عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

وثانيا : أنّ عدم حسن الخطاب على تقدير التسليم إنّما يكون إذا كان الخطاب شخصيّا لا بنحو الكلّيّ والضرب القانونيّ فإنّ الخطابات القانونيّة خطابات كلّيّة متوجّهة إلى العناوين الكلّيّة وتصحّ من غير استهجان إذا كان في المخاطبين من يمكن انبعاثه بها ولا يلزم أن يكون الأفراد جميعهم كذلك في رفع الاستهجان ، فمنشأ الإشكال هو الخلط بين الحكم الكلّي والجزئيّ فتأمّل.

وثالثا : إنّ لقائل أن يقول إنّا لا نسلّم عدم حسن الخطاب بالنسبة إلى ما كان خارجا عن محلّ الابتلاء لوجود الفائدة فيه وهو وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجماليّ كما يصحّ إطلاق الخطاب بالنسبة إلى غير القادر لأنّ فائدته هو وجوب الفعل فيما إذا شكّ في القدرة ، ويشهد له ما يقوله العاجز عند ترك شيء من الأشياء التي لم يتمكّن منها من إنّي تركت محبوب المولى إذ لا دليل على المحبوبيّة إلّا إطلاق الخطاب بالنسبة إليه أيضا.

وبالجملة لا يلزم في صحّة البعث أن يكون بداعي الانبعاث بل يصحّ أن يكون بدواع اخرى كالاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ أو إتمام الحجّة كتوجيه الخطابات نحو العصاة والكفّار مع كونهم غير منبعثين ، هكذا أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره فتأمّل.

المبحث الرابع : في وجه اختلاف الأمر والنهي في كيفيّة الامتثال

ولا يخفى عليك أنّ مقتضى الأمر هو حصول الامتثال بأوّل مصاديق المتعلّق لأنّ الطبيعة توجد بوجود فرد بخلاف مقتضى الثاني فإنّ امتثاله يتقوّم بترك جميع الأفراد مع أنّ المتعلّق في كليهما هو وجود الطبيعة إذ الأمر هو البعث نحو وجود الفعل ، والنهي هو الزجر عن وجود الفعل فيقع البحث عن وجه الفرق ، ذهب استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره إلى أنّ الطبيعة في متعلّق النهي مستعملة بكثرة الاستعمال في الطبيعة السارية دون متعلّق الأمر ، فالعرف يفهم من النواهي أنّ كلّ فرد من أفراد الطبيعة

١٦١

كان مبغوضا ولذلك حكم بعصيان من شرب الخمر في يوم مع الحكم بالامتثال لو ترك شرب الخمر في يوم آخر.

وبالجملة صيغة النهي وإن استعملت أحيانا فيما إذا كانت الطبيعة في متعلّقها مبغوضة بصرف وجودها كقولهم (لا تقتل هذا الرجل) إلّا أنّ أكثر موارد استعمالها في الطبائع التي كانت مبغوضة بجميع أفرادها بخلاف صيغة الأمر فإنّه ربّما يستعمل في الطبيعة التي كانت مطلوبة بجميع أفرادها كقوله تعالى (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) ولكنّ أكثر موارد استعمالها في الواجبات هي الطبائع التي كانت مطلوبة بوجود فرد واحد.

وعليه فالسرّ في اختلاف كيفيّة الامتثال هو اختلاف ظهور صيغة الأمر بكثرة الاستعمال في مطلوبيّة الطبيعة بوجود فرد واحد بخلاف صيغة النهي لظهورها بكثرة الاستعمال في مبغوضيّة الطبيعة بجميع أفرادها.

وهذا الوجه ليس بوجه عقليّ بل هو استظهار عرفيّ من ناحية انصراف اللفظ كما لا يكون ظهورا إطلاقيّا لعدم الحاجة إلى الأخذ بمقدّمات الإطلاق فإنّ الحكم على الفرض منحلّ بانحلال متعلّقه إلى النواهي بالظهور الانصرافيّ اللفظيّ وأمّا ما يظهر من (مناهج الوصول) من أنّ الالتزام بالعموم الاستغراقيّ في جانب المتعلّق حتى ينحلّ النهي بتبعه خلاف التحقيق لعدم استعمال المادّة في الأفراد وجدانا كما لم تستعمل الهيئة في الطبيعيّ (١).

فهو منظور فيه بعد وجود كثرة الاستعمال في الطبيعة السارية في النواهي فإنّ اللفظ حينئذ ظاهر في استعمال المادّة في الأفراد في ناحية المتعلّق ويتكثّر النهي بتبع تكثّر الأفراد.

ذهب المحقّق الخراسانيّ إلى أنّ منشأ الفرق هو العقل لأنّ المتعلّق في الأمر

__________________

(١) منهاج الوصول : ج ٢ ص ١٠٦.

١٦٢

والنهي واحد وهو الطبيعة وإنّما العقل يحكم باختلافهما في الامتثال ضرورة أنّ وجود الطبيعة يكون بوجود فرد واحد وعدمها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع (١).

أورد عليه المحقّق الأصفهانيّ بأنّ التفكيك بين وجود الطبيعة وعدمها غير متصوّر لأنّ الطبيعة توجد بوجودات متعدّدة ولكلّ وجود عدم هو بديله ونقيضه ، فقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصورا على ذاتها وذاتيّاتها فيقابله إضافة العدم إلى مثلها ونتيجة المهملة جزئيّة ، فكما أنّ مثل هذه الطبيعة تتحقّق بوجود واحد كذلك عدم مثلها.

وقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة بنحو الكثرة فلكلّ وجود منها عدم هو بديله فهناك وجودات وأعدام.

وقد يلاحظ الوجود بنحو السعة أي بنهج الوحدة في الكثرة بحيث لا يشذّ عنه وجود فيقابله عدم مثله وهو ملاحظة العدم بنهج الوحدة في الأعدام المتكثّرة أي طبيعيّ العدم بحيث لا يشذّ عنه عدم ، ولا يعقل الوجود المضاف إلى الماهيّة على نحو يتحقّق بفرد ما ويكون عدمه البديل له بحيث لا يكون إلّا بعدم الماهية بجميع أفرادها (٢).

يمكن أن يقال كما في الدرر حيث إنّ الطبيعة اللابشرط حتّى من حيث الوجود والعدم لا يمكن أن تكون محلا للإرادة عقلا يجب اعتبار وجودها في ناحية المتعلّق في الأمر. ثمّ إنّ الوجود إمّا بنحو الوجود السارى وإمّا بنحو الوجود المقيّد بقيد خاصّ وأمّا بنحو صرف الوجود في مقابل العدم الأزليّ من دون أمر آخر وراء ذلك وكان المطلوب هو انتقاض العدم الأزليّ بالوجود من دون ملاحظة شيء آخر.

وحيثما لا يدلّ الدليل على أحد الاعتبارات يتعيّن الثالث لأنّه المتيقّن من بينها ،

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٢٢٢.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٨٢.

١٦٣

وغيره يشتمل على هذا المعنى وأمر زائد فيحتاج إلى مئونة اخرى زائدة مرفوعة بمقتضى الإطلاق. ثمّ زاد عليه في ذيل الدرر بأنّ اعتبار صرف الوجود أيضا قيد زائد ويحتاج إلى مئونة زائدة فالقدر المتيقّن هو مطلق الوجود المعرّى حتى من هذا القيد (١).

وعليه فإذا كان المطلوب في ناحية الأمر هو وجود الطبيعة وهو ناقض العدم الكلّيّ وطارد العدم الأزليّ بحيث ينطبق على أوّل فرد ووجود ، كان نقيضه عدم ناقض العدم ومن المعلوم أنّه يساوق بقاء العدم الكلّيّ على حاله فيتحقّق التفريق بين الأمر والنهي في الامتثال لأنّ لازم صرف الوجود أو مطلق الوجود هو تحقّق الطبيعة بفرد ولازم نقيضه هو انتفاء الطبيعة بانتفاء جميع أفرادها.

أورد عليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره بأنّ طارد العدم الكلّيّ لا مطابق له في الخارج لأنّ كلّ وجود يطرد عدمه البديل له لا عدمه وعدم غيره ، فأوّل الوجودات أوّل ناقض للعدم ونقيضه عدم هذا الأوّل ولازم هذا العدم الخاصّ بقاء سائر الأعدام على حالها فإنّ عدم الوجود الأوّل يستلزم عدم الثاني والثالث وهكذا لا أنّه عينها (٢).

أجاب عنه شيخنا الاستاذ الأراكيّ قدس‌سره بأنّه لا ضير في عدم وجود المطابق بالفعل للطارد للعدم الكلّيّ في الخارج بعد إمكان تصوّره إذ لا مانع من انتزاع ناقض العدم الكلّيّ عن الوجود الأوّلىّ بتبدّل عدم واحد بالوجود لاختلال العدم الكلّيّ بتبدّل واحد من الأعدام بالوجود ، والموضوع في الأوامر والنواهي حيث كان من الأمور الذهنيّة فعدم وجود المطابق بالفعل له في الخارج مع وجود منشأ انتزاعه لا يوجب الإشكال كما أنّ الكسور التسعة من النصف والربع وغيرهما ليس لها في الخارج مطابق بالفعل لأنّه ليس في الخارج إلّا القابليّة للانقسام لا وجود الأقسام من

__________________

(١) الدرر : ج ١ ص ٧٦ و ٧٧ ط جديد.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٨٢.

١٦٤

النصف وغيره فمع عدم وجودها قبل الفرز يمكن تصوّر الكسور بوجود منشئها وهكذا في ناقض العدم الكلّيّ فيصحّ أن يتصوّر الوجود بعنوان ناقض العدم الكلّيّ.

وعليه فالأمر بصرف الوجود أو أصل الوجود يمكن امتثاله بفعل واحد بخلاف الزجر عن أصل الوجود فإنّه يرجع إلى مطلوبيّة العدم الكلّيّ المنتزع عن الأعدام ومن المعلوم أنّه لا يمكن امتثاله إلّا بترك الطبيعة مطلقا.

نعم لو عصى المكلّف فدلالة النهي على حرمة الفعل بعد عصيان النهي في الزمان الأوّل تحتاج إلى مقدّمات الحكمة وبعد جريان المقدّمات يكون العدم الكلّيّ مطلوبا للمولى في الزمان المستمرّ وعصيانه في الزمان الأوّل لا يضرّ ببقاء النهي على ما هو عليه من الزجر عن الفعل مطلقا كما أنّ العصيان لا يضرّ باستصحاب الأحكام الشرعيّة في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قيام القيامة.

وعليه فلا إشكال على ما ادّعاه صاحب الكفاية من التفرقة في الامتثال بين الأمر والنهي بناء على ما ذهب إليه في النواهي من أنّ المطلوب فيها هو عدم الطبيعة.

هذا ، وقد عرفت أنّ مفاد النواهي هو الزجر عن الفعل كما أنّ مفاد الأوامر هو البعث نحو الفعل ، وكثرة الاستعمال فيهما متعاكسة لأنّ كثرة الاستعمال في النواهي في مبغوضة الطبيعة السارية بخلافها في الأوامر فإنّها مستعملة كثيرا ما في مطلوبيّة وجود الطبيعة فإذا كانت صيغة الأوامر والنواهي ظاهرة في معناهما بكثرة الاستعمال فلا يحتاج لإفادة بقاء المبغوضيّة في ناحية النواهي بعد العصيان إلى الأخذ بمقدّمات الإطلاق لأنّ النواهي منحلّة بتبع انحلال الأفراد فإذا عصى بالنسبة إلى فرد لا يوجب سقوط غيره من الأفراد لبقاء ظهور النهي في ممنوعيّة سائر الأفراد وبالجملة فالنهي في حكم نواه متعدّدة فلا مانع من بقائه على حاله بواسطة عصيانه في بعض أفراد متعلّقه.

١٦٥

كما لا حاجة إلى إنشاء سنخ الطلب كما في نهاية الدراية (١) : بعد الالتزام بالعموم الاستغراقيّ في ناحية المتعلّق لأنّ النهي ينحلّ بتبع العموم الاستغراقيّ ، ودعوى أنّ استعمال المتعلّق في الأفراد خلاف الوجدان كما في مناهج الوصول غير مسموعة بعد ما عرفت من كثرة استعمال المحرّمات خلافا للواجبات في مبغوضيّة الطبيعة السارية كما هو المتفاهم العرفيّ.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ما ذكرناه ليس من جهة أنّ المصلحة في طرف الأمر قائمة بصرف وجود الطبيعة ما لم تقم قرينة على الخلاف ، ولأجل ذلك لا ينحلّ الأمر بانحلال أفراد الطبيعة في الواقع وأمّا المفسدة ففي طرف النهي قائمة بمطلق وجودها إلّا إذا قامت قرينة على أنّها قائمة بصرف وجودها مثلا أو بمجموع وجوداتها وهكذا ، ولذلك ينحلّ في الواقع بانحلالها فيثبت لكلّ فرد منها حكم مستقلّ.

حتّى يورد عليه ـ كما في المحاضرات ـ بأنّ (هذا الفرق وإن كان صحيحا في نفسه إلّا أنّه لا طريق لنا إلى إحرازه مع قطع النظر عمّا هو مقتضى إطلاق الأمر والنهي بحسب المتفاهم العرفيّ ومرتكزاتهم وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّه لا طريق لنا إلى ملاكات الأحكام مع قطع النظر عن ثبوتها ، وعلى هذا الضوء فلا يمكننا إحراز أنّ المفسدة في المنهيّ عنه قائمة بمطلق وجوده والمصلحة في المأمور به قائمة بصرف وجوده مع قطع النظر عن تعلّق النهي بمطلق وجوده وتعلّق الأمر بصرف وجوده) (٢).

وذلك لما عرفت من أنّ كثرة استعمال المتعلّق في النواهي في العموم الاستغراقيّ تكون سببا لظهور النواهي في انحلال الاستغراقيّ فيختلف ظهور النهي مع ظهور الأمر في الواجبات ، لأنّ كثرة الاستعمال فيها متعاكسة. هذا مضافا إلى امكان إحراز المفسدة

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٨٣.

(٢) المحاضرات : ج ٤ ص ٩٧ ـ ٩٦.

١٦٦

بعد كون كلّ فرد مثل المنهيّ وعدم احتمال رفع المبغوضيّة بترك بعض الأفراد.

وأمّا ما ذهب إليه في المحاضرات بعد إطالة الكلام من أنّ (الاختلاف بين الأوامر والنواهي ليس من ناحية اختلافهما في المتعلّق لما عرفت من أنّ متعلّقهما واحد وهو نفس طبيعيّ الفعل فإنّه كما يكون متعلّقا للأمر كذلك يكون متعلّقا للنهي ، بل إنّ ذلك إنّما كان من جهة خصوصيّة في تعلّق الأمر والنهي به وهذه الخصوصيّة هي أنّ المطلوب من الأمر بما أنّه إيجاد الطبيعة في الخارج فلا يمكن أن يريد المولى منه إيجادها بكلّ ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة لغرض عدم تمكّن المكلّف منه كذلك ، فهذه الخصوصيّة أوجبت أن تكون نتيجة مقدّمات الحكمة فيه هي كون المطلوب هو إيجادها في ضمن فردها المعبّر عنه بصرف الوجود ، والمطلوب من النهي بما أنّه حرمان المكلّف فلا يمكن أن يراد منه حرمانه عن بعض أفرادها لفرض أنّه حاصل قهرا والنهي عنه تحصيل للحاصل ، فهذه الخصوصيّة أوجبت أن تكون نتيجة مقدّمات الحكمة فيه هي كون المطلوب حرمان المكلّف عن جميع أفرادها) (١).

ففيه أنّ البيان المذكور لو تمّ يساعد على ما ذهبنا إليه من كثرة الاستعمال أيضا.

هنا تنبيهان :

التنبيه الأوّل : أنّه لا يخفى عليك أنّ الظاهر من النواهي الواردة في باب العبادات والمعاملات مثل قوله عليه‌السلام في غير مأكول اللحم (ولا تلبسوا منها شيئا تصلّون فيه) وفي مثل الحرير المحض (لا تحلّ الصلاة في حرير محض) وفي مثل الغرر (نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر) ونحو ذلك ، هو أنّها إرشاد إلى مانعيّة هذه الأمور عن صحّة العبادات والمعاملات كالأوامر الواردة في باب العبادات والمعاملات فإنّها

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ص ١٠٧.

١٦٧

الجزئيّة أو الشرائط.

والمانعيّة والجزئيّة والشرطيّة أمور شرعيّة مستفادة من النهي والأمر ، ومعنى المانعيّة أنّ هذه الأمور بوجودها تمنع عن صحّة العبادة والمعاملة ومعنى الجزئيّة والشرطيّة أنّ هذه الأمور دخيلة في صحّة العبادة والمعاملة.

والأوامر الإرشاديّة إلى الجزئيّة والاشتراط أوامر حقيقيّة كما أنّ النواهي الإرشاديّة إلى مانعيّة هذه الأمور نواه حقيقيّة لأنّ الأوامر الإرشاديّة المذكورة ناشئة عن المصالح الكامنة في الأجزاء والشرائط والنواهي الإرشاديّة ناشئة عن المفاسد الكامنة في وجود الموانع التي تمنع عن صحّة العمل كالقهقهة في مثل الصلاة والغرر في مثل البيع.

وبعد ملاحظة أنّ الأوامر الإرشادية أوامر حقيقيّة ناشئة عن المصالح وأنّ النواهي الإرشادية نواه حقيقيّة ناشئة عن المفاسد المانعة عن صحّة العبادة والمعاملة يظهر أنّه لا وجه لما في المحاضرات من (أنّ النهي الوارد في الموانع غير ناش عن مفسدة في الفعل بداهة أنّه لا مفسدة فيه أصلا بل نشأ عن قيام مصلحة في تركه وهي داعية إلى إيجابه واعتباره في ذمّة المكلّف ، وهذه النواهي إرشاد إلى تقيّد الصلاة بعدمها لأجل مصلحة كانت في هذا التقيّد لا لأجل مفسدة في نفس تلك الأمور حال الصلاة ضرورة أنّه ليس لبس ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس في الصلاة من المحرّمات في الشريعة المقدّسة فإذن لا يمكن أن تكون هذه النواهي ناشئة عن وجود مفسدة ملزمة فيها.

ومن هنا تدلّ تلك النواهي على مطلوبيّة هذا التقيّد ومانعيّة تلك الأمور عن الصلاة ضرورة أنّا لا نعني بالمانع إلّا ما كان لعدمه دخل في المأمور به ، وهذا معنى كون

١٦٨

هذه النواهي إرشادا إلى مانعيّة هذه الأمور وتقيّد الصلاة بعدمها) (١).

وذلك لما عرفت من ظهور النواهي في الإرشاد إلى مانعيّة وجود الموانع ، وإرجاع النواهي إلى الإرشاد إلى تقيّد العبادة بالترك مع أنّه لا مصلحة في التقيّد خروج عن ظواهر النواهي الإرشاديّة من دون وجه وأمّا عدم حرمة لبس ما لا يؤكل ونحوه بالحرمة التكليفيّة فلا ينافي مانعيّة وجود لبس ما لا يؤكل ونحوه عن صحّة الصلاة ، والكلام في مانعيّة هذه الامور كالمانعيّة في التكوينيّات فكما أنّ المانع هناك يمنع عن تأثير المقتضي ولا يكون عدمه شرطا في التأثير إذ الشرط ما له المدخليّة في التأثير وليس لعدم المانع مدخليّة في التأثير وإنّما عدم المانع بمعنى عدم المزاحمة فالمقتضي يؤثّر بنفسه لا بمعونة عدم المانع حتّى يصحّ أن يقال هو شرط في التأثير.

فكذلك في الموانع الشرعية فإنّها بوجودها تمنع عن صحّة الصلاة وليس معناها هو مدخليّة عدمها في صحّة الصلاة وتأثيرها في أثرها.

التنبيه الثاني : في حكم الشبهة الموضوعيّة من الموانع ، ولا يخفى عليك أنّ الظاهر من النواهي المولويّة أو الإرشاديّة هو الزجر عن وجود طبيعة المنهيّ أو المانع ، وحيث عرفت بكثرة الاستعمال أنّ المنهيّ هو وجود كلّ فرد فرد لا صرف وجود المانع ، فلو شكّ في فرد أنّه من أفراد الطبيعة المنهيّة أم لا فلا ريب في جواز الرجوع إلى أصالة البراءة في النواهي المولويّة لفرض أنّه شكّ في تكليف مستقلّ زائد على المقدار المعلوم بل الأمر كذلك في النواهي الإرشاديّة أيضا فإنّ الشكّ في التكليف الزائد أيضا بعد انحلاله على الأفراد فيندفع المشكوك بالبراءة. هذا كلّه بناء على ما اخترناه من أنّ النواهي الإرشاديّة إرشاد إلى مانعيّة وجود الموانع بل يمكن الأخذ بالبراءة أيضا لو

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ص ١١٧ ـ ١١٥.

١٦٩

قلنا بأنّ النواهي الإرشاديّة ترجع إلى الأوامر الإرشاديّة في المركّبات وتقيّدها بعدم الموانع كما ذهب إليه في المحاضرات إذ لا إشكال أيضا في جريان البراءة بناء على جريانها في الأقلّ والأكثر الارتباطييّن كما هو الحقّ فإنّ مردّ الشكّ حينئذ إلى الشكّ في انطباق الواجب وهو الصلاة المقيّدة بعدم إيقاعها فيما لا يؤكل والميتة ونحوهما على الصلاة المأتيّ بها في الثوب المشكوك وعدم انطباقه إلّا على خصوص المقيّدة بعدم وقوعها في هذا الثوب المشتبه.

ومن المعلوم أنّ على الأوّل يكون الواجب هو الأقلّ وهو المطلق من حيث تقيّده بعدم وقوعه في هذا الثوب وعدم تقيّده به.

وعلى الثاني يكون هو الأكثر وهو المقيّد بعدم وقوعه في هذا الثوب وحيث إنّا لا نعلم أنّ الواجب هو الأقلّ أو الأكثر فيرجع إلى أصالة البراءة عن الأكثر (١).

بل لو قلنا بأنّ المنهيّ هو صرف وجود الطبيعة لأمكن إجراء البراءة أيضا ، كما أفاد في جامع المدارك حيث إنّ المانع على تقدير صرف الوجود أيضا هو نفس الوجودات لا أمر ينطبق على الوجودات حتّى يقال إنّ النهي واحد غيريّ متعلّق بأمر واحد مبيّن بحسب المفهوم فاللازم هو الاحتياط ، وذلك لأنّ الطبيعيّ موجود في الخارج بوجودات الأشخاص فوجود كلّ شخص عين وجود الطبيعيّ غاية الأمر في صورة تعلّق النهي بالطبيعة الساريّة يكون كلّ وجود بخصوصيّته موردا للنهي ، وفي هذه الصورة تكون الخصوصيّات ملغاة والمانع عن الصلاة هو نفس الطبيعيّ المتحقّق في الخارج وحيث إنّ الخارج ليس فيه وجودان أحدهما للطبيعيّ والآخر للفرد بل الأفراد بذواتها وبالجهة المشتركة مورد النهي لا بخصوصيّاتها فمع الشكّ في تحقّق تلك الجهة في المشكوك لا مانع من شمول حديث الرفع ، ومجرّد تبيّن المفهوم مع وقوع الشكّ

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ص ١٣٨.

١٧٠

لا يمنع عن الشمول لأنّ الشبهة موضوعيّة (١).

وأيضا لو قلنا برجوع النهي الإرشاديّ إلى الأمر الإرشاديّ واشتراط صرف ترك المانع في العبادة أو المعاملة ـ كما ذهب إليه في المحاضرات ـ لأمكن أيضا الرجوع إلى البراءة في الفرد المشكوك الفرديّة لفرض أنّ المطلوب في هذه الصورة صرف ترك الطبيعة والمفروض أنّه يتحقّق بتركها آناً ما ومعه لا منع عن الأفراد المعلومة فضلا عن الأفراد المشكوكة (٢).

بل الأمر كذلك لو لم يتركه آناً ما وصلّى في الثوب المشكوك فيه بأن لبسه في تمام آنات الاشتغال بها فحينئذ إن كان هذا الثوب من أجزاء غير مأكول اللحم واقعا فهو مانع عن صحّة الصلاة وإن لم يكن كذلك فلا يكون مانعا وحيث إنّا لا نعلم أنّه مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ونشكّ في مانعيّته وعدمها فلا مانع حينئذ من الرجوع إلى البراءة عنها بناء على ما هو الصحيح من جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطييّن (٣).

فقد اتّضح ممّا ذكر صحّة الرجوع إلى البراءة في الشبهة الموضوعيّة من الموانع على جميع الوجوه المتصوّرة فلا تغفل.

__________________

(١) جامع المدارك : ج ٢ ص ٢٧٣ و ٢٧٢.

(٢) المحاضرات : ج ٤ ص ١٢٤.

(٣) المحاضرات : ج ٤ ص ١٣٨.

١٧١

الخلاصة :

المقصد الثاني في النواهي

يقع الكلام في فصول :

الفصل الأوّل في مفاد مادّة النهي وصيغته وهنا مباحث :

المبحث الأوّل : في مادّة النهي

ولا يخفى أنّها كمادّة الأمر في الدلالة على الإلزام بنفس المادّة إذ لا ينسبق منها إلّا المنع والزجر الإلزامي.

وعليه فالنواهي تدلّ على الزجر عن الفعل على سبيل الإلزام كما أنّ الأوامر تدلّ على البعث نحو الفعل على سبيل الإلزام.

المبحث الثاني : في صيغة النهي :

ولا يخفى أنّها من الإنشاءات كما أنّ صيغة الأمر كذلك والمنشأ بها هو الزجر عن الفعل كما أنّ المنشأ بصيغة الأمر هو البعث نحو الفعل ولا دلالة لهما على الإلزام والإيجاب بحسب الوضع بل يحكم به العقلاء مع أصالة التطابق وعدم قيام القرينة على الترخيص في الفعل أو الترك والموضوع لحكم العقلاء بلزوم الفعل أو الترك هو صيغة افعل ولا تفعل مع أصالة التطابق بين الإنشاء والإرادة أو الكراهة الجدّيّة.

المبحث الثالث :

إنّ النهي بمعنى الزجر عن الفعل كما أنّ الأمر بمعنى البعث نحو الفعل فالمتعلّق في النهى والأمر هو الفعل وتفسير النهى بطلب الترك كتفسير الأمر بالمنع عن الترك

١٧٢

تفسير بلازم المعنى إذ الزجر عن الفعل في النهي ملازم لطلب الترك عقلا كما أنّ البعث نحو الفعل في الأمر ملازم لمبغوضيّة الترك والمنع عنه والدليل على ذلك هو التبادر والمساعدة مع مقام الثبوت إذ مقام الإثبات تابع لمقام الثبوت والإرادة والكراهة في مقام الثبوت متعلّقتان بالفعل.

ولا فرق فيما ذكر بين أن تكون صيغة النهي بنحو لا تفعل أو بنحو أنهاك عن الفعل بل لو قال الناهي اريد منك الترك أو اترك فاللازم هو إرجاعهما إلى إنشاء الزجر عن الفعل لعدم مطلوبيّة الترك بنفسه لخلوّه عن المصلحة حقيقة فلا يصلح للطلب بخلاف الفعل لكونه مشتملا على المفسدة وهو يقتضي الكراهة والزجر عنه.

هذا مضافا إلى أنّ العدم ليس بشيء ولا يمكن أن يكون ذا مصلحة تتعلّق به الإرادة والاشتياق ولا بعث ولا تحريك ولا طلب.

فإذا عرفت أنّ النهي بمعنى الزجر عن الفعل فلا مجال للنزاع في أنّ متعلّق الطلب في النهي هو الكفّ أو نفس أن لا تفعل لما عرفت من أنّ النهي هو الزجر عن الوجود لا طلب الترك والبحث المذكور متفرّع على كون معنى النهي هو طلب الترك.

المبحث الرابع :

في وجه اختلاف الامتثال في الأمر والنهي مع أنّ متعلّقهما هو وجود الفعل إذ الأمر هو البعث نحو وجود الفعل والنهي هو الزجر عن وجود الفعل ومع ذلك يتحقّق الامتثال في الأمر بوجود فرد واحد بخلاف النهي فإنّه لا يتحقّق الامتثال فيه إلّا بترك جميع الأفراد.

وهنا وجوه لبيان سرّ هذا الاختلاف ؛

منها : إنّ وجه ذلك هو اختلافهما في كثرة الاستعمال إذ النهي كثيرا ما يستعمل في الطبيعة السارية بخلاف الأمر فإنّه كثيرا ما يستعمل في مطلق الطبيعة والكثرة موجبة للانصراف وحيث إنّ الكثرة متعاكسة في الأمر والنهي يكون امتثالهما مختلفة

١٧٣

وفي هذا الوجه لا يحتاج إلى جريان مقدّمات الحكمة لأنّه يبتنى على الظهور الانصرافي كما لا يخفى بل مع العصيان في الزمان الأوّل لا حاجة لإفادة بقاء المبغوضيّة في جانب النهي إلى الأخذ بالمقدّمات لأنّ النواهي منحلة بتبع انحلال الأفراد ومن المعلوم أنّ عصيانه بالنسبة إلى فرد من أفرادها لا ينافي بقائه بالنسبة إلى سائر الأفراد.

ومنها : إنّ منشأ الفرق هو العقل لأنّ المتعلّق في الأمر والنهي واحد وهو الطبيعة وإنّما العقل يحكم باختلافهما في الامتثال ضرورة أنّ وجود الطبيعة يكون بوجود فرد واحد ولكن عدمها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع.

اورد عليه بأنّ التفكيك بين وجود الطبيعة وعدمها غير متصوّر لأنّ الطبيعة توجد بوجودات متعددة ولكلّ وجود عدم هو بديله ونقيضه ولا يعقل الوجود المضاف إلى الماهيّة على نحو يتحقّق بفرد ما ويكون عدم البديل له بحيث لا يكون إلّا بعدم الماهيّة بجميع أفرادها.

فإن كان النظر إلى الطبيعة المهملة كان النظر مقصورا على ذاتها وذاتيّاتها فيقابله إضافة العدم إلى مثلها ونتيجة المهملة جزئية فكما أنّ مثل هذه الطبيعة تتحقّق بوجود واحد فكذلك عدم مثلها.

وإن كان النظر إلى الطبيعة بنحو الكثرة فلعلّ وجود منها عدم هو بديله فهناك وجودات وأعدام وإن كان النظر إلى الوجود بنحو السعة أي بنهج الوحدة في الكثرة بحيث لا يشذّ عنه وجود فيقابله عدم مثله.

ويمكن الجواب عنه بأنّ النظر في ناحية الأمر إلى وجود الطبيعة بمعنى ناقض العدم الكلّي وطارد العدم الأزلي ومن المعلوم أنّه ينطبق على أوّل فرد ووجود من الطبيعة.

فإذا تعلّق النهي بوجود الطبيعة بالمعنى المذكور صار معناه هو الزجر عن ناقض العدم ومن المعلوم أنّه يساوق إبقاء العدم الكلّي على حاله وإبقاء العدم الكلّيّ

١٧٤

على حاله لا يتحقّق إلّا بترك جميع الأفراد وهذا هو الفرق في ناحية الامتثال.

ودعوى إنّ طارد العدم لا مطابق له في الخارج لأنّ كلّ وجود يطرد عدمه البديل له لا عدمه وعدم غيره فأوّل الوجودات أوّل ناقض للعدم ونقيضه عدم هذا الأوّل ولازم هذا العدم الخاصّ بقاء سائر الأعدام على حالها فإنّ عدم الوجود الأوّل يستلزم عدمه الثاني والثالث وهكذا لا أنّه عينها.

مندفعة بأنّه لا ضير في عدم وجود المطابق بالفعل لطارد العدم الكلّيّ في الخارج بعد إمكان تصوّره في الذهن ووجود منشأ انتزاعه في الخارج ولا مانع من انتزاع ناقض العدم الكلّيّ عن الوجود الأوّل بتبدّل عدم واحد بالوجود والموضوع في الأوامر والنواهي حيث يكون من الامور الذهنيّة فلا يضرّه عدم وجود المطابق له في الخارج كما أنّ الأمر كذلك في الكسور التسعة فإنّه مع عدم وجود مطابق له بالفعل في الخارج أمكن تصوّره وتعلّق الملكيّة به.

وعليه فالأمر بصرف الوجود أو أصل الوجود يمكن امتثاله بفعل واحد بخلاف الزجر عن أصل الوجود فإنّه يرجع إلى مطلوبيّة العدم الكلّي المنتزع عن الأعدام ومن المعلوم أنّه لا يمكن امتثاله إلّا بترك الطبيعة مطلقا.

نعم لو عصى المكلّف فدلالة النهي على حرمة الفعل بعد عصيان النهي في الزمان الأوّل يحتاج إلى جريان مقدّمات الحكمة وبعد جريانها يكون العدم الكلّي مطلوبا للمولى في الزمان المستمرّ وعصيانه في الزمان الأوّل لا يضرّ ببقاء النهي على ما هو عليه من الزجر عن الفعل مطلقا.

هذا بخلاف الوجه الأوّل فإنّه لا يحتاج إلى المقدّمات لابتنائه على الظهور الانصرافي كما عرفت.

ومنها أنّ المطلوب من الأمر بما أنّه إيجاد الطبيعة في الخارج لا يمكن أن يريد المولى منه إيجادها بكلّ ما يمكن أن ينطبق عليه هذه الطبيعة لفرض عدم تمكّن

١٧٥

المكلّف منه كذلك بل يكون المطلوب إيجادها في ضمن فرد ما المعبّر عنه بصرف الوجود والمطلوب من النهي بما أنّه حرمان المكلّف لا يمكن أن يراد منه حرمانه عن بعض أفرادها لفرض أنّه حاصل قهرا والنهي عنه تحصيل للحاصل فهذه الخصوصيّة أوجبت أن تكون نتيجة مقدّمات الحكمة فيه هي كون المطلوب حرمان المكلّف عن جميع أفرادها.

وهذا الوجه يصلح لأن يكون علّة للوجه الأوّل من جهة أنّ منشأ الفرق بين الأمر والنهي هو كون كثرة الاستعمال متعاكسة فيهما.

هنا تنبيهان :

التنبيه الأوّل : إنّ النواهي الواردة في العبادات والمعاملات تكون إرشادا إلى مانعيّة الامور المنهيّة مثل النهي عن لبس الحرير في الصلاة وعن الغرر في البيع وغير ذلك كما أنّ الأوامر الواردة فيهما ظاهرة في الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة كالأمر بالذكر في الركوع أو ستر العورة حال الصلاة.

ومعنى المانعيّة أنّ الامور المنهيّة بوجودها تمنع عن صحّة العبادة أو المعاملة كما أنّ معنى الجزئيّة والشرطيّة أنّ الامور المأمور بها في العبادات أو المعاملات يكون لوجودها مدخليّة شطرا أو شرطا في صحّتهما.

ثمّ إنّ الأوامر الإرشاديّة كالنواهي الإرشاديّة تكون حقيقية وتكشف عن المصالح في متعلّق الأوامر والمفاسد في متعلّق النواهي.

وعليه فما قيل من أنّ النهي الوارد في الموانع غير ناش عن مفسدة في الفعل بداهة أنّه لا مفسدة فيه أصلا بل نشأ عن قيام مصلحة في تركه وهذه النواهي إرشاد إلى تقيّد الصلاة بعدمها لأجل مصلحة كانت في هذا التقيّد لا لأجل مفسدة في نفس تلك الأمور حال الصلاة ضرورة أنّه ليس لبس ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس في

١٧٦

الصلاة من المحرّمات في الشريعة المقدّسة فإذن لا يمكن أن تكون هذه النواهي ناشئة عن وجود مفسدة ملزمة فيها ولا نعنى بالمانع إلّا ما كان لعدمه دخل في المأمور به وهذا معنى كون هذه النواهي إرشادا إلى مانعيّة هذه الامور وتقيّد الصلاة بعدمها.

منظور فيه لأنّ النواهي ظاهرة في الإرشاد إلى مانعيّة وجود الموانع وأمّا إرجاع النواهي إلى الإرشاد إلى تقيّد العبادة أو المعاملة بالترك مع أنّه لا مصلحة في التقيّد المذكور فهو خروج عن ظواهر النواهي الإرشاديّة من دون وجه.

ثمّ إنّ عدم حرمة لبس ما لا يؤكل بالحرمة التكليفيّة لا ينافي مانعيّة وجود لبس ما لا يؤكل عن صحّة الصلاة والمانعيّة التشريعيّة كالمانعيّة التكوينيّة في أنّ وجودها تمنع عن تأثير المقتضى ولا يكون عدمها شرطا في التأثير إذ عدم المانع بمعنى عدم المزاحمة في التأثير وليس بمعنى أنّ عدمه مؤثّر في تأثير الصلاة ونحوها كما لا يخفى.

التنبيه الثاني : في حكم الشبهة الموضوعيّة من الموانع ولا يخفى عليك أنّ الظاهر من النواهي سواء كانت مولويّة أو إرشاديّة إلى الموانع هو الزجر عن وجود طبيعة النهي أو المانع وحيث عرفت بكثرة الاستعمال أنّ النهى أو المانع هو وجود كلّ فرد فرد بنحو الاستغراق فلو شكّ في فرد أنّه من أفراد الطبيعة المنهيّة أو المانعة أم لا يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة فإنّ الشكّ في التكليف الزائد على المعلوم مولويّا كان أو وضعيّا.

ولا فرق فيما ذكر بين أن يكون النواهي في المركّبات إرشادا إلى مانعيّة وجود الموانع أو إرشادا إلى تقيّد العبادة بعدم وجود الموانع.

إذ تجري البراءة فيها أيضا بناء على جريانها في الأقلّ والأكثر الارتباطيين لأنّ انطباق الواجب بالنسبة إلى غير مورد المشكوك معلوم فيدور الأمر بين المعلوم والمشكوك فيجري البراءة بالنسبة إلى غير مورد المعلوم كما لا يخفى.

بل لو قلنا بأنّ المنهيّ هو صرف وجود الطبيعة لأمكن إجراء البراءة أيضا فإنّ

١٧٧

المانع على تقدير صرف الوجود هو نفس الوجودات والطبيعي موجود في الخارج بوجودات الأشخاص فوجود كلّ شخص عين وجود الطبيعي والمانع عن الصلاة هو نفس الطبيعي المتحقّق في الخارج ، وعليه فالأفراد بذواتها وبالجهة المشتركة مع إلغاء الخصوصيّات مورد النهي فمع الشكّ في تحقّق تلك الجهة في المشكوك يدور الأمر بين المعلوم والمشكوك فلا مانع من شمول حديث الرفع ومجرّد تبيّن المفهوم مع وقوع الشكّ لا يمنع عن الشمول بعد كون الشبهة موضوعيّة والمانع نفس الوجودات دون نفس المفهوم ، فلا تغفل.

١٧٨

الفصل الثاني : في جواز اجتماع الأمر والنهي

وعدمه في شيء واحد ممّا ينطبق عليه العناوين المتخالفة كعنوان الصلاة وعنوان الغصب.

ولا يخفى عليك أنّ أصحابنا الأصوليّين اختلفوا في الجواز والعدم على أقوال ولا بدّ من تقديم جهات :

الاولى : في تحرير محلّ النزاع ، ولا يخفى عليك أنّ المراد من الواحد ـ كما في الكفاية ـ هو مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجا تحت عنوانين يكون بأحدهما موردا للأمر وبالآخر للنهي من دون فرق بين أن يكون الواحد المذكور كلّيّا مقولا على الأفراد الكثيرة أو جهة جزئيّة لا تنطبق إلّا على الجزئيّ ، فمثل الحركة بقصد الصلاة في الدار المغصوبة فعل ينطبق عليه عنوان الصلاة وعنوان الغصب سواء اريد بها الكلّيّ المقوليّ الذي يصدق على الكثيرين أو اريد بها الحركة الصادرة من شخص خاصّ في زمان خاصّ ، وهي أي الحركة المذكورة داخلة في البحث ولا يختصّ مورد البحث والنزاع بالواحد الشخصيّ فإذا عرفت عدم اختصاص الواحد بالشخصى فليس المراد من الواحد ، المعنى الذي يقابل الكلّيّ بل المراد منه هو مقابل المتعدّد بمعنى أنّ محلّ البحث هو ما إذا كان مورد صدق العنوانين هويّة واحدة لا متعدّدة ، فالحركة بقصد الصلاة في الدار المغصوبة هويّة واحدة سواء اريد بها الكلّيّ المقوليّ أو الماهية الجزئيّة وليست شيئين حتّى يكون بأحدهما متعلّق الأمر وبالآخر متعلّقا للنهي ، فقيد الواحد

١٧٩

لإخراج متعدّد الهويّة فيما إذا كان العنوانان متقابلين مثل السجدة المخصوصة لله والسجدة المخصوصة للصنم أو قتل المؤمن وقتل الكافر وغير ذلك من العناوين المتقابلة فإنّ الأمر والنهي فيها لا يجتمعان في هويّة واحدة.

بخلاف العناوين المتخالفة كالصلاة والغصب فإنّها تجتمع في هويّة واحدة وتكون محلّ النزاع والبحث.

ولقد أفاد وأجاد المحقّق الأصفهانيّ تبعا لصاحب الكفاية حيث قال ما محصّله إرادة الواحد الشخصيّ بالخصوص يوجب خروج الواحد الجنسيّ المعنون بعنوانين كلّيّين كالحركة الكلّيّة المعنونة بعنوان الصلاتيّة والغصبيّة المنتزعة من الحركات الخارجيّة المعنونة بهما عن محلّ النزاع مع أنّه لا موجب لإخراجه ، وإرادة الواحد الجنسيّ أو النوعيّ يوجب دخول السجود الكلّيّ الذي له نوعان بتقييده بكونه لله أو للصنم مثلا مع أنّه خارج قطعا وكذا لو أريد الأعمّ من الشخصيّ وغيره.

وهنا قسم آخر للوحدة وهي الوحدة في الوجود فإنّ العناوين الموصوف بها الكلّيّ المنطبق على أفراده تارة تكون من الأوصاف المتقابلة كعنوان السجود لله وعنوان السجود للصنم فإنّ كلّيّ السجود المعنون بهما لا يعقل انطباقه على هويّة واحدة.

واخرى من الأوصاف الغير المتقابلة كعنوانى الصلاة والغصب فإنّ كلّيّ الحركة المعنونة بهما قابل للصدق على هويّة واحدة.

فالتقييد بالواحد لمجرّد إخراج المتعدّد من حيث الوجود لا لإخراج الكلّيّ في قبال الشخص (١).

وكيف كان فالواحد الذي يكون مجمعا للعناوين المتخالفة هو مورد البحث

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٨٤.

١٨٠