رسالة في فروع العلم الإجمالي

آية الله الشيخ باقر الزنجاني

رسالة في فروع العلم الإجمالي

المؤلف:

آية الله الشيخ باقر الزنجاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات دار التفسير
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-535-198-2
الصفحات: ٤٤٠

المسألة الخامسة والخمسون

قال رحمه‌الله : (إذا علم إجمالا أنّه إمّا زاد قراءة أو نقصها ، يكفيه سجدتا السهو مرّة ، وكذا إذا علم أنّه إمّا زاد التسبيحات ...).

أقول : إن كان العلم حاصلا قبل الدخول في الغير المترتّب على النقيصة المحتملة :

(١) فبناء على ما هو الأقوى ، من عدم وجوب سجدة السهو لكلّ زيادة ونقيصة ، لا أثر للعلم المفروض في طرف الزيادة ، وأثره في طرف النقيصة وجوب الإتيان ، وهو مقتضى قاعدة الشكّ في المحلّ ، فلا تنجيز في العلم المفروض ، ولا يجب الإتيان بما يحتمل نقصه في هذه المسألة ونظائرها.

(٢) وأمّا بناء على وجوب سجدة السهو لكلّ زيادة ونقيصة ، فالعلم ذا أثر في كلا طرفيه ، والأثر هو وجوب الإتيان على فرض النقيصة ، ووجوب السجدة على فرض الزيادة ، فتجري أصالة عدم الإتيان بالقراءة الواجبة.

وبعبارة ثانية : تجري قاعدة الشكّ في المحلّ ، بالنظر إلى احتمال النقيصة ، وهي منجّزة للتكليف ، كما تجري أصالة عدم الزيادة ، وهي نافية للتكليف ، فينحلّ العلم بمعونة هذين الأصلين المنجّز والمعذّر ، هذا.

(٣) وإن كان العلم حاصلا بعد الدخول في الغير المترتّب على ما يحتمل نقصه ، فعلى القول بعدم وجوب السجدة لكلّ زيادة ونقيصة ، لا أثر للعلم المفروض في شيء من طرفيه.

٣٤١

وبعبارة اخرى : لا أثر للعلم إلّا بالنظر إلى احتمال النقيصة ، وأثره الواقعي هو وجوب الإتيان مع إعادة ما يترتّب عليه ممّا أتى به سهوا ، إلّا أنّ الشكّ فيه حيث إنّه شكّ بعد التجاوز عن المحلّ ، فيبني على عدم النقص من غير معارض ، لعدم جريان القاعدة ، لا أصالة العدم في طرف الزيادة لعدم الأثر لها غير وجوب استيناف الصلاة ، وهو لا يقطع بعدمه ، فيما كانت الزيادة سهويّة ، بمقتضى عموم صحيحة لا تعاد.

وعلى القول بوجوب السجدة لكلّ زيادة ونقيصة ، فالعلم المفروض ذا أثر في كلا طرفيه ، وهو وجوب سجدة السهو على كلا التقديرين.

ولكن لا مجرى لقاعدة التجاوز في طرف الزيادة ، وتجري هي في طرف النقيصة ، فيبني على عدمها وعدم وجوب السجدة لها ، وتجري أصالة العدم في طرف الزيادة ، وينفى بها وجوب السجدة لها فتتعارضان ، وبعد التساقط تصل النوبة إلى أصالة عدم الإتيان بالقراءة الواجبة ، وأصالة البراءة عن وجوب السجدة للزيادة.

فالواجب حينئذ إتيان السجدة للنقيصة ، ولا يجب قصد ما في الذمّة ، ولكن لا مانع من ذلك ، بل هو الأولى.

وما يقال : في مثل هذه المسائل ونظائرها وفي مثل المسألة الحادية والخمسون ونظائرها ، من أنّه لا مجرى لأصالة عدم الزيادة ، أو البراءة عن وجوب السجدة لها ، للعلم التفصيلي بوجوبها على كلّ حال ، ثمّ يعترض بأنّ العلم المفروض ليس علما تفصيليّا ، وإنّما هو إجمالي بين وجوب السجدة للزيادة أو

٣٤٢

النقيصة ، ثمّ يجاب بأنّ العلم الإجمالي إنّما هو بالنظر إلى موضوع النقيصة والزيادة.

وأمّا بالنظر إلى التكليف المرتّب عليها ، فهو علم تفصيلي ، وإنّما التردّد في ناحية السّبب دون المسبّب.

فإنّه يقال : إنّ التكليف المتعلّق بصرف وجود السجدة عند تحقّق نقيصة شيء ، غير التكليف المتعلّق بصرف وجودها عند تحقّق زيادته ، والمعلوم في الفروض أحد التكليفين ، فكيف يعقل فرض العلم التفصيلي بالتكليف ، بل هو علم إجمالي بالبداهة ، وهو علم إجمالي أوّلي بالتكليف ، لا أنّه متولّد عن علم إجمالي آخر منجّزا. ومن الواضح أنّ ما هو المنجّز في الشبهات الموضوعيّة ، إنّما هو العلم بالتكليف المترتّب على الموضوع المفروض ، لا العلم بتحقّق نفس الموضوع.

وبالجملة : العلم بالتكليف المنجّز له في مفروض المسألة ، إنّما هو علم إجمالي ابتدائي ليس إلّا ، والمعلوم به أحد تكليفين :

إمّا التكليف بالسجدة ، المترتّب في الواقع على تحقّق النقيصة.

أو التكليف بها المترتّب في الواقع على الزيادة.

وكلّ منها تكليف منشأ آخر له إنشاء آخر لا ربط له بالمنشإ الآخر وإنشائه.

وخلاصة القول : تحقّق النقيصة وإنشاء وجوب السجدة معلّقا على تقدير تحقّقها ، وتحقّق ذلك الوجوب وفعليّته بفعليّة تحقّق الشكّ الموضوع بخصوصه ، غير تحقّق الزيادة وإنشاء وجوب السجدة معلّقا على تقدير تحقّقها ، وتحقّق ذلك

٣٤٣

الوجوب وفعليّته بفعليّة تحقّق ذلك الموضوع بخصوصه بالبداهة.

وعليه ، فلو كان أحد الموضوعين مجرى لأصل محرز للموضوع ، والآخر مجرى لأصل ناف له ـ كما هو المفروض في هذه المسائل على ما عرفت ـ فلا محيص عن البناء على تحقّق النقيصة ، وترتيب التكليف المعلّق عليه في مرحلة الظاهر ، وبالبناء على عدم تحقّق الزيادة ، ونفي التكليف المعلّق عليه في مرحلة الظاهر ، وليس هنا وجه معقول ؛ لأن يفرض التكليف المعلوم في البين واحدا شخصيّا ، حتّى لا يمكن نفيه بعد القطع بثبوته.

* * *

٣٤٤

المسألة السادسة والخمسون

قال رحمه‌الله : (إذا شكّ في أنّه ترك الجزء الفلاني عمدا أم لا ، فمع بقاء محلّ الشكّ لا إشكال في وجوب الإتيان به ، وأمّا مع تجاوزه فهل تجري قاعدة الشكّ بعد التجاوز ...).

أقول : لا إشكال في وجوب التدارك فيما كان الشكّ قبل الدخول في الغير المترتّب.

وأمّا فيما كان الشكّ بعده ، فالظاهر أنّه لا مانع من جريان القاعدة ، لإطلاق أدلّتها ، بل جريان السيرة من العقلاء والمسلمين على دفع احتمال الخلل في الأعمال الماضية ، الناشئ عن احتمال الغفلة أو التعمّد على حدّ سواء وفي فرض واحد ، لما في ذلك من المنشأ العقلائي للظهور الأحوالي النوعي ؛ وهو أنّ العاقل إذا كان بصدد إيجاد أمر ، فالدّاعي الذي يدعوه إلى أصل الفعل ، يدعوه لا محالة إلى كلّ جزء من أجزائه.

واحتمال : أن يكون هو بصدد إيجاد أصل العمل مع التساهل في بعض أجزائه.

احتمال ضعيف بحسب حال النوع لا يعتني به ، كما لا يعتني باحتمال الغفلة الموجبة لترك بعض الأجزاء ، بعد فرض كونه في مقام إيجاد أصل العمل.

والظاهر أنّ نصوص القاعدة إنّما هي ناظرة إلى هذا الأمر المرتكز ، الذي عليه السّيرة من العقلاء والمتشرّعة.

نعم ، لم يحرز بناء العقلاء والسيرة إلّا على رفع احتمال التعمّد أو الغفلة ، لا

٣٤٥

على دفع احتمال الجهل الموضوعي أو الحكمي ، ولا على دفع احتمال عدم حصول الجزء أو القيد بمجرّد الصدفة ، بعد فرض انحفاظ صورة العمل بتحقّق تعمّد في ترك وظيفة ، أو بتحقّق غفلة في ذلك ، واحتمال حصول الجزء أو القيد بمجرّد الصدقة ، فالظاهر أنّ هذه الأخبار ، إنّما تنصرف عن أمثال ذلك لا عن صورة احتمال التعمّد.

وبالجملة : وما يرى من انسباق فرض الشكّ الناشي عن احتمال الغفلة دون التعمّد في النّصوص ، وإن كان أمرا لا ينكر ، إلّا أنّه ليس لأجل أنّ المنصرف منها التصدّي لعلاج الشكّ في صور احتمال الغفلة محضا ؛ أي في الصور التي يقطع بعدم التعمّد في الإخلال ، لا في الصور التي ينشأ الشكّ عن احتمال التعمّد محضا ، أو عن احتمال التعمّد والغفلة كليهما ، بل لأجل أنّ تعمّد المكلّف العاقل ، المفروض تصدّيه لامتثال الأمر ، واشتغاله بالعمل بداعي الامتثال ، في إخلاله ببعض ما يعتبر في العمل ، وتساهله فيه وإن كان أمرا ممكنا عقلا وعادة ، إلّا أنّه لغاية بعده وندرته يعدّ بمثابة المعدوم والمستحيل العاديّ ، وكأنّه لا يحتاج الشكّ الناشئ من هذا الاحتمال إلى العلاج والإلغاء للغويته بنفسه بالارتكاز.

وإنّما الذي يحتاج في الجملة إلى المعالجة والإلغاء ، هو الشكّ الناشئ عن احتمال الغفلة والنسيان ، لكن هذا الشكّ أيضا لضعفه وبعده لكون أمرا على خلاف العادة والطبيعة ، أمر لا ينبغي أن يعتنى به ؛ فإنّ الإنسان المتصدّي لامتثال أمر الوضوء ، هو أذكر وأجمع حواسّا ، وأشدّ التفاتا إلى ما يلزمه خلال العمل ، وهو يأتي قدر ما يمكنه لجميع ما يعتبر فيه بمجرّد تصدّيه للامتثال ـ أي إرادة إيجاد

٣٤٦

العمل بداعي أمر المولى ـ ولا يغفل عن شيء ممّا يعتبر فيه إلّا نادرا وعلى خلاف العادة ، كما هو مفاد مثل قوله عليه‌السلام في بعض أخبار الباب : «هو حين يتوضّأ أذكر من حين يشكّ».

وجملة المقال : إنّ إلغاء احتمال الخلل العمدي من المصلّي ، المفروض تصدّيه للامتثال ، يستفاد من جميع نصوص الباب ، حتّى في مثل هذا الخبر المذكور أيضا ، استفادة مرتكزة في الأذهان في مقام التخاطب بنحو الشدّة والأولويّة ، كاستفادة حرمة الضرب والشتم والقتل من قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ)(١).

ثمّ على تقدير التنزّل ، وتسليم الإشكال في شمول أدلّة القاعدة لصور احتمال التعمّد في الإخلال ، فلا ينبغي أن يخفى أن الأحوط في مفروض المسألة هو المضيّ في الصلاة ، وعدم الاعتناء باحتمال النقيصة ، مراعاة لاحتمال كونها مجرى لقاعدة التجاوز وحرمة الإبطال ، مع استيناف الصلاة بعد الإتمام تحصيلا للفراغ القطعي عمّا اشتغلت به الذمّة.

وأمّا الإتيان بالمشكوك فيه مع التجاوز عن محلّه ـ بمعنى الدخول في الغير المترتّب عليه ـ عملا بأصالة عدم الإتيان ، بعد عدم جريان قاعدة التجاوز :

فإن كان فيما أتاه يترتّب على المشكوك شيء من الأركان ، التي توجب زيادته بطلان العمل بأيّ نحو اتّفق ، فلا خفاء في أنّه غير محلّه ، فهو مفوّت للترتيب المعتبر في الأجزاء بعمد واختيار ، وبين إتيانه مع تجديد ما أتى به في غير

__________________

(١) ـ سورة الإسراء : الآية ٢٣.

٣٤٧

محلّه ، فهو قد زاد في صلاته ركنا قطعا ، فأنّى يمكن أن يكون هذا العمل منه على طبق الاحتياط ، مع أنّه ليس إلّا مراعاة لتدارك الخلل المحتمل بالإبطال العمدي.

وإن لم يكن فيما أتاه ممّا يترتّب على المشكوك فيه شيء من الأركان ، فلا يخلو أيضا :

إمّا أن يأتي بالمشكوك فيه بلا تدارك ما قد أتى به ، أو مع التدارك.

فعلى الأوّل : يكون مفوّتا للترتيب عمدا ومبطلا لصلاته.

وعلى الثاني : يحتمل أن يكون قد زاد في الفريضة شيئا عمدا ، وهو ما أتى به من المشكوك فيه.

وما يترتّب عليه من ناحيتين :

إحداهما : كونه غير تارك في الواقع للمشكوك فيه.

والثانية : كون المورد موردا لقاعدة التجاوز وحرمة الإبطال في نظر الشارع.

وبالجملة : فيدور الأمر في المسألة بين المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ ، ثمّ إعادة الصلاة ، ولو لا قوّة الأوّل وترجيحه على الثاني ، لما عرفت من قوّة احتمال كون المورد موردا للقاعدة في نظر الشرع ، ومحلّا لحرمة الإبطال والقطع ووجوب الإتمام ، فلا أقلّ من التخيير بينها ، ولا وجه لتعيين الثاني كما هو ظاهر الماتن قدس‌سره.

أقول : لكن الحقّ تعيّن الإتيان في حدّ نفسه ، نظرا إلى أنّ الشكّ في اعتبار القاعدة المرخصة المقتضية للاجتزاء ، يكفي في حكم العقل بلزوم الإتيان بمقتضى قاعدة الاشتغال وتحصيل اليقين بالبراءة.

ثمّ إن كان اتيانه مع حفظ الترتيب موجبا لزيادة شيء من الأركان ، فلا ينبغي

٣٤٨

الأشكال في عدم جوازه للغويّة ، والحاجة إلى الإعادة قطعا ، فيكون الأحوط المضيّ برجاء الصحّة ثمّ الإعادة.

وإلّا ففيه إشكال ، من جهة أنّ ما يزيد بحفظ الترتيب ، ولو لم يكن من الأركان ، فهو موجب لعدم جواز الاكتفاء بما بيده ، لعدم شمول مثل صحيحة (لا تعاد) لهذه الزيادة التي واقعة أيضا ، فيلغو أيضا الإتيان بالمشكوك فيه ، للحاجة إلى الإعادة على كلّ حال.

وجملة القول : إنّ العقل لا يحكم في مثله بالإتيان بما شكّ فيه ، تحصيلا للبراءة اليقينيّة ، للجزم بعدم صلاحيّة ما بيده حتّى مع إتيانه للاكتفاء به ، وحصول البراءة اليقينيّة إلّا بمقتضى المناط المذكور ، فلا يبقى في البين إلّا مراعاة حرمة الإبطال ، واحتمال الإبطال وحرمة الزيادة في كلتا صورتي الإتيان بالمشكوك وتركه ، والمضيّ في الصّلاة مع اقتضاء قاعدة الاشتغال للإعادة على التقديرين.

فالأظهر هو التخيير ، لو لا ما قدّمناه من قوّة احتمال كون المورد مجرى للقاعدة.

* * *

٣٤٩

المسألة السابعة والخمسون

قال رحمه‌الله : (إذا توضّأ وصلّى ثمّ علم أنّه إمّا ترك جزءا من وضوءه أو ركنا في صلاته ، فالأحوط إعادة الوضوء ثمّ الصلاة ، ولكن لا يبعد ...).

أقول : ينبغي البحث عن صور المسألة :

الصورة الاولى : إن كان العلم حاصلا في أثناء الصّلاة ، قبل الدخول في الفعل المترتّب على الرّكن المشكوك فيه ، فلا محالة ينحلّ العلم بمعونة قاعدة الشكّ في المحلّ المنجّز ، لإتيان الرّكن المشكوك فيه ، وقاعدة الفراغ المعذّر عن احتمال الخلل في الوضوء.

الصورة الثانية : قيل إذا كان العلم حاصلا بعد الدخول في الغير المترتّب قبل فوات محلّ تذكره وتداركه ، فإنّه لا مجرى لقاعدة التجاوز في الرّكن المشكوك فيه ، للقطع بأنّه لم يؤت به على نحو يسقط أمره ؛ إمّا لعدم الإتيان به رأسا ، به رأسا أو للإتيان به بلا طهارة ، فيقطع ببقاء الأمر بالركن المفروض ، ولا يعقل إمضاء العمل كما هو مفاد قاعدة التجاوز ، فتجري القاعدة.

هذا ، قد عرفت أنّ المصلّي المفروض في المقام ، يرى نفسه مشتغلا بمثل الركعة المشار إليها ، فلا سبيل لجريان أصالة عدم الزيادة في الصلاة ، أو استصحاب بقاء الشخص في صلاته وقاعدة الفراغ أو التجاوز لا تجريان بالنسبة لأصل صلاته ، إذ مضافا إلى نيّة الجميع من ناحية لزوم إثبات أنّ الركعة التي بيده هي صلاة الاحتياط أو الأخيرة ، فإنّ أدلّة الاعتبار قاصرة عن إثبات ذلك في

٣٥٠

الجميع ، وعدم ترتّب الفائدة عليها.

وفيه : أنّه ليس هناك مورد يكون مفاد قاعدة التجاوز فيه ، إمضاء العمل بالتعبّد بأصل وجود الشكّ في أصل وجوده ، وصحّة المشكوك فيها على تقدير وجوده بتعبّد واحد ، حتّى يقال بأنّه تعبّد مخالف للواقع ، للقطع بعدم تحقّقه على طبق أمره ، بل هما شكّان متفارقان ، يكونان موضوعين لحكم القاعدة كلّا باستقلاله ، سواء كانا متفارقين أو مجتمعين ، كما في محلّ البحث ، فلا معنى لدعوى العلم التفصيلي بعدم جريان قاعدة التجاوز في الرّكن المفروض في نفسه ، بل لا محيص عن أن يكون الرّكن المفروض مشمولا لدليل القاعدة مرّتين ، بمقتضى إطلاق الدليل مرّة من حيث الشكّ في أصل وجوه ، واخرى من حيث الشكّ في صحّته على تقدير وجوده ، ولا محذور في جريانها من الجهتين ، إلّا محذور التعارض ، لكونهما قاعدتين نافيتين مخالفتين للعلم الإجمالي بتحقّق أحد الأمرين : من ترك الركوع ، أو إتيانه بلا طهارة.

فاللّازم هو تعارضهما وتساقطهما ، ووصول النوبة إلى قاعدة الفراغ في الوضوء والاشتغال في الصلاة ؛ أي أصالة عدم الإتيان بالركن وانحلال العلم بذلك.

الصورة الثالثة : وكذا الحال بعينها إن كان العلم حاصلا بعد خروج محلّ التذكّر والتدارك ، سواء كان تحقّق ذلك :

(١) في أثناء الصلاة ، بأن فرض الدخول في الرّكن المترتّب على الرّكن المشكوك فيه.

(٢) أو بعد الفراغ عن الصلاة ، فإنّ في مثله أيضا تتعارض قاعدة التجاوز في

٣٥١

الركوع من حيث الشكّ في أصل وجوده معها فيه ، من حيث الشكّ في صحّته على تقدير وجوده ، وبعد سقوطهما تبقى قاعدة الاشتغال أو أصالة عدم الإتيان مقتضية لإعادة الصلاة ، ويبقى الشكّ في الصحّة على تقدير الوجود بلا معالجة ، ولا حاجة إلى معالجته ، وإنّما يحتاج إلى تصحيح ما يستأنفه من الصلاة من حيث وقوعها بعد الوضوء الصحيح ، ووقوعها بعد الوضوء محرزا بالوجدان ، وصحّة ذلك الوضوء محرزة بقاعدة الفراغ الجارية فيه من حيث نفسه ، هذا.

أقول : ولكن الحقّ في المسألة انحلال العلم في ما حصل في الأثناء ، وقبل تجاوز المحلّ الشكّي للركن ، كما قد بيّناه ، وتنجيز العلم ولزوم الاحتياط بتجديد الوضوء ، وإعادة الصلاة سواء حصل العلم بعد تجاوز المحلّ الشكّي ، وقبل التجاوز عن محلّ التدارك ، أو بعده أيضا ، أو حصل بعد الصلاة وذلك لما أشرنا إليه من أنّ الرّكن المفروض مجرى لقاعدة التجاوز من جهتين :

الاولى : من جهة الشكّ في أصل وجوده.

والثانية : من جهة الشكّ في صحّته على تقدير وجوده.

ولا مجرى لها في الجهة الثانية في مرتبة جريان قاعدة الفراغ في نفس الوضوء ، للحكومة من جهة السببيّة والمسبّبيّة ، فتعارض قاعدة الفراغ في الوضوء ، مع قاعدة التجاوز أو الفراغ في الصلاة من حيث الشكّ في أصل وجود الرّكن ، وتتساقطان ، فتصل النوبة إلى الاصول المحكومة ، وهي أصالة العدم ، أو استصحاب الحدث في طرف الوضوء الحاكم على قاعدة التجاوز أو الفراغ من الصلاة ، من حيث الشكّ في صحّة الرّكن على تقدير وجوده ، وأصالة العدم في

٣٥٢

الرّكن المشكوك في وجوده ، وهما أصلان منجّزان على وفق العلم ، لا مانع من جريانهما من جهة العلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع.

نعم ، لو فرض المانع من جريانهما من هذه الجهة ، فاللّازم تعارضهما وتساقطهما ، ووصول النوبة إلى الاصول المحكومة ، وهي قاعدة الاشتغال المقتضي لعدم الاكتفاء بتلك الصلاة في امتثال أمرها ، ولا بذلك الوضوء في الأعمال الآتية.

فالنتيجة : وجوب الوضوء وإعادة الصلاة على كلّ حال.

* * *

٣٥٣

المسألة الثامنة والخمسون

قال رحمه‌الله : (لو كان مشغولا بالتشهّد أو بعد الفراغ منه ، وشكّ في أنّه صلّى ركعتين وأنّ التشهّد في محلّه ، أو ثلاث ركعات وأنّه في غير محلّه ...).

أقول : المسألة مشمولة لإطلاق دليل البناء على الأكثر ، والاحتياط بالركعة المفصولة في مثل هذا الشكّ ، وقد أوضحنا خلال المسألة الأربعين والحادية والأربعين وغيرهما ، أنّ قواعد البناء على الأكثر ليست أحكاما ظاهريّة محضة ـ أي أصولا عمليّة ظاهريّة محضة ـ حتّى لا يمكن ترتيب اللوازم العقليّة على مفادها ، كيف ولا إشكال في ترتيب بعض اللوازم العقليّة على مفادها ، كزيادة الركعة وإبطالها بعد البناء على مفادها ، وكذلك مثل التشهّد والسجدة الواقعة سهوا في الأكثر البنائي ، بعد البناء وشمول دليل القاعدة ، وكذلك التشهّد والتسليم في الرابعة التي هي رابعة من حيث البناء والتعبّد ، ونحو ذلك.

بل الحقّ أنّ هذه القواعد لها شطران :

إحداهما : التعبّد بعدم تحقّق الركعة المشكوكة ، وتداركها بالركعة المفصولة في خارج الصلاة.

والاخرى : التعبّد بكون ما بيده هو الأكثر في الواقع.

والتعبّد الأوّل ظاهري محض ، والتعبّد الثاني واقعي محض ؛ بمعنى أنّ ما هي الثابتة في الواقع ، مثلا يترتّب عليها آثار الثالثة في الواقع بعد تحقّق هذا الشكّ من المكلّف ، ترتّبا واقعيّا لا ظاهريّا ؛ بمعنى أنّ التشهّد الذي مثلا كان واقعا في

٣٥٤

محلّه في الواقع ، على تقدير كون الركعة ثانية ، يكون كالواقع في غير محلّه بعد تحقّق ذلك الشكّ ، من حيث كونه ملحقا واقعا بالواقع في غير محلّه ، من حيث كونه محكوما بسجدتي السهو مثلا ، وكذلك التشهّد والتسليم الذي كان محلّه الرابعة الواقعيّة ، وكان يقع في غير محلّه لو كان واقعا في الثالثة الواقعيّة ، ينقلب محلّه في الواقع بعد تحقّق الشكّ المفروض إلى الرابعة البنائيّة ، سواء كانت رابعة أو ثالثة واقعيّة.

فمثل هذه اللوازم العقليّة ترتّبها على مفاد تلك القواعد عين مفادها المتعبّد به ، لا أنّه من اللّوازم العقليّة يترتّب على إحراز موضوعاتها بالتعبّد.

ولكن كلّ ذلك إنّما هو لأجل تبدّل الواقع في موارد تلك القواعد ، ولا بدّ لنا من الالتزام بالتبدّل بمقدار يمكننا استظهاره من الدليل. ومن الواضح أنّ التبدّل على الفرض ، إنّما هو بتحقّق موضوع مفاد تلك القواعد ؛ أعني الشكوك المفروضة بعد تحقّق تلك الشكوك ، وكان المصلّي مشمولا لعموم دليل القاعدة ، وتبديل الواقع يكون ترتيب الآثار العقليّة التي لا بدّ من ترتيبها بعد تحقّق ذلك التعبّد ، والبناء عين التعبّد بمفاد القاعدة ، فلو شكّ بين الاثنتين والثلاث ، وبنى على الثلاث ، فقد تبدّل الحكم الواقعي في حقّه ، فلو سها التشهّد في هذه الركعة ، فيجب عليه سجدة السهو للزيادة ، سواء كانت الركعة ثانية في الواقع أو ثالثة ، وكذلك يجب عليه التشهّد والتسليم في الرابعة ، بحسب هذا البناء في الواقع ، سواء كانت ثالثة في الواقع أو رابعة ، وهكذا.

وأمّا الامور التي قد وقعت فيما قبل تحقّق هذا الشكّ والتعبّد ؛ أي فيما قبل

٣٥٥

كون المصلّي مشمولا لدليل القاعدة بتبدّل الواقع ، وتردّد أمرها بين أن تكون زائدة في الواقع ، أو واقعة في محلّه ، كما في المسألة المبحوث عنها ، فلا يمكننا الاستظهار من دليل القاعدة أنّها تتكفّل للتعبّد والقلب والتبديل الواقعي ، حتّى من هذه الجهة أيضا ، بحيث يكون الشارع قد تعبّد بكون التشهّد الواقع منه فيما بيده

من الركعة قبل الشكّ في عددها ، واقعا في غير محلّه ؛ أي في الثالثة ، بل الظاهر عدمه ، وأنّ الشيء لا يتغيّر عمّا وقع عليه ، فما وقع قد كان حين وقوعه مثلا في محلّه في الواقع ـ أي في الثانية ـ والتعبّد بأنّها بمنزلة الثالثة ، إنّما يتحقّق بعد وقوع ذلك الواقع ، فإلحاق ما وقع قبل هذا التعبّد بما وقع زائدا في غير محلّه ، وإن كان واقعا في محلّه في الواقع ، يحتاج إلى دليل يقصر عنه دليل القاعدة جدّا.

وإن شئت فقل : إنّ المقدار المتيقّن من التبديل والإلحاق الواقعي في موارد هذه القواعد ، إنّما هو من حين تحقّق هذه الشكوك ، ولكن بنحو يشبه النقل لا الكشف.

وهذا هو السرّ في عدم إمكان إثبات زيادة التشهّد في محلّ الفرض ، لا مجرّد كونه من اللّوازم العقليّة التي لا يمكن ترتيبها على الاصول الظاهريّة الشرعيّة.

نعم ، لا مانع من الاحتياط بسجدة السهو ، لزيادة التشهّد برجاء المطلوبيّة.

* * *

٣٥٦

المسألة التاسعة والخمسون

قال رحمه‌الله : (لو شكّ في شيء وقد دخل في غيره الذي وقع في غير محلّه ، كما لو شكّ في السجدة من الركعة الاولى أو الثالثة ودخل في التشهّد ، أو شكّ في السجدة من الركعة الاولى أو الثالثة ودخل ...).

أقول : الظاهر أنّ الدخول في الغير غير مقوّم لتحقّق موضوع قاعدة التجاوز ، وإنّما المعتبر فيه الشكّ في الشيء بعد الخروج عنه ؛ أي عن محلّه المقرّر له في العمل شرعا ، ويتحقّق هذا :

تارة : بالاشتغال بالجزء المرتّب عليه.

واخرى : بالاشتغال بفعل خارج يباح بعد الصلاة ، ولا يجوز في أثنائها كما في الشكّ في الجزء الأخير من الصلاة.

وعلى كلّ حال ، فغير خفيّ أنّ المفاد الأوّلي للقاعدة ، ليس إلّا التكفّل بالتعبّد بوجود الشكّ في أصل وجوده ، أو بصحّة ما شكّ في صحّته ، بعد العلم بأصل وجوده من أجزاء العمل ؛ أعني الصلاة بخصوصها.

وأمّا التعبّد بصحّة الجزء المترتّب على ذلك الجزء المشكوك فيه ؛ أي كونه واقعا في محلّه المقرّر له ، وواجدا لما هو المعتبر في دخالته بغرض المولى ؛ أعني كونه واقعا بعد ذلك الجزء المشكوك فيه ، فهو ليس عين مفاد القاعدة المدلول عليه بالمطابقة ، وإنّما هو أمر ربما يحتاج إليه في موارد القاعدة ، كما هو الغالب ، وربما يستغنى عنه كما في الشكّ في الجزء الأخير. ولا خفاء في أنّه في موارد

٣٥٧

الحاجة إلى ذلك ، فالتعبّد به مستفاد من أدلّة القاعدة ، بالملازمة العرفيّة المبنيّة على دلالة الاقتضاء ، لوضوح لغويّة التعبّد من الجهة الاولى بدون التعبّد من الجهة الثانية.

فحاله من هذه الجهة ، كحال التعبّد بصحّة الأجزاء السابقة على الجزء المشكوك فيه ، وكونها واحدة ، لما يعتبر في دخالتها لغرض المولى من كونها متضمّنة لذلك الجزء المشكوك فيه ، في أنّه ليس عين مفاد القاعدة ، وإنّما هو أمر ربما يحتاج إليه في موارد القاعدة ، كما هو الغالب ، وربما يستغنى عنه كما في الشكّ في الجزء الأوّل ، ولا إشكال في أنّه في موارد الحاجة ، يستفاد من أدلّة القاعدة استفادة عرفيّة مبتنية على التلازم بين التنزيلين لدلالة الاقتضاء.

وعلى هذا ، فلا وجه للتمسّك بإطلاق لفظ (الغير) الواقع في بعض أخبار القاعدة ، أو بإطلاق لفظ (التكبير ، والقراءة ، والركوع ، والسجود) وغيرها من العناوين التي فرض في الأخبار الشكّ في سوابقها بعد الدخول فيها ، وأنّه من (الغير) الذي يصلح أن يعتدّ به شرعا ، ويحسب جزءا للعمل فعلا ، بمجرّد إصلاح الشكّ المفروض في الجزء السابق ، أو الذي لا يصلح لذلك حتّى مع علاج ذلك الشكّ أيضا ، بل لا بدّ من لغويّته وتجديده ، إذ لا ملازمة بين اعتداد الشارع بذلك الجزء الواقع في غير محلّه ، من حيث كونه محقّقا لموضوع التعبّد بإلغاء الشكّ في ذلك الجزء المشكوك فيه ، وبين اعتداده به من حيث دخالته في غرض الواجب ، بل التفكيك بينهما أمر معقول.

ولازم الإطلاق المذكور ، مع إطلاق الدليل الأوّل على وجوب تدارك الجزء

٣٥٨

المنسيّ ، مع ما أتى به ممّا يترتّب عليه ، فيما لا يوجب بطلان العمل ، هو ذلك التفكيك ، كما صنعه الماتن قدس‌سره تبعا لصاحب الجواهر قدس‌سره على ما نسب إليه.

ودعوى : الاختصاص بالغير ، الصالح فعلا للاعتداد به جزءا للعمل ، بدعوى الانصراف في تلك الإطلاقات إلى ذلك الخاصّ.

ممنوعة : لما عرفت من أنّ الدخول في الغير غير مقوّم لموضوع القاعدة ، ولا موضوعيّة له في التعبّد بمفادها ، وإنّما هو الغالب في مواردها من باب الاتّفاق ، فلا وجه لدعوى الإطلاق أو الانصراف من هذه الجهة في أصل مفاد القاعدة.

وأيضا : أنّ التعبّد بحكم ذلك الغير في موارد تحقّقه في موارد القاعدة ، من حيث الصحّة وواجديّة الشرط ، ليس هو المدلول بالمراد من الألفاظ الواقعة في أخبار القاعدة ، وإنّما هو أمر يستفاد من الكلام بدلالة الاقتضاء ، فلا معنى لدعوى الإطلاق أو الانصراف في مفاد القاعدة من هذه الجهة ، وأنّ مفادها التعبّد بوجود ذلك المشكوك فيه أو صحّته ، سواء أمكن التعبّد بصحّة ما يرى نفسه فيه من أجزاء العمل أم لا ، أو أنّ مفادها التعبّد بذلك في خصوص ما أمكن التعبّد بصحّة ما يرى نفسه فيه ، كيف والقاعدة جارية بلا إشكال ، حتّى فيما لم يكن هناك بعد الجزء المشكوك جزءا بما يصلح للاعتداد به ، وربما لا يصلح لذلك ، فلا وجه لدعوى الانصراف إلى التلازم بين التعبّدين ، فإنّما التلازم بينهما إنّما هو في موارد وجود مثل ذلك الغير من دون غيرها ، وفيها أيضا في موارد إمكان كلا التعبّدين دون غيرها.

فالحقّ في المسألة : أنّ المدار في التعبّد بمفاد القاعدة ، إنّما هو الشكّ في

٣٥٩

الشيء بعد الخروج عن محلّه المقرّر له شرعا ، والخروج عن ذلك لا يتحقّق عقلا وشرعا إلّا بالدخول في شيء من الأجزاء المترتّبة على ذلك الجزء ، مع إحراز كونه واقعا في محلّه المقرّر له شرعا ، وهو الشكّ المفروض الموجب للشكّ في كونه واقعا في محلّه.

نعم ، لا فرق في كون ذلك الجزء المتأخّر ، الذي يرى نفسه فيه شاكّا في وقوعه في محلّه من غير ناحية هذا الشكّ :

بين أن يكون إحراز ذلك بالوجدان ؛ كما لو شكّ في السجدة من الركعة الثانية بعد الدخول في التشهّد أو القيام أو الذّكر أو الركوع وهكذا ، مع القطع بعدم نسيان شيء من الأجزاء السابقة ، على هذا الذي يرى نفسه فيه ما عدا ذلك الذي شكّ في إتيانه.

وبين أن يكون إحرازا تعبّديّا بمفاد نفس قاعدة التجاوز ؛ كما لو شكّ في المثال في السجدة بعد ما قام ، مع الشكّ في تحقّق التشهّد قبله ، وعلى هذا القياس.

وعليه ، فالشاكّ في السجدة مثلا من الركعة الثانية حين اشتغاله بالقيام قبل التشهّد ، بعد في المحلّ المقرّر للسجدة شرعا ، بالنظر إلى التشهّد الذي وظيفته الإتيان به فعلا ، والقيام الذي وظيفته الإتيان به بعده ، فلا ينبغي الإشكال في مثله في أنّه محلّ لقاعدة الشكّ في المحلّ لا قاعدة التجاوز.

نعم ، الأحوط استحبابيّا في هذه الموارد إعادة الصلاة بعد إتمامها بالعمل بوظيفة الشكّ في المحلّ.

* * *

٣٦٠