عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الأحواليّ بالنسبة الى العموم الأفراديّ أو كتفرّع إطلاق الحكم على إطلاق الموضوع فإذا كان الموضوع عاما كان الحكم عامّا وإذا كان الموضوع خاصّا كان الحكم خاصّا والمفروض أنّ المقدّم مطلق ويدلّ على السببيّة المطلقة لكلّ فرد فرد من السبب والسرّ في ذلك هو طوليّة الحكم بالنسبة إلى الموضوع وهذه الطوليّة موجودة في الجزاء بالنسبة إلى المقدّم كما لا يخفى وبالجملة فمقتضى ظهور أدلّة الأسباب في الانحلال وأنّ كلّ فرد فرد سبب مستقلّ لترتّب الأثر عليه هو تعدّد المسبّب لأنّ القضيّة الشرطيّة ترجع إلى قضيّة حقيقيّة والقضيّة الحقيقيّة نحلّ موضوعها إلى موضوعات متعدّدة.

والمفروض في المقام أنّ الموضوع ليس هو صرف الوجود بل هو كلّ وجود وعليه فأداة الشرطيّة تفيد السببيّة في مطلق وجود الموضوع والجزاء تابع له في العموميّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى اجتماع أسباب متعدّدة من جنس واحد أو اجتماع أسباب متعدّدة من أجناس مختلفة مع كونها مذكورة متّصلة.

وأمّا إذا اجتمعت أسباب متعدّدة من أجناس مختلفة مع انفصال القضايا فلا إشكال في انعقاد الظهور في كلّ واحد من القضايا الشرطيّة بالنسبة إلى المقدّم والتالي إذ لا طوليّة بين جزاء كلّ قضيّة مع مقدّم قضيّة اخرى حتّى يكون ظهوره تبعا لذاك فوقع التعارض بينهما ودعوى صاحب الكفاية عدم الظهور في الجزاء في هذه الصورة كما ترى. لأنّ كلّ قضيّة تدلّ على سببيّة شيء لوجوب وجود واحد من طبيعة المتعلّق مثلا إذا قيل : إذا جامعت في يوم شهر رمضان فكفّر وإذا استمنيت في يوم شهر رمضان فكفّر كان مقتضى كلّ قضيّة هو البعث نحو وجود واحد من الكفّارة ولا تفرّع حينئذ لظهور الجزاء في كلّ قضيّة بالنسبة إلى المقدّم في القضيّة الاخرى وعليه فكلّ جزاء انعقد ظهوره في اقتضاء وجوب وجود واحد من الكفّارة ودعوى عدم انعقاد الظهور في الجزاء حينئذ غير مقبولة.

٤٠١

نعم يمكن دعوى أخرى كما في نهاية الدراية وهي أنّ اقتضاء كلّ واحد لا يعارض مع اقتضاء الآخر لأنّ البعث المتعلّق بالطبيعة يقتضي وجودا واحدا من الطبيعة ولا يقتضي عدم البعث إلى وجود آخر بل هو بالاضافة إلى وجود آخر بوجوب آخر لا اقتضاء والبعث الآخر مقتضى لوجود آخر فإنّ الإيجاد الآخر يقتضي وجودا آخر (١).

وعليه فلا تعارض بين الاقتضاء واللااقتضاء بهذه الملاحظة وإن انعقد الظهور في كلّ قضيّة لا يقال : انّ أخذ الوحدة في متعلّق البعث في كلّ واحد من الجزاء يعارض سببيّة شيء آخر لأنّ مقتضى سببيّة غير واحد هو تعدّد الجزاء وهو لا يساعد مع وحدة الجزاء.

لأنّا نقول : أنّ الوحدة لو كانت مأخوذة في المتعلّق كان كذلك ولكنّه ليس كذلك إذ المراد من الجزاء هو البعث نحو وجود المتعلّق وهذا البعث يقتضي امتثاله ، والامتثال يتحقّق بوجود واحد من المتعلّق وقد عرفت أنّ الاقتضاء بالنسبة إلى وجود واحد من المتعلّق لا يستلزم عدم البعث إلى وجود آخر بل هو بالإضافة إلى وجود آخر بوجوب آخر يكون لا اقتضاء وعليه فكيف ينافي الوحدة الجائيّة من حيث المطلوبيّة بالطلب المتعلّق به مع تعدّد السبب المستفاد من تعدّد القضيّة الشرطيّة.

نعم الوحدة الاسميّة غير صحيحة ضرورة أنّ كل قضية ليست ناظرة إلى قضيّة أخرى حتّى يكون مفادها تقييد المتعلّق بقيد الآخر.

ولذلك قال في نهاية الدراية إنّ كلّ قضيّة مفادها التحريك إلى وجود واحد من الإكرام فنفس التحريك (الثاني) تحريك آخر فيقتضي حركة أخرى لتلازم التحريك والحركة لا أنّ المتعلّق مقيّد بالآخر ضرورة أنّ كلّ قضيّة ليست ناظرة إلى قضيّة

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٧٠.

٤٠٢

أخرى حتّى يكون مفادها البعث إلى إكرام آخر.

فإن قلت : إطلاق الدليلين للبعث نحو وجود واحد من الطبيعة بلحاظ شمول كلّ واحد منهما للأفراد البدليّة أمّا بنحو التخيير العقليّ أو التخيير الشرعيّ يقتضي اجتماع المثلين في كلّ واحد من الأفراد البدليّة فيكون كالبعثين التعيّنيّين نحو واحد معين.

قلت : لا شبهة في ارتفاع المنافاة بتقييد الوجود الواحد من الطبيعة بالآخر عرفا بأن يقال : إن جامعت في يوم شهر رمضان فكفّر وإن استمنيت في شهر رمضان فكفّر كفّارة أخرى هذا مضافا إلى أنّ الأشكال المذكور يندفع عن التخيير العقليّ لتعلّق الحكم بوجود الطبيعة بنحو اللابشرطيّة عن الخصوصيّات البدليّة وتجويز تطبيقه على الأفراد البدليّة بحكم العقل الذي ليس من قبيل البعث والزّجر بل مجرّد الإذعان بقبول الانطباق على كلّ فرد وحصول الامتثال به (١).

حاصله أنّ الحكم الشرعي متعلّق بنفس وجود الطبيعة بنحو اللابشرطيّة فلا تخيير فيه بحسب الشرع كما أنّ تجويز التطبيق عقلا أيضا ليس حكما عقليّا فلا تخيير لا شرعا ولا عقلا حتّى يجتمع المثلان باعتبارهما في الأفراد البدليّة.

والتهافت بين القضيّتين من ناحية أنّ كلّ جزاء بعث إلى وجود الطبيعة يرتفع بالجمع العرفيّ بينهما بتقييد الوجود الواحد من الطبيعة بالآخر فلا يجتمعان في الوجود الواحد من الطبيعة كما لا يجتمعان في الأفراد البدليّة بعد ما عرفت من أنّه لا تخيير شرعا ولا عقلا.

قال المحقّق النائينيّ قدس‌سره : إنّ تعلق الطلب بشيء لا يقتضي إلّا إيجاد ذلك الشيء خارجا ونقض عدمه المطلق وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على أوّل وجود من

__________________

(١) راجع نهاية الدراية ج ٢ ص ١٧٠ ـ ١٧١ مع توضيح وتغيير ما.

٤٠٣

وجودات الطبيعة يكون الإتيان به مجزيّا في مقام الامتثال عقلا وأمّا توهّم أنّ ذلك من جهة تعلّق الطلب بصرف الوجود وصدقه على أوّل الوجودات فهو فاسد إذ لا موجب لأخذ صرف الوجود في متعلّق الطلب بعد عدم كونه مدلولا عليه بالهيئة ولا بالمادّة ضرورة ان المادة لم توضع إلّا لنفس الماهيّة المعرّات عن الوجود والعدم وأمّا الهيئة فهي لا تدلّ إلّا على طلب إيجادها ونقض عدمها المطلق الصادق قهرا على أوّل الوجودات.

وليس هناك ما يدلّ على اعتبار صرف الوجود في متعلّق الطلب غير صيغة الأمر المفروض عدم دلالتها على ذلك هيئة ومادّة وعليه فالطلب لا يرد على صرف الوجود المأخوذ في المتعلق في مرتبة سابقة على عروض الطلب عليه بل الطلب هو بنفسه يقتضي إيجاد متعلّقه خارجا ونقض عدمه المطلق.

فإذا فرض تعلّق طلبين بماهيّة واحدة كان مقتضى كلّ منهما إيجاد تلك الماهيّة فيكون المطلوب في الحقيقة هو إيجادها ونقض عدمها مرّتين.

كما هو الحال بعينه في تعلق إرادتين تكوينيّتين بماهيّة واحدة فتعدّد الإيجاد تابع لتعدّد الإرادة ـ إلى أن قال ـ : فإذا فرض ظهور القضيّة الشرطيّة في الانحلال وتعدّد الطلب أو فرض تعدّد القضيّة الشرطيّة في نفسها كان ظهور القضيّة في تعدّد الحكم موجبا لارتفاع موضوع الحكم بوحدة الطلب أعني به عدم المقتضي للتعدّد وواردا عليه.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا ظهور الجزاء في وحدة الطلب لكان ذلك من جهة عدم ما يدلّ على التعدّد فإذا دلّت الجملة الشرطيّة بظهورها في الانحلال أو من جهة تعدّدها في نفسها على تعدّد الطلب كان هذا الظهور لكونه لفظيّا مقدّما على ظهور

٤٠٤

الجزاء في وحدة الطلب فيكون مقتضى القاعدة حينئذ عدم التداخل (١).

كلامه قدس‌سره وان لم يكن خاليا عن بعض المناقشات الجزئيّة لأنّ ظهور الشرط لو لم يكن وضعيّا فلا وجه لتقدّمه على ظهور الجزاء لعدم المرجّح إلا أنّه صحيح من جهة حكم العرف بالبناء على الجمع بينهما بحمل كلّ واحد على الاقتضاء النسبيّ فيرتفع التهافت والتعارض كما أفاد سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ لحاظ صرف الوجود في الجزاء لو كان ليس إلّا من جهة سبب نفسه ولا نظر فيه إلى غيره من الأسباب ، وعليه فإذا كانت الأسباب متعدّدة وكان الجزاء قابلا للتكرار لزم تكراره لأنّ كل واحد من الأسباب يقتضي وجوده هذا بخلاف ما إذا لم يكن سبب مذكورا فإنّ تكرار نفس الأمر لا يدلّ إلّا على التأكيد ولا أقلّ من الشكّ في التأسيس والتأكيد في الأمر المكرّر من دون ذكر سبب فمقتضى البراءة هو عدم لزوم التكرار.

فتحصّل أنّ صرف الوجود المطلق غير ملحوظ في الجزاء حتّى لا يساعد تكراره وإلّا خرج عن المقام لأنّ البحث فيه بعد إمكان تكرار الجزاء وصرف الوجود المطلق لا يقبل التكرار وصرف الوجود النسبيّ لا مانع من تكراره وهو في الحقيقة كالوجود فكما أنّ وجود الطبيعة قابل للتكرار فكذلك صرف الوجود النسبيّ وتعدّد السبب المدلول عليه بالانحلال أو الوضع في المقدّم يقتضي تعدّد وجود الطبيعة في الجزاء كما يتعدّد الفعل بتعدد الفاعل أو الأسباب الطبيعيّة.

وبالجملة إذا كانت الدلالة على التعدّد في السبب وضعيّا مع اتّصال القضايا فلا إشكال في تقدّمها على إطلاق الجزاء بل لا ينعقد الإطلاق في المتّصل لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في الجزاء مع وجود القرينة على التقييد وهو الدلالة في المقدّم وإذا كانت الدلالة المذكورة لمقدّمات الإطلاق فهي أيضا مقدمة على إطلاق الجزاء لتفرّع

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ١١٩ ـ ١٢١.

٤٠٥

إطلاق الجزاء على المقدّم كتفرّع الحكم على الموضوع أو كتفرّع الإطلاق الأحواليّ على العموم الأفراديّ وعليه فلا تعارض في الصورتين.

وإذا كانت الدلالة على التعدّد وضعيّا أو إطلاقيّا مع انفصال القضايا فلا معارضة أيضا وإن كان الظهور في كلّ واحد منها منعقدا وذلك لعدم كون كلّ واحد اقتضائيّا إلّا بالنسبة إلى جزائه فبعد وجود الأسباب المتعدّدة يحمل كلّ جزاء على صرف الوجود النسبيّ أو الوجود بحكم العرف ولا منافاة بينها حينئذ كما لا يخفى.

وممّا ذكر يظهر ما في مناهج الوصول في فرض تعدّد الأسباب وانفصال القضايا وكون الدلالة بمقدّمات الإطلاق حيث قال : كما أنّ مقتضى إطلاق الشرطيّة من كلّ من القضيّتين هو كون الشرط مستقلا علّة للجزاء كذلك إطلاق الجزاء يقتضي أن تكون الماهيّة المأخوذة فيه كالوضوء في المثال تمام الموضوع لتعلّق الإيجاب بها فيكون الموضوع في القضيّتين نفس طبيعة الوضوء فحينئذ يقع التعارض بين إطلاق الجزاء في القضيّتين مع إطلاق الشرط فيهما وبتبعه يقع التعارض بين إطلاق الشرطيّتين فيدور الأمر بين رفع اليد عن إطلاق الشرط وحفظ إطلاق الجزاء وبين رفع اليد عن إطلاق الجزاء بتقييد ماهيّة الوضوء وحفظ إطلاق الشرط ولا ترجيح بينهما لأنّ ظهور الإطلاقين على حدّ سواء فلا يمكن أن يكون أحدهما بيانا للآخر.

إلى أن قال : إنّ المعارضة إنّما هي بين إطلاق الجزاء وإطلاق الشرط فإنّ الشرط كما يقتضي باطلاقه أن يكون مستقلا كذلك الجزاء يقضي بإطلاقه أن يكون متعلّق الوجوب نفس الماهيّة بلا قيد.

ومنه يظهر أنّ التعارض بين المقتضيين فقول القائل إنّ اللامقتضي لا يتعارض مع المقتضي كما ترى إلى أن قال ـ : وأمّا مقايسة العلل التشريعيّة بالتكوينيّة ففيها ما لا يخفى لأنّ المعلول التكوينيّ في تشخّصه ووجوده تابع لعلّته فلا محالة يكون في وحدته وكثرته كذلك.

٤٠٦

وأمّا الأسباب الشرعيّة فلم تكن بهذه المثابة ضرورة أنّ النوم والبول لم يكونا مؤثّرين في الإيجاب والوجوب ولا في الوضوء فالقياس مع الفارق ولا بدّ من ملاحظة ظهور الأدلّة ومجرّد هذه المقايسة لا يوجب تقديم أحدهما على الآخر بعد إمكان كون الوضوء مثلا بلا قيد مأخوذا في الجزاء أو مقيّدا.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما قيل من أنّ المحرّك الواحد يقتضي التحريك الواحد والمتعدّد المتعدّد كالعلل التكوينيّة فإنّ ذلك بمكان من الضعف فإنّ المحرّك أي البعث والأمر إذا تعلّق بماهيّة بلا قيد فمع تعدّده لا يعقل التكثّر بل لا توجب المحرّكات الكثيرة [نحو] ماهيّة واحدة إلّا التأكيد فقياس التشريع بالتكوين موجب لكثير من الاشتباهات فلا تغفل.

لكنّ بعد اللتيا والتي لا شبهة في أنّ فهم العرف مساعد على عدم التداخل وأن الشرطيّات المتعدّدة مقتضية للجزاء متعدّدا (١).

وجه الظهور ما عرفت في بحث متعلّق الأوامر من أنّ تعلّق الأمر بنفس الماهيّة غير معقول لعدم انقداح الإرادة بالنسبة إليها إذ الماهيّة ليست إلّا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة فلا وجه لدعوى تعلّق الإرادة والبعث بها وحكم العقل بتقدير الإيجاب لا مجال له بعد عدم معقوليّة تعلّق الإرادة بنفس الماهيّة بل تعلّقت الإرادة من أوّل الأمر بوجود الطبيعة والمراد بوجودها هو الوجود اللافراغيّ لا الوجود الخارجيّ إذ الخارج ظرف السقوط لا ظرف الثبوت.

ومن المعلوم أنّ وجود الطبيعة قابل للتعدّد والتكثّر بتعدّد الأسباب والشرطيّات المتعدّدة وليس الوجود كنفس الماهيّة حتّى لا يعقل التكثّر والتعدّد فيها فإذا كان الموضوع في الجزاء هو وجود الطبيعة لا نفس الماهيّة فلا يلزم التعارض.

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٠١ ـ ٢٠٤.

٤٠٧

لأنّ كلّ سبب يكون مقتضيا بالنسبة إلى وجود واحد من الماهيّة ولا يكون مستلزما لعدم البعث إلى وجود آخر بل هو بالنسبة إلى وجود آخر يكون لا اقتضاء وغير ناظر إليه وعليه فلا منافاة بينهما لأنّهما بالنسبة إلى الآخر لا اقتضاء واقتضاء الوحدة في ناحية جزاء كلّ سبب حيثيّ وليس بإطلاقيّ ولو من جهة سبب آخر وإلّا لزم أن يكون كلّ قضيّة ناظرة إلى قضيّة أخرى وهو ممنوع.

ودعوى أنّ إطلاق الجزاء يقتضي أن يكون متعلّق الوجوب نفس الماهيّة بلا قيد كما ترى فإنّ المتعلّق هو الوجود لا نفس الماهيّة والمراد من الوجود هو ما تتحقق الماهيّة به وهو وجود واحد من ناحية سببه.

ولا تعرض له بالنسبة إلى وجود آخر من ناحية سبب آخر حتّى يقال إنّ التعارض بين المقضيّين لا المقتضي واللااقتضاء فلا يدور الأمر بين رفع اليد عن إطلاق الشرط وبين رفع اليد عن إطلاق الجزاء لأنّ الإطلاق في ناحية الجزاء حيثيّ إذ لا نظر له إلى غيره والإطلاق الحيثيّ في ناحية الجزاء يجتمع مع تأثير سبب آخر في وجود آخر من الجزاء وعليه فالمقايسة بين تعدد الأسباب والشرطيّات الشرعيّة وبين الأسباب التكوينيّة ليست بمجازفة لأنّ الشرطيّات الشرعيّة إمّا بنفسها شرطيّات أو تكون كاشفات عنها والشارع لم يجعل إلّا الشرطيّات ولم يبيّن كيفيّة تأثيرها في معاليلها بل أحال ذلك إلى ما يعرفه العرف في العلل والأسباب التكوينيّة وعليه فتأثيرها كتأثيرها فإذا كانت كذلك فلا تكون المقايسة في غير محلّه.

وقد عرفت جواز تعلّق الإرادات المتعدّدة بوجود ماهيّة من الماهيّات وتأثير الفواعل الطبيعيّة في وجود معاليلها الطبيعيّة من دون لزوم تزاحم أو تعارض كما لا يخفى.

وبالجملة فعرف العقلاء بعد إحراز تعدّد الأسباب بالقضيّتين المنفصلتين يجمع بينهما بالقول بتأثير كلّ واحد من قبل نفسه في وجوب وجود الماهيّة لعدم دلالة كلّ

٤٠٨

على عدم وجود الآخر من ناحية أخرى وهذا هو الوجه في تحكيم إطلاق الشرط في كلّ قضيّة على إطلاق الجزاء في قضيّة أخرى.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ حمل السببيّة الجعليّة على الاقتضاء لا المؤثّريّة الفعليّة ودعوى أنّ الاستقلال في الاقتضاء لا يوجب تعدّد الجزاء لأنّ معنى استقلاله أنّ كلّ سبب بنفسه تمام المقتضي لا جزؤه ولا يتنافى الاستقلال في الاقتضاء والاشتراك في التأثير الفعلي كالعلل العقليّة إذا فرض اجتماعهما على معلول واحد فحينئذ مع حفظ إطلاق الجزاء واستقلال الشرطيّتين في الاقتضاء صارت النتيجة التداخل فالأولى في هذا المقام أيضا التشبّث بذيل فهم العرف تعدّد الجزاء لأجل مناسبات مغروسة في ذهنه ولهذا لا ينقدح في ذهنه التعارض بين إطلاق الجزاء وظهور الشرطيّة في التعدّد (١).

كما ترى وذلك لوضوح ظهور الشرط والسببيّة الجعلية في المؤثّريّة الفعليّة المستقلّة ولا يمنع عنه إطلاق الجزاء بعد كونه حيثيّا ولا نظر له إلى غير سببيّة المذكور بالتقريب الذي مرّ آنفا.

هذا مضافا إلى أنّ لازم ما ذكره هنا هو تقديم إطلاق الجزاء على إطلاق الشرط مع أنّه رحمه‌الله تعالى اعترف بأنّه لا ترجيح بين الإطلاقين.

فالأولى هو ما في محكيّ كلام الشيخ الأنصاريّ قدس‌سره من أنّ الأسباب الشرعيّة كالأسباب العقليّة فحينئذ لو كانت الأسباب الشرعيّة سببا لنفس الأحكام وجب تعدّد إيجاد الفعل فإنّ المسبّب يكون هو اشتغال الذمّة بإيجاده والسبب الثاني لو لم يقتض اشتغالا آخر فإمّا أن يكون لنقص في السبب أو المسبّب وليس شيء منهما.

أمّا الأوّل فمفروض وأمّا الثاني فلأنّ قبول الاشتغال للتعدّد تابع لقبول الفعل

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٠٨.

٤٠٩

المتعلّق به والمفروض قبوله للتعدّد واحتمال التأكيد مدفوع انتهى.

ودعوى أنّ قياس الأسباب الشرعيّة بالعقليّة مع الفارق (١).

مندفعة بما مرّ من أنّ بعد جعل الشارع شرطيّة شيء أو سببيّة لا مانع من القياس المذكور في كيفيّة التأثير لأنّ الشارع لم يجعل إلّا الشرطيّة والسببيّة وأحال كيفيّة تأثيرها إلى ما يعرفه العرف في العلل والأسباب التكوينيّة كما أنّ دعوى تحقق اشتغال آخر من السبب الثاني فرع تقديم الظهور التأسيسيّ على إطلاق الجزاء وهو ممنوع (٢).

مندفعة أيضا بما ذكره الشيخ قدس‌سره من أنّ السبب الثاني لو لم يقتض اشتغالا آخر فأمّا أن يكون لنقص في السبب أو المسبّب وليس شيء منهما أمّا الأوّل فلأنّ القضيّة الشرطيّة تدلّ على سببيّة الثاني وأمّا الثاني فلأنّ متعلّق الوجوب هو وجوب الطبيعة وهو قابل للتعدّد ومع إمكان ذلك لا وجه لترجيح التأكيد مع أنّه خلاف الظاهر.

وأيضا دعوى أنّه على فرض استقلال كلّ شرط في التأثير لا بدّ من إثبات المقدّمة الثانية أي كون أثر الثاني غير الأوّل ويمكن منع ذلك بأنّ يقال أنّ الأسباب الشرعيّة علل للأحكام لا لأفعال المكلّفين فتعدّدها لا يوجب إلّا تعدّد المعلول أي الوجوب مثلا فينتج التأكيد (٣).

مندفعة بما مرّ من أنّ متعلّق الوجوب ليس هو نفس الماهيّة حتّى يلزم حمل الوجوبين على التأكيد لوحدة المتعلّق بل المتعلّق هو وجود الماهيّة ووجود الماهيّة ممّا يقبل التعدّد فمع كون متعلّق الوجوب قابلا للتعدّد فلا مانع من تعدّد الوجوب ومقتضاه هو لزوم الإتيان مكرّرا والحمل على التأكيد وجواز الإتيان مرّة واحدة خلاف الظاهر

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٠٧.

(٢) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٠٧.

(٣) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٢٠٥.

٤١٠

وهذا أمر يعرفه العرف كما لا يخفى.

بطلان التفصيل بين اتّحاد الجنس وعدمه

وقد ظهر ممّا ذكرناه عدم الفرق بين اتّحاد الجنس وعدمه في أنّ مقتضى القاعدة هو عدم تداخل الأسباب لأنّ المناط في الجميع واحد وهو ظهور القضيّتين في تعدّد الأسباب فيما إذا كانت الأجناس مختلفة كما أنّ الجملة الشرطيّة فيما إذا كانت الأجناس واحدة ظاهرة في الطبيعة السارية وانحلال طبيعة الشرط إلى آحادها ومن المعلوم أنّ هذا مع ظهور الجملة الشرطيّة في كلتا الصورتين في الحدوث عند الحدوث يقتضي أنّ كلّ فرد فرد سبب مستقلّ لترتّب الأثر عليه من دون تداخل بعض في بعض.

ولا فرق فيه بين الإتيان بالجزاء قبل تكرر الشرط وبين عدمه مثلا لا فرق بين أن يكفّر بعد الجماع في يوم شهر رمضان أو لم يكفّر فإذا أتى بجماع آخر ولو قبل أداء كفّارة الأوّل كان مقتضى القاعدة هو تأثير الجماع الثاني كما أنّ بعد الجماع الأوّل لو استمنى كان مقتضى القاعدة هو تأثير الاستمناء بعد الجماع في يوم شهر رمضان وتداخل الأسباب مطلقا سواء كان الجنس واحدا أو لم يكن خلاف القاعدة نعم لو ثبت أنّ الشرط بوجوده الأوّليّ كان مؤثّرا فلا للوجود الثاني سواء كان متّحدا معه في الجنس أو لم يتّحد ولكن ذلك الفرض خارج عن مورد البحث لأنّ النزاع في التداخل وعدمه فرع وجود الأسباب المتعدّدة وأمّا إذا كان السبب واحدا وهو الوجود الأوّليّ فلا يتحقّق فيه الأسباب المتعدّدة حتّى يجري فيه البحث في أنّها تتداخل أو لم تتداخل.

وعليه فلا وقع لما حكي عن ابن إدريس قدس‌سره من أنّه قال في السرائر : فإن سها المصلّي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرّات كثيرة في صلاة واحدة أيجب عليه في كلّ مرّة سجدتا السهو أو سجدتا السهو عن الجميع قلنا : إن كانت المرّات من جنس واحد فمرّة واحدة يجب سجدتا السهو مثلا تكلّم ساهيا في الركعة الأولى

٤١١

وكذلك في باقي الركعات فإنّه لا يجب عليه تكرار السجدات بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب لأنّه لا دليل عليه ـ إلى أن قال : فأمّا إذا اختلف الجنس فالأولى عندي بل الواجب الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللفظ (١).

ودعوى أنّ الظاهر من تعليق الحكم في القضيّة الشرطيّة فيما إذا كانت وحدة الجنس هو تعليق الحكم على صرف وجود السبب لا كلّ فرد فرد من الطبيعة مندفعة بأنّ القضيّة الشرطيّة كالقضيّة الحمليّة في أنّ الطبيعة فيها سارية وعليه فتنحلّ موضوعها إلى موضوعات متعددة فتكون أدلّة الأسباب ظاهرة في أنّ كلّ فرد فرد سبب مستقلّ لترتّب الأثر عليه وهو مقتضى ترتيب الحكم على مجرّد وجود الطبيعة وتقييد وجود الطبيعة بصرف الوجود أو تقييد الطبيعة بشيء يرادف أوّل الوجود خلاف الظاهر ولا موجب للحمل عليه لأنّ التقييد ولو بالصرف يحتاج إلى مئونة زائدة فلا وجه للعدول عمّا يقتضيه ظاهر الكلام من ترتيب الحكم على مجرّد وجود الطبيعة ومن المعلوم أنّ ترتيب الحكم على مجرّد وجود الطبيعة يقتضي لا محالة تعدّده بتعدّد الوجود بنفسه كما يقتضيه ظهور الجملة في الطبيعة السارية ولذلك قال في الكفاية : إنّ قضية إطلاق الشرط في مثل إذا بلت فتوضّأ هو حدوث الوجوب عند كلّ مرّة لو بال مرّات (٢).

ومع الغمض عمّا في المثال المذكور يمكن أن يقال : أنّ وجه ذلك هو ما مرّ من أنّ القضيّة الشرطيّة ظاهرة في انحلال الحكم بانحلال شرطها فإنّ الشرط فيها بمنزلة الموضوع في القضيّة الحقيقيّة الحمليّة ولا شبهة في انحلال الحكم فيها بانحلال موضوعها وعليه فنتيجة ذلك هو تعدّد الحكم بتعدّد سببه وشرطه من دون فرق بين

__________________

(١) السرائر : ج ٥٥.

(٢) الكفاية : ج ١ ص ٣١٩.

٤١٢

أن يكون التعدّد بحسب الأفراد أو الأجناس كما في المحاضرات (١).

وممّا ذكر يظهر ما في نهاية النهاية حيث قال : سببيّة الطبيعة تارة تكون بسببيّة وجودها السعي واخرى تكون بسببيّة وجوداتها الخاصّة وظاهر تعليق الجزاء على الطبيعة هو الأوّل كما أنّ ظاهر توجيه التكليف إلى الطبيعة هو ذلك (٢).

وجه ذلك ما عرفت فإنّ اعتبار الوجود السعي بمعنى صرف الوجود أعني أوّل الوجود خلاف الظاهر لأنّ الظاهر ترتيب الحكم على مجرّد وجود الطبيعة لا على الوجود المقيّد فإنّه يحتاج إلى مئونة زائدة وبمعنى صرف الوجود الفلسفيّ بحيث لا يشذّ عنه وجود فهو واحد لا تعدّد فيه فهو وإن أمكن لحاظه ولكن لا يعقل تحقّقه في الخارج كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره حيث قال : إنّ تعليق الحكم عليه محال إذ لا يعقل تحقّقه في الخارج فلا يعقل تحقّق وجود النار مثلا بحيث لا يشذّ عنه نار وإن أمكن لحاظه بل المعقول منه الثابت في الخارج من الوجود الصرف هو وجود المبدا وفيضه المسمّى بالوجود المنبسط فإنّه الذي لا يتخلّل فيه غيره كما يعرفه الأوحدي من أهل المعرفة وقال أيضا في الذيل هذا مضافا إلى أن مجرّد وجوده يكفي في ترتّب الأثر ولو لم يكن صرف الوجود (٣).

وأيضا أن أراد صاحب نهاية النهاية من الوجود السعيّ عدم اعتبار الخصوصيّات المصداقيّة واعتبار نفس الوجود بعنوان المسبّب فهو كلام صحيح ولكنّ يتعدّد السبب بتعدّد الوجود نفسه كما يقتضيه الطبيعة السارية وان لم يكن للخصوصيّة مدخليّة.

وأمّا قياس ترتيب الحكم على طبيعة السبب بتعلّق الحكم بطبيعة شيء كما

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ١٢١.

(٢) نهاية النهاية : ج ١ ص ٢٦٦.

(٣) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٧٥.

٤١٣

ترى فإنّ في الأوّل جعل حكمه مترتّبا على كلّ فرد فرد من السبب ومقتضاه هو التعدّد هذا بخلاف الثاني فإنّه لا يعقل تعلّق الحكم بطبيعة شيء على نحو الاستغراق لعدم إمكان الامتثال هذا مضافا إلى عدم تعلّق الغرض به.

بطلان التفصيل بين كون الأسباب الشرعيّة معرّفات

أو مؤثّرات

ولا يذهب عليك أنّه نسب إلى فخر المحقّقين أنّه قال : إنّ القول بالتداخل وعدمه في الأسباب يبتني على كون العلل والأسباب الشرعيّة مؤثّرات أو معرّفات وكواشف فعلى الأول لا يمكن القول بالتداخل وعلى الثاني لا مانع منه حيث إنّ اجتماع معرّفات عديدة على شيء واحد بمكان من الوضوح (١).

أجاب عنه في الكفاية بأنّ المجديّ للقول بالتداخل هو أحد الوجوه التي ذكرناه (من الالتزام بعدم دلالة الجملة الشرطيّة على الحدوث عند الحدوث بل على مجرّد الثبوت أو الالتزام بكون متعلّق الجزاء والمسبّب وإن كان واحدا صورة إلّا أنّه حقائق متعدّدة وماهيّات متعدّدة حسب تعدّد الشرط ومتصادقة على واحد ومقتضاه هو تداخل الماهيّات المتصادقة كتداخل العالم والهاشمي في عالم هاشميّ أو الالتزام بحدوث الأثر عند وجود كلّ شرط إلّا أنّه وجوب الوضوء في المثال عند الشرط الأوّل وتأكّد وجوبه عند الآخر) لا مجرّد كون الأسباب الشرعيّة معرّفات لا مؤثّرات مع أنّ الأسباب الشرعيّة حالها حال غيرها في كونها معرّفات تارة ومؤثّرات اخرى

__________________

(١) هكذا في المحاضرات : ج ٥ ص ١١٣. ذيل قوله في القواعد لا تداخل في السهو وان اتفق السبب على رأي. أقول : ذهب الشيخ في المبسوط إلى التداخل مطلقا لتعلق وجوبهما على السهو من حيث هو هو والامر المعلق على شرط أو صفة لا يتكرر بتكرارها إلّا بدليل خارج وليس. وذهب ابن ادريس إلى التداخل في المتفق لا المختلف.

٤١٤

ضرورة أنّ الشرط للحكم الشرعيّ في الجملة الشرطيّة ربّما يكون ممّا له دخل في ترتّب الحكم بحيث لولاه لما جدت له علّة كما أنّه في الحكم الغير الشرعيّ قد يكون أمارة على حدوثه بسببه وإن كان ظاهر التعليق أنّ له الدخل فيهما كما لا يخفى.

نعم لو كان المراد بالمعرّفيّة في الأسباب الشرعيّة أنّها ليست بدواعي الأحكام التي هي في الحقيقة علل لها وإن كان لها دخل في تحقّق موضوعاتها بخلاف الأسباب الغير الشرعيّة فهو وإن كان له وجه إلّا أنّه مما لا يكاد يتوهّم أنّه يجدي فيما همّ وأراد (١).

وتوضيح ذلك أنّ الوجوه المذكورة التي أشير إليها كلّها خلاف الظاهر فالقول بالتداخل مستندا إليها غير وجيه.

وعليه فمقتضى القاعدة كما عرفت أنّ القضيّة الشرطيّة ظاهرة في الطبيعة السارية وتدلّ على حدوث الجزاء بحدوث كلّ فرد فرد من الطبيعة سواء كان الشرط سببا بنفسه أو كاشفا عن السبب وعليه فلا يوجب فرقا بين أن تكون الأسباب الشرعيّة معرّفات عن الأسباب أو تكون أسبابا بنفسها وعليه فلا يبتني مسألة التداخل وعدمه على كون الأسباب الشرعية معرّفات أو مؤثّرات حتّى يقال بالتداخل بناء على المعرّفيّة لإمكان أماريّة أمور متعدّدة على مؤثّر واحد وحكايتها عنه وبعدم التداخل بناء على المؤثّريّة لاقتضاء كلّ مؤثّر أثرا مستقلا.

إذ مجرّد معرفيّة الأسباب الشرعيّة لا تقتضي المصير إلى التداخل لا مكان معرّفيّة الأسباب الشرعيّة المتعدّدة لأسباب حقيقيّة متعدّدة.

لا يقال مجرّد الاحتمال لا يفيد للإثبات لأنّا نقول يكفي لإرادة الاحتمال المذكور ظهور الجملة الشرطيّة في الطبيعة السارية والحدوث عند الحدوث وتعدّد المسبّب

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٣١٩.

٤١٥

بتعدّد السبب فإنّ هذا الظهور يدلّ على تعدّد السبب الحقيقيّ المنكشف بالمعرّفات الشرعيّة فاختيار كون الأسباب الشرعيّة معرّفات لا يوجب القول بالتداخل بعد الاعتراف بظهور الجملة الشرطيّة في الطبيعة السارية وحدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه أو بكشفه عن سببه لأنّ مقتضاه هو تعدّد الشرط والسبب فيتعدّد الجزاء عند تعدّد الشرط والسبب هذا مضافا إلى أنّ حمل العناوين المأخوذة في لسان الأدلّة الشرعيّة على المعرّفات لا تساعده ظواهر الأدلّة حيث إنّ الظاهر منها أنّ العناوين المأخوذة في ألسنتها بأنفسها موضوعات للأحكام لا أنّها معرّفات لها (١).

ثمّ أنّه لا وجه لاختيار كون جميع الأسباب الشرعيّة معرّفات مع أنّ حالها حال غيرها من الأسباب العرفيّة في أنّها قد تكون مؤثّرة في ترتّب الحكم عليها بحيث لولاها لما وجدت للحكم علّة كقوله عليه‌السلام إذا شككت في الثلاثة والأربعة في الركعات فابن على الأكثر وقد تكون امارة على ما هو المؤثّر في الحكم كخفاء الجدران الذي يكون أمارة على البعد المخصوص الذي يترتّب عليه وجوب القصر اللهم إلّا أن يقال لم يظهر من قول فخر المحقّقين أنّه أختار كون جميع الأسباب الشرعيّة معرّفات.

نعم لو كان مراده من المعرّفيّة في الأسباب الشرعيّة أنّ الأسباب الشرعيّة لا تكون ملاكات للأحكام أعني به المصالح والمفاسد التي تدعو الشارع إلى جعل الأحكام بل تكون موضوعات للأحكام أو ممّا هو دخيل في قوامها كالأجزاء والشرائط فهو له وجه من جهة عدم كون الأسباب الشرعيّة من قبيل المصالح والمفاسد ولكنّ مع ذلك لا يجدي فيما أراده من ابتناء التداخل على المعرّفيّة وذلك لأنّ المراد من المعرّف حينئذ هو موضوع الحكم الشرعي أو ممّا له دخل فيه ومن المعلوم أنّ موضوع كلّ قضيّة سواء كانت القضيّة حملية أو شرطيّة هو طبيعة سارية إلّا إذا

__________________

(١) راجع المحاضرات : ج ٥ ص ١١٤ ـ ١١٥.

٤١٦

قامت قرينة على أنّ المراد هو صرف وجودها ومقتضاه أنّ كلّ فرد فرد من الموضوع يقتضي حدوث الجزاء.

وعليه فكون المراد من المعرّفية عدم كونها دواعي الأحكام وعللها من المصالح والمفاسد لا يجدي في مرام من ذهب إلى ابتناء مسألة التداخل وعدمه على المعرّفيّة فلا تغفل.

ولعلّه لذلك قال في المحاضرات إن أريد من كون الأسباب الشرعيّة معرّفات أنّ الأسباب الشرعيّة غير دخيلة في الأحكام الشرعية كدخل العلّة في المعلول فهو متين لما ذكرناه في بحث الشرط المتأخّر من أنّه لا دخل للأمور التكوينيّة في الأحكام الشرعيّة أصلا وإلّا لكانت تلك الأحكام معاصرة لتلك الأمور التكوينيّة ومسانخة لها بقانون التناسب والسنخيّة والحال أنّ الأمر ليس كذلك بداهة أنّ وجوب صلاتي الظهرين مثلا ليس معلولا لزوال الشمس وإلّا لكان معاصرا له من ناحية وأمرا تكوينيّا من ناحية أخرى بقانون التناسب.

وعلى الجملة فالأحكام الشرعيّة بأجمعها أمور اعتباريّة فرفعها ووضعها بيد الشارع وفعل اختياريّ له ولا يؤثّر فيها شيء من الأمور الطبيعيّة نعم الملاكات الموجودة في متعلّقاتها وإن كانت أمورا تكوينيّة إلّا أنّ دخلها في الأحكام الشرعيّة ليس كدخل علّة طبيعيّة في معلولها بل هي داعية لجعل الشارع واعتباره إيّاها وإن أريد من كون الأسباب الشرعيّة معرّفات ذلك فهو وإن كان متينا من هذه الناحية إلّا أنّه يرد عليه انه لا ملازمة بين عدم دخلها في الأحكام الشرعيّة وكونها معرّفات بل هنا أمر ثالث وهو كونها موضوعات لها يعني أنّ الشارع جعل الأحكام على تلك الموضوعات في مرحلة الاعتبار والإنشاء على نحو القضيّة الحقيقيّة مثلا أخذ الشارع زوال الشمس مع بقيّة الشرائط في موضوع وجوب صلاتي الظهرين في تلك المرحلة وكذا أخذ الاستطاعة مع سائر الشرائط في موضوع وجوب الحجّ وهكذا هذا

٤١٧

من ناحية.

ومن ناحية أخرى أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ القضيّة الحقيقيّة ترجع إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أنّ عدم دخل الأسباب الشرعيّة في أحكامها كدخل العلّة الطبيعيّة في معلولها لا يستلزم كونها معرّفات محضة بل هي موضوعات لها وتتوقّف فعليّتها على فعليّة تلك الموضوعات ولا تنفكّ عنها أبدا ومن هنا تشبه العلّة التامّة من هذه الناحية أي من ناحية استحالة انفكاكها عن موضوعاتها (١).

وقال سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره إن أريد من كون الأسباب الشرعيّة معرّفات أنّ بعضها معرّف لبعض آخر ففيه أنّه خلاف الظاهر لظهور كلّ شرط في الحدوث عند الحدوث ولازم معرّفيّة بعض لبعض آخر هو دلالة المعرّف على مجرد الثبوت لا الحدوث عند الحدوث.

وإن أريد من أمارية الأسباب الشرعيّة أنّ السبب الشرعيّ الأوّليّ أمارة على السبب الواقعيّ والسبب الشرعيّ الثاني أيضا أمارة على سبب واقعي آخر فلازم ذلك هو تعدّد الأسباب الواقعيّة ويساعده ظهور القضيّة الشرطيّة في الطبيعة الساريّة والحدوث عند الحدوث ولا وجه لرفع اليد عن الظهور المذكور بحمل الأسباب الشرعيّة على معرّفات عديدة بالنسبة إلى مسبّب واقعيّ واحد فاتضح أنّه لا مدخليّة للمعرفيّة في مسألة التداخل وعدمه.

وإنّما المدخليّة لما عرفت من ظهور القضيّة الشرطيّة في الطبيعة الساريّة والحدوث عند الحدوث مع تقديم ظهور الشرط على ظهور الجزاء من دون فرق بين

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ١١٣ ـ ١١٤.

٤١٨

أن يكون الشروط الشرعيّة أسبابا بنفسها أو كواشف عن الأسباب المستقلّة فلا تغفل.

فتحصّل أنّ مقتضى القاعدة هو تعدّد الأسباب قضاء لظهور القضيّة الشرطيّة في الطبيعة الساريّة وهكذا مقتضى القاعدة هو عدم تداخلها قضاء لما عرفت من أنّ الظاهر من القضيّة الشرطيّة هو الحدوث عند الحدوث فلا تغفل.

المقام الثاني : في تداخل المسبّبات وعدمه

ولا يخفى عليك أنّ بعد ما عرفت من عدم تداخل الأسباب يقع البحث في أنّه هل يكفي الإتيان بمسبّب واحد في امتثال ما تقتضيه الأسباب المتعدّدة أو لا يكفي والظاهر أنّه يجوز تداخل المسبّبات ويكفي الإتيان بمسبّب واحد فيما إذا كان العنوانان متصادقين كما إذا كانت النسبة بين المتعلّقين للتكليف عموما من وجه كقوله إذا جاءك زيد فأكرمه وإذا سلّم عليك فأطعمه فيجوز التداخل بأنّ يمتثل الأمر بالإكرام والأمر بالإطعام بكيفيّة يصدق عليه الإكرام والإطعام.

أو كما إذا كانت النسبة بين المتعلّقين عموما من وجه من ناحية إضافتهما إلى موضوعهما كقوله إذا جاءك زيد فأكرم العالم وإذا سلّم عليك فأكرم الهاشميّ فيجوز التداخل أيضا بأنّ يمتثل الأمرين بإكرام العالم الهاشميّ ففي كلا الصورتين يتحقّق الامتثال بإتيان المجمع لانطباق متعلّق كلّ منهما عليه ومن المعلوم أنّه لا يعتبر في تحقّق الامتثال عقلا إلّا الإتيان بما ينطبق عليه متعلّق الأمر.

واحتمال لزوم الإتيان بالمتعلّق منفردا لا مجتمعا مندفع بإطلاق المتعلّق من كلّ من الدليلين إذ لم يتقيّد كلّ بعدم الآخر.

ودعوى أنّ العرف قاض بأنّ تعدّد الحكم يلازم تعدّد الإطاعة والإتيان بالعملين مندفعة بما حكى عن المحقّق الهمداني قدس‌سره من أنّه لا شاهد له عرفا بل الشاهد

٤١٩

على خلافه إذ لو أتى شخص بعمل واحد ينطبق عليه عناوين حسنة متعدّدة يرى أنّ ثوابه أكثر ممّا إذا انطبق عليه أحد هذه العناوين وليس ذلك إلّا لتعدّد الأمر ووقوع العمل امتثالا للأوامر المتعدّدة.

وقد ذهب في نهاية الأفكار إلى التفصيل في العنوانين المتصادقين حيث قال : إنّ العنوانين المتصادقين على مجمع واحد تارة من قبيل الجنس والفصل كالحيوان والناطق وأخرى من قبيل العامّين من وجه المتصادقين في مجمع واحد عند الاجتماع فإن كانا من قبيل الجنس والفصل فلا إشكال في التداخل وفي أنّه لا يلزم منه محذور أصلا إذ حينئذ بعد اختلاف العنوانين بحسب الحقيقة والمنشأ فقهرا يكون مركب كلّ حكم جهة غير الجهة الاخرى التي هي مركب الحكم الآخر ومعه فلا يلزم من القول بالتداخل محذور أصلا كما هو واضح.

وأمّا إن كانا من قبيل العامّين من وجه كما في مثال إكرام العالم والهاشمي فيبتني على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه فعلى القول بالجواز في مثله ولو بدعوى كفاية هذا المقدار من المغايرة في رفع المحذور فلا إشكال في التداخل في المقام.

وأمّا على القول بعدم الجواز كما هو التحقيق في نحو المثال بلحاظ وحدة الحقيقة في الجهة المشتركة وهو الإكرام ففيه إشكال جدّا لاستلزامه اجتماع الحكمين المتماثلين في ذات الإكرام الذي هو مجمع الإضافتين مع كونه حقيقة واحدة وحيثيّة فاردة.

وأمّا الحمل على التأكّد فهو مخالف لظاهر الشرطين في اقتضاء كل لوجوب مستقلّ وحينئذ لا بدّ فرارا عن المحذور من المصير إلى عدم التداخل حتّى في مورد التصادق أيضا.

ولكن مع ذلك بناء الأصحاب في مثله على التداخل وجواز الاكتفاء بإكرام واحد في المجمع في سقوط الخطابين اللهم إلّا أن يقال حينئذ بكفاية التعدّد في الحكم في

٤٢٠