عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الكلّيّة إسراء من موضوع إلى موضوع آخر (١).

ويمكن الجواب عنه بوجوه : منها ما أفاده سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من إمكان التمسّك باستصحاب وجوب ذات المقيّد بناء على اتّحاد وجوب الاستقلاليّ مع الوجوب الضمنيّ عرفا ، كما أفاده الشيخ الأعظم قدس‌سره في جريان استصحاب وجوب أجزاء الواجب بعد تعذّر بعض أجزائه لاتّحاد الوجوب الضمنيّ مع الوجوب الاستقلاليّ عرفا ، بل يكون إجراء الاستصحاب في المقام أولى من إجرائه في أجزاء المركّب ، لأنّ وجوب ذات المقيّد لو كان استقلاليّا ومتعدّدا لكان باقيا قطعا ، بخلاف الأجزاء المركّبة ، فإنّ وجوب الأجزاء الباقية لا يكون استقلاليّا ، بل الوجوب فيها ضمنيّ ويبتني جريان الاستصحاب فيه على اتّحاده مع الوجوب الاستقلاليّ عرفا ، انتهى.

وينقدح ممّا ذكر أنّ المدّعى ليس هو استصحاب الوجوب الاستقلاليّ المتعلّق بالمقيّد بما هو مقيّد أو المركّب التامّ في ذات المقيّد أو الأجزاء الباقية حتّى يقال إنّه إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، بل المراد من الاستصحاب المذكور هو استصحاب وجوب ذات المقيّد أو الأجزاء الباقية ، فلا يلزم المحذور المذكور. اللهم إلّا أن يقال : هذا صحيح إذا لم نقل باختصاص الوجوب بالمقيّد أو المركّب ، وإلّا فمتعلّق الوجوب إذا كان مقيّدا أو مركّبا يكون واحدا لوجوب واحد ، فالواجب هو المقيّد بما هو كذلك وليس للمهملة وجوب حتّى يستصحب ، فلا أصل للوجوب الضمنيّ ، ولا ينحلّ الوجوب إلى وجوب متعلّق بنفس الطبيعة ووجوب متعلّق بقيدها ، فالمتيقّن هو وجوب المقيّد وهو ليس بمشكوك فيه ، فلا يجري الاستصحاب (٢).

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٩٩.

(٢) مناهج الوصول : ج ٢ ص ١٠٠.

١٤١

ولقائل أن يقول إنّ هذا ينافي القول بجريان البراءة في الأجزاء والأقلّ والأكثر الارتباطيّين في المركّبات أو القيود المشكوكة في المطلق والمشروط ، بناء على انحلال الوجوب العينيّ المتعلّق بالمركّبات بالنسبة إلى الأجزاء في المركّبات وإلى ذات المقيّد في المشروط ، كما ذهب إليه في تهذيب الاصول (١).

وعليه ، فلا مجال للمنع عن الاستصحاب لثبوت الوجوب العينيّ للأجزاء أو ذات المقيّد ، فبعد حدوث التعذّر بالنسبة إلى بعض الأجزاء أو الشكّ بالنسبة إلى القيود يجري الاستصحاب في الوجوب العينيّ المتعلّق بالأجزاء أو ذات المقيّد.

ومنها ما في منتقى الاصول من أنّ الحقّ جريان الاستصحاب في كلّيّ الوجوب المردّد بين الوجوب الضمنيّ والنفسيّ الاستقلاليّ الثابت أوّلا ، فيكون من القسم الثاني من استصحاب الكلّيّ وذلك بناء على انحلال الأمر بالمشروط لا وحدته الذي هو مبنى جريان البراءة في الشروط ، فإنّ الوجوب الثابت للعمل بذاته في السابق مردّد بين الضمنيّ بناء على وحدة المطلوب والاستقلاليّ بناء على تعدّده فيستصحب الكلّيّ الثابت أوّلا ويترتّب عليه أثره من الدعوة والتحريك (٢).

وفيه أنّه مبنيّ على القول بوجود الوجوب الضمنيّ ، هذا مضافا إلى أنّ الجامع بين الضمنيّ والاستقلاليّ أمر انتزاعيّ وليس له أثر شرعيّ حتّى يترتّب على استصحابه ، فافهم.

ومنها أنّه يمكن أن يقال : إنّ المكلّف بعد كونه مدركا للوقت وصيرورته مخاطبا بإتيان الواجب إذا شكّ بعد انقضاء الوقت وعدم إتيان الواجب أنّه هل يكون باقيا على التكليف السابق أم لا؟ يمكن له أن يستصحب وجوب الإتيان بالواجب وليس

__________________

(١) ج ٢ ص ٣٣١ ـ ٣٤٥.

(٢) ج ٢ ص ٥١٢.

١٤٢

إبقاء الحكم المذكور بالنسبة إلى المكلّف إسراء حكم من موضوع إلى آخر ، لأنّ العرف يرى المكلّف المذكور هو المكلّف السابق ويكون الوقت كسائر القيود من الأحوال والشكّ في ذلك وإن كان ناشئا عن كون متعلّق التكليف هو كذا أو كذا ، ولكن حيث لا يجري الاستصحاب في المنشأ يجري في المكلّف ، كما أنّه مع الشكّ في مفهوم الغروب والمغرب وعدم جريان الأصل فيه يجري الاستصحاب في حرمة الإفطار على المكلّف ، فتدبّر جيّدا.

فتحصّل أنّ القضاء لا يحتاج إلى أمر جديد ، بل يكفيه الأوامر الأوّليّة في الوقت بمعونة الاستصحاب ، فلا تغفل.

١٤٣

الخلاصة :

الفصل الحادي عشر في الموسّع والمضيّق

ولا يخفى عليك إنّ المقسم لهما هو الموقّت وهو قسيم المطلق وهو الذي لا يعتبر فيه الزمان شرعا فالموقت هو الذي يعتبر فيه الزمان شرعا وهو ينقسم إلى مضيّق وموسّع حيث إنّ الزمان المعتبر فيه إن كان بقدر الفعل كالصوم فهو مضيّق.

وإن كان الزمان الماخوذ فيه أوسع من فعل الواجب فهو موسّع كالصلوات اليوميّة ثمّ إنّ الواجب في الموسّع هو إيجاد الطبيعة الصلاتيّة الكليّة المقيّدة بوقوعها بين الحدّين وهذه الطبيعة مرآة الى حصصها الدفعيّة والطوليّة ومقتضى عينيّة الطبيعة الكلّيّة مع حصصها هو سراية الحكم من الطبيعة الكلّيّة إلى حصصها وخروج الخصوصيّات الفرديّة عن الغرض الشرعي لا يلازم خروج نفس الحصص عن المطلوبيّة الشرعيّة والغرض الشرعي مع عينيّتها مع الطبيعة وحكاية الطبيعة عنها وعليه فمقتضى عدم خروج الحصص عن المطلوبية الشرعيّة هو التخيير الشرعي بينها ودعوى التخيير العقلي مندفعة بما ذكرناه ومخصوصة بما إذا لم تكن الطبيعة حاكية عن حصصها والمفروض هو الحكاية كما عرفت.

ثمّ إنّ الأمر بالموقت لا يقتضي إلّا إتيان متعلّقه في الوقت لأنّ المفروض أنّ متعلّقه مقيّد بالوقت والأمر لا يدعو إلّا الى متعلّقه فلا تعرض للأمر بالنسبة إلى غير صورة الوقت لأنّه خارج عن متعلّقه والمفروض هو وحدة المطلوب ودعوة الأمر إلى الطبيعة في ضمن الموقت لا توجب دعوته إليها ولو بدون المقيّد بعد كون المطلوب واحدا وهو المقيّد هذا كلّه فيما إذا كان التوقيت والتقييد بالوقت بدليل متصل أو بدليل منفصل يدل على التقييد بالوقت في أصل المطلوبيّة.

١٤٤

وأمّا إذا كان التوقيت والتقييد بدليل منفصل مع عدم الدلالة على أنّ أصل المطلوبيّة مقيّد وموقت وكان لدليل الواجب إطلاق فمقتضى إطلاق دليل الواجب هو ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت فحينئذ كان التقييد من باب تعدّد المطلوب وعليه فبعد الوقت مقتضى إطلاق دليل الواجب هو بقاء الواجب كما لا يخفى ولو شككنا بعد الوقت في وجوب الطبيعة ولم يظهر من دليل المطلق اطلاق المطلوبيّة ولا تقييدها ربما يقال أمكن استصحاب شخص الحكم مع فرض تعلقه بالموقت بدعوى إنّ الموضوع وإن كان بحسب الدليل موقّتا إلّا أنّ العبرة في بقاء الموضوع بنظر العرف والعرف يرى إنّ الموضوع هو نفس الفعل والوقت من أحواله لا من مقوّماته ولا قطع بخطاء نظر العرف في غير حال الاختيار.

اورد عليه بأنّ ذلك صحيح فيما إذا كان الموضوع من الخارجيّات كالماء المتغيّر الخارجي الذي زال تغييره بخلاف ما إذا كان الموضوع هو المقيّد بما هو كلّي من الكلّيّات فإنّ الكلّي المطلق والكلّي المقيّد متغايران عرفا والمقام من قبيل الثاني إذ المتعلّق هو الماهيّة الكلّيّة فالصلاة عنوان والصلاة الموقتة عنوان آخر وعليه فلا مجال للاستصحاب لعدم وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة فإسراء الحكم من المتقيّدة الى الخالية إسراء حكم من موضوع الى موضوع آخر.

اللهمّ إلّا أن يقال إنّ وجوب ذات المقيّد معلوم بناء على اتّحاد وجوب الاستقلالي مع الوجوب الضمني عرفا كما ذهب إليه شيخنا الأعظم قدس‌سره في إجزاء الواجب بعد تعذّر بعض أجزائه وعليه فيمكن استصحاب وجوب ذات المقيّد ويشهد له جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين في المركّبات أو القيود المشكوكة في المطلق والمشروط بناء على انحلال الوجوب العيني المتعلّق بالمركّبات والمقيّدات فمع الانحلال فالوجوب بالنسبة إلى الأجزاء المعلومة وذوات المقيّدات محرز ومع إحرازه يجري الاستصحاب.

١٤٥

هذا مضافا إلى إمكان أن يقال أنّ المكلّف بعد كونه مدركا للوقت وصيرورته مخاطبا بإتيان الواجب فبعد انقضاء الوقت إذا شك في بقاء تكليفه بالإتيان وعدمه أمكن له استصحاب وجوب الإتيان بالواجب لأنّ العرف يرى المكلّف المذكور هو المكلّف السابق لكون الوقت كسائر القيود من الأحوال عند العرف والشكّ في ذلك وإن كان ناشئا عن كون متعلّق التكليف هو المطلق أو المقيّد ولكن مع فرض عدم جريان الاستصحاب في المنشأ يجري الاستصحاب في نفس المكلّف كما يكون الأمر كذلك فيما إذا شكّ في بقاء الوقت من جهة الشكّ في مفهوم الغروب والمغرب فإن مع عدم جريان الاستصحاب في المنشأ يجرى استصحاب حرمة الإفطار على المكلّف.

فتحصّل إنّ وجوب القضاء لا يحتاج إلى أمر جديد بل يكفيه الأوامر الأوليّة في الوقت بمعونة الاستصحاب فلا تغفل.

١٤٦

الفصل الثاني عشر : في دلالة الأمر بالأمر

ولا يخفى عليك إنّه إذا أمر المولى أحدا أن يأمر غيره بفعل فهل هو أمر بذلك الفعل حتّى يجب على الثاني فعله أو لا.

ذهب في الكفاية إلى أنّه لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر على كونه أمرا به ولا بدّ في الدلالة عليه من قرينة عليه فلو علم أنّ الغرض حصول الفعل ولم يكن غرض في توسيط أمر الغير به إلّا تبليغ أمره به كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر أو النهي فالأمر بالأمر بشيء أمر به بلا كلام.

وأمّا إذا كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذاك الشيء كما لو أمر المولى ابنه مثلا أن يأمر العبد بشيء ولا يكون غرضه إلّا أن يتعوّد ابنه على إصدار الأوامر أو نحو ذلك فلا يكون أمره بأمره أمرا بذاك الشيء وهكذا لو كان الغرض هو الفعل بعد صدور الأمر من المأمور بالأمر فلا يكون الأمر المذكور أمرا بالفعل مطلقا.

وعليه فكلّ مورد يشكّ في كونه من موارد الأوّل أو الثاني يجري فيه البراءة بالنسبة إلى وجوب الفعل.

والتحقيق هو أن يقال إنّ ظاهر الأوامر عرفا مع التجرّد عن القرائن هو أنّ الأمر المتعلّق لأمر المولى يكون مأخوذا على نحو الطريقيّة لتحصيل الفعل من المأمور الثاني وحمله على أخذه بنحو الموضوعيّة من دون قرينة خلاف الظاهر ولقد أفاد وأجاد في المحاضرات حيث قال إنّ ما أفاده المحقّق صاحب الكفاية من أنّه لا دلالة

١٤٧

بمجرّد الأمر بالأمر بشيء على كونه أمرا به بل لا بدّ للدلالة عليه من قرينة لا يمكن المساعدة عليه بوجه لما عرفت من أنّه دالّ على ذلك بمقتضى الفهم العرفي ولا حاجة في الدلالة عليه من نصب قرينة (١).

ولذا لا نشكّ في أنّ أمر الأنبياء بأمر العباد يدلّ على مطلوبيّة الفعل من العباد.

وممّا ذكر يظهر أنّ مثل قوله عليه‌السلام مروا صبيانكم بالصلاة ونحوه ممّا ورد في أمر الولى للصبي يدلّ على مطلوبيّة الفعل من الصبي وشرعيّة عباداته وإن لم يكن واجبا عليه بحديث الرفع فتدبّر جيّدا.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ص ٧٦.

١٤٨

الخلاصة

الفصل الثاني عشر في الأمر بالأمر

إذا أمر المولى أحدا أن يأمر غيره بإتيان عمل فهو أمر بذلك الفعل حتّى يجب على الثاني فعله أولا أمكن أن يقال إنّ ظاهر الأمر عرفا مع التجرّد عن القرائن هو أنّ الأمر المتعلّق لأمر المولى يكون مأخوذا على نحو الطريقيّة لتحصيل الفعل من المأمور الثاني وحمله على أخذه بنحو الموضوعيّة من دون إقامة قرينة خلاف الظاهر.

وعليه قوله عليه‌السلام مروا صبيانكم بالصلاة يدلّ على مطلوبيّة الفعل وهو الصلاة من الصبي وإن لم يكن واجبا عليه بحديث رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم.

وممّا ذكر يظهر ما في الكفاية حيث قال لا دلالة بمجرّد الأمر بالأمر على كونه أمرا به بل لا بدّ في الدلالة عليه من قرينة عليه.

١٤٩

الفصل الثالث عشر : في الأمر بعد الأمر

ولا يخفى عليك إنّه إن كان الأمر الثاني بعد امتثال الأمر الأوّل فلا إشكال في لزوم امتثاله ثانيا وهو ظاهر في التأسيس.

وهذا لا كلام فيما إذا كان الأمر الأوّل معلّقا على شيء والأمر الثاني معلّقا على شيء آخر كأن يقول إن كنت جنبا فاغتسل وإن مسست ميّتا فاغتسل إذ مقتضى تعدّد الأسباب هو تعدّد المسبّبات وهو أيضا تاسيس نعم إذا قام دليل على التداخل يكفي غسل واحد عن كليهما لكنّه ليس من باب التأكيد إذ لا يفرض التداخل إلّا بعد فرض التأسيس.

وإنّما الكلام فيما إذا كان مطلقين بأن لم يذكر سببهما كقول المولى صلّ ثم قال صلّ أو ذكر سبب واحد لهما كقول المولى إن كنت محدثا فتوضّأ وإن كنت محدثا فتوضّأ.

فإنّه يقع البحث في أنّ الأمر الثاني ظاهر في التأسيس أو التأكيد يمكن أن يقال كما في الكفاية وغيرها إنّ إطلاق متعلّق الأمر الثاني وعدم تقييده بالمرّة الاخرى يدلّ على التأكيد فإن الطلب تأسيسا لا يكاد أن يتعلّق بطبيعة واحدة مرّتين من دون أن يجبى تقييد لها في البين ولو كان بمثل مرّة اخرى كي يكون متعلّق كلّ منهما غير متعلّق الآخر لاستحالة تعلّق الأمرين معا من دون امتياز في البين بشيء واحد فعدم تقييد المادّة في متعلّق الأمر الثاني يشهد على أنّ الأمر في الثاني ظاهر في التأكيد ولا ينافي

١٥٠

ذلك ظهور نفس الهيئة في الأمر الثاني في التأسيس لأنّ ظهور الهيئة في التأسيس فيما إذا لم يكن مسبوقة بمثلها (من دون ذكر السبب أو ذكر سبب واحد) والمفروض في المقام هو مسبوقيّتها بمثلها ومع عدم هذه الظهور فلا مانع من انعقاد إطلاق المادّة ومع انعقاده يكون الهيئة ظاهرة في التأكيد وعليه فلا مجال لما يقال من أنّ ظهور المتعلّق في التاكيد تعليقيّ وظهور الأمر في التأسيس تنجيزي فيرفع موضوع الأوّل بالثاني لما عرفت من أنّ مسبوقية الهيئة بمثلها توجب أن لا يكون لها ظهور في التأسيس فلا رافع لموضوع الأوّل.

هذا مضافا إلى ما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره من أنّ الهيئة في الأمر وضعت لطلب المعنى فقط.

فالتأسيس كالتأكيد والمرّة والتكرار ليس داخلا فيها فالقول بظهور الهيئة وضعا في التأسيس كما ترى ، انتهى.

وعليه فلا وجه لما قيل من أنّ الأمر يدور بين التعليقيّ والتنجيزيّ والثاني مقدّم على الأوّل فإنّه متفرّع على كون الهيئة موضوعة للتأسيس وضعا وأمّا إذا قلنا بأنّه أمر يستفاد منه عند عدم قرينة على الخلاف فهو كالتأكيد في عدم التنجيز.

والحاصل إنّ استفادة التأسيس من الهيئة منوطة بعدم اقتران الهيئة بمثلها وأمّا مع اقترانها فلا مجال لاستفادة التأسيس عند العقلاء فمقتضى إطلاق المادّة وعدم جواز تعلّق الأمرين بشيء واحد هو التأكيد.

١٥١

الخلاصة

الفصل الثالث عشر في الأمر بعد الأمر

ولا يخفى إنّه إذا كان الأمر الثاني بعد امتثال الأمر الأوّل كان ظاهرا في التأسيس ولزم امتثاله ثانيا.

وهكذا لزم الإتيان بالثاني إن كان معلّقا على سبب آخر غير سبب الأوّل فإنّ مقتضى تعدّد الأسباب هو تعدّد المسبّبات فيما إذا لم يقم دليل على التداخل.

وإذا تكرّر الأمر بالنسبة الى طبيعة واحدة وتقيّد الثاني بالمرّة الاخرى كان ظاهرا أيضا في التأسيس ولزم الإتيان بفرد آخر من الطبيعة المذكورة ولا يكفى الإتيان بالواحدة منها نعم إذا لم يتقيّد الثاني بالمرّة الاخرى كان الأمر الثاني لا محاله ظاهرا في التأكيد لاستحالة تعلّق الأمرين معا من دون امتياز في البين بشيء واحد.

ولا ينافي ذلك دعوى ظهور الهيئة وضعا في التأسيس فإنّ ذلك منوط بعدم تقدّم مثلها والمفروض في المقام هو تقدّم مثل الهيئة بالنسبة إلى الأمر الثاني هذا مضافا إلى أنّ التأسيس والتأكيد كالمرّة والتكرار ليسا داخلين في الهيئة وضعا بل يستفاد التأسيس عند عدم قرينة التأكيد.

وعليه فلا مجال لما يقال من أنّ إطلاق المادّة يقتضى التأكيد ولكنّه ظهور تعليقي متوقّف على عدم القرينة بخلاف ظهور الأمر في التأسيس فإنّه تنجيزي لأنّه وضعي وعليه فيرفع موضوع الأوّل بالثاني فإنّ ظهور الأمر وضعا في التأسيس يمنع عن إطلاق المادّة.

وذلك لما عرفت من منع ظهور الهيئة في الأمر الثاني في التأسيس مع سيق الأمر الأوّل هذا مضافا إلى إمكان منع ظهور الهيئة في التأسيس رأسا.

وعليه فالأمر الثاني مع عدم تقيد المتعلّق بالمرّة الاخرى لا يفيد إلّا التأكيد فتدبّر جيّدا.

١٥٢

المقصد الثاني

في النواهي

يقع الكلام في فصول :

١٥٣
١٥٤

الفصل الأوّل : في مفاد مادّة النهي وصيغته

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : في أنّ مادّة النهي كمادّة الأمر في الدلالة على الإلزام بنفس المادّة إذ لا ينسبق من مادّة النهي التي تكون في اللغة الفارسيّة بمعنى (قدغن كردن وبازداشتن) إلّا المنع والزجر الإلزاميّ كما أنّ المنسبق من مادّة الأمر التي يكون في اللغة الفارسيّة بمعنى (فرمان دادن وواداشتن) ليس إلّا الطلب الإلزاميّ.

وقد مرّ في مباحث الأوامر عن صاحب الفصول أنّه قال في تعريف مادّة الأمر إنّ الأمر (هو طلب العالي من الداني حصول الفعل على سبيل الإلزام) واستشهد عليه بالتبادر.

وعليه فمادّة النهي بقرينة المقابلة ظاهرة في الزجر عن الشيء على سبيل الإلزام فإذا ورد أنّ ذلك من النواهي يعلم منه أنّه من المحرّمات إلّا إذا قامت القرينة على الخلاف ، ويتفرّع عليه أنّ الواجب في الأمر بالمعروف والنهي هو طلب فعل المعروف والمنع عن المنكر على سبيل الإلزام والإيجاب إذ المأمور به هو نفس الأمر ونفس النهي في مثل قوله تعالى (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(١).

وعليه فلا يكفي في الامتثال مجرّد طلب الفعل أو المنع عنه من دون إلزام

__________________

(١) لقمان : ١٧.

١٥٥

وإيجاب كالاستدعاء أو الالتماس إذا لم يؤثّرا في إتيان المعروف أو ترك المنكر بل اللازم مع احتمال التأثير هو إعمال المولويّة بالبعث والزجر على سبيل الإلزام والإيجاب.

المبحث الثاني : في صيغة النهي ، ولا يخفى عليك أنّ صيغة النهي من الإنشاءات كما أنّه صيغة الأمر كذلك فكما أنّ (اضرب) إيجاديّ إنشائيّ بخلاف قولنا نضرب ـ بضمّ الباء ـ فإنّه حكائيّ لا إيجاديّ ، فكذلك (لا تفعل) بسكون اللام إيجاديّ لا حكائيّ ، بخلاف قولنا (لا تفعل) بضمّ اللام ، ولذا لا تتّصف صيغة الأمر والنهي بالصدق والكذب بخلاف الخبر فإنّ الصدق والكذب من كيفيّات الحكاية فإذا كانت الحكاية مطابقة لما ثبت في موطنه من الذهن أو الخارج فهي صدق وإلّا فهي كذب.

ثمّ إنّ الذي ينشأ بصيغة (افعل) هو البعث نحو المأمور به كما أنّ صيغة (لا تفعل) موضوعة لإنشاء المنع عن الفعل والزجر عنه ، ولا دلالة لهما على الإلزام والإيجاب وإنّما حكم العقلاء بهما مع عدم قيام القرينة على الترخيص وجواز الترك أو الفعل وجريان أصالة التطابق بين الإنشاء والإرادة الشديدة أو الكراهة الشديدة.

فكما أنّ تمام الموضوع لحكم العقلاء بلزوم الفعل في البعث إنّما هو صيغة (افعل) مع أصالة التطابق وعدم قيام القرينة على الترخيص كالبعث الخارجي ، فكذلك في ناحية صيغة (لا تفعل) كالزجر الخارجيّ.

وعليه فالحرمة مستفادة كالوجوب من حكم العقلاء بتماميّة الحجّة على لزوم الارتداع أو الامتثال وليسا داخلين في مفاد صيغة النهي أو الأمر بل تكون الصيغة بالنسبة إلى الحرمة أو الوجوب جزء الموضوع لحكم العقلاء لا تمام الموضوع لأنّ الجزء الآخر هو أصالة التطابق بين الإنشاء والإرادة الشديدة أو الكراهة الشديدة.

المبحث الثالث : في تفسير النهي :

ذهب المشهور إلى تفسير النهي بطلب الترك ، وتبعهم في الكفاية حيث قال : إنّ

١٥٦

الأمر والنهي يشتركان في كونهما للطلب غاية الأمر أنّ المتعلّق للطلب في الأوامر هو وجود الطبيعة وفي النواهي عدمها فاختلافهما إنّما يكون بحسب المتعلّق لا بحسب الحقيقة لكون كليهما بحسب الحقيقة من مقولة الطلب.

أورد عليهم سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد بأنّ مفاد النهي هو الزجر عن الفعل كما أنّ مفاد الأمر هو البعث نحو الفعل ، فالمتعلّق فيهما هو الفعل ، وطلب الترك ليس مساوقا لمعناه ، نعم طلب الترك لازم للزجر عن الفعل عقلا كما أنّ مبغوضيّة الترك في الأوامر لازم للبعث نحو الفعل ، وبالجملة فكما أنّ التحريك نحو الفعل بالذات تبعيد عن الترك والعدم بالعرض فكذلك في المقام يكون الزجر عن الفعل بالذات إبقاء للعدم وطلبا للترك بالعرض.

والمفاد المذكور في الأمر والنهي يتبع مقام الثبوت فإنّ متعلّق الكراهة النفسانيّة في النهي هو نفس الفعل كما أنّ متعلّق الإرادة في الأمر هو نفس الفعل ولازم كراهة الفعل هو إرادة إبقاء العدم على حاله.

ويشهد لما ذكره الاستاذ انسباق الزجر عن الفعل من معنى النهي ، ألا ترى أنّ لفظة (قدغن) في اللغة الفارسيّة أو الممنوعيّة في اللغة العربيّة تدلّ على ممنوعيّة الفعل لا مطلوبيّة الترك وإن كانت المطلوبيّة المذكورة لازما عقليّا لممنوعيّة الفعل ، كما أنّ كلمة (نزن) في الفارسيّة بمعنى المنع عن الضرب أي (زدن نه) لا طلب ترك الضرب ، وبالجملة فالبعث والزجر متبادران من صيغة (افعل) و (لا تفعل) ومناسبان للثبوت إذ الإرادة متعلّقة بالفعل في الأمر كما أنّ الكراهة متعلّقة به في النهي ، ومن المعلوم أنّ الإرادة والكراهة ليستا من دون جهة بل من ناحية اشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة ولا داعي لطلب الترك مع خلوّه عن المصلحة إلّا باعتبار اشتمال الفعل على المفسدة ، فالزجر عن الفعل حقيقة لاشتماله على المفسدة يلازم طلب تركه عرضا ، ولا مطلوبيّة للترك إلّا من جهة الابتعاد عن مفسدة الفعل.

١٥٧

وممّا ذكر يظهر أنّه لا فرق بين أنّ تكون صيغة النهي بنحو (لا تفعل) أو (أنهاك عن الفعل) نعم يمكن الفرق بينهما وبين (أريد منك الترك) أو (أترك) ولكنّه ليس إلّا من ناحية اللفظ إذ اللازم هو إرجاعهما إلى إنشاء الزجر عن الفعل لعدم مطلوبيّة الترك بنفسه لخلوّه عن المصلحة حقيقة فلا يصلح للطلب بخلاف الفعل فإنّه مشتمل على المفسدة ويصلح للكراهة والزجر عنه.

ولا وقع لما يقال من أنّه كما أنّ هناك كراهة للفعل فكذلك هناك إرادة ومحبوبيّة للترك ، ويشهد لذلك الأفعال المبغوضة بالبغض الشديد فإنّ تعلّق المحبوبيّة بتركها ظاهر واضح لا إنكار فيه كمحبوبيّة الصحّة التي هي في الحقيقة عدم المرض ونحو ذلك (١).

وذلك لأنّ الإرادة والمحبوبيّة بالنسبة الى الترك باعتبار اشتمال الفعل على المفسدة وكون الترك تبعيدا عن المفسدة لا باعتبار اشتمال الترك على المصلحة ، ولذا تكون الإرادة والمحبوبيّة عرضيّا ومجازيّا ، والنقض بالصحّة غير سديد لأنّ الصحّة والسقم أمران وجوديّان لا يجتمعان والصحّة هو التماميّة وهي وصف حقيقيّ قابل للمحبّة والإرادة وليست الصحّة عدم المرض ، نعم تكون الصحّة ملازمة لعدم المرض لأنّ وجود كلّ ضدّ ملازم لعدم ضدّ آخر ، هذا مضافا إلى ما في مناهج الوصول من أنّ تعلّق الطلب بالعدم ممتنع ثبوتا ومخالف للظاهر إثباتا ضرورة أنّ العدم ليس بشيء ولا يمكن أن يكون ذا مصلحة حتّى تتعلّق به إرادة واشتياق ولا بعث ولا تحريك ولا طلب.

وأمّا ما في تعليقة المحقّق الأصفهاني من أنّه يمكن أن يقال بلحاظ تركّب صيغة النهي من حرف النفي وأداة العدم وصيغة المضارع أنّ مفادها هو الإعدام التسبيبيّ

__________________

(١) منتقى الأصول : ج ٣ ص ٦.

١٥٨

التنزيليّ (١).

ففيه أنّ التركّب المذكور يناسب الزجر والانزجار والردع والارتداع أيضا فلا يكون قرينة على كون مفاد النهي هو الإعدام التسبيبيّ ، فتحصّل أنّ مفاد النهي هو الزجر لا طلب الترك والإعدام التسبيبيّ ، وعليه يسقط النزاع في أنّ متعلّق الطلب في النهي هو الكفّ أو نفس أن لا تفعل لما عرفت من أنّ النهي هو الزجر عن الوجود لا طلب الترك.

ولكن وقع صاحب الكفاية في هذا البحث من جهة اختياره مذهب المشهور في مفاد النهي واختار أنّ متعلّق الطلب هو الترك بدعوى الاستظهار ولعلّه من جهة التبادر.

هذا مضافا إلى ما اشير إليه في بعض التعاليق من أنّ اللازم بناء على كون المتعلّق هو الكفّ هو عدم إمكان الامتثال فيما إذا لم يكن للمخاطب ميل له بحسب طبعه فيكون مثل هذا خارجا عن مورد الخطابات وهو كما ترى.

اورد عليه بأنّ الترك والعدم غير اختياريّ ، والتكليف لا يتعلّق بغير الاختياريّ لانتفاء القدرة بالنسبة إلى العدم لأنّ العدم نفي محض فلا يصلح لأن يكون مورد أثر القدرة ، والإرادة والقدرة تؤثّران في الفعل لا في العدم بل العدم لا يحتاج إلى العلّة لأنّ العدم عدم بعدم علّته فلا حاجة إلى إعمال القدرة وإرادة العدم.

أجاب عنه في الكفاية بأنّ الترك أيضا يكون مقدورا وإلّا لما كان الفعل مقدورا وصادرا بالإرادة والاختيار فإنّ معنى كون شيء مقدورا هو كون كلّ من وجوده وعدمه تحت الاختيار ، فالقدرة على الفعل تكفي في صحة إضافة القدرة إلى تركه ، وعليه فيصحّ أن يقال مقدوريّة الترك ومراديّته تابعة لمقدوريّة الفعل ومراديّته ، هذا

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٨٠.

١٥٩

مضافا إلى ما أفاده استاذنا العراقيّ قدس‌سره من أنّ الأعدام مقدورة بالواسطة إذ يمكننا عدم كلّ منها بإعمال القدرة في ضدّه ، ولذا يحكم العرف بوجود القدرة على عدم سواد محلّ بالقدرة على تبييض هذا المحلّ.

وكون العدم الأزليّ لا بالاختيار لا يوجب أن يكون كذلك بحسب البقاء والاستمرار الذي يكون بحسبه محلّا للتكليف.

أورد عليه أيضا بأنّ مرجع هذا البحث إلى أنّ متعلّق النهي هل هو مطلق الترك أو أنّه ترك خاصّ وهو المساوق لصورة الكفّ ، يمكن اختيار الثاني بدعوى أنّ النهي إنّما هو لجعل الداعي نحو الترك وهذا إنّما يتعقّل في صورة وجود المقتضي للفعل بحيث يكون المكلّف في مقام العمل فينهى ، أمّا إذا لم يكن في مقام العمل فلا معنى للنهي عنه لتحقّق الانتهاء والانزجار في نفسه بدون نهي فيكون النهي لغوا ، وهذا المعنى تظهر ثمرته في مورد العلم الإجماليّ الذي يكون أحد طرفيه مصروف النظر عنه بالمرّة فإنّه لا يكون منجّزا على هذا الرأي فينحصر النهي بصورة الكفّ قهرا وإن تعلّق بالترك (١).

وفيه : أوّلا أنّ قياس المقام بما يكون خارجا عن محلّ الابتلاء قياس مع الفارق لأنّ المورد الذي لا يكون محلّ الابتلاء خارج عن كونه تحت القدرة فلا يحسن الخطاب بالنسبة إليه. وهذا بخلاف المورد الذي لا يكون المقتضى للعمل فيه موجودا بالفعل لأنّه لا يكون خارجا عن محلّ القدرة لإمكان الإتيان به في بعض الأحيان ولو بداع آخر من الدواعي كخطاب الشيوخ بعدم الزنا فإنّهم لا يميلون إليه ، ومع ذلك يمكن ارتكاب ذلك بعروض دواع اخرى ، فإمكان الانبعاث يكفي في صحّة الخطاب وحسنه كما لا يخفى.

__________________

(١) منتقى الأصول : ج ٣ ص ٨.

١٦٠