عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الخلاصة

الفصل الثالث : في أنّ النهي هل يكشف عن الفساد أو لا؟

وهنا مقدّمات :

المقدّمة الاولى : أنّ الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة باختلاف الموضوع والمحمول الذي به يتمايز المسائل كتمايز العلوم.

وقد عرفت أنّ الموضوع والمحمول في المسألة السابقة يرجع إلى أنّ الواحد المعنون بعنوانين هل يعدّ واحدا حقيقيّا أو لا يعدّ.

وهما متغايران مع الموضوع والمحمول في هذه المسألة وهو أنّ النهي المتعلّق بذات العبادة أو المعاملة هل يقتضي الفساد أو لا.

ومع امتياز المسألتين بالموضوع والمحمول لا حاجة إلى طلب الميز من الجهات العارضة.

ثمّ دعوى الفرق بين المسألتين بأنّ مورد المسألة السابقة هو العامّان من وجه بخلاف هذه المسألة فإنّ موردها هو العامّ والخاصّ المطلق.

مندفعة بأنّ نمنع تخصيص المسألة السابقة بالعامّين من وجه لما مرّ من أنّ النزاع في المسألة السابقة يجري فيما إذا لم يؤخذ مفهوم العامّ في الخاصّ وإن كان بحسب المورد العام والخاص المطلق مثل قولهم (حرّك ولا تدن إلى موضع كذا) مع انّ النسبة بينهما بحسب المورد هو العامّ والخاصّ المطلق لتعدّد العنوان وكفايته في المغايرة في الذهن الذي يكون موطن تعلّق الأحكام.

المقدّمة الثانية : أنّه اختلف الأصحاب في كون هذه المسألة عقليّة أو لفظيّة أو عقليّة لفظيّة.

٣٢١

والذي ينبغي أن يقال هو أنّ المسألة لفظيّة إذ الملازمة العقليّة بين حرمة العبادة وانتفاء ملاك الأمر بوجود المفسدة والمرجوحيّة واضحة كما أنّ عدم الملازمة العقليّة بين الحرمة التكليفيّة في المعاملات وعدم ترتّب الأثر أيضا واضح.

ولا ينبغي أن يبحث في هذه الواضحات بل الاولى هو البحث عن أنّ النهي الدالّ على الحرمة هل يكشف عن الفساد وهو مرجوحيّة المتعلّق وعدم وجود ملاك الأمر من المصلحة أو لا يكشف ولذلك فالأنسب أن يجعل في العنوان لفظ الكشف ويقال هل النهي عن الشيء يكشف عن الفساد أو لا.

المقدّمة الثالثة : أنّ محلّ النزاع هو دلالة النواهي المولوية وعدمها على الفساد لا النواهي الارشاديّة الدالّة على المانعيّة في العبادات كالنهي عن الصلاة في وبر ما لا يؤكل وفي المعاملات كالنهي عن الغرر إذ بعد كونها إرشادا إلى المانعيّة لا خفاء في دلالة هذه النواهي على الفساد فيما إذا كانت العبادة أو المعاملة مع وجود الشيء المنهي.

ثمّ إنّ النواهي المولوية لا تختصّ بالشرعية بل تعم التنزيهية لان منشأ اقتضاء الفساد هو كاشفية النهي عن المرجوحيّة ومبغوضيّة متعلّق النهي فإنّ مع المبغوضية والمرجوحيّة لا يصلح المتعلّق للتقرّب.

وهذا الملاك موجود في النواهي التنزيهيّة أيضا لدلالتها على مرجوحيّة ذات العبادة ومن المعلوم أنّه لا يمكن التقرّب بالمبغوض ذاتا.

وأمّا النواهي الغيريّة فهي خارجة عن محلّ الكلام لأنّها ليست متعلّقة بذات العبادة بل متعلّقة بها بعنوان مقدّميّتها لترك التكاليف النفسيّة مع أنّ الكلام في هذه المسألة في النواهي المتعلّقة بذات العبادة.

هذا مضافا إلى أنّ التكاليف المقدّميّة لا توجب مخالفتها العقوبة والبعد استقلالا ومع عدم استلزام مخالفتها للعقوبة والبعد لا توجب سقوط العبادة عن صلاحيّتها

٣٢٢

للتقرّب.

ودعوى أنّ مقدّميّة العبادة لترك ذي المقدّمة الذي هو مبعّد يكفي في المنع عن التقرّب بالعبادة مندفعة بأنّ مبغوضيّة العبادة بعنوان مقدّميّتها لترك ذي المقدّمة خارجة عن محلّ البحث عن مبغوضيّة العبادة بذاتها إذ تلك الجهة مغايرة لنفس العبادة من حيث هي بل داخلة في مبحث اجتماع الأمر والنهي وقد مرّ أنّه لا مانع من اجتماع العنوان المحبوب والعنوان المبغوض في شيء واحد بناء على ما مرّ من جواز الاجتماع.

فتحصّل أنّ النهي النفسي التحريمي والتنزيهي داخلان في محلّ النزاع دون النهي الغيري والإرشادي أمّا الغيري فلعدم تعلّقه بذات العبادة ولعدم دلالته على مبغوضيّة المتعلّق وأمّا الإرشادي فلوضوح دلالته على الفساد ولا يحتاج إلى البحث إذ لاحكام فيه كما لا يخفى.

المقدّمة الرابعة : أنّ المراد من العبادة المنهيّة هو ما يكون بذاته وبعنوانه حسنا بالذات ومرتبطا بالمولى من دون حاجة إلى تعلّق الأمر به مثل عنوان السجود لله تعالى.

أو المراد منها هي العبادة الشأنيّة والتقديريّة وهي التي أحرز وجود المصلحة فيها والمقصود من التقديريّة والشأنيّة أنّه لو أمر بها لكان الأمر بها عباديّا ولا يسقط أمرها على فرض تعلّقه بها إلّا إذا أتى به بوجه قربي وكيف كان فليس المراد من العبادة المنهيّة عبادة فعليّة تامّة من جميع الجهات وإلّا لزم من النهي عنها اجتماع الامر والنهي في شيء واحد مع عنوان واحد وهو محال.

وبالجملة فالعبادة بالمعنى المذكور إذا وقعت تحت النهي يقع البحث عن كون النهي عنها هل يكشف عن الفساد أم لا.

ثمّ أنّ المراد من المعاملة المنهيّة هو ما يتّصف بالصحّة والفساد حتّى يصحّ

٣٢٣

البحث في أنّ النهي عنه هل يوجب الفساد أو لا.

فمثل العقود والإيقاعات التي تسمّى بالمعاملات بالمعنى الأخصّ داخل في المعاملة المنهيّة بل يدخل في عنوان المعاملة المنهيّة في المسألة كلّ ما يسمّى بالمعاملة بالمعنى الأعمّ ويتّصف بالصحّة والفساد كالتحجير والحيازة.

وأمّا غيرهما من الأفعال التي لا تتّصف بالصحّة والفساد كشرب الخمر والغيبة ونحوهما فهو خارج عن عنوان المعاملة المنهيّة كما لا يخفى.

المقدّمة الخامسة : في المراد من الفساد في عنوان البحث وهو أنّ النهي عن العبادة أو المعاملة هل يشكف عن الفساد أو لا.

ولا يخفى عليك أنّ الفساد في مقابل الصحّة وهما في المركّبات الاعتباريّة كالعبادات والمعاملات بمعنى التماميّة والنقص.

والتقابل بينهما هو تقابل العدم والملكة لأنّ الفاسد هو ما لا يكون واجدا لتمام الأجزاء والشرائط في مقابل الصحيح الذي هو ما يكون واجدا لجميع ما اعتبر فيه وهما في المركّبات الواقعيّة بمعنى السلامة والعيب والتقابل بينهما هو تقابل التضادّ لحكايتهما عن أمرين وجوديين فإنّ السالم هو الذي يكون واجدا للخصوصيّات الملاءمة والفاسد هو الذي يكون واجدا للخصوصيات المنافرة والمركبات الواقعية خارجة عن محلّ الكلام فالصحّة والفساد في المركّبات الاعتباريّة بمعنى التمام والنقصان.

تنبيه في مجعوليّة الصحّة والفساد وعدمها

والذي ينبغي أن يقال أنّ الصحّة والفساد تكونان من الأمور الانتزاعية التي تكون مجعولة بتبع مجعوليّة منشأ انتزاعها.

فإنّ انتزاع الصحّة الظاهريّة من العمل في موارد قاعدة التجاوز والفراغ في

٣٢٤

العبادات يكون تابعا لتصرّف الشارع في المنشأ برفع اليد عن الشرط أو الجزء أو المانع.

وهذه التبعيّة لا تختصّ بما إذا كان نفس الجعل الشرعي مستتبعا لأمر انتزاعي كالجزئيّة أو الشرطيّة بل تعمّ ما توقّف على إتيان المكلّف به في الخارج أيضا لأنّ انتزاع الصحّة في هذه الصورة أيضا يكون تبعا للجعل الشرعي عرفا وهذه التبعيّة العرفيّة تكفى في جريان الاستصحاب أو أصالة الصحّة عند الشكّ في الصحّة والفساد.

لأنّ الصحّة تكون من المجعولات التبعيّة الشرعيّة فإنّ مع رفع الشرطيّة أو الجزئيّة يصير العمل موافقا للمأمور به ومسقطا ومع عدم رفعهما يكون العمل المأتى به مخالفا للمأمور به وعليه فالموافقة والمخالفة أو المسقطيّة وعدمها يتبعان إرادة الشارع وعدمها ولا معنى للمجعوليّة التبعيّة إلّا ذلك ويكفى في شرعيّة الصحّة وعدمها ارتباط انتزاعها بالشرعي بنحو من الأنحاء ولو لم يكن الجعل الشرعي مستتبعا لأمر انتزاعي بنفسه بل مع الإتيان به خارجا.

بل الأمر في المعاملات أيضا يكون كذلك فإنّه كما أنّ الحكم بعدم وجوب القضاء أو الإعادة في العبادات يكون منشأ لانتزاع الصحّة الظاهريّة في مثل موارد قاعدة الفراغ والتجاوز فكذلك يكون الحكم بعدم تكرار المعاملة منشأ لانتزاع الصحّة الظاهريّة في موارد أصالة الصحّة في المعاملات فتحصّل أنّ الأقوى هو مجعوليّة الصحّة والفساد لكونها من الانتزاعيات التي ترتبط بوضع الشرع ورفعه من دون فرق بين العبادات والمعاملات ، فتدبّر جيّدا.

المقدّمة السادسة في مقتضى الأصل

والكلام فيه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في مقتضى الأصل في المسألة الاصوليّة.

ولا يخفى عليك أنّه إذا شككنا في دلالة النهي لفظا على الفساد وعدمه أو

٣٢٥

شككنا في ملازمة الحرمة عقلا مع الفساد وعدمها فلا أصل في المسألة.

لأنّ الدلالة وعدمها ليس لها حالة سابقة إذ اللفظ إمّا له الدلالة من أوّل وجوده بالوضع أو ليس له الدلالة ولم يمض عليه زمان يعلم فيه حالة سابقة حتّى يمكن استصحابها.

كما أنّ الملازمة العقليّة بين الحرمة والفساد وعدمها إن كان المقصود منها الملازمة الأزليّة فهي مشكوكة إذ لا أصل في البين حتّى يعيّن أنّ الملازمة كانت من الأزل أو لم تكن.

وإن كان المقصود منها الملازمة بين الحرمة الموجودة والفساد وعدمها فقبل تحقّق الحرمة وإن علمنا بعدم وجود الملازمة ولكنّه كان بنحو العدم المحمولي واستصحابه لا يثبت العدم النعتي كما لا يفيد استصحاب عدم الكرّيّة قبل وجود الماء المشكوك كرّيّته لإثبات عدم كرّيّته.

هذا مضافا إلى أنّ الملازمة المذكورة من الأحكام العقليّة وأمرها يدور بين الوجود والعدم فإنّ العقل إمّا يحكم بها أو لا يحكم ولا مجال لتعيّنها بالاستصحاب مع قطع النظر عن كون الملازمة كنفس الدلالة ليست موضوعة للأحكام الشرعيّة فلا يجري الاستصحاب فيها لأنّ معيار جريانها هو كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا للحكم الشرعي وهو مفقود في الدلالة والملازمة كما لا يخفى.

فتحصّل أنّه لا أصل في المسألة الاصوليّة.

المقام الثاني في مقتضى الأصل في المسألة الفرعيّة :

ولا يذهب عليك أنّ مقتضى الأصل فيما إذا شكّ في دلالة النهي عن الفساد أو في وجود الملازمة بين الحرمة والفساد هو الفاسد في المعاملات فيما إذا لم يكن إطلاق أو عموم يقتضي الصحّة.

بخلاف ما إذا كان الإطلاق أو العموم موجودا فإنّ مقتضاهما هو الصحة ولا

٣٢٦

عبرة بالشكّ في الدلالة أو وجود الملازمة.

وأمّا في العبادات فقد يقال أنّ مقتضى الأصل فيها هو الفساد بعد سقوط الأمر بتعلّق النهي بذات العبادة إذ لا يجتمعان في واحد بعنوان واحد فلا أمر كما لا يحرز وجود الملاك بسبب سقوط الأمر وعليه فمقتضى الاشتغال اليقيني بالعبادة المقرّبة هو الفراغ اليقيني وهو لا يحصل إلّا بإتيان الفرد غير المنهي.

ولكنّ لقائل أن يقول أنّ ذلك صحيح فيما إذا لم يكن إطلاق وأمّا مع وجود الإطلاق ودلالته على وجود الملاك فمقتضى الأصل هو الصحّة دون الفساد لكفاية قصد الملاك في الصحّة وقد مرّ كيفيّة دلالة الإطلاق على وجود الملاك فراجع فتحصّل أنّ مقتضى الأصل في المسألة الفرعيّة في المعاملات والعبادات هو الفساد فيما إذا لم يكن إطلاق وأمّا مع وجود الإطلاق فمقتضى الإطلاق هو الصحّة فتدبّر جيّدا.

المقدّمة السابعة : أنّه لا فرق في العبادة المنهيّة بين أن تكون عبادة بسيطة كصوم العيدين أو عبادة مركّبة كصلاة الحائض أو جزءا عباديّا للعبادة كقراء سور العزائم أو شرطا عباديّا للعبادة كالوضوء.

فإنّ النهي في جميع الصور متعلّق بنفس العبادة ويجري البحث في كلّ واحد من الصور عن أنّ النهي يكشف عن الفساد أم لا إذ لا فرق بين عبادة وعبادة اخرى والبساطة أو التركيب أو الجزئيّة أو الشرطيّة لا توجب الفرق في المسألة والمفروض هو تعلّق النهي بنفس العبادة في جميع الصور وهو محلّ البحث هذا بخلاف ما إذا تعلّق النهي بالوصف الملازم للعبادة أو المفارق له فإنّه خارج عن محلّ النزاع إذ لم يتعلّق الأمر والنهي بالعبادة بعنوان واحد بل هو داخل في مسألة اجتماع الامر والنهي لأنّ عنوان المأمور غير عنوان المنهي عنه ويجري فيه ما جرى في تلك المسألة حرفا بحرف.

٣٢٧

المختار في المسألة :

يقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل في العبادات :

لا شبهة في أنّ النهي الشرعي المتعلّق بعنوان العبادة يقتضي الفساد بحكم العقل فإنّه يدلّ على حرمة متعلّقه وهو كاشف عن مبغوضيّته ومع المبغوضيّة الذاتيّة لا يصلح المتعلّق للتقرّب إذ المفروض أنّ المتعلّق ليس له إلّا عنوان واحد وعليه فلا ملاك ولا أمر لأنّهما فرع كون المتعلّق ذا عنوانين وهو خارج عن محلّ البحث فالنهي عن العبادة مع فرض الإطلاقات الدالّة على مطلوبيّة العبادة يرجع إلى تقييد المادّة ومقتضاه هو عدم وجود الملاك فيها ومع عدم وجود الملاك لا أمر فلا مجال للتقرّب به كما لا يخفى.

وهكذا الأمر في النهي التنزيهي المولوي إذ النهي التنزيهي عن العبادة بعنوان واحد يدلّ أيضا على مرجوحيّة متعلّقة ومع مرجوحيّة المتعلّق بعنوانه لا يكاد يمكن أن يتقرّب به إذ لا ملاك ولا أمر له حتّى يتقرّب بهما.

وأمّا النهي التنزيهي عن العبادة بعنوان آخر فهو خارج عن محلّ الكلام لأنّ محلّ الكلام هو ما إذا تعلّق النهي بالعبادة بعنوان واحد وحيث لا يكون العبادة بذاتها كمرجوحة لا مانع من صحّتها.

وممّا ذكر يظهر خروج النهي الغيري عن محلّ الكلام أيضا كالنهي عن الضدّ بناء على اقتضاء الأمر بالضدّ النهي عن الضدّ الآخر لأنّه لا يكون بعنوان واحد فكما أنّ الأمر المقدّمي لا يتعلّق بذات الشيء بل بعنوان المقدّميّة لشيء آخر فكذلك النهي المقدّمي.

وعليه فالأمر بذات العبادة وإن لم يجتمع مع النهي الغيري في مقام الامتثال

٣٢٨

ولكنّ يكفي وجود الملاك في ذات العبادة لصحّتها لو أتى بها بقصد الملاك لله تعالى.

وأمّا النواهي الارشادية فهي خارجة عن محلّ النزاع أيضا لوضوح دلالتها على الفساد مع سوقها لبيان المانعيّة كالنهي عن الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه وإنّما الكلام في النواهي المولويّة وقد عرفت دلالتها على الفساد بحكم العقل من دون فرق بين كونها تحريميّة أو تنزيهيّة.

المقام الثاني في المعاملات :

ولا يبعد دعوى أنّ المتفاهم العرفي من النواهي الواردة في المعاملات والمركّبات ما لم تقم قرينة هو كونها إرشاديّا لا مولويّا وإن كانت مولويّتها معقولة بل واقعة في جملة من الموارد كالنواهي الواردة في حرمة التزويج على المحرم في حال الإحرام أو حرمة الربا أو حرمة النكاح في العدّة وغير ذلك ولا ريب بعد كون المتفاهم العرفي هو الإرشاد أنّ النواهي الإرشاديّة حينئذ تدلّ على الفساد لأنّها إرشاد إلى وجود المانع ومن المعلوم أنّ الأسباب مع وجود المانع لا أثر لها وهذا ليس إلّا معنى الفساد ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لو فرض تعلّق النهي التكليفي بالمعاملات فالنهي إمّا تنزيهي أو تحريميّ نفسي أو تحريميّ غيري.

فإن كان النهي تنزيهيّا أو تحريميّا غيريّا فلا يدلّ على الفساد إذ لا منافاة بين المرجوحيّة التنزيهيّة والغيريّة وبين تأثير المعاملة كما لا يخفى.

وإن كان النهي تحريميّا نفسيّا فهو إمّا متعلّق بالتسبّب بعقد إنشائي خاصّ لحصول المسبّب كالنهي عن تسبّب الظهار لحصول أثره وهو الفرقة.

والنهي المذكور لا يلازم الفساد لأنّ مبغوضيّة التسبّب بمعاملة شرعا لا ينافي تأثير السبب عرفا ولذا ترتّب الأثر على الظهار مع كونها محرّما.

وإمّا النهي متعلّق بالمعاملة من جهة مبغوضيّة ترتيب الآثار المطلوبة من العقد

٣٢٩

عليه وهو أيضا لا يلازم الفساد لما عرفت من عدم المنافاة بين مبغوضيّة ترتيب الآثار شرعا وترتّب الآثار عرفا بل النهي عن ترتيب الآثار عين النهي عن التسبّب بعقد خاصّ.

وإمّا النهي متعلّق بالسبب لأجل مبغوضيّة المسبّب كالنهي عن بيع المصحف من الكافر لأجل مبغوضيّة ملكيّته له وهذا النهي أيضا لا يدلّ على الفساد وإن كان محرّما لعدم المنافاة بين المبغوضيّة الشرعيّة وتأثير السبب.

وإمّا النهي متعلّق بأكل الثمن أو المثمن وهو خارج عن محلّ الكلام إذ النهي لا يتعلّق في هذه الصورة بالمعاملة نعم النهي عن أكل الثمن أو المثمن كاشف عن عدم صحّة المعاملة إذ لا وجه للنهي المذكور إلّا فساد المعاملة.

وإمّا النهي متعلّق بذات السبب لا بما هو سبب بل بما هو فعل مباشري صادر من الفاعل وهو أيضا خارج عن محلّ الكلام إذ النهي فيه لم يتعلّق به بعنوان المعاملة وإيقاع السبب بل بما هو فعل مباشري له.

فتحصّل أنّ النهي المولوي مطلقا في المعاملات لا يستلزم الفساد لأنّه ربّما يكون النهي لافادة مجرّد الحرمة التكليفيّة كالنهي عن الظهار مع أنّ الظهار مؤثّر.

وإن أمكن اجتماعه مع الفساد مع قيام قرينة عليه كالنواهي الواردة في حرمة الربا وفساده.

هذا كلّه بحسب القاعدة.

وأمّا بحسب الروايات فقد استدلّ على إفادة النواهي التكليفيّة المتعلّقة بذات المعاملة للفساد بصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده فقال ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما قلت أصلحك الله إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون أنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيد له فقال أبو جعفر عليه‌السلام إنّه لم يعص الله إنما عصى سيّده فإذا أجازه فهو

٣٣٠

له جائز.

وبمعتبرة موسى بن بكر عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام إنّه قال : إنّما أتى شيئا حلالا وليس بعاص لله إنما عصى سيّده ولم يعص الله إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه.

وجه الاستدلال أنّ الروايتين تدلّان على أمرين أحدهما الكبرى وهي أنّ النكاح لو كان معصية لله تعالى لكان باطلا. وثانيهما : نفي الصغرى وهي أنّ نكاح العبد لم يكن معصية لله تعالى وإنّما كان معصية للسيّد.

والأمر الأوّل يكفي لإثبات التعبّد بالبطلان في النواهي المولويّة المتعلّقة بذات المعاملة فإنّ النواهي المولويّة المتعلّقة بذلت المعاملة تدلّ على أنّ إتيان مواردها معصية لله تعالى فيندرج في قوله عليه‌السلام إنّه لم يعص الله إنّما عصى سيّده فإذا أجازه فهو له جائز أو قوله إنّما أتى شيئا حلالا وليس بعاص لله إنّما عصى سيّده ولم يعص الله إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه.

ومقتضى الكبرى المذكورة في روايتين هو أنّ النكاح لو كان معصية لله تعالى لكان باطلا.

واجيب عن الاستدلال المذكور بأنّ المراد من المعصية المنفيّة في قوله عليه‌السلام إنّه لم يعص الله أو قوله عليه‌السلام وليس بعاص لله هي المعصية الوضعيّة لا التكليفيّة ولا كلام في استتباع المعصية الوضعيّة للفساد وإنّما الكلام في المعصية التكليفيّة والمراد من المعصية الوضعيّة إنّه لم يفعل ما لم يمضه الله وإنّما فعل ما لم يمضه مولاه والشاهد على إطلاق المعصية على المعصية الوضعيّة هو إطلاق المعصية بهذا المعنى في صدر الرواية على الفعل غير المأذون فيه بإذن وضعي حيث قال الراوي في معتبرة موسى بن بكر فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام «فإنّه في أصل النكاح كان عاصيا» مع أنّ إنشاء العقد لا ينافي حقّ المولى حتّى يكون معصية تكليفيّة فالمراد من قوله كان عاصيا أنّه فعل ما لم يأذن به

٣٣١

المولى وهي المعصية الوضعيّة وعليه فالمعصية والفساد في الرواية بمعنى واحد ومع وضوح وحدتهما فالمراد من قوله عليه‌السلام إنّه لم يعص الله أو قوله إنّه ليس بعاص لله ليس المعصية التكليفيّة وعليه فالروايتان حينئذ خارجتان عن محل الكلام ودعوى أنّ حمل المعصية على مخالفة النهي الوضعي خلاف الظاهر بل الظاهر منها هي مخالفة النهي التحريمي مندفعة بأنّ ذلك فيما إذا لم تقم قرينة على ذلك.

وقد عرفت استعمال المعصية في صدر الرواية في المعصية الوضعيّة هذا مضافا الى استعمال المعصية في قوله عليه‌السلام عاص لمولاه في صحيحة منصور بن حازم في المعصية الوضعيّة.

منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله قال : عاص لمولاه قلت : حرام هو قال : ما أزعم أنّه حرام وقل له أن لا يفعل الّا بإذن مولاه.

فإن السؤال عن الحرمة التعلقية بعد قوله عليه‌السلام عاص لمولاه لا وجه له إلّا من جهة أنّ المراد من قوله عاص لمولاه هو المعصية الوضعيّة.

لا يقال أنّ المعصية في الرواية هي معصية تكليفيّة لا الوضعيّة لأنّ المراد من عصيان السيّد هو إتيان الحرام وهو مخالفة السيّد إذ هي خروج عن رسم العبوديّة والحرمة من عنوان مخالفة السيّد لا يسري إلى عنوان النكاح بما هو هو وحاصل الرواية أنّ حرمة تكليفيّة متعلّقة بعنوان آخر غير عنوان ذات الشيء لا توجب الفساد بخلاف ما إذا تعلّقت الحرمة التكليفيّة بعنوان ذات الشيء كالنكاح في أيّام العدّة وعليه فالروايتان تدلّ على الفساد فيما إذا كان النهي متعلّقا بشيء بذاته لا بعنوانه الآخر.

لأنّا نقول قد عرفت أنّ المراد من عصيان السيّد في صدر الروايات هو العصيان الوضعي لعدم حرمة مجرّد إنشاء النكاح عن العبد وحمله على الحرمة التكليفيّة لا

٣٣٢

وجه له ولو كانت الحرمة متعلّقة بعنوان آخر عن عنوان ذات الشيء كعنوان المخالفة مع مولاه إذ مجرّد الإنشاء لا يوجب تضييع حقّ من حقوق المولى.

وأيضا السؤال عن الحرمة التكليفيّة بعد قوله عليه‌السلام عاص لمولاه ممّا يشهد على أنّ المراد من العصيان هو العصيان الوضعي وإلّا فلا وجه للسؤال بعد تصريحه بأنه عاص لمولاه وعليه فالروايات أجنبيّة عن المقام لأنّ المعصية المنفيّة في طرف الله تعالى بقوله («وَمَنْ يَعْصِ اللهَ») هي المعصية الوضعيّة بقرينة المعصية المثبتة في طرف العبد فإنّ المراد منها هي المعصية الوضعيّة ومحلّ الكلام في المعصية التكليفيّة ولا أقل من الشك في أنّ المراد من المعصية المنفية هي المعصية التكليفيّة أو الوضعية فلا تصلح الروايات لإثبات شيء على خلاف القاعدة المذكورة في النواهي المولويّة التكليفيّة من عدم اقتضائها للفساد ، فلا تغفل.

٣٣٣
٣٣٤

المقصد الثالث

في المفاهيم

وهنا فصول :

٣٣٥
٣٣٦

الفصل الأوّل : في تعريف المفهوم والمنطوق

المنطوق هو ما دلّت عليه القضيّة الملفوظة المذكورة بالدلالة المطابقيّة.

والمفهوم هو ما دلّت عليه القضيّة التابعة غير المذكورة في شخص الكلام المستفادة من القضيّة الملفوظة المذكورة بالدلالة الالتزامية من جهة اشتمالها على خصوصيّة تستتبعها بالبيّن بالمعنى الأخصّ.

هذا بناء على استفادة المفهوم من أداه الشرط أو القضيّة الشرطيّة بالوضع أو مقدّمات الإطلاق الجارية في الكلام.

فقولهم إذا جاء زيد فأكرمه يدلّ على أنّ شرط وجوب الإكرام هو مجيء زيد فيدلّ ذلك على ثبوت الوجوب عند ثبوت المجيء من جهة كونه شرطا له.

وهذا المدلول منطوق تدلّ عليه القضيّة الملفوظة المذكورة بالدلالة المطابقيّة.

وعلى فرض دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم تدلّ القضيّة الملفوظة على القضيّة غير المذكورة وهي إن لم يجئ زيد فلا يجب إكرامه وهي تدلّ على انتفاء وجوب الإكرام عنه انتفاء المجيء فالانتفاء عند الانتفاء مدلول القضيّة غير المذكورة التابعة للقضيّة المذكورة من جهة خصوصيّة مأخوذة فيها تستتبعها وهي إفادة التعليق والتوقّف أي العلّة المنحصرة.

وهكذا قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) قضيّة ملفوظة تدلّ على حرمة التأفيف بالنسبة إلى الوالدين وهو مدلول منطوقي للقضيّة المذكورة وهذه القضيّة من جهة

٣٣٧

اشتمالها على النهي عن أدنى وسيلة الزجر بالنسبة إليهما تستتبع القضيّة غير المذكورة التابعة لها وهي لا تشتمها ولا تضر بهما بفحوى الكلام وهذا هو مدلول مفهومي.

وبالجملة فالتعريف المذكور بالنسبة إلى المنطوق والمفهوم أقرب التعاريف المذكورة في المقام وهو الذي اختاره صاحب الكفاية حيث قال إنّ المفهوم كما يظهر من موارد إطلاقه هو عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصيّة المعنى الذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصيّة ولو بقرينة الحكمة وكان يلزمه لذلك وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه (١).

وتبعه في الدرر حيث قال : والمراد من المفهوم هو القضيّة الغير المذكورة التابعة للمذكورة لخصوصيّة مستفادة منها (٢).

وأوضحه شيخنا الأستاذ الأراكي قدس‌سره في أصول الفقه حيث قال : المفهوم ما يكون غير المنطوق والمدلول الأولى للفظ ويكون لازما للكيفيّة الخاصّة الثابتة للمدلول الأولي ويجب أن يكون الدلالة عليه دلالة لفظيّة مستندة إلى اللفظ ليصح عدّ هذا المبحث من مباحث الألفاظ وذلك بأن يكون الانتقال إلى خصوصيّة المعنى الأوّلي موجبا للانتقال إلى المعنى الآخر عرفا لكون المعنى الآخر لازما بيّنا بالمعنى الأخص لتلك الخصوصيّة فلو انتفى هذا الانتقال في مقام لزم الحكم بعدم المفهوم فيه (٣).

وإليه يؤول ما في المحاضرات حيث أفاد أنّ ما دلّ عليه اللفظ وضعا أو إطلاقا أو من ناحية القرينة العامّة أو الخاصّة فهو منطوق نظرا إلى أنه يفهم من شخص ما نطق به المتكلّم.

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٣٠٠.

(٢) الدرر : ج ١ ص ١٩٠ ط جديد.

(٣) اصول الفقه : ج ١ ص ٢٥١.

٣٣٨

وأمّا المفهوم فإنّه يطلق على معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزاميّة نظرا إلى العلاقة اللزوميّة البيّنة بالمعنى الأخص إلى أن قال.

وهذه الدلالة مستندة إلى خصوصيّة موجودة في القضيّة التي قد دلّت عليها بالمطابقة أو بالإطلاق والقرينة العامّة مثلا دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلا تقوم على أساس دلالتها على كون الشرط علّة منحصرة للحكم وضعا أو إطلاقا على ما يأتي (١).

ولعلّ إليه يرجع ما حكى عن الحاجبي أيضا حيث قال المنطوق هو ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق والمفهوم ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق (٢).

أي أنّ المنطوق هو المدلول المطابقي للفظ بخلاف المدلول الالتزامي فإنّه ليس مدلولا في محلّ النطق بل لا ينتقل الذهن إليه إلّا بواسطة الملازمة التي تكون بين مدلول اللفظ وبينه فهو معنى خارج عن محلّ النطق أي ليس مدلولا لنفس اللفظ ابتداء وبلا واسطة.

وكيف كان فالمفهوم المستفاد من القضيّة غير المذكورة حكم غير مذكور في شخص القضيّة المذكورة لا أنّه حكم لغير مذكور سواء كان الحكم مذكورا أو غير مذكور.

وممّا ذكر يظهر ما في محكي كلام العضدي حيث قال : المفهوم هو حكم لغير مذكور لما عرفت من أنّ الحكم المستفاد من القضيّة غير المذكورة غير مذكور هذا مضافا إلى أنّ موضوع القضيّة غير المذكورة ربّما يكون مذكورا بسنخه كما في مفهوم الموافقة إذ الأفّ في مثل قوله عزوجل : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) يكون أدنى ما يتزجّر به الوالدان وهو من سنخ سائر ما يتزجّران به كالشتم والضرب ونحوهما فالموضوع في

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ٥٤ و ٥٥.

(٢) مطارح الانظار : ص ١٦٧.

٣٣٩

مفهوم الموافقة مذكور بسنخه.

بل قيل أنّ الموضوع في مفهوم الشرط مثل قولك ان جاء زيد فاكرمه هو الموضوع المذكور في المنطوق والموضوع في مفهوم الغاية كقولك صم إلى الليل هي الغاية المذكورة في المنطوق إذ لا يجب الصوم في الليل والقول بأنّ الموضوع في مفهوم الشرط هو زيد الغير الجائي وفي مفهوم الغاية هو غير الليل لا يخلو عن التكلّف فتأمّل. وكيف كان فإسناد عدم الذكر إلى الموضوع دون الحكم كما في كلام العضدي لا يصحّ بل اللازم هو إسناده إلى نفس الحكم المستفاد من القضيّة فإنّه أمر غير مذكور كما نصّ عليه صاحب الكفاية بقوله فصحّ أن يقال أنّ المفهوم إنّما هو حكم غير مذكور لا أنّه حكم لغير مذكور كما فسّر به (١).

ثمّ إنّ اعتبار الذكر في المنطوقيّة وعدمه في المفهوميّة بالذكر في شخص الكلام لا في سنخه كما أفاد المحقّق الاصفهاني قدس‌سره حيث قال : والاعتبار في المنطوقيّة والمفهوميّة بمذكوريّة قضيّة مغايرة لأخرى في شخص الكلام وبعدم مذكوريّتها لا بعدم مذكوريّتها سنخا وإلّا لخرج المفهوم عن كونه مفهوما بالتصريح به في كلام آخر.

بل حقيقة هذه القضيّة المتّحدة في كلامين منطوق في شخص هذا الكلام ومفهوم في شخص ذلك الكلام الآخر إلى أن قال العبرة في المذكوريّة وعدمها بالذكر وعدمه في شخص الكلام (٢).

ثمّ لا يخفى عليك أنّ المفهوم والمنطوق من صفات المدلول لا الدلالة كما يظهر من تعاريفهم لظهور قول الحاجبي في أنّ الموصوف بهما هو المدلول حيث قال المنطوق هو ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق والمفهوم هو ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق.

وجه الظهور كما في تقريرات الشيخ الأعظم قدس‌سره هو أنّ لفظة ما موصولة فيدلّ

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٣٠١.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٥٩.

٣٤٠