عمدة الأصول - ج ٣

السيّد محسن الخرّازي

عمدة الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيّد محسن الخرّازي


المحقق: السيّد علي رضا الجعفري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
المطبعة: كيميا
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

الخارج ، إذ حقيقة الإنسانيّة المقارنة لخواصّ زيد هي غير حقيقة الإنسانية المقارنة لخواصّ عمرو ، وهكذا ؛ فكلّ واحدة من هذه الحقائق الإنسانيّة حصّة للكلّيّ الطبيعيّ وهو الإنسان ، والحصص ليس معناها أنّها الأبعاض ، بل معناها أنّها مصاديق وأفراد مجرّدة عن العوارض التي يصحّ أن تسمّى بالأفراد الجوهريّة ، في مقابل الأفراد العرضيّة أو العرفيّة التي تعتبر كمجموع حقيقة الإنسانيّة والخواصّ.

ثمّ إنّ تحصّص الكلّيّ الطبيعيّ يكون بآحاد مصاديقه الحقيقيّة ، لأنّ الكلّيّ الطبيعيّ عين مصاديقه ومصاديقه نفس الطبيعيّ في اللحاظ العقليّ ، وليس المراد من تحصّص الكلّيّ الطبيعيّ في المقام التحصّص بقيود عقليّة مثل الإنسان الأبيض والأسود حتّى يقال إنّ القيود العقليّة كالأبيض والأسود لا يمكن أن تكون نفس الطبيعيّ في اللحاظ العقليّ ، ومن المعلوم أنّ اتّحاد الطبيعيّ مع مصاديقه الحقيقيّة ومرآتيّة الطبيعيّ عن وجودات مصاديقه كافية في سراية الأمر من الطبيعيّ إلى حقيقة مصاديقه.

نعم ، اتّحاد حصص الطبيعيّ في الخارج مع الخواصّ لا يوجب سراية الأمر من الطبيعيّ إلى الخواصّ أو الأفراد المشتمل على الحصص.

وممّا ذكر يظهر ما في مناهج الوصول ، حيث أنكر الحصص الخارجيّة بدعوى أنّ زيد إنسان لا حصّة منه وعمرو إنسان آخر لا حصّة اخرى منه ، وهكذا .. وإلّا لزم كون زيد بعض الإنسان لا الإنسان وعمرو كذلك ، وهو ضروريّ الفساد (١).

وذلك لما عرفت من أنّ المراد من الحصّة ليس مفهوم البعض ، بل المراد منها هو المصداق الحقيقيّ والفرد الجوهريّ ، بمعنى أنّ في زيد مصداقا من الإنسانيّة الذي يكون حمل الإنسان عليه حقيقة ، باعتبار ذلك المصداق لا باعتبار الخواصّ ولا باعتبار مجموع المصداق والخواصّ ، وحمل الإنسان على المجموع مسامحة ، وهكذا يظهر ما في

__________________

(١) ج ٢ ص ٧٣.

١٠١

مناهج الوصول أيضا حيث أنكر اتّحاد الحصص مع نفس الطبيعيّ (١) مع ما عرفت من اتّحاد الطبيعيّ مع مصاديقه الحقيقيّة.

إذا عرفت تلك الامور فقد اتّضح لك أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة المفروضة الوجود التي تكون مرآة إلى الوجود الخارجيّ المفروض ، والطبيعة المذكورة متّحدة مع حصصها المفروضة الوجود ، ويسري الأمر منها إلى حصصها المفروضة لا إلى مقارناتها وملازماتها ، وإن كانت متّحدة معها في الوجود الخارجيّ ، لأنّ الطبيعة لا تحكي عن الأغيار ، بل حكايتها منحصرة في حصصها التي تعبّر عنها بالأفراد الجوهريّة ، ومن ذلك يظهر أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعيّ لا يسري إلى الأفراد العرفيّة أو العرضيّة التي تكون مجموع الحصص والخصوصيّات والمقارنات ، فلا تغفل.

فالقائل بتعلّق الأمر بالطبيعة التي مرآة إلى الأفراد أراد تعلّقه بالأفراد الجوهريّة المفروضة الوجود في الذهن مع قطع النظر عن مقارناتها من الخصوصيّات ، بحيث لو أمكن للمكلّف أن يوجد حصّة الطبيعة والفرد الجوهريّ من دون مقارناتها لسقط الأمر وحصل الغرض بوجود حصّة الطبيعة لأنّه أتى بالمأمور به.

والقائل بتعلّقه بالفرد دون الطبيعة أراد تعلّقه بالفرد العرفيّ الجامع للحصّة والخصوصيّات والمقارنات ، فيكون المقارنات في نظره أيضا مأمورا بها.

وعلى هذا تظهر الثمرة بين القولين في باب اجتماع الأمر والنهي ، وذلك لأنّه على القول بتعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع الحاكية عن الأفراد الجوهريّة دون الأفراد العرضيّة والعرفيّة ، ففي مورد الاجتماع كالصلاة في الدار المغصوبة ـ مثلا ـ لا يسري الأمر من متعلّقه وهو طبيعة الصلاة إلى متعلّق النهي وهو الغصب ولا العكس ، لفرض أنّهما طبيعتان مستقلّتان ، غاية الأمر أنّ كلّ واحدة منهما مقارنة للاخرى أو متّحدة

__________________

(١) ج ٢ ص ٧٧

١٠٢

معها باعتبار حصصهما في الوجود الخارجيّ ، فإذن لا مناص من القول بالجواز في تلك المسألة.

وأمّا على القول بتعلّق الأوامر والنواهي بالأفراد العرفيّة دون خصوص الطبائع والحصص والأفراد الجوهريّة ، فلا مناص من الالتزام بالقول بالامتناع في تلك المسألة ، وذلك لفرض أنّ الأمر على هذا القول متعلّق بالصلاة مع مقارناتها ، والمفروض أنّ الغصب في مورد الاجتماع مقارن لها ، فإذن يكون متعلّقا للأمر ، والحال أنّه متعلّق للنهي أيضا ، فيلزم عندئذ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وهو محال ، ضرورة استحالة كون شيء واحد مأمورا به ومنهيّا عنه معا. وتحليل الفرد الحقيقيّ الخارجيّ في الذهن إلى فردين موجودين بوجود واحد وجعل كلّ فرد متعلّقا للحكم صحيح ، فيما إذا كان المقصود من الأفراد هو الأفراد الحقيقيّة التي لا دخل في كلّ فرد فرد آخر لا في الأفراد العرفيّة الجامعة لحقيقة الفرد ومقارناتها من سائر أفراد الحقائق الاخرى ، فلا تغفل.

وممّا ذكر يظهر ما في المحاضرات حيث أنكر الثمرة وأشكل على استاذه المحقّق النائينيّ قدس‌سره لاعتقاده بالثمرة.

وذلك أنّ السيّد الخوئيّ تخيّل أنّ المراد من الفرد هو الفرد الجوهريّ والحصّة الواقعيّة التي لا دخل لشيء في تشخّصه ، مع أنّ مقصود استاذه المحقّق النائينيّ هو الفرد العرفيّ الجامع للفرد الجوهريّ مع المقارنات. نعم ، تعبيره عن المقارنات بالمشخّصات لا يخلو عن الإشكال والمناقشة من جهة أنّ تشخّص كلّ وجود بنفسه لا بوجود غيره جوهرا كان أو عرضا ، ولكن جعل الفرد العرفيّ ما يشمل الفرد الجوهريّ والمقارنات لا إشكال فيه ، بل هو الظاهر من عنوان الأفراد لو أخذ في الخطابات. وممّا ذكر يظهر أيضا ما في الوقاية ، إذ عبّر عن ذلك بالإفراط ، حيث قال : لو أفرط القابل بتعلّقها بالأفراد وجعل التشخّصات اللازمة لوجود الطبيعة متعلّقة للتكليف ، فلا جرم

١٠٣

يلزم اجتماع الضدّين ولا يجدي في دفعه تعدّد الجهة ، ولكنّه احتمال بعيد بل مقطوع بعدمه ، إذ المشخّصات لمتعلّق الارادة التشريعيّة كالمشخّصات لمتعلّق الإرادة التكوينيّة ، لا يتعلّق بها الفرض ولا يقاس ذلك بمقدّمات المطلوب ، إذ الفرق بيّن بين لوازم الوجود (١). وبين أجزاء علّته! ولذلك ذهب إلى أنّ المراد من الفرد هو الفرد الجوهريّ وقال : لا ثمرة بين القول بتعلّق الأحكام بالطبائع وبين القول بتعلّقها بالأفراد ، إذ تعدّد الجهة في الفرد يكفي في الجواز ، كما أنّ تعدّد الجهة يكفي في الطبيعة. والفرد الخارجيّ في مورد الاجتماع ينحلّ في العقل إلى فردين موجودين بوجود واحد ، والأحكام متعلّقة بالأفراد في الذهن بعد تحليلها لا في الخارج لأنّه ظرف السقوط لا الثبوت.

ولا يخفى عليك أنّ عنوان الأفراد لو وقع في الخطابات الشرعيّة فمحمول على الأفراد العرفيّة ، إذ خطابات الشرعيّة واردة على العرف ، وهم لا يفهمون الأفراد الجوهريّة والحصص ؛ فلو قلنا بتعلّق الأحكام على الأفراد ، فالمراد بها هي الأفراد العرفيّة. وتظهر الثمرة في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ اجتماعهما في الأفراد العرفيّة ممتنع ، لأنّ الأفراد العرفيّة باعتبار مقارناتها المتّحدة معها منهيّ عنها ، فكيف تصير مأمورا بها ، بخلاف ما إذا كان متعلّق الأحكام هو الطبائع ، فإنّ مركب الأمر مغاير مع مركب النهي وإن كانت الطبائع مرآة إلى حصصها وأفرادها الجوهريّة ، فإنّ حصص كلّ طبيعة مغايرة مع حصص الطبائع الاخرى عند التحليل ، وإن كانت موجودة بوجود واحد خارجيّ ، إذ متعلّق الأحكام هو الحصص الذهنيّة المفروضة الوجود.

فتحصّل أنّ الأحكام متعلّقة بالطبائع ، والطبائع حيث كانت مرآة تكون حاكية عن أفرادها المفروضة الوجود ، وهذه الأفراد هي الأفراد الجوهريّة التي عبّر عنها

__________________

(١) الوقاية : ص ٣٤٠

١٠٤

بالحصص ، ولا حكاية للطبائع بالنسبة إلى المقارنات والخصوصيّات لأنّها أجنبيّة عنها ، إلّا أن ينضمّ إلى الطبائع كلمة الأفراد ، ويقال إنّ الحكم متعلّق بأفراد الطبائع ؛ فكلمة الأفراد حيث إنّها عنوان كلّيّ تحكي عن الأفراد العرفيّة الجامعة للحصص والمقارنات ، والمفروض عدم هذا الانضمام. وعليه ، فلا يسري الأمر من الطبائع إلى غير حصصها والأفراد الجوهريّة ، وهكذا النهي عن الطبيعة فلا يسري إلى غير حصصها. فينتج في مسألة الاجتماع جواز الاجتماع لتغاير متعلّق الأمر والنهي ، إذ الطبيعة في كلّ طرف مغاير لطرف آخر ، سواء كانت الطبيعة حاكية عن أفرادها الجوهريّة ، كما اخترناه وقلنا بسراية الحكم منها إلى أفرادها الجوهريّة وحصصها ، أو لم نقل بالحكاية والسراية ، فإنّ الفرد الجوهريّ من طبيعة ـ ولو كان متّحدا مع فرد جوهريّ من طبيعة اخرى في الوجود الخارجيّ ـ مغاير عند التحليل العقليّ في الذهن مع فرد جوهريّ من طبيعة اخرى ، والمفروض أنّ عروض الخطابات واتّصافها في الذهن لا في الخارج ، فلا يكون متعلّق الأمر والنهي متّحدا ، ومع عدم الاتّحاد يجوز اجتماع الأمر والنهي. هذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ متعلّق الخطابات هو الأفراد العرفيّة ، فإنّها باعتبار ملاحظة مجموع الفرد الجوهريّ والخصوصيّات توجب اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، كما مرّ تفصيله ، وهو ممتنع ، فلا تغفل.

١٠٥

الخلاصة :

الفصل السابع في متعلّق الأوامر والطلب

وتحقيق ذلك يتوقّف على امور الأمر الأوّل أنّ لحاظ الطبيعة على أنحاء منها لحاظها في ذاتها ومنها لحاظها باعتبار الوجود الذهني ومنها لحاظها بما هي مرآة إلى الوجود الخارجي وهو على قسمين القسم الأوّل أن يلاحظ الخارج باللحاظ التصديقي بعد تحقّقه والقسم الثاني أن يلاحظ الخارج باللحاظ التصوّري قبل وجوده بالفرض والتقدير الذي يسمّى بالوجود اللافراغي.

الأمر الثاني : أنّ الطبيعة بما هي لا مصلحة فيها حتّى يشتاق الإنسان إليها ويريدها وعليه فالطبيعة باعتبار وجودها يكون مورد الاشتياق والإرادة والمراد من الوجود ليس الوجود الذهني إذ لا يكون هو مطلوبا ولا يمكن الإتيان به والامتثال به وليس المراد أيضا منه الوجود الخارجي بعد تحقّقه لأنّه تحصيل الحاصل فانحصر الأمر في الوجود التقديري الحاكي عن الخارج الذي يسمّى بالوجود اللافراغي.

الأمر الثالث : أنّه لا فرق فيما ذكر بين الإرادة الفاعليّة والإرادة التشريعيّة لأنّ كلّ واحدة منهما ناشئة عن المصلحة وهي لا تكون إلّا في الطبيعة باعتبار وجودها.

الأمر الرابع : أنّ البعث والزجر تابعان للإرادة والكراهة فإذا كانت الإرادة والكراهة متعلّقتين بالطبيعة باعتبار وجودها فالبعث والزجر كانا أيضا كذلك.

الأمر الخامس : أنّ الكلّي الطبيعي لا يكون بما هو كلّي في الخارج لأنّ الخارجيّات جزئيّات لا كلّيّات والجزئيّات لا تصلح للصدق على الكثيرين بل حصصه موجودة ومتكثّرة في الخارج والحصص ليس معناها هي الأبعاض بل معناها أنّها مصاديق وأفراد مجرّدة عن العوارض والمراد بالأفراد هي الأفراد

١٠٦

الجوهريّة التي عين الحصص لا الأفراد العرفيّة أو العرضيّة التي تعتبر باعتبار مجموع حصّة الإنسانيّة والخصوصيّات الضميمة.

نعم حصص الكلّي الطبيعي متّحدة مع الخصوصيّات في الخارج ولكنّ ذلك لا يوجب حكاية الكلّي الطبيعي عن الخصوصيّات ولا سراية الحكم من الطبيعي إليها لأنّ الكلّي الطبيعي لا يحكي عن غير حقيقته والمفروض إنّ الحكم في الذهن متعلّق بالكلّي الطبيعي ولا وجه لسرايته منه إلى الخصوصيّات المتّحدة معها.

إذا عرفت تلك الأمور فقد اتّضح لك أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة المفروضة الوجود التي تكون مرآة إلى الوجود الخارجي ويسري الأمر منها إلى حصصها لا إلى مقارناتها وملازماتها وإن كانت متّحدة معها في الوجود الخارجي لأنّ الطبيعة موضوع للحكم لا عنوان أفراد الطبيعة وهي لا تحكي عن الأغيار.

فالأفراد الجوهريّة بما أنّها متّحدة مع الطبيعة مشمولة للحكم المتعلّق بالطبيعة لا الأفراد العرفيّة التي تكون مجموع الحصص والمقارنات والملازمات.

فالقائل يتعلّق الأمر بالطبيعة التي تكون مرآة إلى الأفراد أراد تعلّقه بالأفراد الجوهريّة المفروضة الوجود في الذهن مع قطع النظر عن مقارناتها من الخصوصيّات.

والقائل بتعلّقه بالفرد دون الطبيعة أراد تعلّقه بالأفراد العرفيّة الجامعة للحصّة والخصوصيّات أو المقارنات.

وتظهر الثمرة بين القولين في باب اجتماع الأمر والنهي فإنّ اجتماعهما بناء على القول بتعلّق الأمر بالطبيعة التي تكون مرآة عن الأفراد الجوهريّة جائز لمغايرة متعلّقهما بخلاف القول بتعلّق الأمر بالأفراد العرفيّة فإنّ اجتماعهما ممتنع إذ مركّب الأمر والنهي حينئذ واحد وليس بمتعدّد.

فتحصّل أنّ الأحكام متعلّقة بالطبائع وهي مرآة إلى الأفراد الجوهريّة التي تكون حصصها ولا حكاية لها بالنسبة إلى مقارناتها لأنّها أجنبيّة عنها نعم لو انضمّ

١٠٧

إلى الطبيعة عنوان الأفراد ويقال إنّ الحكم متعلّق بأفراد الطبائع فكلمة الأفراد تحكي عن الأفراد والعرفيّة ولكنّ المفروض هو عدم هذا الانضمام وعليه فلا يسري الحكم من الطبائع إلى غير حصصها سواء كان الحكم المذكور هو الأمر أو النهي.

وممّا ذكر يظهر إنّ نتيجة المسألة هو جواز اجتماع الأمر والنهي بناء على تعلّق الحكم بالطبيعة لا أفراد الطبيعة لتغاير متعلّق الأمر والنهي لأنّ الطبيعة في كلّ واحد منهما مغايرة مع الطبيعة الأخرى وحصصهما أيضا تكون متغايرة فلا يسري الحكم من طبيعة إلى طبيعة أخرى ولا من حصص كلّ واحدة منها إلى حصص أخرى واتّحادهما بحسب الوجود الخارجي لا يضرّ بذلك لأنّ حصص كلّ واحدة منهما متغايرة مع الاخرى في التحليل العقلي والمفروض إنّ عروض الخطابات واتّصافها في الذهن لا في الخارج فلا يكون متعلّق الأمر والنهي متّحدا ومع عدم الاتّحاد يجوز اجتماعهما بخلاف ما إذا كان متعلّق الخطابات هي الأفراد العرفيّة فإنّها باعتبار كونها مجموع الفرد الجوهري والخصوصيّات توجب اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو ممتنع.

١٠٨

الفصل الثامن : في أنّه بعد نسخ الوجوب هل يبقى

الرجحان أو الجواز بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ أو لا؟

ذهب في الكفاية إلى أنّه لا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على ذلك ، كما لا دلالة لهما على ثبوت الحرمة ، فإنّه بعد رفع الوجوب يمكن ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة من المستحبّ والمكروه والإباحة والحرمة ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ بإحدى الدلالات على تعيين واحد منها ، فلا بدّ للتعيين من دليل آخر.

وحيث كان كلّ واحد من الأحكام مع الآخر من المباينات والمتضادّات العرفيّة ، فلا مجال لاستصحاب الجواز بالمعنى الاستحباب بعد رفع الوجوب لأنّهما متباينان عرفا فلا مجال للاستصحاب إذا شكّ في تبدّل أحدهما بالآخر ، فإنّ حكم العرف ونظره يكون متّبعا في هذا الباب ، انتهى مع تلخيص (١). بل ذهب في مناهج الوصول إلى عدم جريان الاستصحاب في الجواز الجامع بين الوجوب والجواز بالمعنى الأخصّ والاستحباب لعدم كون الجواز المذكور مجعولا وحكما شرعيّا ، إذ الجعل تعلّق بكلّ واحد منها ، والعقل ينتزع من الجعل المتعلّق بها الجواز بالمعنى الأعمّ ، وهذا

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٢٢٤.

١٠٩

الأمر الانتزاعيّ ليس حكما شرعيّا ومجعولا شرعا فلا مجال لاستصحابه (١).

يمكن أن يقال أوّلا : إن كان مفاد النسخ هو رفع البعث الصادر من المولى فلا دلالة للناسخ ولا للمنسوخ على الرجحان أو الجواز ، وأمّا إن كان المفاد هو رفع الإلزام بالترخيص في الترك مع بقاء البعث فهو موضوع لحكم العقلاء بالاستحباب ، كما أنّ البعث مع عدم الترخيص موضوع لحكمهم بالوجوب ، لما قرّر في محلّه من أنّ الوجوب والاستحباب ليسا داخلين في مدلولي هيئة افعل ، بل هما أمران انتزاعيّان من البعث مع عدم الترخيص والبعث مع الترخيص.

ليس معنى ما ذكرناه هو أنّ لدليل الوجوب ظهورات يبقى بعضها مع سقوط بعض ، حتّى يقال كما في منهاج الوصول بأنّ البعث الإلزامي لا يكون له ظهور إلّا في نفس البعث ويفهم الإلزام من أمر آخر كحكم العقلاء بكونه تمام الموضوع لوجوب الطاعة إلّا أن يقوم دليل على الترخيص ، ولو فرض ظهوره في الوجوب وضعا لا يكون له إلّا ظهور واحد ، فمع قيام الدليل على النسخ لا يبقى ظهور له (٢).

بل نقول : لا يصدر من المولى إلّا البعث ، والوجوب هو حكم العقلاء ، وموضوعه هو البعث مع عدم الترخيص ، وهذا الحكم باق ما دام البعث موجودا ولم يبدّل عدم الترخيص بالترخيص ، وإذا بدّل الشارع بالنسخ ورفع الإلزام عدم الترخيص بالترخيص حكم العقلاء بالاستحباب ، لأنّ موضوع حكمهم بالاستحباب هو وجود البعث مع الترخيص في الترك وكلاهما موجود ، إذ المفروض أنّ البعث لم يرتفع والترخيص حادث بالنسخ ورفع الإلزام ، ومن المعلوم أنّ البعث مع الترخيص موضوع لحكم العقلاء بالاستحباب ، كما إذا كان من أوّل الأمر كذلك ؛ فدليل المنسوخ

__________________

(١) ج ٢ ص ٨٣.

(٢) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٨١.

١١٠

يدلّ على البعث ، ودليل الناسخ يدلّ على الترخيص ، ومجموعهما موضوع لحكم العقلاء بالاستحباب.

ولا نقول أيضا بأنّ الوجوب ـ وإن كان بسيطا ـ يتضمّن مراتب عديدة وهي أصل الجواز والرجحان والإلزام ، فيمكن أن يرتفع بعض المراتب ويبقى الآخر ، وبما أنّ الوجوب حقيقة ذات تشكيك فلا حاجة إلى إثبات مرتبة بعد ارتفاع الأخرى إلى دليل على الفصل ، فإنّه بعد ذهاب مرتبة منه يتحدّد قهرا بالاخرى ، نظير الحمرة الشديدة التي تزول مرتبة منها فتبقى اخرى ، كما ذهب إليه المحقّق العراقي في نهاية الأفكار. حتّى يقال ـ كما في مناهج الوصول ـ بأنّ الوجوب من الامور الانتزاعيّة وهي ليست ذات مراتب ، والتفاوت بين البعث الإلزامي والاستحبابي ليس في نفس البعث بل في منشئه الذي هو الإرادة (١). بل نقول بأنّ الوجوب بسيط ولا يتضمّن المراتب المذكورة ، ولكنّ موضوعه هو البعث مع عدم الترخيص ، فإذا نسخ الوجوب ورخّص في الترك من دون رفع أصل البعث تبدّل موضوع الحكم العقلاء بالوجوب بموضوع حكمهم بالاستحباب.

وعليه ، فالمتّبع هو لسان دليل الناسخ من أنّه رافع لأصل البعث فلا دلالة على الرجحان والجواز أو أنّه رافع للإلزام ومبدّل لعدم الترخيص بالترخيص ، فيحكم بعد رفع الوجوب بالاستحباب بالتقريب الذي ذكرناه.

وثانيا : أنّه مع التسليم بعدم دلالة دليل الناسخ والمنسوخ ، يمكن التمسّك باستصحاب الإرادة بناء على أنّ الاستصحاب أصل محرز ، كما يشهد له أدلّة اعتباره الدالّة على إبقاء اليقين وعدم نقضه ، فإنّه لحن كلحن صدق العادل في الأمارات ، ويشهد أيضا تقدّم الاستصحاب على سائر الاصول. وعليه ، فالاستصحاب حينئذ

__________________

(١) مناهج الوصول : ج ٢ ص ٨٠.

١١١

كالأمارات في تنجيز الواقع ، فكما أنّ العلم ينجّز الواقع كذلك الاستصحاب ، فاليقين بالإرادة كما أنّه كان منجّزا لها حدوثا كذلك يكون هو بحكم الاستصحاب منجّزا لها بقاء.

وبالجملة ، لو علم بإرادة ملزمة من المولى لزم الإتيان بمقتضاها ، وإن منعه مانع عن صدور الأمر فهكذا إذا علم بها وشكّ في بقائها لزم الإتيان بمقتضاها ، وإذا علم بها بالمرتبة الشديدة ثمّ زالت شدّتها وشكّ في بقاء أصل الإرادة أمكن استصحاب أصل الإرادة والحكم برجحان الإطاعة ، لأنّ الإرادة الحتميّة والندبيّة ـ كما أفاد المحقّق الأصفهانيّ قدس‌سره ـ مرتبتان من الإرادة ، وهي نوع واحد لا تفاوت بين الشديدة والضعيفة منها في النوعيّة ، بل في الوجود على التحقيق ، وكما أنّ البياض الشديد إذا زالت شدّته وبقي بمرتبة ضعيفة منه لا يعدّ وجودا آخر لا عقلا ولا عرفا ، بل هو وجود واحد زالت صفته ، فكذا الإرادة الشديدة والضعيفة ، والتفاوت في لحاظ العقل والعرف إنّما نشأ من الخلطة بين الأمر الانتزاعيّ والكيف النفسانيّ (١).

وعليه ، فلا حاجة في الاستصحاب إلى كون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا للحكم الشرعيّ ، بل يكفي نفس الإرادة للزوم الاتّباع أو رجحانه.

ولذلك قال استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره : والتحقيق هو إجراء الاستصحاب لمعلوميّة أصل الرجحان والشكّ في ارتفاعه واتّحاد الشديد مع الضعيف عرفا كاتّحاد السواد الشديد مع السواد عرفا ، ألا ترى أنّه إذا كان شيء شديد السواد ثمّ ارتفع شدّته لا يراه العرف مغايرا لما علمه سابقا.

وعليه ، فلا مانع من إجراء الاستصحاب في مقام الثبوت وإثبات أصل الرجحان وترتّب الآثار عليه ، وإن لم يثبت الاستحباب الاصطلاحيّ ، لأنّ المعلوم هو

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٢ ص ٦٥.

١١٢

أصل الرجحان لا الاستحباب المحدود بحدّه الخاصّ.

وهكذا يمكن إجراء الاستصحاب فيما إذا نهى الشارع عن شيء ثمّ نسخه ويحكم بمرجوحيّته لا الكراهة المحدودة بحدّ خاصّ ، بل يمكن إجراء الاستصحاب في مقام الإثبات وإثبات أصل البعث ، كما إذا شكّ في أنّ النسخ رفع البعث أو رفع الإلزام فيجري الاستصحاب في أصل البعث ، وهو مع رفع الإلزام والترخيص يحقّق موضوع الاستحباب.

فتحصّل أنّ الأولى هو التفصيل بين ما إذا كان مفاد الناسخ هو رفع البعث ، فلا يبقى شيء حتّى يبحث عن بقاء الرجحان أو الجواز ، وبين ما إذا كان مفاد الناسخ هو رفع الإلزام بإفادة الترخيص فالأقوى هو الحكم باستحباب العمل لتماميّة موضوع حكم العقلاء لبقاء البعث وانضمامه مع الترخيص. وعليه يمكن القول باستحباب كلّ واجب منسوخ في شرعنا أو الشرائع السابقة إذا كان لسان ناسخها هو رفع الإلزام بإفادة الترخيص.

وأيضا يجري ما ذكر في طرف المحرّمات ؛ فإنّه بعد نسخها إمّا يكون مفاد الناسخ هو رفع الزجر رأسا فلا دليل على الكراهة ، وإمّا يكون مفاده هو رفع الإلزام وإفادة الترخيص في الفعل فيمكن الحكم بكراهة المنسوخ ، فافهم واغتنم ، وأحمد الله تعالى.

١١٣

الخلاصة :

الفصل الثامن

في أنّه هل يدلّ دليل الناسخ أو المنسوخ بعد نسخ الوجوب على الرجحان أو الجواز بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ أو لا يدلّ.

والذي ينبغي أن يقال إنّه إن كان مفاد النسخ هو رفع البعث الصادر من المولى فلا دلالة للناسخ ولا للمنسوخ على ذلك كما ذهب إليه صاحب الكفاية فإنّ بعد رفع البعث يمكن ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة من المستحبّ والمكروه والإباحة والحرمة ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ بإحدى الدلالات على تعيين واحد منها.

وأمّا إن كان مفاد النسخ هو رفع الإلزام بالترخيص في الترك مع بقاء البعث على حاله فلا إشكال في كون البحث الباقي مع الترخيص في الترك موضوعا لحكم العقلاء بالاستحباب كما أنّ البحث مع عدم الترخيص موضوع لحكم العقلاء بالوجوب لما مرّ في محلّه من أنّ الوجوب والاستحباب ليسا داخلين في مدلولي هيئة افعل بل هما أمران انتزاعيان من البحث مع عدم الترخيص والبحث مع الترخيص.

وعليه فالمتبع هو لسان دليل الناسخ فإن كان هو رفع أصل البحث فلا دلالة على الرجحان والجواز وإن كان رفع الإلزام والوجوب بالترخيص في الترك فيحكم بالاستحباب بعد رفع الإلزام والوجوب وبقاء البحث بالترقيب الذي ذكرناه.

وهكذا الأمر في طرف المحرّمات فإنّ مفاد الناسخ إن كان رفع الزجر فلا دلالة لدليل الناسخ كالمنسوخ على أنّ الباقي هو المكروه أو غيره من الأحكام وإن كان مفاد الناسخ هو الترخيص في الفعل مع بقاء الزجر عن الفعل فهو موضوع لحكم العقلاء

١١٤

بالكراهة كما لا يخفى.

ولو شكّ في رفع أصل البحث أو الزجر أمكن استصحاب أصل البعث أو الزجر فهو مع رفع الإلزام يفيد الاستحباب في الأوّل والكراهة في الثاني.

١١٥

الفصل التاسع : في تصوير الوجوب التخييريّ ؛

ويقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل في تصوير الوجوب التخييريّ في المتباينات ، وهنا وجوه : منها ما يظهر من الكفاية حيث قال ـ فيما إذا كان الغرض من الأمر بأحد الشيئين واحدا يقوم به كلّ واحد منهما ، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ولذا يسقط به الأمر ـ هو أنّ الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليّا لا شرعيّا ، واستدلّ له بقاعدة أنّ الواحد لا يكاد يصدر من اثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهما جامع في البين ، لاعتبار نحو من السنخيّة بين العلّة والمعلول ؛ وعليه فجعلهما متعلّقين للخطاب الشرعيّ لبيان أنّ الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين (١).

ومحصّله كما أفاد استاذنا الأراكي قدس‌سره أنّ التخيير الشرعيّ راجع إلى التخيير العقليّ وأنّه متعلّق بالجامع بين المتباينين أو المتباينات ، فهو في الحقيقة وجوب واحد تعيّنيّ يتعلّق بموضوع واحد ، والفرق بينه وبين التعيّنيّ المصطلح أنّ الأفراد هناك واضحة عندنا وهنا يحتاج إلى بيانها من الشرع ؛ فالأمر المتعلّق بالأفراد إرشاديّ مسوق لبيانها ، والملزم أمر آخر متعلّق بالجامع مكشوف بهذا الأمر ، وذلك لضرورة

__________________

(١) الكفاية : ج ١ ص ٢٢٥.

١١٦

استحالة استناد المصلحة الواحدة التي يريد الأمر تحصيلها من كلّ واحد على البدل إلى المتعدّد (١).

وفيه : أنّ الظاهر من الخطابات الشرعيّة الواردة في موارد التخيير هو تعلّقها بالأشياء الخاصّة كخصال الكفّارات ، أعني إطعام الستّين أو صيام الستّين أو العتق ، وهذا هو التخيير الشرعيّ بين هذه الامور ، ورفع اليد عن هذا الظاهر وإرجاع الخطاب إلى الجامع محتاج إلى الدليل والاستدلال بالقاعدة المذكورة في غير محلّه ، لما مرّ مرارا من أنّ قاعدة عدم صدور الكثير عن الواحد وقاعدة عدم صدور الواحد عن الكثير مخصوصة بالواحد الشخصيّ فلا تشمل الواحد النوعيّ. ولذا نجد بالوجدان إمكان استناد الواحد النوعيّ إلى المتعدّد كالحرارة ، فإنّها واحد نوعيّ ويستند إلى الحركة تارة وإلى النار اخرى وإلى شعاع الشمس ثالثة ، وهكذا.

وتدارك التخلّف في صيام شهر رمضان واحد نوعيّ يستند إلى الامور الثلاثة ولا إشكال في استناد الواحد النوعيّ إلى المتعدّدات ، فلا وجه لرفع اليد عن ظاهر الخطابات الواردة في موارد التخيير الشرعيّ وإرجاعه إلى جامع وإنكار التخيير الشرعيّ.

ومنها ما يظهر من المحاضرات ، حيث قال إنّ الواجب هو أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه ونحوهما من الجوامع الانتزاعيّة ، بدعوى أنّه لا مانع من تعلّق الأمر بها أصلا ، بل يتعلّق بها الصفات الحقيقيّة كالعلم والإرادة وما شاكلهما ، فما ظنّك بالحكم الشرعيّ الذي هو أمر اعتباريّ محض ، ومن المعلوم أنّ الأمر الاعتباريّ كما يصحّ تعلّقه بالجامع الذاتيّ كذلك يصحّ تعلّقه بالجامع الانتزاعيّ ، فلا مانع من اعتبار الشارع ملكيّة أحد المالين للمشتري عند قول البائع : بعت أحدهما ، بل وقع ذلك في

__________________

(١) اصول الفقه لشيخنا الأراكي : ج ١ ص ١٠٠.

١١٧

الشريعة المقدّسة كما في باب الوصيّة ، فإنّه إذا أوصى الميّت بملكيّة أحد المالين لشخص بعد موته فلا محالة يكون ملكا له بعد موته وتكون وصيّته بذلك نافذة. وعلى الجملة ، فلا شبهة في صحّة تعلّق الأمر بالعنوان الانتزاعيّ وهو عنوان أحدهما ، ومجرّد أنّه لا واقع موضوعيّ له لا يمنع عن تعلّقه به ، ضرورة أنّ الأمر لا يتعلّق بواقع الشيء ، بل بالطبيعيّ الجامع. ومن الواضح جدّا أنّه لا يفرّق فيه بين أن يكون متأصّلا أو غير متأصّل أصلا ـ إلى أن قال ـ : فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي أنّه لا بدّ من الالتزام بأنّ متعلّق الوجوب في موارد الواجبات التخييريّة هو العنوان الانتزاعيّ من جهة ظهور الأدلّة في ذلك ، ضرورة أنّ الظاهر من العطف بكلمة (أو) هو وجوب أحد الفعلين أو الأفعال (١).

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّ تعلّق الخطاب بالعناوين الانتزاعيّة كعنوان أحدهما أو أحد الامور ـ وإن كان أمرا ممكنا ـ ولكنّه خلاف ظاهر الخطابات الشرعيّة ، فإنّ إنشاء الوجوب فيها لم يتعلّق بعنوان أحدهما ، بل هو أمر ينتزعه العقل من تعلّق الوجوب بالامور المتعدّدة ، مع جواز ترك كلّ واحد مع إتيان الآخر والاستدلال لتعلّق الخطاب بعنوان أحدهما بظهور كلمة (أو) كما ترى ؛ فإنّ الظاهر من العطف بكلمة (أو) هو عدم اختصاص الوجوب بالمذكور قبله ، لا أنّ الوجوب متعلّق بالجامع الانتزاعيّ ، ومن المعلوم أنّ عدم اختصاص الوجوب بالمذكور قبل (أو) وتعدّيه إلى مدخول كلمة أو ظاهر في التخيير الشرعيّ.

فتحصّل أنّ إرجاع الخطابات الشرعيّة في موارد التخيير إلى العنوان الانتزاعيّ والقول بأنّ الخطاب المتوجّه إلى العنوان الانتزاعيّ متعيّنا والتخيير في تطبيقه على الموارد عقليّ لا دليل له جدّا ، بل الظاهر خلافه.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ص ٤١.

١١٨

ومنها ما نسبه كلّ من الأشاعرة والمعتزلة إلى الآخر وتبرّأ منه على المحكي ، وهو أنّ الواجب هو المعيّن عند الله وهو ما يختاره المكلّف في مقام الامتثال.

وفيه أوّلا : أنّه مخالف لظواهر الأدلّة الدالّة على عدم تعيّن الواجب على المكلّف في الواقع ونفس الأمر ، بل يكون الوجوب على نحو التخيير ، فما يختاره المكلّف مصداق للواجب ، لا أنّه الواجب بعينه (١).

وثانيا : أنّه مناف لقاعدة الاشتراك في التكليف ، ضرورة أنّ لازم هذا القول هو اختلاف التكليف باختلاف المكلّفين في الاختيار.

وثالثا : أنّ لازم هذا القول هو عدم وجوب شيء في الواقع لو لم يختر المكلّف أحدهما ، لأنّ الوجوب منوط باختيار المكلّف وهو مفقود ، ومقتضى عدم وجوب شيء في الواقع هو عدم العصيان بتركهما.

ورابعا : أنّ الأوامر التخييريّة لا تختصّ بأوامر الله تعالى ، لكثرة صدورها عن الموالي العرفيّة ، كما أفاد سيّدنا الاستاذ المحقّق الداماد قدس‌سره.

ومنها وجوب كلّ منهما تعيّنا مع السقوط بفعل أحدهما.

وفيه أوّلا : أنّ لازمه هو تعدّد العقاب لو تركهما رأسا ، أو تعدّد الثواب والامتثال لو أتى بهما ، مع أنّهما كما ترى.

وثانيا : أنّه مخالف لظاهر الدليل ، لأنّ كلمة (أو) ظاهرة في التخيير لا التعيّن ، وإلّا لكان اللازم هو الإتيان بكلمة (واو) بدل كلمة (أو).

ومنها ما ذهب إليه في الكفاية عند تعدّد الفرض من تعريف الوجوب التخييريّ ، بأنّه نحو وجوب يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلّا إلى الآخر.

وفيه أوّلا : أنّه تعريف بالمجمل.

__________________

(١) المحاضرات : ج ٤ ص ٢٦.

١١٩

وثانيا : كما أفاد استاذنا المحقّق الداماد قدس‌سره أنّ لازمه هو عدم جواز كلّ واحد منهما إذا تركهما رأسا ، لأنّ تركهما لا يكون إلى بدل ؛ ومقتضى عدم جواز كلّ واحد منهما هو ترتّب العقابين لا العقاب الواحد ، وهو كما ترى.

ومنها وجوب كلّ واحد بشرط ترك الآخر.

وفيه أوّلا : أنّ لازمه هو وجوبهما إذا تركهما رأسا وتعدّد العقاب وهما كما ترى.

وثانيا : أنّ ذلك خلاف ظاهر الأدلّة.

فالتحقيق في تصوير الوجوب التخييريّ هو أن يقال ـ كما أفاد استاذنا الأراكي قدس‌سره ـ إنّ الطلب التخييريّ سنخ مستقلّ من الطلب ، وهو طلب واحد له قرنان أو ثلاثة قرون أو أربعة فصاعدا قد تعلّق كلّ قرن منه بخاصّ.

فحاله حال الشكّ فإنّه متقوّم بطرفي الوجود والعدم ، بحيث يرتفع بارتفاع أحدهما ، وكذا الطلب المتقوّم بالقرنين أيضا يرتفع بكسر أحد قرنيه بإتيان متعلّقه وكذا المقوّم بالثلاثة فصاعدا.

فبقولنا طلب واحد خرج الطلب الاستغراقيّ كأكرم كلّ واحد من هذين ، فإنّه ينحلّ إلى طلبات متعدّدة غير مرتبط بعضها ببعض ، وبقولنا قد تعلّق كلّ قرن منه بخاصّ خرج الطلب المجموعيّ ، فإنّ كلّ واحد من الشيئين أو الأشياء قد لوحظ فيه على نحو الجزئيّة لا على نحو الاستقلال.

وبعبارة اخرى الإرادة علّقت أوّلا بإكرام زيد مثلا ثمّ غضّ النظر عنه كأنّه لم يكن في البين أصلا وجيء في محلّه بآخر ثمّ غضّ النظر عنه أيضا وجيء بثالث وهكذا ، لا أنّها علّقت بعنوان واحد أخذ مرآة للإكرامات ولا بالمجموع المركّب منها الملحوظ شيئا واحدا.

وهذا السنخ من الطلب لا بدّ من تصويره : افرض أنّ التخيير الشرعيّ راجع إلى طلب واحد متعلّق بالجامع ، إذ ننقل الكلام حينئذ إلى التخيير العقليّ ، فيما إذا وقعت

١٢٠