رسالة في فروع العلم الإجمالي

آية الله الشيخ باقر الزنجاني

رسالة في فروع العلم الإجمالي

المؤلف:

آية الله الشيخ باقر الزنجاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات دار التفسير
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-535-198-2
الصفحات: ٤٤٠

وإنّما هو شكّ في كون الصلاة ثلاثة أو أربعة ، ولا خفاء في أنّ مثل هذا الشكّ المنتهى بحسب الصورة إلى الشكّ في الفوات وعدمه ، ممّا تنصرف عنه أدلّة قاعدة التجاوز ، أو قاعدة الشكّ في المحلّ ، ولا ينبغي الإشكال في أنّه موضوع لقواعد البناء على الأكثر ، المجعولة في الشكّ في عدد الركعات.

ومن ذلك تتّضح الحال في الاصول الموضوعيّة المقتضية لفوت ذلك الأمر المفروض ، من أصالة عدم الإتيان ، المقتضية لاستيناف الصلاة ، أو قضاء الفائت مع سجدتي السهو ، أو سجدتي السهو فقط ، وأنّ حالها كحال قاعدتي التجاوز والشكّ في المحلّ ، بل هو غير قاعدة الشكّ في المحلّ على التحقيق ، فلا مجرى لها ، حيث إنّها ليس هناك في الحقيقة شكّ في الإتيان وعدمه ، وإنّما هو علم بالإتيان على تقدير ، وبعدمه على تقدير آخر ، وقد شكّ في أنّ ما هو الواقع أيّ من التقديرين.

ودعوى : أنّها تحتاج إلى لسان الإثبات ، لأجل إثبات الفوت الموجب للاستيناف ، أو القضاء أو السجدة.

دعوى فاسدة : لوضوح أنّ الموضوع لهذه ليس إلّا مجرّد عدم الإتيان وليس هناك أمر وجودي نحتاج إلى إحرازه.

وبالجملة : فليست في جميع صور المسألة إلّا قاعدة البناء على الأكثر ، مع الاصول الحكميّة من البراءة والاشتغال :

ففيما كان المعلوم نقصه على تقدير نقص الركعة :

(١) تارة من غير الأركان :

٣٠١

فليس هناك علم منجّز أصلا ، لعدم الأثر في الواقع على تقدير تماميّة الصلاة ، وما له الأثر ليس إلّا احتمال نقص الركعة احتمالا بدويّا.

واحتمال تحقّق هذا التقدير ، وتحقّق ما يوجب القضاء أو السجدة احتمالا بدويّا أيضا.

والأوّل هنا : مجرى للأصل المتضمّن للترخيص والتنجيز ، وقاعدة البناء على الأكثر كما هو مقتضى إطلاق دليل اعتبارها ، وعدم الزيادة باعتبار عدم قيام علم بفوت شيء على تقدير نقص الركعة.

والثاني منها : مجرى للبراءة للقطع بفراغ الذمّة عن تكليف الصلاة ، حتّى على تقدير فوت ما فات ، وإنّما يشكّ في توجّه التكليف بالقضاء أو السجدة إليه.

(٢) واخرى فيما كان من الأركان : وإن كان كما ذكر ، في أنّه ليس هناك علم منجّز ، وإنّما هناك شكّان بدويّان ، غير أنّ الفارق أمران :

أحدهما : أنّ الأصل الجاري في أحد الشكّين في المقام ، هو قاعدة البناء على الأكثر المنجّز ، والجاري في الآخر هي قاعدة الاشتغال بالنسبة إلى تكليف أصل الصلاة ؛ حيث إنّ العلم بالاشتغال بها ، يقتضي القطع بالفراغ ، وعدم الاكتفاء بما يشكّ في صحّته وبطلانه بدون قاعدة حاكمة بالصحّة.

والثاني : أنّ حقيقة الأمر أنّه لا مجرى لقاعدة البناء على الأكثر في مثله ، للعلم بلغويّة أحد شطريها وهو الاحتياط بالركعة المنفصلة ، إذ الواقع لا يخلو :

من أن تكون معلومة أربعة تامّة ، فلا حاجة إلى تدارك النقص بالركعة.

أو ثلاثة باطلة ، فلا فائدة في التدارك بالركعة.

٣٠٢

وذلك لوضوح أنّ قاعدة البناء على الأكثر ، إنّما تعرّضه من ناحية احتمال نقص الركعة ، وأمّا احتمال البطلان الآتي من منشأ آخر ـ على تقدير نقص الركعة ـ فلا تعرّض لها هناك أصلا.

أقول : وحيث إنّك قد عرفت مرارا أنّه لا سبيل إلى التفكيك بين شطري مفاد هذه القواعد ، فلا محيص عن سقوطها رأسا ، بامتناع التعبّد بأحد شطريها ، فيؤول الأمر إلى أنّ ما بيده من الصلاة ممّا ليست قاعدة مؤمّنة له ، لا من حيث احتمال نقص الركعة ، ولا من حيث احتمال فوت الرّكن ، غاية ما هنالك احتمال كون الصلاة صحيحة في الواقع ، لكونها أربعة ، فلا يكتفى بهذا الاحتمال في مرحلة الامتثال ، بل يستأنف العمل ليحصل الفراغ القطعي.

هذا ، وأمّا فيما كان المعلوم نقصه على تقدير كون صلاته أربعة ، فهو على قسمين أيضا :

تارة : من غير الأركان :

فهناك علم إجمالي منجّز في نفسه ، وهو العلم بأحد الأمرين :

من نقص الركعة الموجبة للبطلان أو إضافة الركعة المتّصلة.

ومن نقص الجزء الموجب للقضاء مع السجدة أو للسجدة فقط.

إلّا أنّ قاعدة البناء على الأكثر الجارية في المقام ، بحسب إطلاق دليل اعتبارها ، حيث إنّها لم تقيّد بما إذا لم يكن هناك علم بفوت شيء على تقدير تماميّة الصلاة في الواقع ، حيث إنّها متضمّنة للتنجيز من حيث احتمال نقص الركعة ، وحاكمة بوجوب تداركها بالركعة المنفصلة ، فلا محالة تبقى البراءة عن

٣٠٣

وجوب القضاء والسجدة ، التي هي أصل مرخّص سليمة عن المعارض ، فينحلّ العلم الإجمالي لا محالة.

والقاعدة وإن كانت من الاصول المحرزة ، الحاكمة بتحقّق الأربعة في الواقع تعبّدا ، إلّا أنّك عرفت مرارا أنّ هذا التعبّد قد فصّل فيه بين حيثيّة وحيثيّة.

فحكم بالبناء على تحقّق الأكثر ، من حيث تحقّق محلّ إضافة ما زاد عليه ممّا يحتاج إليه ، وإتمام الصلاة بالتشهّد والتسليم.

وحكم بالبناء على عدم تحقّق الأكثر ، واشتغال الذمّة بأصل إيجاد الركعة ، ولزوم ايجادها في خارج الصلاة.

ومن الواضح أنّ ما هو المعلّق عليه الفوات ، المعلوم في المسألة ، إنّما هو تحقّق الأربعة ، وليس هناك قاعدة حاكمة بتحقّقها بقول مرسل ، مع وضوح أنّ التلازم بينه وبين تحقّق عدم الإتيان تلازم عاديّ ، تقصر الاصول عن إثبات مثله.

واخرى : فيما كان المعلوم نقصه من الأركان :

فهناك علم إجماليّ منجّز ، وهو العلم بأحد الأمرين :

من نقص الركعة الموجبة لإضافة الركعة المتّصلة.

أو نقص الرّكن الموجب للبطلان ووجوب الإعادة.

وحيث قد عرفت أنّ من الواضح أنّ قاعدة البناء على الأكثر إنّما تتكفّل بالتأمين من ناحية نقص الركعة ، على تقدير تحقّقه بإتيان الركعة المنفصلة ، وساكتة عن التعرّض باحتمال البطلان الآتي عن منشأ آخر ، على تقدير تماميّة الركعات في الواقع ، بما أنّ هذا الاحتمال أيضا مجرى للأصل المنجّز وهو قاعدة الاشتغال ، فإنّه

٣٠٤

لا تعارض بين القاعدتين ، لا من حيث لزوم مخالفة التكليف ، ولا من حيث العلم بمخالفة إحداهما للواقع على ما هو واضح. وبالتالي فلا محيص عن جريانهما معا ، فلا محيص عن البناء على الأربع في محلّ الكلام وإتمام الصلاة ، والإتيان بركعة الاحتياط ، عملا بقاعدة البناء على الأكثر ، كما لا محيص عن استيناف العمل بعد ذلك عملا بقاعدة الاشتغال.

وحاصل الكلام : أنّ العلم الإجمالي المفروض في المسألة لا أثر له :

لا من حيث التنجيز ، لوجود الأصلين المنجّزين غير المتعارضين في أطرافه.

ولا من حيث كونه موجبا لسقوط قاعدة البناء على الأكثر ؛ لعدم لزوم لغويّة شيء من شطريه أصلا.

أقول : ولكن لا يخفى ما فيه ؛ فإنّ قاعدة البناء على الأكثر ، وإن كان ذا أثر بالنسبة إلى أحد شرطيه ـ أعني تدارك نقص الركعة بالاحتياط المنفصل ـ إلّا أنّها لغو لا أثر لها بالنظر إلى شطرها الآخر ؛ أعني البناء على الأكثر ، وإتمام الصلاة ، بعد ما ظهر أنّ المفروض أنّ قاعدة الاشتغال حاكمة بعدم الاكتفاء بما بيده ، على تقدير تماميّة الركعات في الواقع ، نظرا إلى فوت الرّكن ، وليس المقام مجرى للبراءة وهو واضح.

كما لا مجرى لأصالة عدم الفوت ، على ما مرّ في صدر المسألة ، فلا معنى لنفي تأثير العلم مع إجراء القاعدتين معا.

وعليه ، فالأقوى ما في المتن من معاملة البطلان بما في يده ووجوب إعادة الصلاة.

٣٠٥

أقول : وإلى هذا الذي حرّرناه التزم الاستاذ العلّامة قدس‌سره ، حيث نفى أثر هذا العلم ، وبرغم ذلك بنى على لزوم الاحتياط بالعمل ، بموجب قاعدة البناء على الأكثر ، مع إعادة الصلاة.

* * *

٣٠٦

المسألة الرابعة والأربعون

قال رحمه‌الله : (إذا تذكّر بعد القيام أنّه ترك سجدة من الركعة التي قام عنها ، فإن أتى بالجلوس بين السجدتين ، ثمّ نسي السجدة الثانية ...).

أقول : حكم المسألة واضح في صور العلم بفوت الجلسة بين السجدتين ، والعلم بتحقّقها ، والشكّ في تحقّقها ، وأنّه لا بدّ له من العود إلى الجلسة ، ثم السجدة في الأوّل ، والعود إلى السجدة فقط في الثاني ، وإلى الجلسة والسجدة في الثالث ، لكون الشكّ فيها شكّا في المحلّ ، لكون القيام المفروض لغوا وزائدا على كلّ تقدير ، فالجلسة محكومة بلزوم التدارك ، لقاعدة الشكّ في المحلّ ، والسجدة محكومة بالتدارك لقاعدة التذكّر في المحلّ ؛ أعني ما قبل الدخول في الرّكن.

وأمّا إذا فرض العلم بتحقّق الجلسة منه ولكن بعنوان جلسة الاستراحة فيما بعد السجدتين ، فلو فرض إتيانه بها كذلك بنحو التقييد الذي هو فرض محال بحسب العادة ، فلا تنفع الجلسة الواقعيّة ؛ لعدم تحقّق قصد امتثال الأمر الواقعي بالجلسة ، وما قصد امتثاله لم يكن في الواقع ، وإلّا فلو فرض مجرّد الاعتقاد والخطأ في التطبيق ، بأن زعم الأمر الواقعي متعلّقا بها بعد السجدة الثانية ، وكان في الواقع متعلّقا بها قبلها ولكن كان هو بصدد امتثال الأمر الواقعي على كلّ حال ، فلا ينبغي الإشكال في الاكتفاء بما تحقّق من الجلسة والعود إلى تدارك السجود فقط.

* * *

٣٠٧

المسألة الخامسة والأربعون

قال رحمه‌الله : (إذا علم بعد القيام ، أو بعد الدخول في التشهّد نسيان إحدى السجدتين ، وشكّ في الاخرى ، فهل يجب عليه إتيانهما ، لأنّه إذا رجع ...).

أقول : لو التزمنا بأنّ أدلّة قاعدة التجاوز ، في اعتبارها في إلغاء الشكّ في وقوع الشيء بعد الخروج عنه ، والدخول في غيره ، منصرفة إلى إرادة الغير الذي يترتّب على ذلك المشكوك فيه ، ويصلح فعلا لأن يصبح جزءا من الصّلاة ، ويعتدّ به الشارع ، بحيث ليس هناك حالة منتظرة في الحكم بصحّة ما بيده ، والمضيّ على ما مضى عليه ، لا الشكّ في وقوع ما يتقدّم في الرّتبة على هذا الغير الذي يرى نفسه فيه ، بحيث لو ألغى هذا الشكّ ، وبني على أنّ المشكوك فيه قد أتى به في محلّه.

كان اللّازم هو صحّة ما يرى نفسه فيه من الفعل المترتّب ، وكونه جزءا قطعيّا من الصّلاة ، ومنصرفة عن إرادة الغير الذي يقطع بأنّه واقع في غير محلّه ، ويقطع بلغويّته ، ولزوم تجديده ، بعد الإتيان بما يقطع بتركه ، ممّا يترتّب هذا عليه ، سواء ألغى الشكّ فيما شكّ في الإتيان به أم لا.

فلازم ذلك كون المصلّي في المسألة المفروضة ـ حال كونه في التشهّد في الثانية أو الأخيرة ، أو حال القيام في الاولى أو الثالثة من الرباعيّة ـ محلّا وموضوعا لقاعدتين :

إحداهما : لزوم الإتيان بسجدة يقطع بفوتها ، لبقاء محلّها الذكري.

٣٠٨

والثانية : لزوم الإتيان بسجدة يشكّ في فوتها ، لبقاء محلّها الشكّي بعد على حاله ، إذ لم يدخل بعد فيما يترتّب على المشكوك فيه ممّا يريده الشارع ، ويقع امتثاله لا من الصلاة لو عولج الشكّ المفروض ، وما يرى نفسه فيه من التشهّد والقيام لغو ، لا بدّ له من رفع اليد عنه ، بمعنى عدم احتسابه جزءا للصلاة ، بل تجديد بعد تدارك السجدة الفائتة قطعا.

أقول : وهذا هو الحقّ عندنا ، ولذا يطّرد حكم المسألة في نظائر المقام :

كما إذا تيقّن بإتيان إحدى السجدتين ، وشكّ في الإتيان ، أو شكّ في إتيانهما في الركعة الاولى أو الثانية ، بعد كونه مشتغلا بالتشهّد سهوا.

أو في الركعة الثانية أو الأخيرة بعد اشتغاله بالقيام سهوا ، وعلى هذا القياس.

والسرّ في ذلك : هو ذلك الانصراف المقامي ، سيّما بملاحظة التعليل الواقع في بعض الأخبار ، من أنّه (حين الفعل أذكر) ؛ الظاهر في أنّ موارد القاعدة هي ما إذا احرزت صحّة ما يرى نفسه فيه ، إلّا من جهة احتمال كونه واقعا في غير محلّه ، من جهة احتمال ترك الجزء السابق ، بحيث يكفي في الحكم بالصحّة إبداء منشأ الظنّ النوعي ، بأنّ الإنسان يكون حين الفعل أذكر ، ويكون بصدد إتيان كلّ فعل في محلّه.

وهذا المعنى كما ترى ، غير جار في مثل الأمثلة المتقدّمة ، ممّا يقطع بأنّه لم يكن متذكّرا حين العمل ، بل كان شاكّا بما أتى به في غير محلّه.

وبالجملة : فعلى هذا المبنى ، فالمسألة صافية من حيث وجوب الإتيان بكلتا السجدتين ، بمقتضى القاعدتين ، ولا موجب للاحتياط بإعادة الصلاة ، لعدم خلل عمدي صادر منه ، ولو كان هناك خلل زيادة سجدة محتملة ، فلا يضرّ ذلك ، بعد

٣٠٩

كونه على طبق الأمر الشرعي ، بمقتضى القاعدة ، على ما هو الحال في جميع مجاري قاعدة الشكّ قبل المحلّ.

ولكن لا مانع منه ، لمجرّد احتمال زيادة واقعه ، ولا حاجة إلى التعليل بما علّله قدس‌سره من أنّه على تقدير عوده إلى تدارك السجدة الفائتة ، لا محالة يعود محلّ المشكوك أيضا.

أقول : وأمّا لو قلنا بالصحيح ـ كما هو مختاره قدس‌سره ، كما صرّح به في المسألة التاسعة والخمسين ـ فلا يبقى وجه في مفروض المسألة للحكم بوجوب الإتيان بكلتا السجدتين ، بل لا محيص عن كون الفائتة القطعيّة محلّا لقاعدة تذكّر المنسي مع بقاء محلّه الذكري ؛ أعني ما قبل الدخول في الرّكن.

كما لا محيص عن كون السجدة المشكوكة فواتها ، مجري لقاعدة الشكّ بعد التجاوز.

وما أفاده في المتن : من التعليل بأنّه مع العود إلى تدارك السجدة الفائتة ، يعود محلّ المشكوك أيضا.

عليل : لا يرجع إلى محصّل ؛ لوضوح أنّه :

(١) إن أراد من ذلك ، أنّه حين هو مشتغل بالتشهّد أو القيام ، وتذكّر بقاء إحدى السجدتين ، وقاطع بأنّ التشهّد أو القيام واقع في غير محلّه ، لم يكن ما بيده من التشهّد والقيام لغوا بحكم الشارع ، وإنّما يصبح لغوا بعد رفع اليد عنه ، والعود إلى تدارك السجدة الفائتة قطعا.

ففيه : مضافا إلى بطلانه في نفسه ، وأنّه ليس هناك حالة منتظرة لحكم

٣١٠

الشارع باللغوية ، ولزوم التدارك بمجرّد التذكّر ، ولا معنى لتعلّق الحكم على الهدم والعود.

أنّ ذلك لا يجدي شيئا ، بعد ما كان المفروض أنّ المحقّق لموضوع قاعدة التجاوز ، هو مطلق الغير ، سواء كان ممّا حكم الشارع بلغويّته أم لا.

(٢) وإن أراد من ذلك أنّه ما لم يعد ، فالتشهد أو القيام هو الغير المتحقّق ، وبعد رفع اليد عنه وهدمه ، والعود إلى السجدة ، ينعدم التشهّد أو القيام ، ويصبح كالعدم.

فهذا من انقلاب الشيء عمّا وقع عليه ، وهو أمر مستحيل.

فلا محيص عن كون شكّه في السجدة الثانية ، بعد التجاوز ، وتحقّق الدخول في الغير المعتبر شرعا ، في اعتبار القاعدة ، سواء عاد أو لم يعد ؛ أي قبل العود وبعده على حدّ سواء.

* * *

٣١١

المسألة السادسة والأربعون

قال رحمه‌الله : (إذا شكّ بين الثلاث والأربع مثلا ، وبعد السلام قبل الشروع في صلاة الاحتياط علم أنّها كانت أربعا ثمّ عاد شكّه ...).

أقول أوّلا : لا ينبغي الإشكال في أنّ الشكّ الحادث في أثناء الصلاة ، إنّما يكون موضوعا لقاعدة البناء على الأكثر وركعة الاحتياط مثلا ، بشرط استمراره من حيث البقاء بمقدار يتمكّن معه من امتثال أمر الركعة المفصولة.

وثانيا : كما لا ينبغي الإشكال في أنّ هذه الأوصاف من الشكّ واليقين والنطق لا محالة تنعدم بتبدّلها إلى أضدادها ، ويكون تجدّد تبدّل تلك الأضداد إليها ، وجودات حادثة جديدة لها ، فالشكّ المتحقّق بعد زواله ، بتبدّله إلى القطع بالوجود أو العدم ، ليس بقاء لذلك الشكّ السابق بالبداهة ، وإنّما هو فرد وتحقّق آخر من هذه الصفة النفسانيّة ، قد حدث من خلال العدم بالعدم المسبوق بالوجود ، أي مسبوق بالعدم الأزلي ، والقول بأنّه يصدق على هذا الشكّ أنّه كان وزال ثمّ عاد ، فهو أمر حقيقي واقعي ، من جهة أنّ معروض هذا الوجود الجديد أيضا غير الجهة الشخصيّة ، التي كانت معروضة للعدم الأزلي ، ثمّ صارت معروضة للوجود ، ثمّ للعدم ، ثمّ للوجود الثاني ، فحال التحقّقات الشخصيّة من هذه الأوصاف العرضيّة ، كحال التحقّقات الشخصيّة من سائر الأعراض والجواهر ، فكما أنّ زيدا مثلا لم يكن أوّلا ثمّ كان ثمّ ينعدم ثمّ يكون ، كذلك في هذه الأوصاف ، ولكن كلّ ذلك لا يوجب تعنون هذا الوجود الثاني بعنوان بقاء الوجود الأوّل ودوامه ، ولا تعنون

٣١٢

ذلك العدم المتوسّط بقاء ودواما للعدم الأزلي لا عقلا ولا عرفا.

وجملة القول : إنّ الشخص العائد بعد زواله ، كالشكّ العائد بعد زواله أو تبدّله إلى القطع في مفروض المسألة ، فهو ذلك الشخص الموجود سابقا بعينه عقلا وعرفا ، ولكن وجوده العائد حدوث آخر له بعد حدوثه الأوّل ، ولا يتعنون بعنوان البقاء لا عقلا ولا عرفا ، إنّما هو حدوث آخر له عقلا وعرفا ، وهذان الأمران الثابتان عند العقل والعرف صارا منشأين للإشكال والشبهة الحكميّة ، في مفاد كلّ من قاعدتي الفراغ والبناء على الأكثر ؛ إذ كما يحتمل أن يكون الشارع :

تارة لاحظ الجهة الثانية ـ أعني تعنون ذلك التحقّق الجديد بعنوان الحدوث ـ وجعل هذا الشكّ موضوعا لقاعدة الفراغ ، حتّى يختصّ قاعدة البناء على الأكثر في نظره ، بما إذا بقى الشكّ الحادث أوّلا إلى أن يأتي بالركعة الاحتياطيّة ، ولم يكن متعقّبا بالزوال المعقّب للعود.

واخرى : يحتمل أنّه قد لاحظ الجهة الاولى ، فألحق هذا الشكّ الحادث بالشكّ الباقي من حيث الحكم ، ولزوم البناء على الأكثر ، من جهة كونه مسبوقا بالحدوث الأوّل ، الموجب لشباهة الحدوثين بالحادث والبقاء ، حتّى تختصّ قاعدة الفراغ في نظره بما إذا كان الشكّ حادثا بعد العمل ، ولم يكن مسبوقا بحدوث آخر حين العمل.

أقول : والإنصاف أنّ أدلّة قاعدة الفراغ لا تخلو عن الانصراف عن مثل هذه الشكوك الحادثة بعد العمل ، المسبوقة بالحدوث حين العمل ، كما أنّ أدلّة قاعدة البناء على الأكثر أيضا لا تخلو عن قوّة الظهور في إرادة الإطلاق ، وتعليق حكم

٣١٣

القاعدة على مجرّد وجود الشكّ حين العمل وبعده ، إلى أن يأتي بركعة الاحتياط ، سواء تعنون وجوده بعد العمل ، بعنوان البقاء ـ كما في الشكّ الذي لم يزل ـ أو بعنوان الحدوث كما في الشكّ الذي عاد بعد زواله.

وإن أبيت عن ذلك ، فغير خفيّ أنّ مقتضى الاحتياط هو إجراء قاعدة البناء على الأكثر ، والاحتياط بالركعة ، كما أفاده في المتن ، هذا.

أقول : هنا عدّة أقوال ينبغي التعرّض لها :

الأوّل : ما قيل من أنّ حكم القاعدة قد انقطع بمجرّد تبدّل الشكّ إلى اليقين ، ولا وجه لعوده بعودة الشكّ.

لا محصّل له : فإنّ انقطاع حكم القاعدة في الواقع بمجرّد التبدّل أوّل الكلام ، وإنّما يبتني على اختصاص القاعدة بالشكّ الباقي إلى أن يأتي بركعة الاحتياط.

وأمّا بناء على عمومه للشكّ الموجود فالأمر كذلك ، وإن لم يكن معنونا بعنوان البقاء ، فالحكم غير منقطع في الواقع ، وإنّما زعم المكلّف انقطاعه لعدم علمه بالعود ، فغاية الأمر عدم تنجيز الحكم عليه ما دام هو قاطع لم يعد إليه شكّه.

وثانيا : قياس المقام ، أعني تبدّل الشكّ إلى اليقين ، ثمّ العود إلى الشكّ بصورة الغفلة عن الشكّ الموجود الباقي في النفس الواقع في غير محلّه ، لو كان نظره إلى عنوان بقاء نفس الشكّ ، وأمّا إن كان نظره إلى بقاء حكم القاعدة في الواقع لعموم موضوعه ، للشكّ الموجود وإن لم يكن وجوده بقاء.

فقد عرفت أنّ القياس في محلّه ، لغفلة المصلّي عن بقاء الحكم ، وعدم انقطاعه لغفلته عن العود اللّاحق.

٣١٤

وثالثا : ما قيل من شمول قاعدة الفراغ لمثل هذا الشكّ الحادث ما بعد العمل ، بملاحظة التعليل الواقع في بعض الأخبار من قوله عليه‌السلام : (هو حين العمل أذكر منه).

لا يرجع إلى محصّل ، كما لا يخفى.

* * *

٣١٥

المسألة السابعة والأربعون

قال رحمه‌الله : (إذا دخل في السجود من الركعة الثانية فشكّ في ركوع هذه الركعة وفي السجدتين من الاولى ، ففي البناء ...).

أقول : في مفروض المسألة :

تارة : الشكّ في أنّ ما بيده من السجدتين ، هل هي سجدة الركعة السابقة ، ولم يقم بعد إلى اللّاحقة ، وقد فاتت عنه سجدتا السابقة وركوع اللّاحقة أم لا؟

ففي هذا الفرض لا محيص عن البطلان ، لكون الشكّ بين الواحدة والاثنتين.

ولا مجرى في مثله لقاعدة التجاوز ، لكون الدخول في غير المشكوك فيه في مثله ، شبهة من حيث المصداق ، إذ لم يحرز أنّ ما هو فيه غير سجدتي الاولى المشكوك فيها ، حتّى يكون شاكّا فيهما بعد الخروج عنهما ، والدخول في غيرهما.

واخرى : ما إذا علم المصلّى أنّه قام قطعا إلى الركعة الثانية ، وقرأ فيها وقنت مثلا ، ولكنّه يشكّ في أنّه هل أتمّ الركعة الاولى ثمّ قام إلى الثانية ، أو نسى السجدتين منها وقام إلى الثانية؟ ويعلم أنّ ما بيده من السجدة إنّما هي سجدة قد أتى بها بعنوان الركعة الثانية ، ولا يحتمل أن يكون قد أتى بها تتميما للركعة الاولى ، ولكنّه يشكّ في أنّه هل ركع في الثانية ثمّ سجد ، أو سجد قبل أن يركع.

ففي مثل هذا الفرض :

(١) لو كان قاطعا بفوات السجدتين من الاولى أو الركوع في الثانية ، لكان

٣١٦

اللّازم عليه البناء على وقوع القيام والقراءة وغيرها للثانية في غير محلّه ، ولزوم تجديدها للركعة الثانية ، بعد إتيان ما ترتّب هي عليه ـ أعني سجدتي الركعة الاولى ـ والبناء على احتساب ما بيده من السجدة ، تتميما للركعة السابقة ، لعدم مانع عن ذلك غير وقوعهما جميعا ، أو وقوع بعض منها بقصد الركعة الثانية ، فأخطأ في التطبيق ، حيث إنّه كان في الواقع مأمورا بإتمام الركعة السابقة ، لعدم قادحيّة ما سبق منه سهوا من القيام وغيره.

(٢) ولو كان شاكّا فيهما لا محالة ، تكون كلتاهما مجرى لقاعدة التجاوز ، إذ لا مناقشة في شمول أدلّتها لمثل المفروض.

(٣) وأمّا إذا كان المصلّي شاكّا في مثل المفروض بين الواحدة والاثنتين ، فإنّ هذا الشكّ مبطل للعمل ، سواء كان قبل إكمال السجدتين أو بعده.

ففيه أوّلا : أنّه كما عرفت ، لا شكّ له في مثل الفرض في عدد الركعات ، بل هو قاطع بالاثنتين ، وإنّما هو شاكّ في نقصهما وتمامهما ، فهو شاكّ في الحقيقة في أنّه هل عليه أن يجعل ما صلّاها واحدة ، أو عليه أن يجعلها اثنين ، ففي مثل هذا لا دليل على شمول قاعدة إبطال الشكّ بين الواحدة والاثنتين له ، وكذلك سائر قواعد الشكوك المجعولة في الشكّ في عدد الركعات ، لظهور أدلّتها في الشكّ في أنّ ما صلّاها واحدة أو ثنتين في الواقع ، لا في الشكّ في أنّ الاثنتين اللّتين صلّاهما هل عليه أن يحسبهما واحدة أم لا.

وثانيا : أنّه على فرض تسليم شمول أدلّة تلك القواعد لمثل الفرض ، فلا خفاء في أنّ الشكّ في المفروض في أنّ ما صليها واحدة أو اثنتين ، مسبّب عن

٣١٧

الشكّ في أنّه أتى بالسجدتين للأولى والركوع للثانية أم لا ، والتعبّد بمقتضى قاعدة الفراغ أنّه قد أتى بها عين التعبّد بأنّه قد صلّى الركعتين.

وما قيل في المقام : من أنّ عموم قاعدة التجاوز مخصّصة بقواعد الشكوك في عدد الركعات صحيحها وباطلها ، من غرائب الكلمات جدّا.

ومن هنا يتّضح وجه التقريب في الفرع اللّاحق الذي فرّعه قدس‌سره على هذه المسألة ولا حاجة للبحث عنها.

* * *

٣١٨

المسألة الثامنة والأربعون

قال رحمه‌الله : (لا يجري حكم كثير الشكّ في صورة العلم الإجمالي ، فلو علم ترك أحد الشيئين إجمالا من غير تعيين ، يجب عليه مراعاته ...).

أقول : حكمه المذكور إنّما هو لانصراف دليل نفي الشكّ عن كثير الشكّ إلى الشكوك البدويّة ، وأمّا العلم الإجمالي فهو علم وإنّما يتلازم مع الشكوك لتردّد المعلوم.

* * *

٣١٩

المسألة التاسعة والأربعون

قال رحمه‌الله : (لو اعتقد المصلّى أنّه قرأ السّورة مثلا وشكّ في قراءة الحمد ، فبنى على أنّه قرأه لتجاوز محلّه ، ثمّ بعد الدخول في القنوت ...).

أقول : حكم المسألة واضح لأنّه لا يخلو :

إمّا أن نقول : باختصاص الغير المتحقّق لموضوع التجاوز ، بما يصلح فعلا لأن يعبد به الشارع ، لو صالح الشكّ في وقوعه في محلّه من جهة الشكّ في إتيان ما سبقه ، فلا خفاء في هذه الصورة في الشكّ في قراءة الحمد ، كما أنّه كان في الواقع حين حدوثه شكّا قبل تجاوز المحلّ ، كذلك هو من حيث البقاء ؛ أعني حين الاشتغال بالقنوت أيضا يعدّ شكّا قبل تجاوز المحلّ ، للقطع بعدم قراءة السورة ، وبلغويّة القنوت.

وإمّا أن نقول : بأنّه أعمّ منه ، وممّا قد حكم شرعا بلغويّته قطعا ، فلا ينفع شيئا في المسألة ، بعد وضوح أنّ المناط في مصداقيّة الشكّ المفروض لموضوع قاعدة التجاوز ، أو الشكّ في المحلّ ـ وكونه مشمولا في الواقع للحكم بعدم الاعتناء ، أو الحكم بالتدارك ـ إنّما هو حين حدوث الشكّ ، وأمّا من حيث البقاء والدوام ، فمن الواضح أنّ أمره باختياره ، وعليه بعد الشكّ في شيء وقبل تجاوز محلّه أن يشتغل بشيء من الأفعال المترتّبة ، حتّى يعود الشكّ حين الاشتغال بذلك الفعل شكّا في الشيء بعد تجاوز المحلّ.

كما أنّه ربّما يتّفق له أنّه بعد الشكّ في شيء ، وقبل تجاوز محلّه ، يكون

٣٢٠