عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

على أنّ المنطوق وخلافه من أوصاف المدلول (١).

وإن أمكن اتّصاف الدلالة باعتبار علّيّة اللفظ لانفهام المعنى المطابقي بالدلالة المطابقيّة وباعتبار علّيّة اللفظ لانفهام المعنى الالتزامي بالدلالة المفهوميّة.

وأمّا ما في نهاية الدراية من أنّ معنى الدلالة بالمعنى الفاعلي هو علّيّة اللفظ لانفهام المعنى ولا يكون ذلك إلّا بقالبيّة اللفظ للمعنى ومن الواضح أنّ اللفظ ليس قالبا إلّا للمعنى المنطوقي لا أنّه قالب أولا وبالذات للمعنى المنطوقي وثانيا وبالتبع للمعنى المفهومي فإنّه غير معقول بل الموجب لانفهام المعنى المنطوقي نفس اللفظ ولانفهام المعنى المفهومي نفس انفهام المعنى المنطوقي الخاصّ فتدبّر (٢).

ففيه ما لا يخفى لما مرّ في مبحث الوضع من أنّ القالبيّة ممنوعة إذ حقيقة الوضع هو جعل العلقة والارتباط والعلاميّة ولا إشكال حينئذ في جعل الارتباط والعلاميّة بين لفظ والمعنى المنطوقي أولا وبالذات وبين اللفظ والمعنى المفهومي ثانيا وبالتبع فالعمدة هو ما ذكرنا من أنّ الظاهر من التعاريف أنّهما وصفان للمدلول لا الدلالة ، فلا تغفل.

وانقدح ممّا ذكر من أنّ المفهوم تابع للخصوصيّة المذكورة في المنطوق خروج مثل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ ونحوهما عن محلّ الكلام فإنّ الصيغة الدالّة على وجوب ذي المقدّمة لا تشتمل على خصوصيّة تدلّ باعتبارها على وجوب مقدّماته.

ومن المعلوم أنّ مجرّد كون وجوب المقدّمات تابعا لوجوب ذيها لا يكفى في إدراجه في المفهوم لأنّ دلالة وجوب ذي المقدّمة على وجوب مقدّماته على القول به دلالة التزاميّة عقليّة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته وليست من المداليل اللفظيّة المنطوقيّة.

__________________

(١) مطارح الانظار : ص ١٦٥.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٦٠.

٣٤١

فملاك الخروج هو عدم كون الدلالة لفظيّة لا أنّ الدلالة ليست بين وجوب ذي المقدمة وجوب مقدّماته على نحو اللزوم البيّن كما يظهر من موضع من المحاضرات حيث قال : ومن ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ وما شاكلهما عن محلّ الكلام فإنّ الملازمة على القول بها وإن كانت ثابتة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ووجوب شيء وحرمة ضدّه ونحو ذلك إلّا أنّها ليست على نحو اللزوم البيّن ضرورة أنّ النفس لا تنتقل من مجرّد تصوّر وجوب الشيء ومقدمته إلى وجوبها ما لم تتصوّر مقدّمة أخرى وهي حكم العقل بالملازمة بينهما فالنتيجة أنّ الملازمة في تلك الموارد لا تكون على شكل اللزوم البيّن (١).

وذلك لأنّ اللزوم بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب مقدّماته وإن فرض بيّنا بالمعنى الأخصّ خارج عن المقام لما عرفت من أنّ المفهوم هو القضيّة التابعة للمذكورة لخصوصيّة في المذكورة وهذا لا يصدق عليه وإن كان من الدلالات الالتزاميّة العقليّة البيّنة كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر أيضا خروج دلالة الاقتضاء عن مثل المقام فإنّ انفهام كون أقلّ الحمل هو ستّة أشهر من الآيتين أعني قوله عزوجل (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(٢).

وقوله تبارك وتعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(٣).

هو مقتضى تفريق الحولين من ثلاثين شهرا بحكم العقل فلا يكون من المفهوم لأنّه منفهم من كلامين بحكم العقل مع عدم كون إحدى الآيتين ناظرة إلى الأخرى هذا مضافا إلى عدم اشتمالهما على خصوصيّة تستتبع المفهوم بنحو اللزوم البيّن بالمعنى

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ٥٦ و ٥٥.

(٢) الاحقاف : ١٥.

(٣) البقرة : ٢٣٣.

٣٤٢

الأخصّ لاحتياج الانفهام المذكور إلى مقدمة اخرى إذ المفروض أنّ الملازمة فيها غير بيّنة بالمعنى الأخصّ مع أنّ المفهوم هو القضيّة التابعة للقضيّة المذكورة بنحو الدلالة الالتزاميّة بالبيّن بمعنى الأخصّ وعليه فلا يخفى ما في نهاية الدراية.

حيث قال إنّ انفهام التبعي إن كان من كلام واحد كان المدلول مفهوما وإن كان من كلامين كأقلّ الحمل المنفهم من الآيتين كان منطوقا إلّا أن يصطلح على تسمية مطلق ما يفهم تبعا مفهوما ولا مشاحة في الاصطلاح (١).

لما عرفت من عدم دلالتهما عليه من جهة المنطوق لعدم كون إحدى الآيتين ناظرة الى الأخرى ولا من جهة المفهوم لعدم اشتمالهما على خصوصيّة تستلزم هذه الدلالة بالدلالة الالتزاميّة بالبيّن بمعنى الأخصّ.

نعم يمكن إدراجها في لوازم المنطوق من جهة كونها مستفادة بالدلالة الالتزامية بالبيّن بمعنى الأعمّ ومن المعلوم أنّ لوازم الإمارات حجّة سواء كانت بيّنة بمعنى الأخصّ أو بمعنى الأعمّ وإن لم يكن إحدى الآيتين ناظرة إلى الأخرى.

وممّا ذكر يظهر ما في الوقاية حيث قال : وأين من المنطوق استفادة حكم من آيتين متفرّقتين غير ناظرة إحداهما إلى الأخرى وهو حكم لا يهتدى إليه إلّا الألمعي الفطن بعد ضرب من الاجتهاد (٢).

هذا كلّه بناء على استفادة المفهوم من أداة الشرط أو القضيّة الشرطيّة بالوضع أو مقدّمات الإطلاق الجارية في الكلام.

وأمّا بناء على ما نسب إلى القدماء من أنّ دلالة الخصوصيّة المذكورة في الكلام كالشرط على الانتفاء عند الانتفاء من باب بناء العقلاء على حمل الفعل الصادر عن الغير على كونه صادرا عنه لغاية وكون الغاية المنظورة منه هو دخالتها في المطلوب

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٥٩ و ١٦٠.

(٢) الوقاية : ص ٤١٠.

٣٤٣

فالدلالة المذكورة أجنبيّة عن المقام.

إذ دلالة الخصوصيّة حينئذ على فرض صحّة النسبة والمطلب ليست من باب الدلالة اللفظيّة والالتزاميّة بل هي من باب دلالة الأفعال وهي في مقابل الألفاظ وقد أوضح ذلك في نهاية الأصول حيث قال هنا مداليل آخر للكلام سوى المداليل المطابقيّة والتضمنيّة والالتزاميّة تكون دلالة اللفظ عليها دلالة مفهوميّة كما تكون دلالته على المعنى المطابقي والتضمّني والالتزامي دلالة منطوقيّة فالدلالة المفهوميّة خارجة من الأقسام الثلاثة فإنّها بأجمعها ممّا يمكن أن يقال أنّ المتكلّم نطق بها غاية الأمر أنّ نطقه بالنسبة إلى المدلول التضمني والالتزامي بالواسطة والمفهوم عبارة عمّا لم ينطق به المتكلّم ولو بالواسطة.

مداليل المطابقيّة والتضمنيّة والالتزاميّة كلّها ممّا لا يمكن للمتكلّم أنّ ينكر نطقه بها وأمّا عدم ثبوت الوجوب عند عدم المجيء فيفهم من اللفظ ولكن لو قيل للمتكلم أنت قلت هذا أمكنه إنكار ذلك بأن يقول ما قلت ذلك وإنّما الذي قلته ونطقت به هو وجوب الإكرام عند المجيء وليس الانتفاء عند الانتفاء من لوازم الثبوت عند الثبوت حتى يقال أنّ دلالة اللفظ عليه بالالتزام لوضوح أنّ وجوب الاكرام عند المجيء لا يستلزم بحسب الواقع عدم وجوبه عند عدمه.

ومع ذلك نرى بالوجدان أنّه يفهم من الكلام ولكنّه ليس بحيث يمكن أن ينسب إلى المتكلّم أنّه نطق به.

وأمّا الثبوت عند الثبوت وجميع لوازمه العقلية والعرفية فمما يمكن أن تنسب إلى المتكلّم ويقال أنّه نطق بها وليس له إنكاره وكذا الكلام في مفهوم الموافقة فإنّ النهي عن الأفّ يفهم منه النهي عن مثل الضرب ولكنّه لا تلازم بين المعنيين والمدلولين بحسب متن الواقع لعدم الارتباط والعلاقة بين الحرمة المتعلّقة بالأفّ وبين الحرمة المتعلّقة بالضرب حتّى يقال باستلزام الأوّل للثاني واللفظ الصادر عن المتكلّم كسائر

٣٤٤

أفعاله يحمل بحسب بناء العقلاء على كونه صادرا عنه لغاية وكون المقصود منه غايته الطبيعية العادية وحيث أنّ الغاية العادية للتلفظ إفادة المعنى فلا محالة يحكم المستمع للفظ (قبل اطّلاعه على المعنى المقصود منه) بكون التكلّم به لغاية وفائدة وكون الغاية المنظورة منها إفادة معناه (أيّ شيء كان) وليس هذا مربوطا بباب دلالة الألفاظ على معانيها بل هو من باب بناء العقلاء على حمل فعل الغير على كونه صادرا عنه لغايته الطبيعية وهذا مقدّم بحسب المرتبة على الدلالة الثابتة للفظ بما هو لفظ موضوع على معناه المطابقي أو التضمّني أو الالتزامي لأنّه من باب دلالة الفعل لا اللفظ بما هو لفظ موضوع ويحكم به العقلاء قبل الاطّلاع على المعنى الموضوع له.

وهذا البناء من العقلاء كما يكون ثابتا في مجموع الكلام كذلك يكون ثابتا في أبعاضه وخصوصيّاته فكما أنّ نفس تكلّمه (بما أنّه فعل من الأفعال الاختيارية) يحمل على كونه لغايته الطبيعية العادية فكذلك الخصوصيّات المذكورة في الجملة من الشرط أو الوصف أو غيرهما تحمل (بما هي من الأفعال الصادرة عنه) على كونها لغرض الإفادة والدخالة في المطلوب فإنّها غايتها العادية وكما لم تكن دلالة نفس الجملة على كونها لغرض إفادة المعنى دلالة لفظية وضعيّة بل كانت من جهة بناء العقلاء (المتقدم بحسب الرتبة على الدلالة اللفظية المنطوقيّة) فكذلك دخالة الخصوصيّة المذكورة في الكلام على كونها للدخالة في المطلوب ليست من باب دلالة اللفظ بما هو لفظ موضوع بل هي من باب بناء العقلاء ومن باب دلالة الفعل بما هو فعل انتهى موضوع الحاجة (١).

ولكن لا يخفى ما فيه أوّلا أنّ النسبة المذكورة إلى القدماء غير محرزة بل يخالفه ظاهر ما حكى عن الحاجبي من أنّ المنطوق ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق والمفهوم

__________________

(١) نهاية الاصول : ج ١ ص ٢٩٠ ـ ٢٩٤ مع تقديم وتأخير واختلاف يسير.

٣٤٥

ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق.

لأنّ الدال في المنطوق والمفهوم كليهما هو اللفظ بما هو لفظ لا بما هو فعل.

وثانيا : أنّ ما حكم به العقلاء يكون من المبادى لدلالة الألفاظ على معانيها ولا يستفاد منها إلّا الدلالة الإجمالية إذ غايته أنّ المستمع كما صرح به في نهاية الأصول يحكم قبل اطّلاعه على المعنى المقصود منه بكون التكلّم به لغاية وفائدة وكون الغاية المنظورة منه هو إفادة المعنى (أيّ شيء كان) ودخالته في المطلوب.

وأمّا التفصيل فلا دلالة للّفظ بما هو فعل عليه بل هو مربوط بمفاد اللفظ بما هو اللفظ سواء كان مدلولا وضعيا أو مدلولا إطلاقيا فمجرد دلالة اللفظ بما هو فعل على دخالة القيد في المطلوب لا ينفي دخالة شيء آخر في شخص الحكم في المنطوق كما لا ينفى وجود الحكم بسبب شيء آخر وراء الشرط المذكور بل هي متوقّفة على استظهار مدلول اللفظ فإن كان المدلول هو العلّة المنحصرة لشخص الحكم أو سنخ الحكم يحكم بأنّ الشرط علّة منحصرة لذلك وإلّا فمجرّد حكم العقلاء بكون اللفظ بما هو فعل صادرا للغاية وهي دخالته في المطلوب لا يفيد شيئا كما لا يخفى فحكم العقلاء بالمذكور يكون من المبادى التي يتوقّف عليها إسناد ظواهر الكلمات من المعاني الموضوع لها أو المستفاد منها بمقدّمات الإطلاق إلى المتكلّم بها.

وأمّا تفصيل المعاني فهو مستفاد من الوضع أو مقدّمات الإطلاق ولعلّ منشأ التوهّم المذكور هو الخلط بين الدلالة الإجماليّة المستفادة من الأفعال والدلالة التفصيليّة المستفادة من الوضع أو مقدّمات الإطلاق الجارية في الكلام وقيوده وشروطه.

ولعلّ إليه يئول ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره بقوله وأنت خبير بأنّ ذلك لا يفيد ما لم يضمّ إليه شيء آخر وهو أنّ عدم الإتيان بشيء آخر في مقام البيان يدلّ على عدم القرين له وبه يتمّ المطلوب وإلّا فصرف عدم لغوية القيود لا يدلّ على

٣٤٦

المفهوم ما لم تفد الحصر فإثبات المفهوم إنّما هو بإطلاق الكلام وهو أحد الطرق التي تشبث بها المتأخّرون.

ومحصله أنّ غاية ما يقتضي الدليل المذكور أنّ القيد دخيل في الحكم وليس الحكم متعلقا بذات الموضوع بلا قيد وإلّا لزم اللغوية وأنّ الموضوع مع هذا القيد تمام الموضوع للحكم فيترتّب على المقيّد به الحكم بلا انتظار قيد آخر وهو مقتضى الإطلاق أي عدم التقيد بقيد آخر.

وأمّا عدم تعلق سنخ هذا الحكم بموضوع أخر وهو ذات الموضوع مع قيد آخر فلا يكون مقتضى إتيان القيد ولا إطلاق الموضوع انتهى موضع الحاجة (١).

وثالثا : أنّ مع كون دلالة الألفاظ بما هو أفعال دلالة اجمالية كيف يفهم من المنطوق عدم ثبوت الوجوب عند عدم المجيء مع إنكار المتكلّم إيّاه.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ البحث عن المفاهيم بعد ما عرفت أنّ معنى المفاهيم هي القضايا غير المذكورة التي تستلزمها الخصوصيّة المذكورة يكون من مباحث الأصوليّة اللفظيّة فإنّ الدالّ عليها هو الألفاظ غاية الأمر أنّ الألفاظ دلالتها على المنطوق بالمطابقة وعلى المفاهيم بالدلالة الالتزاميّة وليست مسألة المفاهيم من المسائل الأصوليّة العقليّة فإنّ المسائل العقلية لا ارتباط لها بدلالة الألفاظ كمسألة مقدّمة الواجب فإنّ الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب مقدّماته عقليّ ولا ارتباط له بمباحث الألفاظ.

ولكن ذهب في المحاضرات إلى إمكان أن يقال أنّ مسألة المفاهيم من المسائل العقليّة أيضا وقال والوجه في ذلك هو أنّ الحيثيّة التي تقتضي المفهوم وتستلزمه وهي العلّيّة المنحصرة. وإن كانت مدلولا لفظيّا وضعا أو إطلاقا حيث أنّ الدالّ عليها هو

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ١٨٢.

٣٤٧

الجملة الشرطيّة أو نحوها إلّا أنّ هذه الحيثيّة نفسها ليست بمفهوم على الفرض فإنّ المفهوم ما هو لازم لها وهو الانتفاء عند انتفائها ومن المعلوم أنّ الحاكم بذلك أي بانتفاء المعلول عند انتفاء علّته التامّة إنّما هو العقل ولا صلة له باللفظ (١).

يمكن أن يقال أنّ المباحث العقليّة هي التي تحكم العقل بها مع قطع النظر عن الأدلّة اللفظيّة التعبّديّة كالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته وجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد معنون بعنوانين وامتناعه والملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه وغير ذلك من المباحث العقليّة فإنّ الملازمة والجواز والامتناع ليست من المداليل اللفظيّة التعبّديّة هذا بخلاف المقام فإنّ الخصوصيّة المذكورة في المنطوق تدلّ بالمطابقة على أنّ الشرط المذكور تلو أداة المشروط علّة تامّة منحصرة لسنخ الحكم كما هو المفروض وتدلّ بالالتزام على أنّ الجزاء ينتفي بانتفائه فإنّه مقتضى انحصار علّة الجزاء في الشرط المذكور ولا توقّف في هذه الدلالة على الدلالة العقليّة بل هي مفاد العلّة المنحصرة كما لا يخفى ومجرّد كون العقل حاكما بعدم جواز تخلّف المعلول عن علّته لا يجعل مدلول اللفظ في مورد العلّة التعبّديّة مدلولا عقليّا كما لا يخفى.

وكيف كان فالبحث في المقام ليس في حجّيّة المفهوم بعد الفراغ عن وجوده بل الكلام في مبحث المفاهيم في أنّ الجملة الشرطيّة أو الوصفيّة وما شاكلهما هل تدلّ على المفهوم أم لا فالبحث في مباحث المفاهيم يكون عن ثبوت الصغرى وهو إثبات الدلالة اللفظيّة بعد الفراغ عن ثبوت الكبرى وهي حجيّة الظواهر سواء كانت من الدلالات المطابقيّة أو الدلالات الالتزاميّة وإذا عرفت تعريف المفهوم والمنطوق حان الوقت للبحث عن مقام الإثبات أعنى أنّ القضيّة الشرطيّة أو الوصفيّة وما شاكلهما هل تدلّ على المفهوم أو لا وسيجيء البحث عن ذلك إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٥ ص ٥٨.

٣٤٨

الفصل الثاني : في دلالة الجملة الشرطيّة

على المفهوم وعدمها

ولا يخفى عليك أنّ المشهور ذهبوا إلى دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم بمعنى أنّها كما تدلّ على ثبوت شيء عند ثبوت شيء فكذلك تدلّ بالالتزام على الانتفاء عند الانتفاء قال في هداية المسترشدين :

دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم مختار أكثر المحقّقين وقد عزاه إليهم المحقّق الكركيّ والشهيد الثاني وعزى إلى الشيخين والشهيدين أيضا واختاره جماعة من المتأخّرين وحكي القول به عن جماعة من العامّة أيضا خلافا لجماعة آخرين من العامّة والشيخ الحرّ وغيره من متأخّري أصحابنا انتهى.

وكيف كان فاستدلّ لذلك بوجوه :

منها : التبادر وتقريبه : أنّ المستفاد من الجملة الشرطيّة هو تعليق شيء وتوقّفه على شيء آخر ومقتضى توقّف شيء على شيء هو الانتفاء بالانتفاء إذ لا معنى للتوقّف إلّا ذلك ولذا شبّه في المعالم الجملة الشرطيّة في إفادة التوقّف والتعليق بقولنا الشرط في دخولك في الجامعة الكذائيّة هو امتحانك وتوفيقك فيه فكما أنّ مفاد الجملة المذكورة هو التوقّف والتعليق بمعنى اشتراط الدخول في الجامعة بالتوفيق في الامتحان وانتفائه بانتفائه فكذلك الجملة الشرطيّة من دون فرق بينهما إلّا في أن الإفادة في الجملة المذكورة تكون بنحو المعنى الاسمي وفي الجملة الشرطيّة تكون بنحو

٣٤٩

المعنى الحرفيّ وتبعه في هداية المسترشدين وقال : هو أمر ظاهر بالوجدان من التأمّل في الإطلاقات العرفية ألا ترى حصول المناقضة الظاهرة بين قول القائل أكرم زيدا على كلّ حال من الأحوال سواء جاءك أو لم يجئك أكرمك أو لم يكرمك وقوله أكرم زيدا إن جاءك أو إن أكرمك ولذا يجعل حكمه الثاني عدولا عن الأوّل ورجوعا عنه إلى غيره.

إلى أن قال : لنا أنّ مفاد الاشتراط تعليق الحكم بالشرط وإناطته به بحيث يفيد توقّفه عليه كما مرّ بيانه ومن البيّن أنّ توقّف الشيء لا يعقل إلّا مع انتفائه (بانتفائه).

فمدلول المنطوق هو الحكم بالوجود عند الوجود على سبيل توقّف الثاني على الأوّل والانتفاء بالانتفاء من لوازم البيّنة للتوقّف وليس جزءا من مفهومه كما لا يخفى.

والحاصل أنّ مفاد التعليق هو الشرط كمفاد قولك هذا شرط في هذا أو متوقّف على كذا.

فكما أنّ كلّا من اللفظين دالّ بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء المشروط بانتفاء الشرط وانتفاء ما يتوقّف بانتفاء ما يتوقّف عليه فكذا في المقام ـ إلى أن قال ـ : الظاهر أنّ الدلالة على الانتفاء بالانتفاء في المقامين التزاميّة.

فإنّ توقّف الشيء على الشيء هو اقتصاره إليه بحيث لا يتحقّق إلّا بتحقّقه فالانتفاء بالانتفاء من لوازم المعنى وقيوده ـ إلى أن قال ـ : فالتحقيق أنّه ليس مفاد التعليق على الشرط إلّا الحكم بوجود الجملة الجزائيّة عند وجود مصداق الجملة الشرطيّة على سبيل توقّفه عليه وإناطته به والانتفاء عند الانتفاء من لوازم تلك الإناطة والارتباط المدلول عليه بالمنطوق (١).

وتبعه الشيخ الأعظم قدس‌سره حيث قال : لنا قضاء صريح العرف بذلك فإنّ المنساق

__________________

(١) هداية المسترشدين : ص ٢٨١ ـ ٢٨٨.

٣٥٠

إلى الأذهان الخالية من الجملة الشرطيّة هو التعليق على وجه ينتفي الحكم بانتفاء الشرط وكفانا بذلك دليلا وحجّة ملاحظة الاستعمالات الواردة في العرف.

وذلك لا ينافي ثبوت استعمال الجملة في معنى آخر فإنّ باب المجاز غير منسدّ ولم يزل البلغاء والفصحاء يستعملونه في موارد تقضي بها الحال فما حكي عن الفوائد الطوسيّة من أنّه تجشّم باستخراج مائة مورد بل وأزيد من القرآن الكريم لا دلالة فيها على المفهوم فهو تكلف من غير حاجة إذ لا نزاع في ثبوت ذلك في الجملة ولا يوجب ذلك وهنا في قضاء العرف بثبوت المفهوم.

إلى أن قال : إنّ العرف قاض بأنّ المستفاد من أداة الشرط هو التعليق على وجه خاصّ يلزم منه الانتفاء عند الانتفاء وذلك نظير قضاء العرف باستفادة الطلب من الآمر على وجه لا يرضى الطالب بتركه وهو المعبّر عنه بالوجوب فيكون الوجوب مدلولا التزاميا وضعيّا للأمر (١).

وتبعه أيضا صاحب الوقاية (٢).

ويمكن تأييد ذلك بأنّ مقتضى كون أداة «لو» للامتناع هو الالتزام بالمفهوم والعلّيّة المنحصرة إذ القضيّة المشتملة على كلمة «لو» تدلّ على امتناع التالي لامتناع المقدّم وليس ذلك إلّا من جهة دلالتها على حصر العلّة في المقدّم.

هذا مضافا إلى صحّة الاستدراك كما إذا قيل إن ضربتني ضربتك ولكنّك لم تضربني فلا أضربك مع أنّه لو لم يكن للقضيّة الشرطيّة مفهوم فلا حاجة إلى الاستدراك ولا يكون صحيحا.

هذا غاية التقريب لوضع أداة الشرط للدلالة على علّيّة الشرط للجزاء بنحو الانحصار ولكنّ مع ذلك لا يخلو عن التأمّل والنظر إذ دلالة الأداة على الترتّب وإن

__________________

(١) تقريرات الشيخ : ص ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٢) الوقاية : ص ٤١٨ ـ ٤١٩.

٣٥١

كانت متبادرة منها ويكون شاهدا لوضعها لذلك.

أمّا تبادر العلّيّة المنحصرة من الجملة الشرطيّة فغير ثابت بل تبادرها من الجملة الاسميّة بمثل هذا شرط لذلك غير معلوم وتشبيه الجملة الشرطيّة بالجملة الاسمية المذكورة لا يفيد.

ومن المعلوم أنّ استعمال الجملة الشرطيّة والاسميّة المذكورة في غير العلّة المنحصرة شائع ولا يحتاج إلى إعمال عناية وهو شاهد على عدم وضع الأداة للتعليق والتوقّف.

نعم دعوى وضع الجملة الشرطيّة للترتّب السببي غير مجازفة.

وأمّا دعوى انصراف الترتّب إلى التوقّف والتعليق من جهة كونه أكمل الأفراد فهي مندفعة كما في الكفاية بأنّ ملاك الانصراف ليس مجرّد الأكمليّة بل هو كثرة الاستعمال وهو مفقود هذا مضافا إلى إمكان منع الأكمليّة فإنّ الانحصار لا يوجب أن يكون ذاك الربط الخاصّ الذي لا بدّ منه في تأثير العلّة في معلولها أكثر وأقوى كما لا يخفى.

وأمّا التأييد بكلمة «لو» وصحّة الاستدراك ففيه أوّلا : أنّ ذلك لا يكون دليلا على الوضع لمساعدته مع القول بالدلالة من باب الإطلاق أيضا فالدليل أعمّ من المدّعى وبالجملة دلالة القضيّة على حصر العلّة في المقدّم أعمّ من أن يكون بالوضع أو بمقدّمات الإطلاق.

وثانيا : إنّ كلمة «لو» تكون حرف الامتناع لأنّ مدخولها الماضي ومن المعلوم أنّ فرض وجود شيء في الماضي لا يتصوّر إلّا إذا كان الواقع عدم وجوده في الماضي فلذا يكون المفروض محالا وعليه فما يكون مرتّبا على المحال المفروض وجوده في الماضي فهو أيضا وجوده يكون محالا في الماضي لأنّه إن كان المرتّب عليه علّته المنحصرة فالمفروض أنّها لم توجد وإن لم يكن علّته المنحصرة وكانت له علّة أخرى

٣٥٢

فهذه العلّة أيضا لم توجد فمع عدم وجود علل وجود الشيء رتّب عدم الشيء على عدم المفروض وجوده فمن هذا البيان الذي أفاد إجماله المحقّق الأصفهاني يظهر أنّ الالتزام بأنّ أداة «لو» للامتناع ليس التزاما بالمفهوم وبالعلّيّة المنحصرة لمدخولها (١).

اللهمّ إلّا أن يقال : أنّ أداة «لو» إن لم تفد أنّ امتناع التالي لامتناع المقدّم واحتمل أن يكون امتناع التالي لأمر آخر غير موجود في الماضي لما اسند الامتناع إلى المقدّم بل لزم أن يسند إلى أمر آخر أيضا وحيث إنّ الإسناد إلى أمر آخر مفقود فليس امتناع التالي إلّا لامتناع المقدّم وهو مساوق لدلالة أداة «لو» أو الجملة الشرطيّة لحصر العلّة في المقدّم.

ومنها : ما في نهاية الأفكار من إطلاق الجزاء وبيان ذلك أنّ طبع القضايا الإنشائيّة والحمليّة في نفسها يقتضي الظهور الإطلاقيّ الموجب لحصر الطبيعيّ في قوله أكرم زيدا في حكم شخصيّ محدود بحدّ خاصّ فإذا أنيط ذلك بالشرط في القضيّة الشرطيّة يلزم انتفاء ذلك عند الانتفاء وحيث أنّه فرض انحصار الطبيعيّ بهذا الشخص بمقتضى الظهور الإطلاقي فقهرا يلزمه انتفاء الحكم السنخيّ بانتفائه من دون احتياج إلى إثبات العلّيّة المنحصرة وذكر لذلك مقدّمات طويلة (٢) ولكنّها لا تثبت مقصوده لأنّ المقدّمة الأصلية هي إطلاق القضيّة الإنشائية من جهة موضوعها بحسب الأحوال من القيام والقعود والمجيء وعدمه وهي مخدوشة لأنّ إناطتها بالشرط وهو المجيء يمنع عن إطلاقها بالنسبة إلى عدم المجيء ومع عدم إطلاق القضيّة الإنشائيّة لتلك الحالة فلا دليل على نفي الحكم الآخر في صورة عدم المجيء إلّا القضيّة الشرطيّة وهي متوقّفة على إفادة العلّية المنحصرة.

وبعبارة أخرى أنّ الحكم في القضيّة الإنشائيّة وإن كان مطلقا باعتبار إطلاق

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٦١.

(٢) نهاية الأفكار ج ٢ ص : ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

٣٥٣

موضوعه حتّى من جهة المجيء وعدمه ومقتضاه هو عدم حكم آخر لامتناع اجتماع المثلين ولكن إذا أنيط بالمجيء في القضيّة الشرطيّة خرج عن إطلاقه من جهة عدم المجيء لأنّ الإطلاق من هذه الجهة وإناطته بأداة الشرط بالمجيء لا يجتمعان فاللازم هو رفع اليد عن إطلاق الحكم بقرينة الإناطة وعليه فإذا خرج صورة عدم المجيء عن الإطلاق فلا يتعرّض الحكم في ناحية الجزاء لانحصار الطبيعة في الحكم الموجود بالنسبة إلى صورة عدم المجيء ومع عدم تعرّضه لذلك فنفى الحكم الآخر في حال عدم المجيء يحتاج إلى إفادة أداة الشرط العلّة المنحصرة وهو أوّل الكلام فراجع وتدبّر.

ومنها : إطلاق أداة الشرط بدعوى أنّ مقتضى جريان مقدّمات الإطلاق في أداة الشرط هو أنّ المراد من الترتّب المستفاد من أداة الشرط هو الترتّب بنحو العلّيّة المنحصرة لأنّه لا يحتاج إلى مئونة زائدة على بيان نفس الترتّب بقول مطلق لأنّ قيده عدميّ إذ الترتّب بنحو العلّيّة المنحصرة هو الترتّب على الشرط المذكور لا غير بخلاف الترتّب غير المنحصر فإنّه الترتّب عليه وعلى الغير ومن المعلوم أنّه محتاج إلى مئونة زائدة فكما يتمسّك بالإطلاق لإثبات نفسيّة الوجوب ويقال أنّ خصوصيّة الوجوب النفسي خصوصيّة عدميّة لأنّه الوجوب لا للغير ولا يحتاج إلى بيان زائد بخلاف الوجوب الغيري فإنّ خصوصيّته وجوديّة لأنّه الوجوب للغير وتحتاج إلى بيان زائد فالوجوب المطلق يحمل على الوجوب لا للغير لا الوجوب للغير فكذلك يقال في المقام بأنّ المراد من الترتّب المطلق هو الترتّب بنحو العلّيّة المنحصرة لأنّه لا يحتاج إلى مئونة زائدة.

أورد عليه أوّلا بأنّ معنى الأداة حرفيّ والمعنى الحرفي جزئيّ غير قابل للتقييد وحيث إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة فالإطلاق دائما يمتنع بعين امتناع التقييد فلا مورد لمقدّمات الإطلاق إلّا في المعنى القابل للإطلاق والتقييد وهو المعاني الاسميّة.

٣٥٤

وبعبارة أخرى الإطلاق أو التقييد يحتاج إلى لحاظ المطلق أو المقيّد باللحاظ الاستقلاليّ ومعنى الحرف ملحوظ آليّا وإلّا لمّا كان معنى حرفيّا والملحوظ باللحاظ الآلي لا يجامع مع اللحاظ الاستقلاليّ فالمعاني الحرفيّة لا تقبل الإطلاق والتقييد.

يمكن الجواب عنه بإمكان ملاحظة المعنى الحرفيّ الوسيع أو الضيق بتبع المعنى الاسمي كما لوحظت معاني الحرفي عند وضع الحروف لها كذلك كقولهم «من» للابتداء ، فإنّ معنى الابتداء الحرفي عند قولهم «من» للابتداء ثبت بالوضع لكلمة «من» بتبع معنى الابتداء الاسمي مع أنّ معنى الابتداء الحرفي من المعاني الحرفيّة وعليه فيمكن ملاحظة ما يستفاد من الأداة من الترتّب بنحو العلّيّة المنحصرة بتبع ملاحظة العلّة والمعلول على نحو لا ينفكّ أحدهما عن الآخر بمعناها الاسمي (١).

وثانيا : إنّ ترتّب العلّة بنحو الانحصار وبنحو غير الانحصار مصداقان للترتّب المستفاد من أداة الشرط وكلّ واحد منهما مشتمل على الخصوصيّة ولا يلازم أحدهما الإطلاق فإثبات أحدهما بالإطلاق مع أنّ نسبة الترتّب المطلق إليهما متساوية بلا معيّن بل إرادة كلّ واحد من أنحاء الترتّب محتاجة إلى القرينة وعليه فقياس الترتّب الانحصاري بالواجب النفسي قياس مع الفارق لأنّ الوجوب النفسي وجوب على كلّ حال وهو يلازم الإطلاق بخلاف الغيري فإنّه ثابت في حال دون أخرى هذا بيان ما ذهب إليه في الكفاية.

أورد عليه في نهاية الدراية بأنّ عدم ترتّب التالي على غير المقدّم لا يوجب أن يكون سنخ المترتّب على غيره مبائنا معه من حيث الترتّب أو اللزوم بخلاف عدم كون الوجوب للغير فإنّ الوجوب المنبعث عن وجوب الغير سنخ من الوجوب ومقابل للوجوب الغير المنبعث عن وجوب آخر فليس عدم الترتّب على غير المقدّم

__________________

(١) راجع نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٦٢.

٣٥٥

أو الترتّب عليه من خصوصيّات الترتّب على المقدّم كي يختلف أنحاء الترتّب ـ إلى أنّ قال ـ :

فنحن أيضا نقول بعدم اقتضاء الإطلاق للعلّيّة المنحصرة لكنّه لا من أجل كون الانحصار وعدمه من شئون العلّيّة وحيثياتها كالتماميّة والنقص أو كالعلّيّة بنحو الاقتضاء أو الشرطيّة أو الإعداد بل من أجل أنّ الانحصار وعدمه ليسا من شئون العلّيّة أصلا حتّى يكون الإطلاق مقتضيا لإثبات خصوصيّة أو نفيها بل حيثيّة العلّية أجنبيّة عن حيثيّة الانحصار وعدمه وإنّما هما من شئون العلّة والكلام في الإطلاق من حيث السببيّة لا الإطلاق من حيث وحدة السبب وتعدّده كما سيأتي إن شاء الله تعالى (١).

هذا الإشكال بناء على أنّ مدلول الأداة أو الهيئة هو الترتّب كما هو المفروض بل هو الظاهر فإنّ سنخ الترتّب في أحدهما لا يغاير الترتّب في الآخر إذ الانحصار وعدمه ليسا من شئون العلّيّة بل من شئون العلّة وليس مدلول الأداة هو التعليق والتوقيف حتّى يقال مدلول التعليق والتوقيف ملازم للانحصار ولا حاجة في إثباته إلى مقدّمات الإطلاق.

وأمّا دعوى أنّ مدلول الأداة هو الفرض والتقدير ومعه فالترتّب مستفاد من الفاء فيجري في مدلول الفاء الإطلاق لإثبات الانحصار فهو كما ترى لأنّ مدلول الأداة كما يشهد له التبادر هو الترتّب ومع خلوّ كثير من القضايا الشرطيّة عن الفاء كيف يدّعى أنّ الترتّب مستفاد من الفاء.

فتحصّل أنّ إثبات الانحصار بدعوى جريان مقدّمات الإطلاق في مدلول الأداة محلّ منع ونظر وإن أمكن الجواب عن بعض المناقشات.

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٦٣.

٣٥٦

ومنها إطلاق الشرط : بتقريب أنّ مقدّمات الإطلاق الجارية في الشرط فيما إذا كان المتكلّم في مقام بيان المؤثّر الفعلي تفيد كون الشرط بخصوصه مؤثّرا مطلقا وهو لا يمكن إلّا فيما إذا كان الشرط منحصرا فيه إذ لو لم يكن بمنحصر لزم تقييده ضرورة أنّه لو قارنه شرط آخر في التأثير لما كان مؤثّرا وحده وبخصوصه بل يكون مؤثّرا بالاشتراك أو يكون المؤثّر هو الجامع إن كان كلّ واحد مؤثّرا بالاستقلال ، وأيضا لو سبقه شرط آخر في التأثير لكان المؤثّر هو السابق كما لا يخفى.

وعليه فإطلاق الشرط من دون قيد لو لا شرط آخر يقتضي كون الشرط المذكور مؤثّرا بالفعل وحده وبخصوصه من دون تقييد بعدم شيء في السابق أو المقارن وهو يساوق العلّة المنحصرة.

أورد عليه في الكفاية وتبعه في نهاية الدراية بأنّه لا يكاد تنكّر الدلالة على المفهوم مع إطلاق الكلام كذلك وكون المتكلّم في مقام بيان المؤثّر الفعلي إلّا أنّه من المعلوم ندرة تحقّقه لو لم نقل بعدم اتّفاقه.

وأوضحه المحقّق الاصفهانيّ بقوله لأنّ القدر المسلّم من القضيّة الشرطيّة إفادة العلّيّة وصلاحيّة الشيء للتأثير من دون دخل شيء وجودا أو عدما في علّيّته الشأنيّة وأمّا ترتّب المعلول بالفعل على العلّة فهو أمر آخر قد يتّفق سوق الإطلاق بلحاظه فتدبّر (١).

هذا مضافا إلى ما أفاده سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره من أنّ ذلك ليس قضيّة الإطلاق فإنها كما مرّ ليست إلّا أنّ ما جعل شرطا هو تمام الموضوع لإناطة الجزاء به وإلّا لكان عليه بيانه كما هو الحال في جميع موارد الإطلاق وبعبارة أخرى أنّ الإطلاق في مقابل التقييد ودخالة شيء آخر في موضوع الحكم وكون شيء آخر

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٦٣.

٣٥٧

موضوعا للحكم أيضا لا يوجب تقييدا في الموضوع بوجه.

وأمّا قضيّة الاستناد الفعليّ إلى الموضوع مع عدم كون قرين له قبله وبعده فهو شيء غير راجع إلى الإطلاق والتقييد فإنّ الاستناد واللااستناد في الوجود الخارجي بالنسبة إلى المقارنات الخارجيّة غير مربوط بمقام جعل الأحكام على العناوين فإنّ في ذلك المقام لم يكن الدليل ناظرا إلى كيفيّة الاستناد في الوجود فضلا عن النظر إلى مزاحماته فيه.

وكيف كان فالإطلاق غير متكفّل لإحراز عدم النائب وإن كان كفيلا لإحراز عدم الشريك أي القيد الآخر.

ولو فرض إحراز كون المتكلّم بصدد بيان العلّة المنحصرة أو الموضوع المنحصر فهو غير مربوط بمفهوم الشرط بل مع هذا يفهم الحصر مع اللقب أيضا لكنّه لأجل القرينة لا لأجل المفهوم المورد للنزاع (١).

واستشكل بعض على ما ذكره المحقّق الأصفهاني من أنّ القضيّة الشرطيّة تفيد صلاحية الشيء للتأثير لا الفعليّة بأنّ الالتزام به يقتضى تأسيس فقه جديد لأنّ مقتضاه أن لا يستفاد من القضايا الشرطيّة الواردة في لسان الشارع فعليّة الوجوب عند تحقّق الشرط إذ لا رافع لاحتمال وجود المانع أو انتفاء الشرط وهذا ممّا لا يتفوّه به أحد فهل ترى أحدا يتوقّف في الحكم بوجوب الوضوء عند النوم استنادا إلى قوله إذا نمت فتوضّأ (٢).

يمكن أن يقال : إنّ القضيّة الشرطيّة وإن لم تدلّ إلّا على صلاحيّة الشيء للتأثير ولكن بعد تحقّق الشرط وإحراز عدم المانع بالأصول العقلائيّة يحكم العقل بفعليّة الوجوب وهذا غير أن يكون مفاد القضيّة من أوّل الأمر هو فعليّة الوجوب بوجود

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٢) منتقى الأصول : ج ٣ ص ٢٢٨.

٣٥٨

الشرط فلا يلزم الفقه الجديد من القول بإفادة القضيّة الشرطيّة لصلاحيّة الشيء للتأثير هذا.

ثمّ لو سلّمنا إفادة القضيّة الشرطيّة للفعليّة أورد عليه سيّدنا الأستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره بأنّه يتمّ لو كان الجزاء صرف الوجود فإنّ مع تعدّد الشرط لا يمكن تأثير كلّ واحد بالفعل بخصوصه.

هذا بخلاف ما إذا كان الجزاء قابلا للتكرار كقوله : إن أكرمك زيد فأعطه درهما وإن أكرم غلامك فأعطه درهما فإنّ مقتضى القاعدة هو تأثير كلّ شرط بالفعل في فرد من الجزاء ولا يكتفى في الامتثال بصرف الوجود من إعطاء الدرهم لتعدّد الأسباب فحينئذ بقيت فعليّة كلّ شرط في التأثير لتعدّد الجزاء ولا ينافي الفعليّة في التأثير مع تعدّد الشرط وعليه فلا ينتج الإطلاق المذكور انحصار الشرط والعلّة.

ومنها تلفيق الوضع مع الإطلاق بتقريب أفاده في الفصول من أنّ التحقيق أنّ التقييد بأداة الشرط يدلّ بالالتزام على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط بالوضع في الجملة وبالإطلاق مطلقا.

لنا : أنّ المتبادر من التقييد بإن وأخواتها تعليق الجزاء على الشرط بمعنى إفادة أن الثاني لازم الحصول لحصول الأوّل ومرجعه إلى أن للشرط علقة بالجزاء يقتضي بها عدم انفكاكه عنه.

وحيث تنحصر هذه العلقة أعني علقة اللزوم في علقة العلّيّة بأنواعها الثلاثة صحّ أن يكون الشرط سببا للجزاء أمّا سببا عقليا كقولك : إذا أراد الله شيئا كان أو وضعيا نحو إن ظاهرت فكفّر وأن يكون مسبّبا عنه مساويا له نحو إن كان النهار موجودا كانت الشمس طالعة وأن يكونا معلولين لعلّة واحدة كذلك نحو إن كان النهار موجودا كان العالم مضيئا فأدوات الشرط في هذه الموارد ونظائرها إنّما تستعمل لإفادة كون الجزاء لازم الحصول للشرط.

٣٥٩

وأمّا أنّ الشرط سبب للجزاء أو مسبّب عنه أو مشارك له في العلّة فمستفاد من اعتبار أمور خارجة ولا اختصاص لها بأحدها.

نعم حيث يكون الجزاء إنشاء لا يصحّ أن يعتبر الشرط فيه مسبّبا عن الجزاء لظهور أنّ المعنى لا يستقيم فيتعيّن أنّ يكون شرطا أي سببا له نحو إن ظاهرت فكفّر فإنّ الظهار سبب وضعيّ لوجوب الكفّارة ومطلوبيّتها.

أو ملزوما بأن يكونا معلولين لعلّة واحدة نحو إذا شاهدت موضع كذا فقل كذا إذا كان السبب الوضعي للطلب ما هو لازم المشاهدة كالقرب المخصوص دون نفسها.

لكن حيث أنّ الظاهر من اللزوم عند الإطلاق هو اللزوم بدون الواسطة يتبادر منه عند الإطلاق كون الشرط شرطا والجزاء مشروطا.

بل نقول : الظاهر من اعتبار المقدّم ملزوما والتالي لازما أن يكون الملزوم شرطا بالمعنى المتقدّم واللازم مشروطا له مطلقا.

ومنشؤه أنّ صفة اللازميّة لازمة للمشروط دون الشرط فإنّه قد لا يكون لازما فيها مزيد اختصاص به ولهذا ينصرف مطلقها إليه.

فهذا هو السرّ في تبادر شرطيّة الشرط للجزاء عند الإطلاق مطلقا لا كون أداته موضوعة لذلك إذ المفهوم منها في الموارد المذكورة ليس إلّا معنى واحد وهو كون الجزاء لازما للشرط.

وإذا ثبت أنّ قضيّة إطلاق التعليق شرطيّة المقدّم للتالي لا سيّما إذا كان إنشاء فنقول : كما أنّ الظاهر من التعليق شرطيّة المقدّم كذلك الظاهر من إطلاق الشرطيّة كون المذكور شرطا على التعيين لا على البدليّة كما يرشد إليه قولك حصول المجيء شرط لوجوب الإكرام.

فإذا كان المفهوم من إطلاقه كون المذكور شرطا على التعيين فلا جرم يلزم من انتفائه انتفاء الجزاء لاستحالة وجود المشروط بدون الشرط.

٣٦٠