عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

بالبعث إلى صرف الطبيعة عدم القدرة الشرعيّة على إتيان المصداق المزاحم بالأهمّ. وعليه ، فالبعث إلى صرف الطبيعة لا يرجع إلى البعث إلى المصداق المزاحم حتّى يلزم طلب الضدّين ، بل يرجع إلى طلب إيجاد الطبيعة بمصاديقها المقدورة شرعا وهي غير المصداق المزاحم ، ومن المعلوم أنّه لا ضدّيّة بين طلب صرف الطبيعة وبين طلب الأهمّ ، وإنّما الضدّيّة فيما إذا كان البعث نحو الطبيعة المطلقة وبين طلب الأهمّ ، والمفروض عدمه.

وأمّا ما ذهب إليه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ الطبيعة حيث إنّ أفرادها هنا طوليّة ، فليس في زمان المضيّق لطبيعة الموسّع فرد غير مزاحم حتّى يقال لا نظر إليه ، بل إلى صرف الطبيعة غير المزاحمة بنفسها ، فإنّها حينئذ منحصرة في المزاحم ، فيكون الأمر بها في هذا الزمان أمرا بالمزاحم حقيقة بخلاف باب اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ الأفراد هناك عرضيّة ، ففي كلّ زمان لطبيعة الصلاة أفراد مزاحمة وأفراد غير مزاحمة ، فالطبيعة في كلّ زمان مقدور عليها (١)

ففيه أنّه لا مجال للقول بأنّ المكلّف في أوّل الزوال مثلا لا تكليف له بالنسبة إلى طبيعة الصلاة عند مزاحمة فرد منها مع الأهمّ كالإزالة ، بل هو مكلّف بالنسبة إليها بنحو الواجب التعليقي لإمكان الامتثال بها في الاستقبال ، أي في الأزمان الباقية إلى آخر الوقت ، بإتيان مصاديقها المقدورة ؛ فالوجوب فعليّ في أوّل الزوال بالنسبة إلى صرف الطبيعة ، والواجب استقباليّ ؛ فلا وجه لإنكار الوجوب عند مزاحمة فرد منها مع الواجب المضيّق ومن المعلوم أنّ الأمر الفعليّ بالنسبة إلى صرف الطبيعة كاف لقصد الامتثال.

ثمّ إنّ وجه كفاية قصد الأمر المتوجّه إلى صرف الطبيعة في تحقّق الامتثال هو

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٥٥.

٤١

أنّه مع إتيان الفرد المزاحم بالأهمّ انطبقت الطبيعة على المأتيّ به قهرا وحيث إنّه لا خصوصيّة في الأفراد المقدورة لعدم الفرق بينها وبين الفرد المزاحم بالأهمّ حكم العقل والعرف بعدم التفاوت بين الفرد المزاحم بالأهمّ وغيره من الأفراد ، فإذا أتى بالفرد المزاحم بالأهمّ بقصد الأمر المتوجّه إلى الطبيعة يصدق الامتثال عرفا ، إذ لا فرق بينه وبين سائر الأفراد فإتيانه كإتيان سائر الأفراد في ايجاب سقوط الأمر من دون مدخليّة لدعوة الأمر بالطبيعة إلى ذلك الفرد وعدمه. وممّا ذكر يظهر ما في تعليقة المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ الاشتراك في الطبيعة وفي الغرض يصحّح الإتيان بهذا الداعي ، لا أنّه يصحّح دعوة الأمر (١).

وذلك لما عرفت من أنّ الملاك هو صدق الامتثال عرفا بإتيان فرد لا فرق بينه وبين سائر الأفراد ولا حاجة إلى دعوة الأمر المتوجّه إلى الطبيعة بالنسبة إلى الفرد المزاحم بالأهمّ.

فتحصّل أنّ ما ذهب إليه المحقّق الثاني من إمكان قصد الأمر المتوجّه إلى الطبيعة بناء على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه كان وجيها. نعم ، يمكن أن يقال إنّ مع الاقتضاء أيضا لا مانع من الإتيان بالفرد المزاحم بالأهمّ بقصد الأمر المتعلّق بصرف الطبيعة.

إذ لا فرق بين صورة الاقتضاء وعدمه في عدم تعلّق الأمر بالمزاحم بالأهمّ وأنّ متعلّق الأمر هو الطبيعة ، والمفروض أنّه مع إتيان الفرد المزاحم بالأهمّ تصدق الطبيعة عليه قهرا ، وكونه منهيّا عنه لا يمنع عن صدق الطبيعة عليه ، وأيضا أنّ النهي الغيريّ لا يكشف عن المفسدة حتّى يوجب ذلك عدم حكم العقل والعرف بعدم التفاوت بينه وبين سائر الأفراد وصدق الامتثال ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ تفصيله مبنيّ

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٥٥.

٤٢

على تسليم كون النهي كاشفا عن المفسدة ، ولو كان نهيا غيريّا. فتأمّل.

أورد المحقّق النائينيّ بناء على ما حكي عنه على ما ذهب إليه المحقّق الثاني بأنّ ذلك يتمّ بناء على أن يكون منشأ اعتبار القدرة في متعلّق التكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، إذ على هذا الأصل يمكن أن يقال إنّ العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة على الواجب في الجملة ولو بالقدرة على فرد منه ؛ فإذا كان المكلّف قادرا على الواجب ولو بالقدرة على فرد واحد منه لا يكون التكليف به قبيحا وبما أنّ الواجب الموسّع في مفروض الكلام مقدور من جهة القدرة على غير المزاحم للواجب المضيّق من الأفراد فلا يكون التكليف به قبيحا.

وأمّا إذا كان منشأ اعتبار القدرة شرطا للتكليف اقتضاء نفس التكليف ذلك كما هو الصحيح لا حكم العقل ، فلا يتمّ ما ذكره ولا يمكن تصحيح الفرد المزاحم بقصد الأمر أصلا.

أمّا أنّ منشأ اعتبار القدرة شرطا للتكليف هو نفس التكليف ، فلأنّ الغرض من التكليف جعل الداعي للمكلّف نحو الفعل ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى بنفسه يستلزم كون متعلّقه مقدورا لاستحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلا أو شرعا ؛ فإذا كان التكليف بنفسه مقتضيا لاعتبار القدرة في متعلّقه فلا تصل النوبة إلى حكم العقل بذلك ، ضرورة أنّ الاستناد إلى أمر ذاتيّ في مرتبة سابقة على الاستناد إلى أمر عرضيّ.

وأمّا أنّ تصحيح الفرد المزاحم لا يمكن بقصد الأمر أصلا فلأنّ التكليف إذا كان بنفسه مقتضيا لاعتبار القدرة في متعلّقه ، فلا محالة ينحصر متعلّقه بخصوص الأفراد المقدورة ، فتخرج الأفراد غير المقدورة عن متعلّقه.

وعلى الجملة ، فنتيجة اقتضاء نفس التكليف ذلك أي اعتبار القدرة هي أنّ متعلّقة حصّة خاصّة من الطبيعة وهي الحصّة المقدورة ، وأمّا الحصّة غير المقدورة

٤٣

خارجة عن متعلّقه وإن كانت من حصّة نفس الطبيعة. وعلى ذلك فالفرد المزاحم ـ بما أنّه غير مقدور شرعا ـ خارج عن حيّز الأمر ولا يكون مصداقا للطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها (١).

وأجاب عنه في المحاضرات بأنّ الشارع لم يأخذ القدرة في متعلّق أمره على الفرض ، بل هو مطلق من هذه الجهة ؛ غاية ما في الباب أنّ التكليف المتعلّق به يقتضي أن يكون مقدورا من جهة أنّ الغرض منه جعل الداعي إلى إيجاده وجعل الداعي نحو الممتنع عقلا أو شرعا ممتنعا ومن الواضح أنّ ذلك لا يقتضي أزيد من إمكان حصول الداعي للمكلّف ، وهو يحصل من التكليف المتعلّق بالطبيعة المقدورة بالقدرة على فرد منها لتمكّنه من إيجادها في الخارج ولا يكون ذلك التكليف لغوا وممتنعا عندئذ ، فإذا فرض أنّ الصلاة مثلا مقدورة في مجموع وقتها وإن لم تكن مقدورة في جميعها ، فلا يكون البعث نحوها وطلب صرف وجودها في مجموع هذا الوقت لغوا.

وعليه ، فلا مقتضى للالتزام بأنّ متعلّقه حصّة خاصّة من الطبيعة وهي الحصّة المقدورة فإنّ المقتضي له ليس إلّا توهّم أنّ الغرض من التكليف حيث إنّه جعل الداعي ، فجعل الداعي نحو الممتنع غير معقول ، ولكنّه غفلة عن الفارق بين جعل الداعي نحو الممتنع وجعل الداعي نحو الجامع بين الممتنع والممكن ، والذي لا يمكن جعل الداعي نحوه هو الأوّل دون الثاني فإنّ جعل الداعي نحوه من الوضوح بمكان.

فالنتيجة على ضوء هذا البيان أنّه يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر بالطبيعة من دون فرق بين القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل أو اقتضاء نفس التكليف ذلك (٢).

__________________

(١) المحاضرات : ٣ / ٥٤ ـ ٥٦.

(٢) المحاضرات : ٣ / ٦٣.

٤٤

وفيه أنّه إن أراد من إمكان جعل الداعي نحو الجامع بين الممتنع والممكن جعل الداعي نحو صرف الطبيعة من دون نظر إلى مصاديقها فضلا عن ممكنها وممتنعها كالخطابات القانونيّة التي لا نظر فيها إلى الناس ونحوه فهو ، وأمّا إن أراد إمكان جعل الداعي نحو الجامع الحاكي عن الأفراد الممكنة والممتنعة ، ففيه أنّه غير ممكن لأنّه كجعل الداعي نحو الممتنع.

فالأولى في الجواب هو أن يقال : إنّ مجرّد كون الغرض هو جعل الداعي لا يوجب تقييد المتعلّق بالحصّة الخاصّة شرعا ، بل هو أيضا استدلال عقليّ على لزوم كون المتعلّق مقدورا ، هذا مضافا إلى أنّ القدرة في الجملة تكفي في كون صرف الطبيعة مقدورا ، وأيضا لا يضرّ عدم دعوة الأمر إلى غير الحصّة المقدورة ، بعد ما عرفت من صدق الطبيعة على غير المقدورة أيضا ، وصدق الامتثال بإتيان غير المقدورة بغرض سقوط الأمر عن الطبيعة بعد عدم التفاوت بين غير المقدورة والمقدورة بحكم العقل والعرف.

الثالث : بالجواب البنائي أيضا وهو الترتّب وهو إنّ مع مزاحمة الأهمّ والمهمّ والبناء على ترك الأهمّ لا مقيّد لإطلاق الأمر بالمهمّ ومعه فالأمر بالمهمّ موجود ويصحّ قصده لتحقّق الامتثال بقصده.

وتتمّ العبادة حتّى عند من اعتبر قصد الإنسان في تحقّق العبادة.

وإليه ذهب في هداية المسترشدين (١) كما نسبه إليه في الوقاية (٢) وحكى عن كاشف الغطاء والميرزا الشيرازي والسيّد محمّد الفشاركي وصاحب الوقاية والمحقّق الأصفهاني وغيرهم من الأعلام.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ص ٢٤٣ و ٢٤٤.

(٢) الوقاية : ص ٣٠٥.

٤٥

ومن المعلوم إنّ مع إمكان الترتّب يكون الفرد المزاحم بالأهمّ أيضا ذا أمر فلا وجه تعول شيخنا البهائي قدس‌سره من فساد العبادة عند التزاحم لعدم الأمر سواء قلنا باقتضاء الأمر بالشيء للنهى عن ضدّه أو لم نقل لما عرفت من وجود الأمر بناء على إمكان الترتّب ثمّ إنّ الفرق بين الترتّب وما ذهب إليه المحقّق الثاني هو إنّ المصحّح للعبادة عند المحقّق الثاني هو الأمر المتعلّق بالطبيعة والفرد لا يكون له أمر لعدم القدرة الشرعيّة بالنسبة إليه ولكن يمكن للمكلّف أن يأتي بالفرد المزاحم بالأهمّ بقصد الأمر المتوجّه إلى الطبيعة.

هذا بخلاف الترتّب ، فإنّ الفرد المذكور له أمر ؛ فيمكن للمكلّف أن يقصد أمر الفرد المذكور لتحقّق الامتثال. هذا مضافا إلى فرق آخر وهو أنّ الأمر المصحّح لقصد الامتثال بناء على قول المحقّق الثاني يكون في عرض الأمر بالأهمّ إذ أمر طبيعة الصلاة لا يترتّب على عدم تأثير الأمر بطبيعة الإزالة ، بخلاف الأمر الترتّبيّ فإنّه في طول الأمر بالأهمّ لأنّه مترتّب على عدم تأثير الأمر بالأهمّ في المكلّف.

أحسن التقريب في الترتّب

ثمّ إنّ للترتّب تقريبات متعدّدة أحسنها هو أن يقال : إذا تزاحم أمران أحدهما أهمّ من الآخر فلا يمكن أن يقتضي كلّ واحد متعلّقه بالفعل مطلقا ، لاستحالة فعليّة مقتضاهما معا ، لوجود التضادّ بينهما وإن كان المكلّف في كمال الانقياد ؛ كما لا يمكن أن يتعلّق الأمر بالجمع بينهما من أوّل الأمر ، إذ لا واقع له ولا يكون جائزا بعد استحالته.

ولكن يمكن أن يكون المقتضيان مترتّبين بأن يكون أحدهما وهو المهمّ لا اقتضاء له إلّا عند عدم تأثير الأهمّ ، فمع تأثير الأهمّ لا موضوع لتأثير المهمّ ، ومع عدم تحقّق موضوع التأثير للأمر بالمهمّ يستحيل مانعيّته عن تأثير الأمر المتوجّه بالأهمّ ومع عدم تأثير أمر الأهمّ فلا مانع من فعليّة تأثير أمر المهمّ المعلّق على عدم تأثير

٤٦

أمر الأهمّ.

والحاصل أنّه لا تضادّ إلّا من ناحية الامتثال ، فإذا كان لزوم امتثال المهمّ موقوفا على البناء على ترك الامتثال بالأهمّ لا يلزم التضادّ ، كما لا يخفى.

قال في الوقاية : وبالجملة ، مزاحمة الأمرين لا يكون إلّا لاقتضاء الأمر طرد جميع الأضداد حتّى متعلّق الأمر الآخر وسدّ جميع أبواب العدم على متعلّقه ، والالزام بعدم صرف القدرة على أيّ ضدّ كان له والمنع من تفويت متعلّقه ولو بإتيان غيره ، إلى غير ذلك من التعبيرات المختلفة المنتهية إلى حقيقة واحدة ، وهي اقتضاؤه عدم الترك مطلقا ؛ وهذا شأن الواجب المطلق.

ولو كان الأمر المتعلّق بالمهمّ كذلك لزم جميع ذلك ، ولكنّه ـ كما عرفت ـ أمر مشروط بعصيان الأمر الآخر ـ إلى أن قال ـ : ومعناه عدم تحقّق مؤدّاه وعدم تأثيره وعدم قابليّته للتأثير ، وذلك مرتبة متأخّرة عن نفس الأمر ، بل هي مرتبة انعزاله عن مقتضاه وعدم صلاحيّته للتأثير. وهذه المرتبة مرتبة الواجب المشروط ، فكيف يكون في مرتبة الأمر الأوّل وهو متأخّر عنه تأخّر المعلول عن علّته؟ إلى أن قال :

وخلاصة القول أنّه لا تضادّ بين الأمرين ، بل التضادّ بين الفعلين ، والأمر على نحو الترتّب لا يؤول إلى الجمع بينهما أصلا ، إذ المفروض في وجود أحدهما عدم وجود الآخر وخلوّ المحلّ فأين المحال؟! (١).

ولقد أفاد وأجاد في بيان أنّ الأمر بالمهمّ ليس بمطلق ، بل هو مشروط بعدم تأثير الأمر بالأهمّ ، ولا تضادّ بين الأمرين ، ولا يلزم من ترتّب الأمر بالمهمّ على عدم تأثير الأمر بالأهمّ وخلوّ المحلّ عن وجوده طلب الجمع بين الضدّين.

ولعلّ مراده أنّ الملاك في دفع التضادّ هو عدم تأثير الأمر بالأهمّ في الانبعاث ،

__________________

(١) الوقاية : ص ٣٠٦ ـ ٣٠٩.

٤٧

لا أنّ مجرّد اختلاف المرتبة مع اتّحاد الأمرين زمانا يدفع التضادّ ؛ إذ من المعلوم أنّ مجرّد اختلاف المرتبة لا يدفع التضادّ ، إذ مع اتّحادهما في الزمان يوجب إطلاقهما طلبا لما لهما المعيّة الزمانية من الضدّين. هذا مضافا إلى أنّه لو كان مجرّد ترتّب الأمر بالمهمّ على عصيان الأمر بالأهمّ دافعا لطلب الجمع بين الضدّين لوجب الدفع مع الاشتراط بإطاعة الأهمّ ، فإنّها متأخّرة عن أمره ، ولو جعلت شرطا تصير مقدّمة على أمر المهمّ. تقدّم الموضوع على حكمه ، مع أنّ ذلك يقتضي الجمع ؛ إذ حال الإطاعة للأمر بالأهمّ يكون الأمر بالأهمّ باقيا ، وحيث إنّ موضوع الأمر بالمهمّ هو الإطاعة ، أي حالها ، فالأمر بالمهمّ أيضا يكون موجودا فيجتمع الأمران ، ومقتضاهما هو طلب الجمع بين الضدّين ، وهو محال ، فتأمّل.

وممّا ذكر يظهر أنّ مجرّد اختلاف المرتبة لا يدفع الإشكال ، بل الدافع هو عدم تأثير دعوة الأمر بالأهمّ ، وإن كان له صلاحيّة الدعوة في نفسه مع التأثير وفعليّة دعوة الآخر ، لأنّ الأمر بالمهمّ إذا علّق على حال العصيان أو البناء والعزم عليه ، ويقال إن كنت في حال العصيان أو عزمت عليه فأت بالمهمّ ، لا يكون الأمر بالمهمّ مزاحما للأمر بالأهمّ عند تأثيره وإمكان انقياد المكلّف لعدم تحقّق موضوعه حتّى يكون مزاحما له ، كما أنّ الأمر بالأهمّ لا يكون مزاحما للأمر بالمهمّ في حال العصيان والبناء عليه ، إذ لا يكون مؤثّرا بالفعل. وقد عرفت أنّ التضادّ ليس إلّا من ناحية الامتثال ومؤثّريّة الأمر ، فإذا لم يكن الأمر بالأهمّ مؤثّرا في ناحية الامتثال فلا مزاحم للأمر بالمهمّ ؛ ففي فرض فعليّة تأثير الأمر بالأهمّ لا موضوع للأمر بالمهمّ ، وفي فرض فعليّة تأثير المهمّ لا تأثير للأهمّ ، وإلّا لزم الخلف في كون حال العصيان والبناء عليه شرطا لتأثير الأمر بالمهمّ ، فاختلاف المرتبة مع عدم تأثير الأمر بالأهمّ يدفعان طلب الجمع.

وممّا ذكر يظهر ما في مناهج الوصول من أنّ الدافع لطلب الجمع ليس إلّا القول

٤٨

بسقوط الأمر بالأهمّ بعصيانه ومضيّ وقته ، وعدم ثبوت أمر المهمّ إلّا بعد سقوط الأهمّ أو مساوقا له (١). لما عرفت من أنّ الأمر بالأهمّ حال العصيان أو البناء والعزم على المعصية ثابت ولا يكون ساقطا ، وجعل موضوع الأمر بالمهمّ هو مضيّ العصيان مع إمكان جعله هو حال العصيان لكونه أمرا زمانيّا لا ملزم له ، فلا وجه لجعل الموضوع هو مضيّ العصيان ، حتّى يفوت وقت الأهمّ وينجرّ إلى سقوط الأمر بالأهمّ ويدور الأمر بين السقوط والثبوت ويخرج عن فرض الكلام ؛ فمع البناء والعزم على العصيان لا وجه لدعوى سقوط الخطاب بالأهمّ ، إذ البناء والعزم على العصيان لا يكون من مسقطات الأوامر.

ولقد أفاد وأجاد فيما حقّقه المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ الأمر بالإضافة إلى متعلّقه من قبيل المقتضى بالإضافة إلى مقتضاه ، فإذا كان المقتضيان المنافيان في التأثير لا على تقدير ، والغرض من كلّ منهما فعليّة مقتضاه عند انقياد المكلّف له ، فلا محالة يستحيل تأثيرهما وفعليّة مقتضاهما وإن كان المكلّف في كمال الانقياد ، وإذا كان المقتضيان مترتّبين ، بأن كان أحد المقتضيين لا اقتضاء له إلّا عند عدم تأثير الآخر ، فلا مانع من فعليّة الأمر المترتّب.

وحيث إنّ فعليّة أصل اقتضاء المترتّب منوطة بعدم تأثير المترتّب عليه ، فلا محالة يستحيل مانعيّته عن تأثير الأمر المترتّب عليه ، إذ ما كان اقتضائه منوطا بعدم فعليّة مقتضي سبب من الأسباب يستحيل أن يزاحمه في التأثير ، ولا مزاحمة بين المقتضيين إلّا من حيث التأثير ، وإلّا فذوات المقتضيات ـ بما هي ـ لا تزاحم بينها.

إن قلت حيث إنّ الأمر بالأهمّ بداعي جعل الداعي وانبعاث المكلّف ، فمع عدم الانبعاث في زمان يترقّب عند الانبعاث كيف يعقل بقاؤه؟ فإنّ الأمر بطرد العدم بعد

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٤٦.

٤٩

تحقّق العدم محال ، فإنّ رفع النقيض حال تحقّق النقيض محال.

قلت : الأمر الحقيقي هو جعل ما يمكن أن يكون داعيا ، والأمر بالأهمّ حال عصيانه على إمكانه الذاتيّ والوقوعيّ ، وإن كان الدعوة بعد تحقّق النقيض ممتنعة ، إلّا أنّه امتناع بالغير ؛ والإمكان الذاتيّ والوقوعيّ لا ينافي الامتناع الغيريّ ، وإلّا لم يمكن ممكن أبدا ، إذ الماهيّة تكون حال وجودها واجبة بالغير وحال عدمها بعدم العلّة ممتنعة بالغير : فمتى تكون ممكنة ذاتا ووقوعا (١).

لا يقال : إنّ العصيان أمر عدميّ وليس فيه مناط التأخّر الرتبيّ عن الأمر بالأهمّ لاختصاص المناطات بالامور الوجوديّة ، إذ العليّة والمعلوليّة أو كون الشيء جزءا للعلّة أو جزءا للماهيّة أو شرطا لفاعليّة الفاعل أو شرطا لقابليّة القابل كلّها مختصّة بالامور الوجوديّة ، ولو كان الوجود وجودا ذهنيّا. والعصيان ليس إلّا ترك الامتثال بلا عذر ، فلا يحتاج إلى شيء من المناطات المذكورة ؛ وعليه فتأخّره عن الأمر بالأهمّ لا مناط له. هذا بخلاف الإطاعة فإنّه انبعاث وأمر وجوديّ يحتاج إلى علّة ، وهي البعث ، ومن المعلوم أنّ المعلول متأخّر عن علّته وهي الأمر بالأهمّ ، والعصيان وإن كان مقابلا للإطاعة إلّا أنّه ليس فيه مناط التأخّر.

وهكذا لا يمكن أن يتّصف العصيان بإحدى الحيثيّات الوجوديّة كالتقدّم بالنسبة إلى الأمر بالمهمّ والتأخّر بالنسبة إلى الأمر بالأهمّ ، وكونه موضوعا لحكم أو شرطا لشيء أو مانعا عنه وغير ذلك كلّها من جهة أنّ العصيان ليس إلّا أمرا عدميّا لأنّه ترك المأمور به بلا عذر (٢).

لأنّا نقول : أوّلا إنّ مفهوم العصيان متقدّم بتقدّم أمر عليه ، لأنّ العصيان هو ترك

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٤٦ ـ ٤٨.

(٢) راجع مناهج الوصول : ج ٢ ص ٤٦ ـ ٤٩.

٥٠

الامتثال للأمر الفعليّ بلا عذر ، فهو لا يتحقّق بدون الأمر ، بل مترتّب عليه. وعليه فتقدّم الأمر عليه كتقدّم أجزاء الماهيّة عليها ، وإن لم يكن بين العصيان والأمر رتبة العلّيّة والمعلوليّة.

وثانيا : إنّ العصيان ليس عدما محضا ، بل هو مشوب بالوجود ، لأنّه مخالفة للمولى وإعراض عن أمره ، وهما أمران وجوديّان ، وإن كانا موجبين لترك الامتثال بلا عذر. وعليه فيكون العصيان كالإطاعة متأخّرا زمانا عن الأمر بالأهمّ ومتقدّما على الأمر بالمهمّ ، فلا امتناع في جعل العصيان شرطا أو موضوعا ، بل هو واقع في الكتاب والسنّة كقوله تبارك وتعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ). الآية.

وثالثا : إنّ الموضوعات والشرائط في الخطابات الشرعيّة ليست عقليّة ، بل هي عرفيّة ، والعرف يحكم بصحّة جعل العصيان شرطا للخطاب بالمهمّ ؛ ألا ترى أنّ الوالد يقول لابنه تعلّم ، فإن عصيت أمري ولم تتعلّم فعليك بالاكتساب ، وليس ذلك إلّا لأنّ العرف يرى العصيان أمرا وجوديّا ومتأخّرا عن الأمر بالأهمّ ومتقدّما على الأمر بالمهمّ.

فتحصّل أنّ ترتّب الأمر بالمهمّ على حالة عصيان الأمر بالأهمّ أمر معقول وعرفيّ ، وإن لم يكن بينهما رابطة العلّيّة والمعلوليّة ، لكفاية تأخّره عنه ولو بالمتأخّر الطبعي. كما أنّ شوب العصيان بالوجود يكفي في صحّة جعله موضوعا لا شرطا للخطاب بالمهمّ ، فلا تغفل.

فأساس الترتّب مبنيّ على ترتّب أثر الأمر بالمهمّ على حالة العصيان بالنسبة إلى الأمر بالأهمّ وعدم تأثيره ، لأنّ حالة العصيان تلازم مع عدم تأثير الأمر بالأهمّ الذي هو المانع من تأثير الأمر بالمهمّ ؛ فإذا حصلت حالة العصيان بالنسبة إلى الأمر بالأهمّ ارتفعت مانعيّة الأمر بالأهمّ عن تأثير الأمر بالمهمّ ، ومع ارتفاع المانعيّة أثّر الخطاب المهمّ ، فتأثير خطاب المهمّ موقوف على عدم تأثير خطاب الأهمّ.

٥١

وأمّا ما أورد عليه في مناهج الوصول من أنّ لازمه هو طلب الجمع ، لأنّ الأمر الانتزاعي متحقّق قبل وقت امتثال الأهمّ وقبل عصيانه ، فأمر المهمّ صار فعليّا باعثا نحو المأمور به وأمر الأهمّ لم يسقط وبقي على باعثيّته قبل تحقّق العصيان ، فهذا باعث نحو إنقاذ الابن مثلا أوّل الزوال بعنوان المكلّف ، وذاك إلى إنقاذ الأب كذلك ، بعنوان الذي يكون عاصيا فيما بعد ، والمكلّف الذي يكون عاصيا فيما بعد مبعوث فعلا نحو ذاك وذلك ، وغير قادر على ذلك ، ومجرّد اختلاف العنوانين وطوليّة موضوع الأمرين لا يدفع طلب الجمع.

ألا ترى أنّ عنوان المطيع أيضا مؤخّر عن الأمر ؛ فلو جعل شرطا يكون مقدّما على أمر المهمّ ، فيصر أمر الأهمّ مقدّما عليه برتبتين ، ومع ذلك لا يدفع ذلك جمع الضدّين (١).

ففيه أوّلا : أنّ الإطلاق ليس جمعا بين القيود ، بل هو رفض القيود ، بمعنى عدم دخل فعل الآخر وتركه في فعليّة الطلب. وعليه فلا يلزم من الطلب طلب الجمع بين الفعلين.

نعم ، لازم تعلّق الطلبين في المترتّبين طلب ما لهما المعيّة الزمانيّة في المطلوبيّة ، ولا إشكال فيه بعد فرض كون مطلوبيّة المهمّ فيما إذا لم يعمل القدرة في فعل الأهمّ ، إذ القدرة الواحدة لا تفي بهما ، وأمّا مع الترتّب فالقدرة الواحدة تفي بهما ، إذ مع إعمال القدرة في فعل الأهمّ لا تأثير للأمر بالمهمّ ، ومع عدم إعمالها في الأهمّ لا مانع من إعمالها في فعل المهمّ ، وعليه ، فالترتّب موجب للجمع بين الطلبين لا طلب الجمع ، وجمع الطلبين مع ترتّب تأثير المهمّ على عدم تأثير الأمر بالأهمّ لا مانع منه.

وثانيا : أنّ المناط في دفع التضادّ هو اختلاف الرتبة مع عدم فعليّة تأثير الأهمّ ،

__________________

(١) منهاج الوصول : ج ٢ ص ٥٢.

٥٢

لا مجرّد اختلاف الرتبة ، حتّى يقال إنّ عنوان الإطاعة بالنسبة إلى الأمر بالأهمّ مؤخّر وبالنسبة إلى الأمر بالمهمّ مقدّم ، ومقتضاه هو إمكان أن يقال : أطع الأهمّ ، وإن أطعته فأت بالمهمّ ؛ مع أنّه طلب للجمع بين الضدّين ، واختلاف الرتبة لا يدفعه. وبناء عليه ، فمع فعليّة تأثير الأهم في جانب الأهمّ لا يبقى مجال للأمر بالمهمّ مع وجود التضادّ بينهما ، إلّا على نحو التخيير ، وهو خلف في أهمّيّة أحد الطرفين بالنسبة إلى الآخر ، فمع انقياد المخاطب ومؤثريّة الأمر بالأهمّ لا مجال للمترتّب.

هذا مضافا إلى أنّه مع الإطاعة لا يبقى أمر للأهمّ حتّى يجتمع مع الأمر بالمهمّ ويلزم منه طلب الجمع بين الضدّين ، اللهمّ إلّا أن يكون مقصوده العنوان الانتزاعيّ كالذي يطيع أو غيره من العناوين الانتزاعيّة التي تصدق قبل الامتثال على أنّ الأمر بالمهمّ لجبران فقدان مصلحة الأهمّ ؛ فإذا كان المكلّف قاصدا للاطاعة والامتثال فلا داعي للطلب الترتّبي في هذه الصورة ، بخلاف عصيان الأهمّ ، فلا تغفل.

وكيف كان ، فالأمر الترتّبي بما هو هو لا يوجب الجمع بين المتضادّين ، ويشهد له ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أنّ المكلّف لو جمع بين الأهمّ والمهمّ ـ فيما إذا أمكن ذلك ، مثل ما إذا قال المولى لعبده : جئني بماء عذب وإن عصيت ذلك فجئني بماء مالح لم يقعا على صفة المطلوبيّة. وهذا آية عدم الأمر بالجمع وعدم ملازمة الترتّب ، لا بحساب الجمع ، لأنّ المهمّ لا يقع على صفة المطلوبيّة بعد عدم تحقّق شرطه ، وهو عدم مؤثّريّة الأمر بالأهمّ. وبالجملة ؛ فمع وجود تأثير الأهمّ لا يصدق عصيان الأهمّ وتركه حتّى يتحقّق شرط المهمّ ، من دون فرق بين أن يكون الأهمّ والمهمّ متضادّين وبين أن لا يكونا كذلك.

لا يقال : إنّ الذي يعصي ولا يأتي بالأهمّ يمتنع عليه الجمع بين الإتيان بالأهمّ والإتيان بالمهمّ ، وإلّا كان هو الذي يطيع ، والجمع بين الذي يعصي ولا يأتي وبين الذي يطيع ويأتي جمع بين النقيضين.

٥٣

ولو فرض جواز الجمع وأتى بالأهمّ كالإزالة والصلاة في أوّل الوقت ، وقع كلّ منهما على صفة المطلوبيّة ، لأنّ عنوان الذي يعصي ما دام لم يتحقّق العصيان لا يوجب سقوط الأمر بالاتيان بالأهمّ ، والمفروض أنّ شرط المهمّ حاصل بإطلاق عنوان الانتزاعيّ ، كالذي يعصى ، فيكون المهمّ مطلوبا (١).

لأنّا نقول : إنّ الأمر الترتّبي لا يدلّ على مطلوبيّة الجمع ، ومطلوبيّة مثل الإزالة والصلاة في المتضيّقين على فرض اجتماعهما ليست مستفادة من الأمر الترتّبيّ ، بل مستفادة من الخارج.

وبالجملة ، يكفي لعدم ملازمة الأمر الترتّبيّ لمطلوبيّة الطرفين وجمعهما ما عرفت من المثال العرفيّ ، ولعلّ ذلك من جهة توقّف مطلوبيّة المهمّ على عدم مؤثّريّة الأمر بالأهمّ ، ومعه يستحيل أن يكون الأمران المترتّبان مؤدّيين إلى طلب الجمع ؛ فالترتّب يفيد الجمع في الطلب ، لا طلب الجمع ، فلا تغفل.

وإلى ما ذكرنا يؤوّل ما حكي عن المحقّق السيّد الشهيد الصدر قدس‌سره حيث أورد بيانين في مقام تقريب إمكان الترتّب بيانين ، فقال في البيان الأوّل : إنّه يتكوّن من نقطتين :

الاولى : أنّه لا ريب ولا إشكال في أنّ المحذور الموجود في الأمر بالضدّين إنّما هو بلحاظ التمانع بينهما في مقام التأثير والامتثال ، بحيث لو قطع النظر عن ذلك لم يكن هناك محذور آخر من تناقض أو اجتماع ضدّين ، لعدم التضادّ ذاتا بين الأمرين ، كما هو واضح.

الثانية : أنّ التمانع بين الأمرين في مقام التأثير يرتفع من البين فيما إذا رتّب الأمر المهمّ على عدم فعل الأهمّ ؛ لاستحالة مانعيّة الأمر بالمهمّ حينئذ عن تأثير الأمر

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٥٣.

٥٤

بالأهمّ ، واستحالة مانعيّة الأمر بالأهمّ عن تأثير الأمر بالمهمّ.

أمّا استحالة الأولى فوجهها لزوم الدور ؛ لأنّ الأمر بالمهمّ متفرّع ـ بحسب الفرض ـ على عدم الأهمّ ، ومعه يستحيل أن يكون مانعا عن اقتضاء الأمر بالأهمّ وتأثيره ، لأنّ معنى ذلك أن يكون عدم الأهمّ مستندا إلى الأمر بالمهمّ ، وهو محال. وهذا هو معنى أنّ اقتضاء الأمر بالمهمّ في طول عدم اقتضاء الأمر بالأهمّ ، فلا تنافي بين المقتضيين ، بالكسر.

وأمّا استحالة الثانية ، فلأنّ الأمر بالأهمّ إذا كان مانعا عن تأثير الأمر بالمهمّ ـ في فرض عدم وجود الأمر بالمهمّ ـ فهو غير معقول ، إذ المانع عن تأثير مقتضى ما لا بدّ أن يفرض في ظرف وجود ذلك المقتضي ، وإن كان مانعا عن تأثيره في فرض وجوده ؛ ففرض وجوده هو فرض وجود موضوعه الذي هو عدم الأهمّ ، وهو ظرف محروميّة الأمر بالأهمّ عن التأثير في نفسه ، لأنّ الأمر بالمهمّ ـ بحسب الفرض ـ مترتّب على فرض عدم الأهمّ الذي يعني عدم تأثير الأمر بالأهمّ في إيجاد متعلّقه في نفسه. وعليه ، فمانعيّة الأمر بالأهمّ عن تأثير الأمر بالمهمّ في هذا الظرف مستحيلة أيضا لأنّه خلف (١).

التنبيهات

التنبيه الأوّل : أنّه بعد الفراغ عن إمكان مقام الثبوت ، فليعلم أنّ مجرّد إحراز أهمّيّة أحد الطرفين يكفي في حكم العقل بترتّب تأثير أحدهما على حالة عصيان الآخر ، وعدم تأثيره وتقييد إطلاق تأثير الأمر بالمهمّ بما يخرجه عن المزاحمة لتأثير الأمر بالأهمّ ؛ فلا يتوقّف الحكم بترتّب تأثير الأمر بالمهمّ على حالة عصيان الأمر

__________________

(١) بحوث في علم الاصول : ج ٢ ص ٣٥٩.

٥٥

بالأهمّ على ورود خطاب يتكفّل بترتّب تأثير الأمر بالمهمّ على عدم تأثير الأمر بالأهمّ ، إذ الكشف العقليّ عن ذلك يستلزم الحكم الشرعي ، لأنّ العقل هو المدرك والمنكشف هو الحكم الشرعي.

فكما أنّه من الممكن أن يقيّد الشارع من ابتداء الأمر خطابه بالنسبة إلى المهمّ بصورة عدم مزاحمة الأهمّ ، فكذلك يمكن اكتشافه بحكم العقل بعد كون الخطابين مطلقين ومتزاحمين مع أهميّة بعض الأطراف بالنسبة إلى الطرف الآخر ؛ ثمّ إنّ الكشف العقلي ليس بمعنى التصرّف في إرادة المولى أو جعله حتّى يقال إنّ تصرّف العقل في إرادة المولى أو جعله ممّا لا معنى معقول له ، والتقيّد والتصرّف لا يمكن إلّا للجاعل لا لغيره (١) ، بل هو كشف عن تقييد الشارع وجعله ، وإنّ إرادته في مثل ما إذا تزاحم المطلقان وكان أحدهما أهمّ تعلّقت بالمهمّ مترتّبا على عدم تأثير الأمر بالأهمّ.

لا يقال إنّ التزاحمات الواقعة بين الأدلّة تكون متأخّرة عن تعلّق الأحكام بموضوعاتها وعن ابتلاء المكلّف بالواقعة ، فلم تكن ملحوظة في الأدلّة لأنّا نقول إنّ ذلك صحيح بالنسبة إلى الأدلّة الأوّليّة ، وأمّا مع حكم العقل بذلك فيستفاد ذلك بالدليل الآخر ، وهو متأخّر عن الأحكام الأوّليّة ، فإرادة كيفيّة علاج المتزاحمات إرادة مستقلّة اخرى بعد تحقّق الأدلّة الأوّليّة وتزاحمهما.

وأمّا القول بأنّ الأوامر تعلّقت بنفس الماهيّات من دون حكايتها عن الوجود ، وإن كانت متّحدة مع الأفراد في الخارج ، لمباينتها مع الأفراد والخصوصيّات ، ومقتضى ذلك هو أنّ الجعل في القضايا الحقيقيّة ليس إلّا جعلا واحدا بعنوان واحد لا جعلات كثيرة بعدد أنفاس المكلّفين ، لكن ذاك الجعل الواحد يكون حجّة بحكم العقل والعقلاء لكلّ من كان مصداقا للعنوان.

__________________

(١) كما في مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٨.

٥٦

ففيه ما لا يخفى ، فإنّ الماهيّة من حيث هي لا تكون مطلوبة ، إذ لا غرض في طلبها ، بل المطلوب هو الماهيّة المفروضة الوجود ، والماهيّة تحكي عن وجودات أشخاصها بما هي منشأ لانتزاع الماهيّة عنها ، لا بما هي متّحدة مع الخصوصيّات والعوارض. وعليه ، فلا مانع من حكايتها وكون الجعل جعلات كثيرة. هذا مضافا إلى أنّه لو سلّمنا بعدم الحكاية ، فحكم العقل بكونه حجّة على كلّ من كان مصداقا للعنوان كاف في كون الحكم في كلّ مورد شرعيّا ، لأنّ المدرك هو العقل والمدرك ـ بالفتح ـ شرعيّ للملازمة بين حكم العقل والشرع ، ويشهد لكونه حكما شرعيّا جواز جريان الاستصحاب في حكم الأفراد. وعليه ، فما في مناهج الاصول محلّ نظر وإشكال ، فلا وجه لإنكار الترتّب بدعوى خروج الموارد المتزاحمة عن مورد الحكم الشرعيّ ، إذ هو واحد ولا مزاحمة بين الأحكام المتعلّقة بالماهيّات الكلّيّة (١).

ثمّ إنّ الأمر الترتّبي واقع في الخطابات العرفيّة وفي جملة من المسائل الفقهيّة ، وهما أدلّ دليل على الإمكان الوقوعيّ ، إذ الشيء ما لم يكن ممكنا وقوعا لا يقع ، وحيث وقع علم أنّه ممكن وقوعا ، لأنّا نقول إنّ الإمكان الذاتيّ ينكشف من الخطابات العرفيّة والمسائل الفقهيّة حتّى يشكّل ذلك بأنّ من استحال الترتّب ذكر لا محالة حيلة لهذه الموارد. ومجرّد تلك الأمثلة مع استحالة الترتّب لا يكفي في رفع الاستحالة ، بل اللازم هو توجّهها بنحو لا ينافي برهان الاستحالة ، إذ المراد من التمسّك بهما هو الإمكان الوقوعيّ بعد الفراغ عن مرحلة الإمكان الذاتي فلا تغفل. وممّا ذكر يظهر ما في بحوث علم الاصول : ج ٢ ص ٣٣٧ فراجع.

التنبيه الثاني : أنّ صاحب الكفاية أورد على القائل بالترتّب بأنّ الأمر بكلّ من الضدّين بناء على الترتّب أمر مولويّ فعليّ ، ومن شأن هذا الأمر هو استحقاق

__________________

(١) راجع مناهج الاصول : ٢٣ ـ ٣٠ ، وفرائد الاصول : ج ٢ ص ١٥١.

٥٧

العقاب على عصيانه عقلا ، كما من شأنه الثواب على امتثاله ؛ فالتفكيك بين الملزوم ولازمه أو بين لازمين بيّنين لملزوم واحد لا يصدر من أحطّ أهل العلم درجة ، فكيف بهؤلاء الأعلام القائلين به!

ولو كان على يقين ممّا نقله عن سيّده الاستاذ لكان هو الثقة الصدوق الذي لا يرتاب أحد في صحّة نقله ، وأمّا إذا كان على شكّ منه ـ ونحن قاطعون ببراءة عالم مثله عن مثله ـ بل لا بدّ للقائل بالترتّب من الالتزام بعقوبات متعدّدة إذا ترتّبت أوامر كذلك ، وما ذكر من قبح العقاب على ما لا يقدر. انتهى.

أورد عليه سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّا لا نستوحش من أن يكون مخالفة الأمرين المترتّبين موجبة لشدّة العقاب أو طول مدّته ، إذ فرق واضح بين من أتى بالمهمّ ولم يأت بالأهمّ وبين من لم يأت بشيء منهما ، لأنّ الثاني فوّت الغرضين من المولى ، بخلاف الأوّل فإنّه لم يفوّت إلّا أحد الغرضين ؛ وتعدّد العقاب بهذا المعنى أمر متصوّر يقتضيه الفرق المذكور. وأمّا بمعنى الآخر فليس له وجه ، إذ العذاب الاخرويّ لا يقاس بضرب الأسواط في عالمنا حتّى يقال إنّ من عصى الأمرين يضرب عليه سوطين ، بل يعذّب هناك بعذاب شديد أو أطول ، انتهى.

قال في الوقاية : إنّ القدرة حاصلة على كلّ من الضدّين وإلّا لامتنع أصل التكليف. وقد فرغنا عن إثبات إمكانه وكلام صاحب الكفاية على فرض تسليم الإمكان ، أمّا القدرة على الأهمّ فحاصلة بالفرض ، وأمّا على المهمّ فهي أيضا حاصلة على تقدير ترك الأهمّ ، وهي كافية لتصحيح العقوبة ، كما كانت كافية لأصل التكليف. ولا دليل على لزوم القدرة أزيد من ذلك ـ إلى أن قال ـ : والسرّ فيه أنّ المناط في صحّة التكليف والعقاب على العصيان ليس القدرة على المجموع ، بل على الجميع ؛ وهي

٥٨

حاصلة على كلّ واحد من الأفعال على تقدير ترك الغير (١).

ومثله ما في المناهج ، حيث قال في استحقاق العقاب المتعدّد في التكليفين الفعليّين المتساويين في الجهة والمصلحة والمختلفين في الأهمّيّة ، ومع عدم اشتغاله بأحدهما ، لا يكون معذورا في ترك واحد منهما ، فإنّه قادر على إتيان كلّ واحد منهما ، فتركه يكون بلا عذر ، فإنّ العذر عدم القدرة ، والفرض أنّه قادر على كلّ منهما ، وإنّما يصير عاجزا عن عذر إذا اشتغل بإتيان أحدهما ومعه معذور في ترك الآخر ، وأمّا مع عدم اشتغاله به فلا يكون معذورا في ترك شيء منهما ؛ والجمع لا يكون مكلّفا به حتّى يقال إنّه غير قادر عليه ، وهذا واضح بعد التأمّل وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ ؛ فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ لعدم القدرة عليه مع اشتغاله بضدّه بحكم العقل ، وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعليّ ، لكن لا يكون معذورا في ترك الأهمّ ، فيثاب بإتيان المهمّ ويعاقب بترك الأهمّ ، الخ (٢). ظاهره تعدّد العقاب لو لم يأت بالأهمّ والمهمّ أصلا.

يمكن أن يقال إنّ التخيير العقليّ لا يزيد على التخيير الشرعيّ ؛ فكما أنّ ترك كلّ واحد في التخيير الشرعيّ لا يوجب تعدّد العقاب ، كذلك في التخيير العقليّ ، وهكذا عند ترجيح طرف بالنسبة إلى آخر. وتوقّف فعليّة الآخر على عدم تأثير الراجح لا يوجب تركهما تعدّد العقاب ، لأنّ التعدّد لا يوافق مع توقّف أحدهما على عدم تأثير الراجح. نعم ، من لم يأت بشيء من الأمرين. يعاقب بأشدّ ممّن لم يأت بالأهمّ وأتى بالمهم ، لأنّه تدارك ما فات بقدر ما أتى بخلاف من لم يأت بشيء من الأمرين ويبعد تعدّد العقاب أنّه لو ترك شخص جميع الواجبات الكفائيّة التي لا تقدّر على جميعها ، بل

__________________

(١) الوقاية : ص ٣١٣ ـ ٣١٥.

(٢) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٩ ـ ٣٠.

٥٩

أكثرها ، بل الزائد من واحد منها ، لزم أن يقال إنّه عوقب بتعداد الواجبات الكفائيّة ؛ لأنّه لو اشتغل بواحد منها كان معذورا من البقيّة ، وحيث لم يشتغل كان قادرا بالنسبة إلى كلّ واحد منها ، فيعاقب على تركها. ومن المعلوم أنّ الالتزام بذلك خلاف ما عليه ارتكاز العقلاء في العقوبات لعدم القدرة على جميعها وإن قدر عليها بنحو العموم البدلي.

حكي عن المحقّق النائيني قدس‌سره أنّه قال : إنّ العقاب الثاني ليس على عدم الجمع بين الضدّين حتّى يقال إنّه غير مقدور ، بل العقاب على الجمع بين المعصيتين ، وقد كان مقدورا للمكلّف أن لا يجمع بين المعصيتين فيما لو جاء بالأهمّ (١).

وحسّنه ومحّصه الشهيد الصدر قدس‌سره حيث قال : إنّ الميزان في صحّة العقاب أن يكون التخلّص من المخالفة مقدورا للمكلّف ، وأمّا أن يكون الفعل والامتثال مقدورا فهو شرط في معقوليّة التكليف وعدم لغويته.

ومن الواضح أنّه في المقام يكون التخلّص من مخالفة التكليفين بالأهمّ والمهمّ بنحو الترتّب مقدورا للمكلّف وإن لم يكن امتثالهما معا مقدورا له ، فيكون تعدّد العقاب في محلّه.

نعم ، يشترط في تحقّق المعصية عندنا أن يكون مخالفا للتكليف المولويّ بنحو يؤدّي إلى تفويت الملاك عليه ، لا مجرّد مخالفة الخطاب المولويّ. وعليه ، فلو كان الخطابان الترتبيّان فعليّين من حيث الملاك ، أي لم يكن الاشتغال بأحدهما رافعا للآخر ملاكا فلا يستحقّ المكلّف أكثر من عقاب واحد ، لأنّه لم يفوّت باختياره إلّا ملاكا واحدا ، وأمّا الملاك الآخر فقد كان فائتا عليه لا محالة. فلا بدّ من التفصيل بين الحالتين.

__________________

(١) بحوث في علم الاصول : ج ٢ ص ٣٦٢.

٦٠