عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

متعلّقه إلى متعلّق الأمر.

وإن كان متّحدا مع الموصوف وقلنا بأنّ المغايرة الذهنيّة تكفي في جواز الاجتماع وعدم السراية فلا مناص أيضا عن القول بالجواز دون الامتناع كما اخترناه سابقا ، ولو قلنا بعدم كفاية المغايرة الذهنيّة وتعلّق النهي بالخارج فاللازم هو القول بالامتناع لعدم إمكان اجتماع النهي في الأمر في الوجود الخارجيّ ، ولكن يكفي في صحّة العبادة وجود الملاك بالنسبة إلى مورد الأمر لأنّ المفروض أنّ الوجود الواحد الخارجيّ مصداق للعنوانين ومقتضاه هو وجود الملاك على حسب ما مرّ مفصّلا في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، وكيف كان فهو خارج عن محلّ النزاع المفروض فيه تعلّق النهي بالعبادة بعنوان واحد فلا تغفل.

فتحصّل أنّ محلّ النزاع هو ما إذا تعلّق النهي بالعبادة بعنوان واحد من دون فرق بين أن تكون العبادة مركّبة أو بسيطة أو جزء أو شرطا بالنسبة إلى عبادة اخرى إذ النهي في كلّ هذه الصور تعلّق بالعبادة ويكون داخلا في محلّ النزاع ، هذا بخلاف ما إذا تعلّق النهي بعنوان آخر كالوصف ملازما كان أو مفارقا فإنّ النهي حينئذ لم يتعلّق بالعبادة بعنوان واحد بل هو داخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي فتدبّر جيّدا.

المختار في المسألة

إذا عرفت المقدّمات المذكورة فالمهمّ حينئذ هو بيان المختار في المسألة ويقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في العبادات ، فنقول وعلى الله الاتّكال : لا شبهة في أنّ النهي التحريميّ المتعلّق بعنوان العبادة يقتضي الفساد عقلا فإنّه يدلّ على حرمتها بعنوانها وهو يكشف عن مبغوضيّتها ومع المبغوضيّة الذاتيّة لا يصلح المنهيّ لأن يتقرّب به والمفروض أنّ محلّ البحث هو أن تكون العبادة بعنوانها لا بعنوان آخر منهيّا عنها فلا

٣٠١

أمر بالنسبة إلى متعلّق النهي إذ لا يمكن اجتماعهما في عنوان واحد ، كما لا ملاك فإنّ النهي عن العبادة مع فرض الإطلاقات الدالّة على مطلوبيّة العبادة يرجع إلى استثناء مورد النهي عن تلك المطلقات ، ومعنى الاستثناء المذكور هو تقييد المادّة ومقتضى ذلك هو عدم وجود الملاك فيها ، هذا مضافا إلى تضادّ المفسدة مع المصلحة فمع وجود المفسدة في العبادة بعنوانها كما هو المفروض لا يمكن اجتماعها مع المصلحة بذلك العنوان كما لا يخفى.

ربّما يقال كما في نهاية الأفكار أنّ النهي المولويّ المتعلّق بعنوان العبادة غير مقتض لفساد العبادة إلّا من جهة قضيّة الإخلال بالقربة الموقوفة على العلم به وإلّا فمن جهة فقدانها للملاك والمصلحة لا دلالة عليه بوجه من الوجوه لأنّ غاية ما يقتضيه النهي المزبور بما أنّه نهي مولويّ تحريميّ إنّما هو الدلالة على قيام المفسدة في متعلّقه وأمّا الدلالة على عدم وجود ملاك الأمر والمصلحة فيه ولو من جهة اخرى فلا. نعم مع الشكّ في الملاك كان مقتضى الأصل هو الفساد ولكنه غير مرتبط باقتضاء النهي المولويّ لذلك كما هو واضح (١).

ولعلّ وجهه هو إمكان اجتماع المفسدة والمصلحة في عنوان واحد بجهتين تعليليّتين كما في مثل وضع العمامة على الرأس لمن كان له وجع الرأس في مجلس فيه جماعة من الأخيار حيث إنّ كون العمّامة في الرأس مع كونه فيه كمال المفسدة بلحاظ وجع الرأس كان فيه أيضا كمال المصلحة بلحاظ كونه نحو إعزاز وإكرام للمؤمنين وكون تركه هتكا وإهانة لهم كما صرّح به قبل العبارة المذكورة آنفا (٢).

ولكن عرفت أنّ محلّ الكلام هو ما إذا كان النهي عن العبادة بعنوان واحد وجهة واحدة لا ما إذا كان العنوان متعدّدا أو الجهات متعدّدة فإنّه خارج عن محلّ

__________________

(١) نهاية الأفكار : ص ٤٥٦.

(٢) نفس المصدر : ص ٤٥٣.

٣٠٢

الكلام ومن الواضح أنّ العقل حاكم في محلّ الكلام بعدم إمكان اجتماع المصلحة والمفسدة والأمر والنهي في عنوان واحد لوجود المضادّة بينهما كما لا يخفى.

هذا بحسب الحكم العقليّ وأمّا الدلالة اللفظيّة فإن اريد بها دلالة لفظ النهي بحسب الوضع على أمرين أحدهما الزجر عن الفعل المشتمل على المفسدة وثانيهما خلوّه عن المصلحة ، ففيه منع إذ لا وضع للنهي إلّا للزجر عن الفعل المشتمل على المفسدة ، وأمّا بالنسبة إلى خلوّه عن المصلحة وعدمه فلا وضع.

وإن اريد بها أنّ اللفظ يدلّ على المعنى الموضوع له وهذا المعنى الموضوع له يكون في الخارج ملازما مع الخلوّ المذكور فهو صحيح لما عرفت من حكم العقل من عدم إمكان اجتماع المفسدة مع المصلحة في شيء واحد بعنوان واحد وجهة واحدة إلّا أنّ هذه الدلالة ليست من الدلالات الالتزاميّة اللفظيّة بمعنى البيّن بالمعنى الأخصّ بل هي من البيّن بمعنى الأعمّ لاشتراط الدلالة الالتزاميّة اللفظيّة في البيّن بالمعنى الأخصّ وهو أن يكون التلازم بينهما ذهنيّا واضحا بحيث إذا تصوّر معنى اللفظ ينتقل إلى لازمه بدون حاجة إلى توسّط شيء آخر وهو مفقود في المقام وعليه فالدلالة عقليّة لا لفظيّة.

ثمّ إنّ حكم النهي التنزيهيّ المولويّ كالنهي التحريميّ المولويّ إذ النهي عن العبادة بعنوان واحد وجهة واحدة يدلّ على مرجوحيّة متعلّقه ومع مرجوحيّة الشيء بعنوانه لا يكاد يمكن أن يتقرّب به إذ التقرّب لا يمكن إلّا بما هو يكون راجحا والمفروض أنّه مرجوح ، وبالجملة فكما أنّ النهي المولويّ التحريميّ في المقام يقتضي الفساد لخلوّ المتعلّق عن المصلحة كذلك النهي التنزيهيّ يقتضي الفساد لخلوّ المتعلّق عن الرجحان.

وأمّا النهي التنزيهيّ عن العبادة بعنوان آخر كالنهي عن صوم يوم عاشوراء من جهة الموافقة مع بني اميّة فهو خارج عن محلّ الكلام لأنّ محلّ الكلام ما إذا تعلّق

٣٠٣

النهي بالعبادة بعنوان واحد وجهة واحدة وعليه يكون حمل الأصحاب الكراهة في العبادة على أقلّيّة الثواب مع ثبوت صحّتها شرعا لو أتى بها المكلّف مخصوصا بما إذا كان النهي بعنوان آخر وجهة اخرى وإلّا فقد عرفت أنّ النهي التنزيهيّ لا مجال معه للصحّة فلا تغفل.

وممّا ذكر يظهر أنّ النهي الغيريّ كالنهي عن الضدّ بناء على اقتضاء الأمر بالضد النهي عن الضدّ الآخر لا يقتضي الفساد عقلا ولا لفظا لأنّه لم يكن بعنوان واحد وجهة واحدة بل يكون للإلزام بإتيان غيره فكما أنّ الأمر المقدّميّ لا يكشف عن المحبوبيّة في ذات المقدّمة لأنّه إلزام لأجل إتيان الغير فكذلك النهي المقدّميّ من جهة الإلزام بإتيان الغير لا يكشف عن المبغوضيّة والمرجوحيّة في ذات الفعل والعبادة.

فالأمر بذات العبادة وان لم يجتمع مع النهي الغيريّ في مقام الامتثال ولكن يكفي وجود الملاك في العبادة بعنوانها في صحّتها لو أتى بها بقصد الملاك لله تعالى أو أتى بها بقصد الأمر الترتّبيّ على ما مرّ في محلّه.

وأمّا النواهي الإرشاديّة فهي أيضا خارجة عن محلّ الكلام فإنّ دلالة النهي المتعلّق بالعبادة على الفساد مع سوقه إلى بيان المانعيّة كالنهي عن الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه واضحة فلا مجال للمناقشة والبحث فيها.

ربّما يدّعى ظهور النواهي المتعلّقة بالعبادات في الإرشاديّة معلّلا بأنّ المكلّفين بحسب النوع إنّما يأتون بالعبادات لأجل اسقاط الأمر والإعادة فإذا ورد من المقنّن نهي عن كيفيّة خاصّة تنصرف الأذهان إلى أنّ الإتيان بها مع هذه الكيفيّة غير مسقط للأمر وإنّه لأجل الإرشاد إلى فسادها.

فقوله «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» ظاهر في نظر العرف في أنّ الطبيعة المتعلّقة للأمر لا تتحقّق بهذه الكيفيّة وأنّ الصلاة كذلك لا يترتّب عليها الأثر المتوقّع أي سقوط القضاء والإعادة وسقوط الأمر لأجل الأمن من العقاب.

٣٠٤

وكذا الحال لو تعلّق بصنف خاصّ كصلاة الأعرابيّ أو في حال خاصّ كالصلاة أيّام الإقراء أو مكان خاصّ كالحمّام ، فمع عدم الدليل تحمل تلك النواهي على الإرشاد كالأوامر الواردة في الأجزاء والشرائط وهذه الدعوى قريبة (١).

ولا يخفى أنّ ما ذكر مناقشة في الصغرى وملاحظته وتحقيقه موكول إلى محلّه كملاحظة أحكام الحائض وقد ذهب المحقّق الخوانساريّ قدس‌سره إلى استفادة الحرمة الذاتيّة من قوله عليه‌السلام في صحيحة خلف بن حماد (فلتتّق الله فإن كان من دم الحيض فلتمسك عن الصلاة حتّى ترى الظهر وليمسك عنها بعلها إلخ (٢).

بدعوى دلالة الرواية على الحرمة الذاتيّة للصلاة في صورة كون الدم دم الحيض (٣).

ولكنّه محلّ إشكال لإمكان أن يقال إنّ حال هذه الرواية حال بقيّة الأخبار الناهية عن الصلاة في أيّام الحيض كقوله (لا تحلّ لها الصلاة) وقوله (فلتدع الصلاة) وغير ذلك من العبائر التي يقال فيها إنّها ظاهرة في الإرشاد إلى الفساد أو مانعيّة الحيض كما ذهب إليه العلّامة الخوئيّ قدس‌سره (٤).

اللهمّ إلّا أن يعتضد ذلك بقوله عليه‌السلام في رواية العلل (لأنّها في حدّ نجاسة فأحبّ الله أن لا يعبد إلّا طاهرا (٥)) فإنّه ظاهر في وجوب ترك العبادة في حال النجاسة بناء على دلالته على كراهته تعالى من أن يعبد في غير حال الطهارة ولكن استبعده في المستمسك بأنّه حينئذ يدلّ على عدم فائدة وخصوصيّة للطهارة وهو بعيد (٦) فتأمّل.

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ١٥٩.

(٢) الكافي : ج ٣ ص ٩٣.

(٣) راجع جامع المدارك : ج ١ ص ٧٩ ـ ٨٠.

(٤) راجع التنقيح : ج ٦ ص ٤١٦.

(٥) الوسائل : الباب ٣٩ من أبواب الحيض : ج ٢.

(٦) المستمسك : ج ٣ ص ٣١١.

٣٠٥

وكملاحظة زمان الصيام فقد صرّحت موثّقة زرارة وفضيل بوجوب الإفطار بعد انتهاء النهار حيث قال الإمام الباقر عليه‌السلام فيها : لأنّه قد حضرك فرضان الإفطار والصلاة فابدأ بأفضلهما وأفضلهما الصلاة (١).

ومن المعلوم أنّ إطلاق الفرض على الإفطار بعد انتهاء النهار يدلّ على حرمة الصوم في الليل أو صوم مجموع الليل والنهار أو إدخال جزء من الليل فيه إلّا بقصد المقدّميّة كما أفتى به السيّد قدس‌سره في العروة الوثقى ويشهد للحرمة التكليفيّة أيضا ما ورد عن عليّ بن الحسين (عليهما‌السلام) :

وأمّا الصوم الحرام فصوم يوم الفطر ويوم الأضحى وثلاثة أيّام من أيّام التشريق ، إلى أن قال : وصوم الوصال وصوم الصمت حرام وصوم المعصية حرام وصوم الدهر حرام (٢).

وكملاحظة أدلّة المنع عن الصوم في السفر فإنّ الظاهر من قوله تعالى (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) تعيّن القضاء وعدم مشروعيّة الصوم من المسافر كما أنّها لا تشرّع من المريض ، هذا مضافا إلى النصوص الواردة في المريض والسفر ، منها ما ورد في الصوم في السفر في شهر رمضان من أنّه كالمفطر في الحضر ، ومنها ما ورد في مطلق الصوم : ليس من البرّ الصيام في السفر ، وقوله في موثّقة عمّار : لا يحلّ الصوم في السفر فريضة كان أو غيره والصوم في السفر معصية (٣) فإنّ هذه الأدلّة ظاهرة في حرمة الصيام حال السفر ذاتا وتكليفا ويشهد له أيضا إطلاق العصاة على ناس صاموا في السفر (٤) وغير ذلك من الموارد.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٧ من أبواب آداب الصائم : ج ١ و ٢.

(٢) نفس المصدر : الباب ١ من أبواب الصوم المحرّم.

(٣) نفس المصدر : الباب ١٠ من أبواب من يصحّ منه الصوم : ح ٨.

(٤) نفس المصدر : الباب ٨١ من أبواب من يصحّ منه الصوم : ح ١.

٣٠٦

وعليه فلا مجال للمناقشة الصغرويّة أيضا مع وجود بعض العبادات المحرّمة ذاتا وتكليفا كما لا مجال للمناقشة الكبرويّة مع ما عرفت من عدم إمكان التقرّب بما هو مبغوض ، فتحصّل أنّ الحرمة ملازمة مع الفساد عقلا ولا فرق في ذلك بين أن يكون النهي المولويّ عن العبادة تحريميّا أو تنزيهيّا فإنّه يكشف عن الفساد عقلا في كليهما بالتقريب المذكور وأمّا الدلالة الالتزاميّة فلا لعدم وجود شرطها من كون التلازم ذهنيّا وواضحا بحيث إذا تصوّر معنى اللفظ ينتقل إلى لازمه بدون حاجة إلى توسيط شيء آخر.

المقام الثاني في المعاملات :

ذهب سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره إلى أنّ الظاهر من النواهي الواردة في باب المعاملات هو الإرشاد إلى الفساد لا تحريم الأسباب لأنّها آلات لتحقّق المسبّبات ولا نفسيّة لها حتّى يتعلّق بها النهي مضافا إلى بعد تعلّق النهي والحرمة بالتلفّظ بألفاظ الأسباب.

ولا تحريم المسبّبات فإنّها اعتبارات شرعيّة أو عقلائيّة ولا معنى لتعلّق النهي بها.

ولا الآثار المترتّبة عليها لبعد تعلّقها بها لأنّ مع تأثير الأسباب لا معنى للنهي عنها ومع عدم تأثيرها يكون التصرّف في أموال الغير ووطء الأجنبيّة وأمثالهما محرّمة لا تحتاج إلى تعلّقها بها ، فمع ما عرفت لا بدّ من حمل النواهي في باب المعاملات على الإرشاد إلى الفساد وأنّ الزجر عن الإيقاع لأجل عدم الوقوع.

وبالجملة المتفاهم به عرفا في النهي عن معاملة خاصّة أو إيقاعها على نحو خاصّ هو الإرشاد إلى أنّ الأثر المتوقّع منها لا يترتّب عليها فتكون فاسدة.

وأمّا ما يقال من أنّ النهي فيها منصرف إلى ترتيب الآثار فقوله (لا تبع المجهول) مثلا منصرف إلى حرمة ترتيب الآثار على بيعه ومنه يستفاد الوضع فغير

٣٠٧

سديد لمنع الانصراف ولا داعي لرفع اليد عن ظاهر العنوان بل الظاهر أنّ النهي متعلّق بإيقاع الأسباب لكن لا إلى ذاتها بما هي بل بداعي الإرشاد إلى عدم التأثير (١).

ولا يخفى عليك أنّ دعوى التفاهم العرفيّ في كون النواهي الواردة في المعاملات إرشاديّا لا مولويّا مقبولة ولكنّ تعليلها بالمذكورات منظور فيه لأنّ ظاهرها هو عدم معقوليّة أن يكون النواهي فيها مولويّة مع إنّ جملة من النواهي الواردة في المعاملات تكون تكليفيّة مولويّة منها النواهي الواردة في حرمة التزويج على المحرم في حال الإحرام وقد أفتى الأصحاب بحرمة التزويج تكليفا ووضعا على المحرم لنفسه أو لغيره.

ويدلّ عليه صحيحة ابن سنان : ليس للمحرم أن يتزوّج ويزوّج فإن تزوّج أو زوّج محلّا فتزويجه باطل (٢).

فإنّ الظاهر من الفاء كما أفاد السيّد المحقّق الخوئيّ قدس‌سره هو التفريع ، ولا معنى للتفريع على نفسه فإذا اريد من الجملة الأولى أي قوله (ليس للمحرم) البطلان فلا معنى لقوله ثانيا (وإن زوّج فتزويجه باطل) بل الصحيح أنّ المراد بقوله ليس للمحرم هو التحريم ثمّ فرّع عليه (فإن تزوّج .... فباطل) نظير تفريع بطلان النكاح بالمحرّمات على حرمة النكاح بهنّ (٣).

ومنها النواهي الواردة في حرمة الظهار وحرمة الربا وحرمة النكاح في العدّة وغير ذلك من الموارد التي يكون النهي فيها تكليفيّا أيضا فراجع.

هذا مضافا إلى أنّ دعوى بعد تعلّق الحرمة التكليفيّة بالتلفّظ بألفاظ الأسباب

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ١٥٨ و ١٥٩.

(٢) التهذيب : ج ٥ ص ٣٢٨.

(٣) المعتمد : ج ٤ ص ١١٣ و ١١٤.

٣٠٨

صحيحة فيما إذا لم يرد الشارع التأكيد في الحرمة وأمّا مع إرادة ذلك فلا بعد فيه ولا يضرّ في ذلك كون الألفاظ آلات لتحقّق المسبّبات كما لا يخفى.

وكيف كان فمع فرض تعلّق النهي التكليفيّ بالمعاملات فإن كان النهي غيريّا أو تنزيهيّا فلا وجه لدلالته على الفساد إذ المرجوحيّة التنزيهيّة أو الغيريّة لا تنافي تأثير المعاملة كما لا يخفى.

وأمّا النهي التحريميّ فهو على أقسام منها أن يكون النهي عن التسبّب بعقد إنشائيّ لحصول المسبّب كالنهي عن الظهار أو النهي عن المراهنة بالعوض.

ومنها أن يكون النهي عن السبب لأجل مبغوضيّة المسبّب كالنهي عن بيع المصحف أو العبد المسلم من الكافر لأجل مبغوضيّة مسبّبهما وهو ملكيّته لهما.

ومنها أن يكون النهي عن المعاملة لأجل مبغوضيّة ترتيب الآثار المطلوبة عليها.

ومنها أن يكون النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع الخمر والميتة أو الربا ونحوها.

ومنها أن يكون النهي متعلّقا بذات السبب أي الفعل المباشريّ كالتلفّظ بعقد في حال الصلاة.

ولا يذهب عليك أنّ الأخير خارج عن المقام لأنّ النهي لم يتعلّق به بعنوان المعاملة وإيقاع السبب بل بما هو فعل مباشريّ له ، ومن المعلوم أنّ محلّ الكلام هو النهي عن المعاملة ولا إشكال في أنّ النهي الغيريّ لا يدلّ على الفساد فلو أوقع المعاملة في حال الصلاة بطلت الصلاة وصحّت المعاملة لأنّ النهي ليس عن المعاملة بما هي معاملة.

كما أنّه لا إشكال في خروج ما قبل الأخير عن محلّ الكلام إذ النهي فيه متوجّه إلى أكل الثمن أو المثمن لا المعاملة مع إنّ الكلام في النهي عن المعاملة ، نعم النهي عن

٣٠٩

أكل الثمن أو المثمن كاشف عن عدم صحّة المعاملة فيهما إذ لا وجه لحرمتهما إلّا فساد المعاملة فيهما.

وأمّا الثالث فقد ذهب سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره إلى أنّ المتفاهم العرفيّ فيما إذا تعلّق النهي بالمعاملة لأجل مبغوضيّة ترتيب الآثار المطلوبة عليها ، هو الفساد.

بدليل أنّ حرمة ترتيب الأثر على معاملة مساوقة لفسادها عرفا (١).

ولكنّه لا يخلو عن تأمّل بل نظر لأنّ مبغوضيّة ترتيب الآثار كمبغوضيّة التسبّب بالمعاملة أو هي هي في عدم الملازمة بين الحرمة والفساد عند تعدّد الاعتبار.

فكما أنّ مبغوضيّة التسبّب بالمعاملة لا تستلزم الفساد بدليل عدم المنافاة بين المبغوضيّة الشرعيّة وتأثير السبب عرفا فكذلك مبغوضيّة ترتيب الآثار شرعا لا تنافي ترتّبها عرفا.

نعم لو قلنا بأنّ الاعتبار لم يكن متعدّدا بل لا يوجد في المعاملات سوى ترتيب الآثار أو التسبّب شرعا لكان الأمر كما ذكر في كليهما ولكنّه ليس كذلك لأنّ صدق البيع أو ترتيب النقل والانتقال الإنشائيّ على بيع الفضوليّ وبيع الغاصب ومن اشتبه في مال واعتقد أنّه له ، يكشف عن تعدّد الاعتبار في باب المعاملات سواء قلنا بأنّ الاعتبار ثلاثيّ كما حكي عن السيّد الطباطبائيّ من اعتبار العاقد واعتبار العقلاء واعتبار الشرع أو ثنائي من إنشاء العاقد وإيجاد المنشأ بوجود إنشائيّ فيكون موضوعا للآثار العقلائيّة والشرعيّة.

فمع تعدّد الاعتبار فلا مانع من تأثير إنشاء التسبّب أو ترتيب الآثار على الأسباب عرفا مع النهي المولويّ المتعلّق بهما لعدم المنافاة بينهما.

إذ محلّ النزاع هو ما إذا تعلّقت النواهي المولويّة بالتسبّب بالأسباب العرفيّة أو

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ١٦٣.

٣١٠

بترتيب الآثار العرفيّة عليها وأمّا ما يقال من أنّ الإمضاء الشرعيّ إن كان بمعنى التصديق للعرف بمعنى عدم خطأ نظره في رؤية السببيّة فلا إشكال في اقتضاء النهي للفساد كما في اصول الفقه لشيخنا الاستاذ الأراكي قدس‌سره ففيه أنّ ذلك الاقتضاء صحيح فيما إذا كان المنهيّ إرشاديا لا مولويّا فإنّ النهي الإرشاديّ يدلّ على تخطئة العرف في رؤية السببيّة وأمّا النهي المولويّ فلا نظر له إلى تخطئة العرف أو تصويبه كما لا يخفى.

وبالجملة فمجرّد تعلّق النواهي المولويّة بترتيب الآثار أو التسبّب بالأسباب العرفيّة لا يكون رادعا أو مخصّصا أو مقيّدا لعموم ما دلّ على تنفيذ المعاملات والأسباب العرفيّة نعم لو قلنا بأنّ الاعتبار متعدّد في التسبّب دون ترتيب الآثار فلا وجه لإلحاق ترتيب الآثار على التسبّب ولكنّه كما ترى لتعدّد الاعتبار في ترتيب الآثار أيضا بل لعلّ مرجعهما إلى أمر واحد. نعم لو قامت قرينة على أنّ النهي في أمثالهما إرشاديّ فلا إشكال حينئذ في دلالته على الفساد وردع ما عليه العرف وتخصيص أو تقييد ما دلّ على تنفيذ المعاملات ولكنّ المفروض هو أن يكون النهي مولويّا لا إرشاديّا وهكذا يمكن استبعاد ذلك فيما إذا كان دليل التنفيذ مختصّا بمورد فورد فيه النهي عن التسبّب به أو ترتيب الآثار عليه ولكنّه أيضا خلاف المفروض فإنّ دليل التنفيذ عامّ ولا يكون مختصّا بمورد النهي.

وممّا ذكر يظهر حكم الأوّل والثاني فإنّ النهي عن التسبّب بالأسباب العرفيّة لأجل مبغوضيّة التسبّب شرعا أو النهي عن الأسباب العرفيّة لأجل مبغوضيّة المسبّب شرعا لا يستلزم الفساد ، هذا مضافا إلى ما عرفت من أنّ الأوّل عين الثالث لأنّ مرجعهما إلى أمر واحد.

فتحصّل أنّ النواهي المولويّة مطلقا لا تدلّ على الفساد في المعاملات.

ولذلك قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره : إنّ النواهي المتعلّقة بالتسبّب أو السبب أو المسبّب العرفيّ لا تستلزم الفساد لأنّها قد تكون لمجرّد الحرمة التكليفيّة

٣١١

كالنهي الوارد في الظهار إذ الظهار مؤثّر وإن كان محرّما فلا يكون النهي عنه ملازما مع الفساد وقد يجتمع مع الفساد كالنواهي الواردة في حرمة الربا فإنّ النهي فيه يفيد الحرمة لكون الربا حربا مع الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع ذلك يكون المعاملة الربويّة فاسدة فيجتمع الحرمة التكليفيّة مع الحرمة الوضعيّة وبالجملة لا ملازمة بين الحرمة التكليفيّة والحرمة الوضعيّة ، ولذا قد تفترق وقد تجتمع ، ولعلّه لذلك ذهب المشهور إلى عدم دلالة النواهي التكليفيّة على الفساد في المعاملات.

الاستدلال بالأدلّة الشرعيّة

ثم إنّه ربّما يتمسّك بالروايات والأدلّة الشرعيّة على إفادة النواهي التكليفيّة للفساد منها صحيحة زرارة المرويّة في نكاح العبيد والإماء عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده فقال : ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما ، قلت أصلحك الله إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعيّ وأصحابهما يقولون إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له. فقال أبو جعفر عليه‌السلام إنّه لم يعص الله إنّما عصى سيّده فإذا أجازه فهو له جائز (١).

ومنها معتبرة موسى بن بكر عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سألته عن رجل تزوّج عبده امرأة بغير إذنه فدخل بها ثمّ اطّلع على ذلك مولاه ، قال ذاك لمولاه إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها إلّا أن يكون اعتدى فأصدقها صداقا كثيرا وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل ، فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام (فإنّه في) فإنّ أصل النكاح كان عاصيا ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنّما أتى شيئا حلالا وليس بعاص لله إنّما عصى سيّده ولم يعص الله إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه (٢).

__________________

(١) الوسائل : ج ١٤ ص ٥٢٣ الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والإماء : ح ١.

(٢) نفس المصدر : ص ٥٢٤ : ح ٢.

٣١٢

ولا يخفى عليك أنّ موسى بن بكر وإن لم يوثّق بالخصوص إلّا أنّه يكفي في وثاقته رواية صفوان عنه على ما قرّر في محلّه.

والاستدلال بتقريب أنّ الروايتين تدلّان على أمرين أحدهما الكبرى وهي أنّ النكاح لو كان معصية لله تعالى لكان باطلا.

وثانيهما نفى الصغرى وهي أنّ نكاح العبد لم يكن معصية لله تعالى وإنّما كان معصية للسيّد والأمر الأوّل يكفي لإثبات التعبّد بالبطلان في النواهي المولويّة فإنّ النواهي المولويّة المتعلّقة بالتسبّب بالمعاملات أو ترتيب الآثار عليها تدلّ على أنّ إتيان مواردهما معصية لله تعالى كما لا يخفى.

ولذلك قال سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره : إنّهما تدلّان على ملازمة الحرمة التكليفيّة المتعلّقة بذات المعاملة كحرمة عقد ذات العدّة أو ذات البعل مع الفساد ولا تدلّان على الملازمة في كلّ معاملة محرّمة ولو بعنوان ثانويّ كحرمة عصيان العبد لو قلنا بأنّ مخالفته محرّمة للنفي الصريح في ذيل بعض الروايات بأنّ ذلك أي عصيان السيّد ليس كإتيان ما حرّمه الله عزوجل من النكاح في العدّة وأشباهه.

وإنّما الحرمة التكليفيّة الذاتيّة في المعاملات تكون ملازمة مع الفساد ولذا لم نر في تضاعيف أبواب الفقه موردا ورد فيه النهي المولويّ عن ذات معاملة ومع ذلك تكون تلك المعاملة صحيحة إلّا باب الظهار مع إنّه يمكن منع الصحّة فيه أيضا لأنّه لا يوجب حرمة أبديّة مع إنّ المقصود من إنشائه ممّن يعتقد بصحّة الظهار هو الحرمة الأبديّة ومن المعلوم أنّ حرمة المقاربة ما لم يكفّر العاقد لا تدلّ على صحّة الظهار على ما قصده العاقد بل هو عقوبة على من فعل ذلك حتّى لا يعود إليه.

وإليه أشار سيّدنا الإمام المجاهد قدس‌سره حيث قال بعد نقل الروايتين : بتقريب أنّ

٣١٣

الظاهر منهما أنّ النكاح لو كان معصية لله لكان باطلا وإنّما نفى الصغرى (١).

أورد عليه في الكفاية بأنّ الظاهر أن يكون المراد من المعصية المنفيّة هاهنا أنّ النكاح ليس ممّا لم يمضه الله ولم يشرّعه كي يقع فاسدا ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد كما لا يخفى ، ولا بأس

بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه الله ولم يأذن به كما أطلق عليه بمجرّد عدم إذن السيّد فيه أنه معصية.

وبالجملة لو لم يكن ظاهرا في ذلك لما كان ظاهرا فيما توهّم (٢).

وبيانه أنّ المراد من المعصية المنفيّة في قوله (إنّه لم يعص الله) هي المعصية الوضعيّة لا التكليفيّة ولا كلام في استتباع المعصية الوضعيّة للفساد وإنّما الكلام في المعصية التكليفيّة هل إنّها توجب الفساد أم لا ، والشاهد على أنّ المراد من المعصية في الرواية في قوله (لم يعص الله) هي المعصية الوضعيّة لا التكليفيّة إطلاق المعصية بهذا المعنى في صدر الرواية على الفعل الغير المأذون فيه بإذن وضعيّ حيث قال الراويّ في معتبرة موسى بن بكر : فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام (فإنّه في أصل النكاح كان عاصيا) مع إنّ إنشاء العقد لا ينافي حقّ المولى حتّى يكون معصية تكليفيّة ، فالمراد منها هي المعصية الوضعيّة كما نصّ عليه في صحيحة زرارة حيث قال : (إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعيّ وأصحابهما يقولون إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له) فالمعصية والفساد بمعنى واحد ومع الوحدة فالمراد من المعصية هي المعصية الوضعيّة لا التكليفيّة.

هذا مضافا إلى ما أفاده المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره من أنّ في رواية ثالثة (صحيحة منصور بن حازم) في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله فقال عليه‌السلام عاص لمولاه

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ١٦٥.

(٢) الكفاية : ج ١ ص ٢٩٩.

٣١٤

قلت هو حرام قال عليه‌السلام ما أزعم أنّه حرام وقل له أن لا يفعل إلّا بإذن مولاه (١).

ولو كان المراد بالمعصية (في قوله عليه‌السلام عاص لمولاه) فعل الحرام لم يكن وجه للسؤال عن الحرمة بعد نفي كونه فاعلا للحرام فهذه الرواية أظهر من غيرها من حيث إرادة أنّه لم يفعل ما لم ينفّذه تعالى بل فعل ما لم ينفّذه السيّد ولا بأس بالسؤال عن الحرمة بعد النفوذ لما ذكرنا مرارا من عدم الملازمة بين الحرمة وعدم النفوذ وفيه إشارة إلى عدم الملازمة عرفا أيضا كما لا ملازمة عقلا فتأمّل (٢).

وأجيب عنه بأنّ حمل المعصية على مخالفة النهي الوضعيّ خلاف الظاهر في الغاية بل الظاهر منها مخالفة النهي التحريميّ كما ذهب إليه شيخنا الاستاذ الأراكيّ قدس‌سره (٣).

ويمكن أن يقال ترفع اليد عن الظهور بالقرائن المذكورة في الروايات سيّما الرواية الأخيرة بالتقريب الذي أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره فإنّها تصلح للقرينيّة على أنّ المراد من قوله (إنّما عصى سيّده) في الروايتين هو العصيان الوضعيّ لأنّ السؤال عن الحرمة بعد قوله (عاص لمولاه) في الرواية الثالثة لا وجه له إلّا من جهة أنّ المراد من قوله (عاص لمولاه) هو المعصية الوضعيّة وعدم النفوذ.

وعليه فالأقوى كما في الكفاية وذهب إليه المحقّق الأصفهانيّ والسيّد الخوئيّ قدس‌سره عدم دلالة الروايات على اقتضاء النواهي التكليفيّة للفساد لأنّ موردها هو النواهيّ الوضعيّة لا النواهيّ التكليفيّة.

وممّا ذكر يظهر ما في مناهج الوصول أيضا حيث قال : إنّ مورد السؤال والجواب النكاح بما له من المعنى المتعارف ، أي ما صنعه العبد بلا إذن مولاه هو

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب نكاح العبيد والإماء : ح ٢.

(٢) نهاية الدراية : ج ٢ ص ١٥٧.

(٣) اصول الفقه : ج ١ ص ٢٥٠.

٣١٥

عصيان سيّده وليس بعصيان الله ، أمّا عصيان السيّد فلأنّ ارتكابه هذا الأمر المهمّ بلا إذنه مخالفة لسيّده وخروج عن رسم العبوديّة ، وأمّا عدم كون النكاح عصيان الله تعالى فلأنّ ما حرم الله تعالى على العبد هو عنوان مخالفته لمولاه ومتعلّق النهي هذا العنوان ولا يكاد يتجاوز عنه إلى عنوان آخر كالنكاح والطلاق.

فالتزويج الخارجيّ مصداق لعنوان محرّم هو مخالفة المولى وعنوان غير محرّم بل محلّل هو النكاح فالتزويج بعنوانه حلال ليس بمحرّم ولا تسري حرمة مخالفة المولى إلى ذلك العنوان في وعاء من الأوعية وإنّما يتّحد مصداق النكاح مع مصداق المخالفة في الخارج الذي لم يكن ظرف تعلّق الحكم كما مرّ الكلام فيه ثمّ استشهد عليه بقوله عليه‌السلام «إنّما أتى شيئا حلالا وليس بعاص لله إنّما عصى سيّده» وقال : ترى كيف صرّح بأنّ أصل النكاح شيء حلال ليس بمعصية الله ومع ذلك عصى سيّده أي في النكاح ، فالتزويج عصيان للسيّد ومخالفة السيّد عصيان لله وهي بعنوانها غير النكاح وإن اتّحدا خارجا.

واستشهد أيضا له بتعليله عليه‌السلام «بأنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه» ممّا تعلّق الحرمة بنفس الطبيعة وقال : ووجه الافتراق ليس إلّا ما ذكرنا.

واستشهد له أيضا بصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله قال : عاص لمولاه ، قلت حرام هو؟ قال ما أزعم أنّه حرام وقل له أن لا يفعل إلّا بإذن مولاه».

وقال : انظر كيف صرّح بعدم حرمة التزويج ومع ذلك نهاه عن إتيانه بلا إذن مولاه وليس له وجه إلّا ما تقدّم من أنّ النكاح ليس بحرام لكنّ إتيانه منطبق عنوان

٣١٦

آخر محرّم هو مخالفة المولى (١).

لما عرفت من أنّ المراد من عصيان السيّد في صدر الروايات هو العصيان الوضعيّ كما يشهد له عدم الحرمة التكليفيّة لمجرّد الإنشاء ، والسؤال عن الحرمة التكليفيّة بعد قول الإمام عليه‌السلام عاص لمولاه في صحيحة منصور بن حازم ووحدة قوله فإنّه في أصل النكاح كان عاصيا في صحيحة زرارة مع قوله إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له في صحيحته الاخرى.

ولا دليل على حرمة مخالفة العبد لمولاه في مثل الإنشاء المذكور حتّى يكون الإنشاء مصداقا للمخالفة المذكورة المحرّمة فإذا عرفت أنّ المعصية المثبّتة في صدر الروايات هي المعصية الوضعيّة فالمعصية المنفيّة في طرف الله تعالى أيضا هي المعصية الوضعيّة ، وعليه فالروايات أجنبيّة عن المقام الذي يبحث فيه عن النواهي التكليفيّة ولا أقلّ من الشكّ في أنّ المراد من العصيان هو العصيان التكليفيّ أو الوضعيّ ومع الإجمال لا تدلّ الروايات على خلاف ما اقتضت القاعدة في النواهي التكليفيّة من عدم اقتضائها للفساد ، هذا كلّه على فرض تسليم كون النواهي في المعاملات تكليفيّة وأمّا على ما مرّ من أنّ المتفاهم العرفيّ في النواهي الواردة في المعاملات أنّها للإرشاد فلا ريب في دلالتها على الفساد لإرشادها إلى وجود المانع فلا تغفل.

تبصرة : ولا يذهب عليك أنّه حكي عن أبي حنيفة والشيبانيّ دلالة النواهي التكليفيّة الواردة في المعاملات والعبادات على الصحّة خلافا لما عرفت من ملازمتها مع الفساد في العبادات دون المعاملات فإنّها لا تدلّ على الفساد كما لا تدلّ على الصحّة.

واستدلّ لهما بأنّ النهي زجر عن إتيان المبغوض ومع الفساد لا يقدر المكلّف على إيجاده والنهي مع عدم قدرة المكلّف يكون لغوا فمثل البيع الربوي وصوم يوم

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ١٦٥ ـ ١٦٧.

٣١٧

العيد الأضحى اللذين لا يمكن إتيانهما صحيحا يكون النهي عنهما لغوا لعدم القدرة عليهما ولا يتعلّق النهي من الحكيم المتعال بهما لعدم الحاجة إليه فإذا صدر عن الحكيم النهي عنهما كشف عن كونهما مقدورين وعن صحّتهما.

ذهب في الكفاية إلى تصديقهما في المعاملات فيما إذا تعلّق النهي بالمسبّب كالنهي عن بيع المصحف من كافر أو بالتسبيب كالنهي عن بيع المنابذة دون العبادات حيث قال : والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبّب أو التسبيب لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر ولا يكاد يقدر عليهما إلّا فيما إذا كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة وأمّا العبادات ففي ما إذا كانت العبادة ذاتيّة كالسجود لله تعالى فمع النهي عنه يكون مقدورا كما إذا كان مأمورا به وفيما إذا لم تكن ذاتيّة بل كان عبادة لاعتبار قصد القربة فيه لو كان مأمورا به فلا يكاد يقدر عليه إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد وهو محال.

وحكي عن المحقّق النائينيّ أنّ النهي إذا تعلّق بالمسبّب دلّ على الفساد دون ما إذا تعلّق بالسبب.

وفيه كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ النواهي التكليفيّة التي كانت محلّا للنزاع في المعاملات تعلّقت بالمسبّبات أو الأسباب أو التسبّبات العرفيّة لا الشرعيّة إذ الملحوظ في متعلّق النواهيّ في المعاملات هو ما يترتّب عليه الأثر عرفا لا شرعا حتّى يلزم اللغويّة مع عدم الصحّة الشرعيّة.

وعليه فلا دلالة للنواهي التكليفيّة على صحّة متعلّقها شرعا كما لا دلالة لها على فسادها.

نعم لو تعلّقت بالأسباب والمسبّبات أو التسبّبات الشرعيّة فلا محالة تدلّ على الصحّة كما ذهبا إليه وإلّا لزم الخلف في كونها كذلك عند الشارع ، هذا بالنسبة إلى النواهي التكليفيّة المتعلّقة بالمعاملات.

٣١٨

وأمّا في العبادات الذاتيّة فالنهي فيها أيضا لا يدلّ على الصحّة لأنّ تأثيرها في القرب ليس لازم وجودها بل لا يعقل المقرّبيّة مع المبغوضيّة المكشوفة بالنهي عنها فلا محالة لا يكون النهي عن العبادات الذاتيّة كاشفا عن صحّتها مع إنّ تعلّق النهي بها كما أفاد صاحب الكفاية يكون مقدورا ألا ترى أنّ تعظيم المولى أو الاستاذ مطلوب ذاتا ومرغوب في نفسه ولكن إذا أدّى ذلك إلى كسر يد المولى أو الاستاذ أو قتلهما فلا يوجب القرب إليهما ، وعليه فلا وجه لذهاب أبي حنيفة والشيبانيّ إلى إفادة النواهي الصحّة في العبادات الذاتيّة فقولهما ساقط فيها أيضا كما أنّ قولهما في المعاملات ساقط لما عرفت.

وممّا ذكر يظهر وجه عدم إفادة النواهي التكليفيّة للصحّة في غير العبادات الذاتيّة أعني ما لو أمر به لكان ممّا لا يسقط إلّا بقصد القربة لأنّ تأثير العبادات غير الذاتيّة في القرب ليس أيضا لازم وجودها فالنهي عنها كالنهي عن العبادات الذاتيّة مقدور ، ومع ذلك لا يكشف النهي عنها أيضا عن الصحّة.

نعم لو كان المراد من العبادة في غير العبادات الذاتيّة العبادة الفعليّة بمعنى ما يؤتى به بداعي الأمر الفعليّ ويتقوّم بقصد القربة كان النهي عنها كاشفا عن صحّتها ولكن لا يعقل النهي عنها إلّا بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بعنوان واحد ، وقد عرفت في محلّه أنّه محال إذ الممكن هو اجتماعهما في شيء واحد يكون معنونا بعنوانين والمفروض في المقام هو أنّ النهي متعلّق بنفس العبادة من دون تعدّد العنوان.

فتحصّل أنّ التفصيل بين المعاملات والعبادات وقبول قول أبي حنيفة والشيبانيّ في المعاملات دون العبادات كما يظهر من صاحب الكفاية.

لا وجه له لما عرفت من بطلان قولهما في المعاملات والعبادات كليهما إذ الموضوع في المعاملات هو الأسباب والمسبّبات والتسبّبات العرفيّة لا الشرعيّة فالنهي

٣١٩

عنها ممكن مقدور كما أنّ النهي عن العبادات الذاتيّة أو العبادات التقديريّة بعد ما عرفت من أنّ التقرّب ليس لازم وجودها ممكن مقدور فلا يكشف النهي في البابين عن الصحّة إذ لا تتوقّف القدرة على الصحّة الشرعيّة في المعاملات كما لا تتوقّف القدرة على المقرّبية الفعليّة في العبادات لكفاية المقربيّة التقديريّة.

وممّا ذكر يظهر ما في مناهج الوصول أيضا حيث قال : فالحقّ معهما إذا احرز أنّ النهي تكليفيّ لا إرشاديّ (١).

هذا كلّه بناء على ما مرّ من المختار في حقيقة صيغة الأمر من أنّ نسبة الصيغة كنسبة صيغ العقود أو الإيقاعات إلى المعاملات نسبة الأسباب إلى المسبّبات ونسبة الآلة إلى ذيها لا نسبة المبرز إلى المبرز بالفتح لأنّها إيجاديّة لا حكائيّة ، راجع تجده نافعا في المقام (٢).

وأمّا بناء على إنكار المسببيّة والمسببيّة في باب المعاملات كما ذهب إليه في المحاضرات فلا معنى لفرض تعلّق النهي بالسبب تارة وبالمسبّب اخرى كما أوضحه في المحاضرات (٣).

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ١٦٩.

(٢) راجع الفصل الثاني فيما يتعلّق بصيغة الأمر.

(٣) المحاضرات : ج ٥ ص ٣١.

٣٢٠