّا تكون معطّلة ، فلا وجه لرفع اليد عن ظاهر الخطابات المتعلّقة إلى الجميع بأمثال هذه التخريصات.

لا يقال كما في مناهج الوصول : إنّ الواجبات الكفائيّة على أقسام منها ما لا يمكن له إلّا فرد واحد كقتل المرتدّ ؛ ففي هذه الصورة لا يمكن أن يتعلّق التكليف بالجميع ، فإنّ التكليف المطلق لهم في عرض واحد بالنسبة إلى ما لا يمكن فيه كثرة التحقّق لغرض انبعاثهم ممّا لا يمكن. ومنها ما يمكن ، وهو على قسمين : أحدهما : أن يكون المطلوب فيه فردا من الطبيعة والفرد الآخر مبغوض. والآخر : أن يكون المطلوب فيه فردا من الطبيعة والفرد الآخر لا مبغوض ولا مطلوب ، والانبعاث فيهما ـ وإن كان ممكنا بالذات ـ غير ممكن وقوعا ، إذ لا يمكن من الحكيم أن يبعثهم إلى

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ص ٥٦.

١٣٢

المبغوض فيما إذا كان الزائد من الفرد الواحد مبغوضا ، أو إلى غير المطلوب فيما إذا كان الزائد غير مطلوب.

وفيه أنّ منشأ الإشكال هو تصوّر أنّ البعث الشرعيّ ملازم للانبعاث الفعليّ مع أنّ البعث الشرعيّ لا يلازم إلّا صلاحيّة الانبعاث ، كما أنّ إرسال الرسل وبعث الأنبياء أيضا بداعي صلاحيّة الانبعاث لا الانبعاث الفعليّ ، والمقصود من هذا الانبعاث هو إيجاد المسئوليّة بالنسبة إلى العمل ، بحيث يستحقّون المؤاخذة لو تركوه ، والممتنع هو إتيان الجميع مستقلّا والانبعاث الفعليّ نحو العمل لا التكليف بأصل الطبيعة بنحو يصلح للداعويّة فيهم ، بحيث لا يرون لأنفسهم جواز تركها إلّا عند إتيان الآخرين. وعليه ، ففي الصور الثلاث كان التكليف متوجّها إلى الجميع بالنسبة إلى الفرد الممكن إتيانه أو الفرد المطلوب ، والمقصود من تكليف الجميع هو بيان عدم جواز إهمال الفعل بحيث يؤاخذون به لو أهملوا وتركوه.

فكلّ واحد مكلّف بإتيانه ومؤاخذ على تركه لو لم يأت به الآخرون ، ولا يطلب من كلّ واحد منهم إتيان الفعل ، سواء أتى به الآخرون أو لم يأتوا به ، وإلّا لصارت الواجبات الكفائيّة واجبات عينيّة ، والمفروض أنّ الكلام في الواجبات الكفائيّة.

وعليه ، فتعلّق الخطاب إلى الجميع لا يستلزم طلب المحال فيما إذا لم يمكن التكثّر والتكرار ، لأنّ مرجع التكليف إلى عدم جواز إهماله لكلّ واحد. كما لا يكون منافيا للحكمة فيما إذا كان قابلا للتكرار ، ولكنّ الفرد الزائد مبغوض أو غير مطلوب ، لأنّ التكليف ليس متوجّها إلى الفرد الزائد ، بل متوجّه إلى الفرد الواحد من الطبيعة ، سواء أمكن فرد آخر أو لم يمكن ، وكان كلّ واحد من المكلّفين مأمورا بعدم إهماله.

وممّا ذكر يظهر أنّه لا وجه لرفع اليد عن ظواهر الخطابات التي عرفت أنّها

١٣٣

متوجّهة إلى الجميع ، وأمّا تعلّق التكليف إلى الفرد أو الفرد المردّد أو صرف الوجود ، بمعنى إهمال الخصوصيّات عند ملاحظة المكلّف ، فهو أمر ممكن ثبوتا ، لأنّ خصوصيّات المفاهيم ربّما لا تسري إلى مطابقها ، فالمردّد مردّد مفهوما لا خارجا والخارج هو المتعيّنات ، فلا يلزم من جعل المتعلّق للتكليف فردا مردّدا محذور من تعيّن المردّد أو تردّد المعيّن ، كما ذهب إليه المحقّق الاصفهاني قدس‌سره (١). بل تعلّق التكليف بالفرد المردّد واقع كما في الوصيّة بأحد العبدين. وعليه ، فلا إشكال في جعل التكليف متوجّها إلى الفرد المردّد فضلا عن الفرد ، وهكذا لا إشكال ثبوتا في جعل صرف وجود المكلّف موردا لتعلّق التكليف ، لأنّ معناه هو إهمال خصوصيّات المكلّفين عند التكليف ، بحيث إذا أتى به واحد منهم امتثل التكليف ؛ وإهمال الخصوصيّات عند التكليف لا يلازم إهمال الخارجيّات والواقعيّات ، كما ذهب إليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره (٢). لما عرفت من أنّ خصوصيّات الحاكي ربّما لا تسري إلى الخارجيّات ، فالترديد والإبهام من المفهوم لا يسري إلى الواقعيّات ، فلا إشكال ثبوتا في تعلّق التكليف إلى صرف وجود المكلّفين بالمعنى المذكور. وبالجملة ، فتعلّق التكليف بالفرد أو الفرد المردّد أو صرف الوجود ممكن ، ولكن لا يساعده ظواهر الخطابات لما عرفت من تعلّقها إلى الجميع. وهكذا لا يكون التكليف متوجّها إلى مجموع الأشخاص فإنّه خلف في كونها كفائيّة ، مضافا إلى أنّه خلاف ظواهر الخطابات.

وأمّا دعوى استحالة البعث الواحد إلى المجموع فهي إنّ التكليف من الامور

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٧٣.

(٢) نفس المصدر : ج ٢ ص ٧٤.

١٣٤

الاعتبارية التي هي خفيفة المئونة ، كما ذهب إليه المحقّق الأصفهانيّ فلا تخلو عن المنع والنظر.

فتحصّل أنّ الظاهر من الوجوه المذكورة هو الأخير من تعلّق الخطاب إلى الجميع ، كما أفاد الاستاذ وذهب إليه المحقّق الخراساني والمحقّق الاصفهاني قدّس الله أرواحهم.

١٣٥

الخلاصة :

الفصل العاشر : في تصوير الواجب الكفائيّ

ولا يخفى عليك أنّ لسان الخطابات الكفائيّة كلسان الواجبات العينيّة وعليه فالواجب الكفائي كالواجب العيني في تعلّق التكليف إلى كلّ واحد من المكلّفين نعم إذا أتى واحد منهم به سقط التكليف عن الآخرين لحصول الغرض وعدم بقاء الموضوع ومقتضى ما ذكرناه من تعدد التكليف بتعداد المكلّفين هو تعدّد الامتثال لو أتى المكلّفون به دفعة كما إذا صلّوا دفعة على الميت لأنّ كلّ واحد منهم يكون مؤدّيا للواجب كما أنّ مقتضى ما ذكرناه هو تعدّد العقاب لو لم يأت به واحد.

ودعوى إنّ تخصيص الجميع بالخطاب على نحو العموم الاستغراقي بلا موجب إذ بعد كون الغرض واحدا يحصل بفعل واحد منهم فلا موجب لوجوب تحصيله على الجميع.

مندفعة بإمكان أن يكون الواجبات الكفائية على حدّ من أهمية يطلبها الشارع من الجميع لئلّا تكون معطّلة فمع إمكان ذلك لا وجه لرفع اليد عن ظاهر الخطابات المتعلّقة الى الجميع.

ومرجع التكليف الكفائي المتعلّق بجميع المكلّفين إلى عدم جواز إهمال كلّ مكلّف لا إلى إتيان كلّ مكلّف إذ فرق بين الكفائي والعيني وعليه فلا يرد على ما ذكرناه أنّ لازم ذلك هو طلب الفعل من الجميع وهو محال فيما إذا لم يكن التكثّر والتكرار كقتل المحارب مثلا أو مناف للحكمة فيما إذا كان الفرد الزائد ممكنا ولكنه غير مطلوب أو مبغوض.

لما عرفت من أنّ المقصود من تكليف الجميع في الواجبات الكفائيّة هو بيان

١٣٦

عدم جواز إهمال الفعل لا إتيان جميع المكلّفين.

ثمّ بعد ما عرفت من ظهور الخطابات في تعلّق التكاليف إلى الجميع لا مجال لاحتمال تعلّق التكليف في الواجبات الكفائيّة بفرد من الأفراد أو الفرد المردد أو صرف الوجود وإن أمكن كلّ ذلك عندنا.

فتحصّل أنّ الخطابات والتكاليف في الواجبات الكفائية كالواجبات الغيبية متعلّقة بالجميع كما أفاد سيّدنا الاستاذ والمحقّق الأصفهاني وغيرهما من الفحول وإنّما التفاوت بينهما في سقوط الوجوب بإتيان واحد من المكلّفين في الواجبات الكفائيّة لحصول الغرض.

١٣٧

الفصل الحادي عشر : في الموسّع والمضيّق

ولا يخفى عليك أنّ الواجب إمّا مطلق وإمّا موقّت ، والأوّل هو الذي لا يعتبر فيه الزمان شرعا ولا ينافي ذلك احتياج الفعل إلى الزمان عقلا لكونه زمانيّا ، والثاني هو الذي اعتبر فيه الزمان شرعا من جهة دخالته في الغرض الشرعيّ.

ثمّ إنّ الثاني ينقسم إلى قسمين : مضيّق وموسّع ؛ فإن كان الزمان المأخوذ فيه بقدر فعل الواجب فهو مضيّق كالصوم ، وإن كان الزمان المأخوذ فيه أوسع من فعل الواجب فهو موسّع كالصلوات اليوميّة.

ثمّ إنّ الواجب في الموسّع هو إيجاد الطبيعة الصلاتيّة الكلّيّة المقيّدة بوقوعها بين الحدّين ، ومن المعلوم أنّ لهذا الواجب أفرادا دفعيّة وأفرادا تدريجيّة ، ويكون التخيير بين أفرادها التدريجيّة تخييرا عقليّا كالتخيير بين أفرادها الدفعيّة بناء على عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى الأفراد ، وأمّا بناء على السراية فقد ذهب بعض المحقّقين إلى التخيير الشرعيّ مستدلّا بأنّ الحصص عين الطبيعة الكلّيّة.

ومعه لا وجه لدعوى خروجها عن المطلوبيّة الشرعيّة ، وخروج الخصوصيّات الحافّة بالحصص عن الغرض الشرعيّ لا يلازم خروج نفس الحصص عن المطلوبيّة الشرعيّة ، والغرض الشرعيّ مع عينيّتها مع الطبيعة. وممّا ذكر يظهر ما في نفي التخيير الشرعيّ معلّلا بأنّ ما هو دخيل في تحصيل الغرض في الموسّع هو حصول الطبيعة بين المبدأ والمنتهى ، فلا بدّ وأن يتعلّق الأمر بما هو محصّل للغرض ولا يجوز تعلّقه بالزائد ،

١٣٨

فتعلّق الأمر بالخصوصيّات لغو جزاف (١).

وذلك لما عرفت من أنّ الكلام ليس في الخصوصيّات الحافّة ، بل في الحصص التي هي عين الطبيعة بين المبدأ والمنتهى ، فتدبّر جيّدا.

ثمّ إنّ الأمر بالموقّت لا يقتضي إلّا إتيان متعلّقه في الوقت ، لأنّ المفروض أنّ متعلّقه مقيّد بالوقت ، كما أنّ الأمر كذلك في سائر القيود ، إذ كلّ أمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه ، فلا تعرّض له لغير صورة وجود القيد لعدم كونه متعلّقا له ، إذ المفروض هو وحدة المطلوب ، ودعوة الأمر إلى الطبيعة في ضمن المقيّد لا توجب دعوته إليها ولو بدون القيد ، بعد فرض كون المطلوب واحدا وهو المقيّد.

هذا كلّه فيما إذا كان التوقيت والتقييد بالوقت بدليل متّصل ، وهكذا الأمر إذا كان بدليل منفصل يدلّ على التقييد بالوقت في أصل المطلوبيّة مطلقا ، إذ المطلق مع دليل التقييد في الفرض الثاني متعنون بالخاصّ في الحجّية.

وأمّا إذا كان التوقيت والتقييد بدليل منفصل فلا يدلّ بالإطلاق على التقييد في أصل المطلوبيّة وكان لدليل الواجب إطلاق ، فقضيّة إطلاقه هي ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت وحمل التقييد به على تعدّد المطلوب وتمامه لا أصله. وعليه ، فهو خارج عن محطّ البحث لأنّه مطلق وليس بموقّت مع أنّ البحث في الموقّت.

ثمّ إنّه لو شككنا بعد الوقت في وجوب الطبيعة ولم يظهر من دليل المطلق إطلاق كما لا يكون أيضا لدليل التقييد إطلاق ، فهل يمكن إثبات الوجوب بالاستصحاب أم لا؟ وجهان : أحدهما أنّ استصحاب شخص الحكم مع فرض تعلّقه بالموقّت يصحّ لما استدلّ به المحقّق الأصفهاني قدس‌سره من أنّ الموضوع وإن كان بحسب الدليل بل بحكم العقل هو الموقّت بما هو موقّت إلّا أنّ العبرة في الموضوع إنّما هو بنظر

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٩٨.

١٣٩

العرف ، والعرف يرى أنّ الموضوع هو الفعل وأنّ الوقت من حالاته لا من مقوّماته ، لا قطع بخطإ نظر العرف إلّا بلحاظ حال الاختيار دون العذر ، وإلّا لم يكن معنى للشك في استصحاب الحكم (١).

اورد عليه شيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره بأنّه كذلك فيما إذا كان الموضوع من الخارجيّات كالماء المتغيّر الخارجيّ الذي زال تغيّره ، فإنّه يمكن استصحاب النجاسة مع زوال التغيّر لوحدة الموضوع مع تغيّر الأحوال ، إذ الوجود الخارجيّ حافظ لوحدة الموضوع في الأحوال المختلفة.

وأمّا إذا كان الموضوع هو المقيّد بما هو كلّيّ من الكلّيّات فلا يجوز الاستصحاب فيه بعد تبدّل القيود وتغيّرها ، فإنّ الكلّيّ المطلق والكلّيّ المقيّد مغايران كمغايرة الكلّيّ المقيّد بالأسود مع الكلّيّ المقيّد بالأبيض ، فلا يجوز حينئذ استصحاب الحكم لأنّه إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر.

وحيث إنّ المقام من قبيل الثاني ، لأنّ الكلام في متعلّق الأمر لا في الموضوع الخارجيّ ، والمتعلّق هو الماهية الكلّيّة للصلاة وهي ليست في الخارج ، فلا مجال للاستصحاب لما ذكر.

وإليه يؤول ما في مناهج الوصول حيث قال : لا مجال للاستصحاب لعدم وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، وذلك لأنّ العناوين الكلّيّة كلّها مختلف [بعضها] مع الآخر مطلقها ومقيّدها ، ومقيّدها مع مقيّد آخر أو مجرّد عنه ، فالرقبة عنوان ، والرقبة المؤمنة عنوان آخر ، والصلاة الموقّتة غير نفس الصلاة وغير الصلاة غير الموقّتة ؛ فالقضيّة المتيقّنة هي وجوب الصلاة الموقّتة ، والمشكوك فيها هي نفس الصلاة أو الصلاة خارج الوقت ، فإسراء الحكم من المتقيّدة إلى [الخالية من القيد] في القضايا

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٧٨.

١٤٠