عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلام من قال لا إله إلّا الله من أعدل الشواهد على ذلك والقول بأنّ ذلك للقرينة أو أنّها تدلّ على التوحيد شرعا بمكان من السخافة (١).

وتقريب الاستدلال أنّ كلمة لا إله في جملة لا إله إلّا الله تنفي طبيعة الآلهة وكلمة إلّا الله فيها تثبت فردا واحدا فقط منها وهو الله سبحانه وتعالى وليس هذا إلّا الدلالة على التوحيد والاخلاص ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل عنهم مدلول كلامهم بحسب المحاورات العرفيّة لا المدلول الشرعيّ كما لا يخفى إذ دلالة هذه الجملة على التوحيد والإخلاص مبتنية على ما مرّ من تبادر الحصر والاختصاص وقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعنى الظاهر العرفيّ شاهد على التبادر وعليه فلا يكون في الحقيقة دليلا غير التبادر ولعلّ قول الشيخ يؤول إليه حيث قال وقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلام من قال لا إله إلّا الله من أعدل الشواهد على ذلك انتهى. كما أنّ تسمية كلمة لا إله إلّا الله بكلمة الإخلاص أيضا من شواهد التبادر المذكور.

أورد عليه في الكفاية بإمكان أن يكون دلالتها على التوحيد بقرينة الحال أو المقال (٢).

وفيه أنّ دعوى القرينة سواء كانت حالا أو مقالا لا تساعد مع كون ظهور الكلمة في التوحيد والإخلاص مبتنيا على التبادر ولعلّه لذلك قال في الدرر أنّ القول بأنّ هذه الدلالة في كلّ مورد كانت مستندة إلى قرينة خاصّة بعيد غاية البعد بل المقطوع به خلافه كالقطع بخلاف أنّ هذه الكلمة كانت سببا لقبول الإسلام شرعا مع قطع النظر عن مدلولها هذا وهذا الاستدلال وإن كان حسنا لكن لا يحتاج إليه بعد كون المعنى الذي ذكرناه متبادرا قطعيّا من القضيّة (٣).

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨٥.

(٢) الكفاية : ج ١ ص ٣٢٧.

(٣) الدرر : ج ١ ص ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

٥٠١

ولا يخفى عليك أنّ قبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرع التبادر المذكور وليس هو دليلا آخر وبالجملة قبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من قال كلمة لا إله إلّا الله وأيضا تسمية الكلمة المذكورة بكلمة الإخلاص والتوحيد من شواهد تبادر الاختصاص والحصر من الاستثناء.

ثمّ إنّه وقع الكلام في أنّ المستفاد من كلمة التوحيد هو توحيد الذات أو توحيد المعبود ذهب الشيخ الأعظم قدس‌سره إلى الأوّل وقال في مقام إثباته واندفاع هذا الإشكال وهو أنّ إثبات عنوان الإلهيّة لله تعالى أمّا أن يكون بالفعل أو بالإمكان فعلى الأوّل لا يدلّ على نفي إمكان الغير وعلى الثاني لا يدلّ على ثبوت العنوان له تعالى فعلا بأنّ الأوجه على ما صرّح به بعض المحققين أنّ المنساق من ذلك ليس إلّا إثبات عنوان الإلهيّة لله تعالى فعلا وأمّا نفي إمكان غيره فإنّما هو بواسطة ملازمة واقعيّة بينهما ولا يضرّ خفاء تلك الملازمة فإنّ ما اختفى منهما إنّما هو الالتفات إليها تفصيلا بمعنى عدم الشعور بعلمها وأمّا العلم بنفس الملازمة فإنّما هو ممّا فطره الله تعالى عليه عامّة الخلق ـ إلى أن قال ـ وعلى تقدير الاختفاء فلا مانع من القول بكفاية ذلك في الحكم بالإسلام سيّما في صدر الإسلام كما صرّح به جماعة (١).

وتبعه في الكفاية أيضا حيث قال : والإشكال في دلالتها عليه بأنّ خبر لا إمّا يقدر ممكن أو موجود وعلى كلّ تقدير لا دلالة لها عليه أمّا على الأوّل فإنّه حينئذ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى لا وجوده وأمّا على الثاني فلأنّها وإن دلّت على وجوده تعالى إلّا أنّه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر.

مندفع بأنّ المراد من الإله هو واجب الوجود ونفي ثبوته ووجوده في الخارج وإثبات فرد منه فيه وهو الله يدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨٦.

٥٠٢

تبارك وتعالى ضرورة أنّه لو لم يكن ممتنعا لوجد لكونه من أفراد الواجب (١).

وهو جيّد ولكنّه لا يختصّ ذلك بما إذا كان الخبر هو موجود كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ.

حيث قال ولا يخفى عليك أنّ الملازمة الواقعيّة كما تكفي مع تقدير الخبر موجود فكذلك تكفي مع تقدير الخبر ممكنا لأنّ ما لا يمتنع أن يكون فردا للواجب بالذات يجب وجوده حيث لا جهة امتناعيّة فلا يقاس بغيره حيث لا يلازم الإمكان مع فعليّة الوجود بل يجتمع مع عدمه لعدم العلّة بل مع امتناعه فعلا للامتناع الوقوعيّ الجامع مع الإمكان الذاتيّ (٢).

وكيف كان فهذا البيان يكفي في دلالة كلمة الإخلاص على التوحيد الذاتيّ.

أورد عليه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بأنّ الأجوبة الدقيقة الفلسفيّة وإن كانت صحيحة لكنّها بعيدة عن أذهان العامّة فابتناء قبوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تلك الدقائق التي قصرت أفهام الناس عنها مقطوع العدم (٣).

اللهم إلّا أن يقال : إنّ القبول يكفيه الارتكاز وإن لم يكن القائل قادرا على البيان المبتني على الدقائق وارتكاز وحدة الخالق والواجب موجود في الآحاد كما هو المفروض ويشهد له تخصيصهم خلقة السماوات والارض بالله تعالى عند السؤال عن خالقهما.

وأمّا ما أورده شيخنا الأستاذ الأراكيّ قدس‌سره من أنّ لفظ الإله ليس بحسب اللغة واجب الوجود بل يطلق على المعبود والمناسب أن يراد به هاهنا المعبود بالحقّ لئلّا

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٣٢٧.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٨٠.

(٣) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٢٦.

٥٠٣

يلزم الكذب من حصره فيه تعالى (١).

ففيه أنّ لفظة الإله ربما استعملت في المحاورات في معنى واجب الوجود وإن لم تستعمل في أصل اللغة ولعلّ من هذا الباب قوله تعالى (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في آيات من القرآن الكريم كقوله (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) ـ إلى أن قال عزوجل ـ : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) ـ إلى أن قال ـ : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) ـ إلى أن قال ـ : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) ـ إلى أن قال ـ : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ـ إلى أن قال ـ : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ)(٢)

وقوله تعالى أيضا في سورة القصص (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ)(٣).

وعليه فلا مانع من أن يكون المراد من الإله في كلمة التوحيد هو الواجب فتفيد كلمة الإخلاص التوحيد الذاتيّ كما لا يخفى ومن المعلوم أنّ التوحيد الذاتيّ يتعقّبه التوحيد في العبادة إذ لا يستحقّ للعبادة إلّا الواجب المتعال.

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره أفاد بيانا يدلّ على كلا الأمرين أي التوحيد الذاتيّ والتوحيد في العبادة حيث قال : إنّ الإله بمعنى المستحقّ للعبادة وإن لم يعبد بالفعل راجع إلى الصفات الذاتيّة الراجعة إلى نفس الذات فإنّ استحقاق العبادة من أجل المبدئيّة والفيّاضيّة فيستحقّ العلّة انقياد المعلول لها وتخضعه لها فنفي فعليّة هذا المعنى في غيره تعالى لعدم كونه بذاته مبدأ مقتضيا لذلك ويستحيل أن ينقلب عمّا هو

__________________

(١) أصول الفقه : ج ١ ص ٢٧٤.

(٢) النمل : ٦٠ ـ ٦٤.

(٣) القصص : ٧٠ ـ ٧١.

٥٠٤

عليه (١).

وهو أيضا بيان تامّ يفيد التوحيد في وجوب الوجود والتوحيد في استحقاق العبادة اللهم إلّا أن يقال إنّه بعيد عن الأذهان ولذلك ذهب في نهاية الأصول إلى أنّ العرب في صدر الإسلام لم يكونوا مشركين في أصل واجب الوجود بحيث يعتقدون وجود آلهة متعدّدة في عرض واحد بل كانت صفات الألوهيّة ثابتة عندهم لذات واحدة وإنّما كانوا مشركين في العبادة حيث كانوا يعبدون بعض التماثيل التي ظنّوا أنّها وسائط بينهم وبين الله وكانوا يعتقدون استحقاقها للعبوديّة أيضا كما يشهد بذلك قوله تعالى حكاية عنهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) فكلمة الإخلاص وردت لردعهم عن ذلك فمعناها نفي استحقاق العبوديّة عمّا سواه كما يشهد بذلك معنى كلمة «إله» فإنّها بمعنى المعبود وبالجملة كلمة الإخلاص لإثبات التوحيد في العبادة لا في الألوهيّة إذ التوحيد في أصل الألوهيّة كان ثابتا عندهم قبل الإسلام أيضا فافهم (٢).

وتبعه سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال : ويمكن أن يقال إنّ عبدة الأوثان في زمانه كانوا معتقدين بالله تعالى لكن جعلوا الأوثان وسائط له وكانوا يعبدونها لتقرّبهم إلى الله تعالى فقبول كلمة التوحيد إنّما هو لأجل نفي الآلهة (أي المعبودين) لا إثبات وجود الباري تعالى فإنّه كان مفروغا عنه (٣).

ومن المعلوم أنّ الاعتقاد بوحدة الألوهيّة والمفروغيّة بالنسبة إلى توحيد وجود الباريّ تعالى يكفي في واجب الاعتقاد ولا يلزم أن يكون عندهم مدلّلا بالأدلّة الفلسفيّة بل يكفي تطابقه مع الواقع وهذا الاعتقاد حاصل ومفروغ عنه ولا نزاع بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين المشركين في ذلك وإنّما النزاع في وحدة المستحقّ للعبادة وهذا هو

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٨١.

(٢) نهاية الأصول : ج ١ ص ٣١٣.

(٣) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٢٦.

٥٠٥

الذي اختاره سيدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره.

ولكنّ بعد لا يخلو هذا المعنى عن الإشكال أيضا وهو أنّ دلالة كلمة التوحيد على اعتقاد القائل بوحدانيّة الواجب المتعال لا تختصّ بجماعة المشركين المعاصرين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين اعتقدوا بوجود الخالق الأصليّ والواجب المتعال بل هي دالّة عليها ولو كانت صادرة من غيرهم من الطوائف والملل الذين لم يعتقدوا بوجود الخالق أصلا كالمادّيين كما يقتضيه إطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا.

ولذلك أورد في تحريرات في الأصول عليه بقوله ضرورة أنّ هذه الكلمة تقبل شهادة من الكافر الجاحد المنكر الدهريّ وتكفي لترتّب أحكام الإسلام عليها إذا اقترنت بالشهادة الثانيّة فلا تخصّ بتلك الطائفة بالقطع والنصّ فما ارتضاه الأعلام السيّدان البروجرديّ والوالد والعلّامة المحشّي عفى عنهم لا يخلو من غرابة أيضا (١).

وعليه فما ذهب إليه الشيخ الأنصاريّ وتبعه صاحب الكفاية من أنّ المراد من الإله هو واجب الوجود والمقصود من كلمة الإخلاص هو التوحيد الذاتيّ ويتبعه العباديّ أو ما ذهب إليه المحقّق الأصفهانيّ من أنّ الاستحقاق للعبادة راجع إلى الصفات الذاتيّة يكون أظهر وأشمل وإنّ كان البيان التفصيليّ لهما بعيدا عن بعض الأذهان.

وعليه فكلمة لا إله إلّا الله تدلّ على التوحيد الذاتيّ والعباديّ مطلقا سواء من المشرك المعتقد بالله تعالى أو من الكافر الجاحد لله تعالى كما يقتضيه إطلاق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ مفاد «إلّا» في الجمل الاستثنائيّة ليس إلّا الإخراج من المستثنى منه حكما وأمّا إثبات الحكم المخالف لمدخولها فهو لازم الإخراج وتخصيص

__________________

(١) تحريرات في الأصول : ج ٥ ص ١٧٦.

٥٠٦

الحكم بالمستثنى منه.

قال المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره إنّ الإخراج ليس عين معنى سلب المجيء عن زيد مثلا بل لازمه ذلك كما أنّ عدم الوجوب بعدم المجيء لازم العلّيّة المنحصرة لا عين معناها إذ العلّيّة هي المدخليّة ولازم المدخليّة على وجه يخصّ بشيء عدم المعلول بعدمه لا أنّ العلّيّة متقوّمة بالوجود عند الوجود والعدم عند العدم ضرورة أنّ العلّيّة من المفاهيم الثبوتيّة فتوهّم أنّ ما يسمّى مفهوما عند القوم منطوق على القول به غفلة (١).

وعليه فالاستثناء في مثل جاءني القوم إلّا زيدا يدلّ على الإخراج واختصاص المجيء بالمستثنى منه ولازم ذلك هو سلب المجيء عن زيد في مثل جاءني القوم إلّا زيدا.

وحيث إنّ سلب المجيء عن المستثنى يكون من لوازم الإخراج فلا يكون الدلالة عليه بالمنطوق بل تكون بالمفهوم وعليه فلا وجه لقول صاحب الكفاية بأنّه لو كانت الدلالة في طرف المستثنى بنفس الاستثناء لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق هذا مضافا إلى ما فيه من جعل الدالّ على الحصر هو الجملة المشتملة على الاستثناء لا نفس الاستثناء مع أنّ الموضوع للحصر هو نفس الاستثناء لا الجملة المشتملة عليه فلا تغفل وكيف كان فقد أفاد في الكفاية أنّه لا ثمرة في النزاع بين أن تكون الدلالة بالمنطوق أو المفهوم بعد ما كان الملاك في التقديم عند تعارض المنطوق والمفهوم هو أقوائيّة الدلالة لا مجرّد المنطوقيّة أو المفهوميّة فتدبّر جيّدا.

أورد عليه بأنّ الحقّ أنّ هذا البحث له أثر عمليّ كبير ونستطيع أن نقول إنّ المهمّ في مبحث الاستثناء هو هذا الأمر وذلك لأنّه إذا كان ثبوت الحكم في المستثنى من باب المفهوم وكونه لازم الخصوصيّة الثابتة لحكم المستثنى منه فمع الشكّ في سعة

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٨١.

٥٠٧

الحكم في المستثنى وضيقه لا طريق لدينا لإثبات سعته إذ لا معنى للإطلاق فيه بعد إن كان مدلولا التزاميّا.

وهذا بخلاف ما لو كان الحكم مدلولا للمنطوق فإنّه يمكن التمسّك بإطلاقه في إثبات سعة الحكم وما يصلح مثالا لما نحن فيه قوله عليه‌السلام لا تعاد الصلاة إلّا من خمس فإنّه مع الشكّ في ثبوت الإعادة من جهة هذه الخمس في بعض الحالات فإن كان ثبوت الإعادة فيها بالمفهوم لا مجال لإحرازه في مورد الشكّ ولو علم نفي الإعادة بنحو مطلق في طرف المستثنى منه إذ لعلّ الاستثناء من حيث المجموع لا من حيث كلّ فرد فرد وأمّا إذا كان ثبوت الإعادة فيها بالمنطوق أمكن التمسّك بإطلاق الكلام في إثباته في مورد الشكّ فإنّه نظير ما لو قال : لا تعاد الصلاة من كذا وكذا وتعاد من خمس (١).

ويمكن أن يقال : إنّ احتمال كون الاستثناء من حيث المجموع جار على كلّ تقدير سواء كان ثبوت الحكم في المستثنى من باب المفهوم أو من باب المنطوق فكما أنّه يرفع بمقدّمات الإطلاق فيما إذا كان من باب المنطوق ويمنع احتمال مدخليّة المجموع فكذلك يكون فيما إذا كان من باب المفهوم لأنّ الخصوصيّة الثابتة لحكم المستثنى منه المستتبعة للمفهوم مستفادة من الاستثناء أيضا وعليه فاحتمال مدخليّة المجموع في الخصوصيّة المذكورة مندفع بإطلاق الاستثناء على كلا التقديرين لأنّه يحتاج إلى مئونة زائدة وهي ملاحظة المجموع.

وعليه فلا يترتّب أثر على النزاع المذكور فضلا عن أن يكون أثرا مهمّا.

نعم هنا ثمرة أخرى تترتّب على أنّ الحصر هل يكون مستفادا من مجموع الاخراج المستفاد من لفظة إلّا والعموم المستفاد من المستثنى منه أو يكون مستفادا من نفس لفظة «إلّا» وهي على ما أفادها شيخنا الأستاذ الأراكيّ قدس‌سره أنّه إن كان الأوّل

__________________

(١) منتقى الأصول : ج ٣ ص ٢٨٩.

٥٠٨

يجوز ورود التخصيصات المتعدّدة على الحصر المذكور فإنّه يرجع الإخراج مع العموم إلى انحصار الخارج في مثل قولهم جاءني القوم إلّا زيدا في زيد وإنّ ما عداه داخل في القوم ومحكوم بحكمه فليس في البيّن إلّا عامّ قد خصّ بفرد وهو زيد فيمكن حينئذ أن يرد على العامّ المذكور أيضا تخصيصات بغيره.

وأمّا إن كان الثاني أي كان الحصر مستفادا من نفس «إلّا» فهو كأنّه يقال الزيد خارج وليس غيره فحينئذ يكون ورود دليل آخر لخروج غيره منافيا مع هذا الحصر كما ينافي مع عموم المستثنى منه ولا يتوهّم أنّه أيضا عموم لأنّه عنوان الحصر المنحلّ إلى العموم لا أنّه ابتداء عموم فمع المنافاة مع الحصر فاللازم في مقام العلاج عند تعدّد الاستثناء هو حمل الحصر على الحصر الإضافيّ أو على الحصر غير المشوب بالكراهة بحسب اختلاف الموارد كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ الأراكي قدس‌سره في مقام الجمع بين الأدلة الدالّة على حصر العيوب المجوّزة لفسخ نكاح المرأة في الأربعة من البرص والجذام والجنون والعفل مع أدلّة أخرى تدلّ على جواز الفسخ بالإفضاء والعرج والعمى بحمل الأربعة على حصر الجواز الغير المشوب بالكراهة دون غيرها (١).

ولكنّ لقائل أن يقول إنّ مفاد الاستثناء هو إخراج مدخوله كزيد وليس غيره مستفادا من إطلاق المدخول وعليه فكما يمكن ورود التخصيصات بالنسبة إلى عامّ قد خصّ بفرد وهو زيد فكذلك يمكن تقييد إطلاق المدخول بورود مخصّصات أخرى وحمل الحصر على الإضافيّ لازم على كلا التقديرين فلا ثمرة مهمّة في ذلك لأنّ مرجع التخصيصات إلى تخصيص العامّ أو تقييد إطلاق المدخول فتدبّر جيّدا.

ومنها كلمة «إنّما» وهي على المعروف تكون من أداة الحصر مثل كلمة «إلّا» فإذا استعملت في حصر الحكم أو الصفة في موضوع معين دلّت بالملازمة البيّنة على

__________________

(١) راجع كتاب النكاح : ص ٤٥٧ ـ ٤٥٩.

٥٠٩

انتفائه عن غير ذلك الموضوع.

والدليل عليه هو التبادر العرفيّ عند أهل العرف المستعمل مضافا إلى تصريح أهل اللغة كالأزهريّ بذلك مع دعوى عدم الخلاف عن بعض بل الإجماع كما عليه أئمّة التفسير أيضا.

وحكى عن المبرّد في جواب من سأله عن اختلاف قولهم إنّ زيدا قائم وإنّما زيد قائم أنّ الأوّل إخبار عن قيامه فقط (بخلاف الثاني فإنّه إخبار بذلك) مع اختصاصه به وظاهره اختلاف المدلول باختلاف الدلالة وأيّد ذلك بدعوى التبادر عند استعمال تلك اللفظة.

أورد عليه الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره بأنّ الإنصاف أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك فإنّ موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتّى يستكشف منها ما هو المتبادر منها بخلاف ما هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة قطعا لبعض الكلمات العربيّة كما في أداة الشرط.

وأمّا النقل المذكور فاعتباره في المقام موقوف على اعتبار قول اللغويّ في تشخيص الأوضاع على تقدير أن لا يكون ذلك منهم اجتهادا ولم يثبت ذلك إلّا على تقدير اعتبار مطلق الظنّ كما قرّر في محلّه وقد يتمسّك بأنّ العلماء لا يزالون يتمسّكون بحديث إنّما الأعمال بالنيّات لفساد العمل بلا نيّة كاعتمادهم على قوله وإنّما الولاء لمن أعتق في مثله وهو لا يجدي شيئا.

إذ بعد الغضّ عمّا فيه لا يزيد عن مجرّد الاستعمال (١).

وتبعه شيخنا الأستاذ الأراكيّ قدس‌سره حيث قال قد ينكر دلالة كلمة «إنّما» على الانحصار وغاية الأمر أنّ تأكيدها أزيد من تأكيد «إنّ» الخاليّة عن «ما» وربما يشهد

__________________

(١) مطارح الأنظار : ص ١٨٦.

٥١٠

تعبيرنا في الفارسيّة عن معناها بقولنا : (اين است وجز اين نيست) فإنّه لا يستفاد منه إلّا زيادة تأكيد بدون استفادة الانحصار (١).

ويمكن الجواب عنه أوّلا كما في الكفاية بأنّ السبيل إلى التبادر لا ينحصر بالانسباق إلى أذهاننا فإنّ الانسباق إلى أذهان أهل العرف أيضا سبيل (٢).

ولعلّه يكفي لإثبات التبادر عند أذهان عرف المحاورة ما حكي عن أهل الأدب العربيّ في التفاسير من الأقوال والأشعار فإنّها توجب الاطمئنان بذلك.

قال في مجمع البيان : لفظة إنّما مخصّصة لما أثبت بعده ونافية لما لم يثبت يقول القائل لغيره إنّما لك عندي درهم فيكون مثل أن يقول إنّه ليس لك عندي إلّا درهم وقالوا إنّما السخاء حاتم يريدون نفي السخاء عن غيره والتقدير إنّما السخاء سخاء حاتم فحذف المضاف والمفهوم من قول القائل إنّما أكلت رغيفا وإنّما لقيت اليوم زيدا نفي أكل أكثر من رغيف ونفي لقاء غير زيد.

وقال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر

أراد نفي العزّة عمّن ليس بكاثر (٣).

وقال الزمخشريّ في ذيل قوله تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) ومعنى إنّما اختصاصهم بالموالاة (٤).

والظاهر من عبارة المجمع والكشّاف وغيرهما أنّ «إنّما» تدلّ على الحصر عند

__________________

(١) كتاب النكاح : ص ٤٥٧.

(٢) الكفاية : ج ١ ص ٣٢٨.

(٣) مجمع البيان : ج ٣ ص ٢٠٩.

(٤) الكشّاف : ج ١ ص ٦٢٣.

٥١١

استعمال أبناء المحاورة كما يشهد له الاستشهاد بالأقوال والأشعار المذكورة.

وثانيا : بأنّ عدم اعتبار قول اللغويين في تشخيص الأوضاع لأنّهم يذكرون نوعا موارد الاستعمال ولا ينظرون إلى كونها حقيقة أو مجازا لا ينافي حصول الوثوق بذلك من نقلهم في بعض الموارد في الجملة ولعلّ المقام من جملة هذه الموارد قال في تاج العروس وأنّ المفتوحة فرع عن أنّ المكسورة فصحّ أنّ إنّما تفيد الحصر كأنّما ـ إلى أن قال ـ : ومعنى إنّما إثبات لما يذكر بعدها ونفي لما سواه ثمّ زاد.

وفي الصحاح إذا زدت على «إنّ» «ما» صار للتعيين كقوله تعالى إنّما الصدقات للفقراء والمساكين لانّه يوجب إثبات الحكم للمذكور ونفيه عمّا عداه ، انتهى.

واجتمعا في قوله تعالى (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فالأولى لقصر الصفة على الموصوف والثانية لعكسه أي لقصر الموصوف على الصفة وقول من قال من النحويين إنّ الحصر خاصّ بالمكسورة وإليه أيضا يشير نصّ الجوهريّ مردود (١).

ولا يخفى عليك أنّ قوله ومعنى إنّما إثبات لما يذكر بعدها ونفي لما سواه ظاهر في أنّه في مقام بيان معنى إنّما عند أبناء المحاورة لا ما فهمه باجتهاده من عبائرهم وهكذا قول الصحاح إذا زدت على «إنّ» «ما» صار للتعيين ظاهر في إنّه كذلك عند أبناء المحاورة.

وثالثا : بأنّ ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من أنّه لا يستفاد من قولنا (اين است وجز اين نيست) إلّا زيادة تأكيد بدون استفادة الانحصار منظور فيه لأنّ العبارة المذكورة تدلّ على الحصر ولعلّه يرجع إلى الذي أشار إليه في تاج العروس من أنّ معنى إنّما إثبات لما يذكر بعدها ونفي لما سواه وهكذا إن قلنا بأنّ معنى كلمة انّما في اللغة

__________________

(١) تاج العروس : ج ٩ ص ١٢٩.

٥١٢

الفارسيّة هو (تنها).

ورابعا : إنّ بعض المصرّحين بأنّ لفظة إنّما تدلّ على الحصر كانوا أنفسهم من أهل اللسان وهم كثيرون من أهل الأدب والتفسير واللغة وعلم الأصول كالأعشى أحد المعروفين من شعراء الجاهليّة والمبرّد البصريّ ومن جملتهم الشهيد الصدر قدس‌سره حيث قال : فمن جملة أدوات الحصر كلمة (إنّما) فإنّها تدلّ على الحصر وضعا بالتبادر العرفيّ (١).

هذا مضافا إلى غيرهم ممّن سكنوا البلاد العربيّة سنوات متمادية بحيث كانوا يعدّون من أهل اللسان كالأزهريّ الهرويّ وغيره.

فانقدح ممّا ذكر أنّه لا وقع لما يقال من أنّ التبادر غير ثابت بعد ما عرفت من تصريح اللغويين والمفسّرين وأهل الأدب بظهور الكلمة في الحصر.

قال في المحاضرات : وقد نصّ أهل الأدب أنّ كلمة (إنّما) من أداة الحصر وتدلّ عليه هذا مضافا إلى أنّه المتبادر منها أيضا نعم ليس لها مرادف في لغة الفرس على ما نعلم حتّى نرجع إلى معنى مرادفها في تلك اللغة لنفهم معناها نظرا إلى أنّ الهيئات مشتركة بحسب المعنى في تمام اللغات مثلا لهيئة اسم (الفاعل) معنى واحد في تمام اللغات بشتّى أنواعها وكذا غيرها وهذا بخلاف الموادّ فإنّها تختلف باختلاف اللغات وكيف كان فيكفي في كون هذه الكلمة أداة للحصر ومفيدة له تصريح أهل الأدب بذلك من جهة والتبادر من جهة أخرى ثمّ إنّها قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة وقد تستعمل في عكس ذلك وهو الغالب وعلى الأوّل فهي تستعمل في مقام التجوّز أو المبالغة كقولنا (إنّما زيد عالم أو مصلح) أو ما شاكل ذلك مع أنّ صفاته لا تنحصر به حيث إنّ له صفات أخرى غيره ولكنّ المتكلّم بما أنّه بالغ فيه وفرض

__________________

(١) الحلقة الثالثة : ج ١ ص ١٨١.

٥١٣

كأنّه لا صفة له غيره فجعله مقصورا عليه ادّعاه.

وعلى الثاني فهي تفيد الحصر كقولنا إنّما الفقيه زيد مثلا وإنّما القدرة لله تعالى وما شاكل ذلك ـ إلى أن قال ـ : فالنتيجة أنّ هذه الكلمة غالبا تستعمل في قصر الصفة على الموصوف وهي تفيد الحصر عندئذ نعم قد تستعمل للمبالغة في هذا المقام أيضا وعندئذ لا تدلّ على الحصر (١).

ولقد أفاد وأجاد إلّا أنّ ظاهره أنّ تصريح أهل الأدب دليل آخر مع أنّه ليس كذلك بل هم يشيرون إلى التبادر عند أهل اللسان ثمّ إنّ استعمال كلمة إنّما في قصر الموصوف وإن لم يفد الحصر الحقيقيّ بل المقصود هو الحصر الادّعائيّ والإضافيّ في مقام المبالغة والتجوّز ولكنّه حاك عن كون الكلمة موضوعة للحصر الحقيقيّ كما لا يخفى.

وكيف كان فقد استدلّ الفخر الرازيّ على عدم إفادة إنّما للحصر بقوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) مع أنّه لا شكّ في أنّ الحياة الدنيا لها أمثال أخرى ولا تنحصر بهذا المثل.

وبقوله تعالى (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) مع أنّه لا شكّ في أنّ اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها ويمكن الجواب عنه أوّلا بأنّ الاستعمال بالقرينة في غير المعنى الموضوع له لا ينافي تبادر معناه عند أهل اللسان كما أنّ استعمال الأمر في غير الوجوب لا ينافي تبادر الوجوب منه.

وعليه فلا ضمير في استعمال كلمة إنّما في الآية الأولى في مجرّد التأكيد بقرينة أنّ للحياة الدنيا أمثال أخرى.

وثانيا : بأنّ كلمة إنّما استعملت في الآية الأولى في الحصر الإضافيّ والمراد هو

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ١٤٠ ـ ١٤١.

٥١٤

نفي ما توهّمه أهل الدنيا بالنسبة إلى الدنيا وإفادة الحصر الإضافيّ والادّعائيّ بكلمة «إنّما» تكون ناشئة عن كون الكلمة موضوعة للحصر الحقيقي كما لا يخفى.

وثالثا : بأنّ كلمة إنّما في الآية الثانية تفيد الحصر الحقيقيّ كما أفاده في المحاضرات حيث قال : إنّ المراد من الحياة في الآية الثانية هي الحياة الدانية فالدنيا صفة لها وهي تنحصر باللعب واللهو يعني أنّ الحياة الدنيّة في هذه الدنيا هي اللعب واللهو بمقتضى دلالة كلمة إنّما إلى أن قال الآية في مقام بيان حصر الحياة الدنيا بهما لا حصرهما بها فلا يكون حصولهما في غير الحياة الدنيا يعني الحياة الأخرويّة مانعا من دلالة الآية على الحصر (١).

ورابعا : بالنقض بكلمة إلّا مع أنّه لا شبهة في دلالتها على الحصر فيما إذا استعملت في مثل ما ذكر ولم يقل أحد بأنّ ذلك مضرّ بإفادتها للحصر ألا ترى قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) فإذن فما هو الجواب هناك هو الجواب في المقام فإن أجيب عن ذلك بأنّ هذا من ناحية قيام قرينة خاصّة فنقول بعين ذلك في المقام فلا تغفل.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ إنّما تدلّ على تخصيص الحكم أو الصفة بالموضوع أو الموصوف في مثل إنّما مجتهد زيد بالمطابقة وتدلّ على نفي الاجتهاد عن غير زيد بالمفهوم إذ لازم تخصيص الاجتهاد بزيد هو نفيه عن غيره كما أنّ إنّما تدلّ على تخصيص موضوع بصفة في مثل إنّما زيد كاتب بالمطابقة وتدلّ على نفي اتّصافه بغيرها من الصفات بالمفهوم إذ لازم تخصيص الموضوع بالصفة هو ذلك وبالجملة كلمة إنّما تدلّ على خصوصيّة هي تدلّ على نفي الصفة أو الحكم أو الموضوع بالدلالة الالتزاميّة وعليه فالحصر مفهوم من دلالة إنّما على الخصوصيّة المذكورة وبهذا الاعتبار صحّ

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

٥١٥

إدراجه في مبحث المفاهيم فلا تغفل.

ومنها كلمة «بل» الإضرابيّة قال في الكفاية أنّ الإضراب على أنحاء : منها ما كان لأجل أنّ المضرب عنه إنّما أتى به غفلة أو سبقه به لسانه (كقوله اشتريت دارا بل دكّانا) فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه فلا دلالة له على الحصر أصلا فكأنّه أتى بالمضرب إليه ابتداء كما لا يخفى ؛ ومنها ما كان لأجل التأكيد (كقوله قدم ركبان الحجّاج بل المشاة) فيكون ذكر المضرب عنه كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه فلا دلالة له عليه أيضا ؛ ومنها ما كان في مقام الردع وإبطال ما أثبت أوّلا كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) فيدلّ عليه وهو واضح (١).

والحاصل أنّ كلمة بل موضوعة لمعان ومشتركة بينها فالدالّ على الحصر هو القسم الأخير منها.

وتبعه المحقّق العراقيّ حيث قال : ومثل «إنّما» في الدلالة على المفهوم كلمة «بل» الإضرابيّة فيما جيء للأعراض عن حكم ما سبق لا غلطا أو سهوا إذ يستفاد منها اختصاص سنخ الحكم بما يتلوها (٢).

قال سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره ربما تكون كلمة بل مستعملة في مقام إثبات الحكم لشيء آخر زائدا على الموضوع السابق مثل جاء غلام زيد بل زيد.

وربما تكون مستعملة للترقّي مثل يجوز صلاة الجمعة بل تجب فلا تفيد الحصر في الصورتين المذكورتين.

وربما تكون مستعملة لابطال السابق وإثبات اللاحق والداعي من هذا الاستعمال على أنحاء : منها الغفلة ومنها التوطئة ومنها التوضيح ومنها إبطال ما سبق وإثبات اللاحق ولا إشكال في أنّ بل الإضرابية ظاهرة في القسم الأخير لأنّ احتمال

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٣٢٩.

(٢) نهاية الأفكار : ص ٥٠٢.

٥١٦

الغفلة وسبق اللسان مندفع بأصالة عدم السهو والخطأ كما أنّ احتمال التوطئة مندفع بأصالة الجدّ فما لم تقم قرينة خاصّة على الأمور المذكورة فالظاهر من كلمة بل هو إبطال ما سبق وتخصيص الحكم بما يتلوها وهذا التخصيص يفيد الحصر فكلمة بل وإن كانت مشتركة بين المعانيّ المذكورة ولكنّها ظاهرة في القسم الأخير من دون حاجة إلى قيام القرينة بعد جريان أصالة عدم السهو والخطأ وأصالة الجدّ وعليه فلا وقع لما يقال من أنّ بعد صحّة استعمال كلمة بل في غير القسم الأخير فلا محالة يحتاج استفادة القسم الأخير منها إلى القرينة هذا ولكنّ الإنصاف أنّ إفادة القسم الأخير للحصر تتوقّف على إحراز كون المتكلّم في مقام تخصيص سنخ الحكم بمدخول بل لا الحكم المذكور في شخص القضيّة أو على إحراز كونه في مقام تخصيص الفرد الخاصّ بخصوصه من بين الأفراد بالحكم أو الصفة وهو محتاج إلى القرينة وإلّا فشأن كلمة بل ليس إفادة الحصر وإفادة الحصر في مثل جاءني القوم بل زيد من جهة كون القوم اسم الجمع فإبطال مجيء القوم وهو اسم الجمع وإثبات المجيء لزيد يفيد الحصر لا من جهة كلمة بل فتدبّر.

ومنها إفادة الحصر من ناحية تعريف المسند إليه بلام الجنس مع حمل المسند الاخص عليه كقوله عزوجل الحمد لله.

قال في الكفاية والتحقيق أنّه لا يفيده إلّا فيما اقتضاه المقام لأنّ الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس كما أنّ الأصل في الحمل في القضايا المتعارفة هو الحمل المتعارف الذي ملاكه مجرّد الاتّحاد في الوجود فإنّه الشائع فيها لا الحمل الذاتيّ الذي ملاكه الاتّحاد بحسب المفهوم كما لا يخفى وحمل شيء على جنس وماهيّة كذلك لا يقتضي اختصاص تلك الماهيّة به وحصرها عليه نعم لو قامت قرينة على أنّ اللام للاستغراق أو أنّ مدخوله أخذ بنحو الإرسال والإطلاق أو على أنّ الحمل كان ذاتيّا

٥١٧

لا قيد حصر مدخوله على محموله واختصاصه به (١).

حاصله أنّ إفادة الحصر إمّا من ناحية لام الجنس أو من ناحية الحمل وشيء منهما لا يفيد الحصر أمّا اللام فلأنّ الأصل فيه وإن كان إنّه لتعريف الجنس ولكنّ الجنس بنفسه لا يفيد الحصر إلّا أن يقوم قرينة على أنّ المراد منه هو الجنس المطلق أو الاستغراق.

كقرينة المقامية مثل كون الحمد واردا في مقام الشكر على نعم الله وآلائه ومن المعلوم أنّه يقتضي انحصار مبنى الحمد به جلّ وعلا وأمّا الحمل فالأصل فيه هو أن يكون حملا شائعا صناعيّا واللازم فيه هو التغاير المفهوميّ والاتّحاد الوجودي وذلك لا يقتضي الحصر فقولنا الإنسان زيد لا يفيد الحصر ولا يمنع اتّحاده مع زيد عن اتّحاده مع غيره من سائر الأفراد هذا.

أورد عليه سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّ ظاهر المبتدأ والخبر أنّ المبتدأ لا يوجد بدون الخبر فإذا اكتفى بواحد من الأخبار دون غيره يفيد لام الجنس الحصر وعليه فإن كان المسند إليه أعمّ من المسند كما إذا كان المراد منه الجنس لا ينفكّ الجنس عن المسند ويختصّ به ولا يصحّ ذلك فيما إذا كان المسند أخصّ إلّا أن يكون المقصود هو الحصر الادّعائيّ فالحصر من لوازم حمل الأخصّ على الأعمّ ولو كان الحمل حملا شايعا صناعيّا فالحمل في مثل الحيوان إنسان أو الإنسان زيد لا يصحّ إلّا إذا كان المقصود أنّ حقيقة الحيوان لا تتجاوز عن الإنسان ادّعاء أو حقيقة الإنسان لا تتجاوز عن زيد ادّعاء من جهة المبالغة أو غيرها نعم لو كان اللام للعهد الذكريّ كان المقصود من المسند إليه هو الإشارة إلى شخص معهود.

فلا يستفاد من حمل المسند عليه حصر لأنّه ليس من باب حمل الأخصّ

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٣٣٠.

٥١٨

على الأعمّ.

وعليه فلا حاجة في إفادة الحصر إلى إثبات الاستغراق أو الإرسال لما ذكرناه من أنّ المسند إليه إذا كان أعمّ من المسند فلا يصحّ الحمل إلّا إذا كان المقصود هو الحصر.

لا يقال إنّ غاية التقريب المذكور هو إفادة الحصر الادّعائيّ لا الحصر الحقيقيّ لأنّا نقول : إنّ منشأ الحصر الادّعائيّ هو ظهور اللفظ والجملة في الحصر الحقيقيّ وحيث لا يمكن الالتزام بالحصر الحقيقيّ في المورد يحمل على الحصر الادّعائيّ حتّى يحصل بذلك المدح.

فمثل الإنسان زيد يكون في مقام حصر الإنسانيّة في زيد والمقصود منه هو المدح عنه ولا يخفى عليك أنّه يمكن استفادة الحصر الحقيقيّ أيضا فيما إذا أمكن الحصر الحقيقيّ مثل الحمد لله أي جنس الحمد ثابت لخصوص الله تعالى وهو يفيد الحصر الحقيقيّ إذ يمكن إثبات جنس الحمد لله تعالى حقيقة لأنّه الأصل في كلّ محمود فلا وجه لتخصيص الحصر بالحصر الادّعائيّ هذا مضافا إلى أنّ استفادة الحصر لا تختصّ بما إذا كانت النسبة هي العموم والخصوص المطلق بل تعمّ ما إذا كانت النسبة هي العموم من وجه كقوله الأئمّة من قريش فإنّ قريش أعمّ من الأئمّة والأئمّة أعمّ بحسب اللغة من قريش ومع ذلك يفيد قوله الأئمّة من قريش الحصر أي جنس الأئمّة في الإسلام كائنة في قريش خاصّة وكيف كان فلا وجه لإنكار دلالة لام الجنس على الحصر كما يظهر من الكفاية.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره ذهب إلى إفادة الحصر بتقريب آخر وهو أنّ المعروف بين أهل الميزان ولعلّه كذلك عند غيرهم أيضا أنّ المعتبر في طرف الموضوع هو الذات وفي طرف المحمول هو المفهوم حتّى في الأوصاف العنوانيّة المجعولة موضوعات في القضايا فالقائم مثلا وإن كان مفهوما كلّيّا لم يؤخذ فيه ما يوجب اختصاصه بشخص خاصّ إلّا أنّ جعله موضوع القضيّة حقيقة لا بعنوان

٥١٩

تقديم الخبر فاعتباره موضوعا اعتباره ذاتا فهو بما هو ذات واحدة لا يعقل أنّ تعرضه خصوصيّات متباينة كخصوصيّة الزيديّة والعمرويّة والبكريّة بل لا يكون الواحد إلّا معروضا لخصوصيّة واحدة فاعتبار المعنى الكليّ ذاتا بجعله موضوعا وفرض المحمول أمرا غير قابل للسعة والشمول هو المقتضى للحصر دائما لا تقديم الخبر ولا تعريف المسند إليه بمعنى إدخال اللام عليه فتأمّل (١).

ولا يخفى عليك أنّ ملاحظة الكلّيّ ذاتا واعتباره فردا يحتاج إلى مئونة زائدة وقرينة خاصّة واعتبار ذلك في جميع موارد اللام للجنس التي لا يرى فيها إلّا الجنس في غاية الإشكال ولعلّ وجه التأمّل هو ذلك وعليه فتقريب سيّدنا الأستاذ أولى.

وممّا ذكر يظهر أنّه لا وجه لتعليق إفادة الحصر على ما إذا كان اللام للاستغراق أو إرادة الطبيعة المرسلة من مدخوله حتّى يقال إنّ كلّ من الأمرين غير ثابت لأنّ الأصل في اللام أن تكون لتعريف الجنس فلا دلالة على الحصر وذلك لما عرفت من أنّ لام الجنس تفيد الحصر بالتقريب المذكور كما لا وجه لتعليق إفادة الحصر في الحمل على الحمل الأوّليّ الذاتيّ حتّى يقال إنّ الأصل في الحمل في القضايا المتعارفة هو الحمل الشائع الصناعيّ وهو لا يفيد الحصر وذلك لما عرفت من أنّ نفس الحمل الشائع الصناعيّ مع لام الجنس يفيد الحصر بالتقريب المذكور ثمّ إنّ المقصود في المقام إنّما هو بيان أنّ تعريف المسند إليه بلام الجنس وحمل المسند عليه يفيد الحصر الحقيقيّ فيما إذا أمكن الحصر الحقيقيّ وعليه فإذا وردت رواية مشتملة على ذلك يحكم بعدم تجاوز المسند إليه عن المسند كما في قولك الأئمّة من قريش أو قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) نعم لو كان المورد ممّا لم يمكن فيه الحصر الحقيقيّ يحكم فيه بالحصر الادّعائيّ فلا تغفل.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ١ ص ١٨٢.

٥٢٠