رسالة في فروع العلم الإجمالي

آية الله الشيخ باقر الزنجاني

رسالة في فروع العلم الإجمالي

المؤلف:

آية الله الشيخ باقر الزنجاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات دار التفسير
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-535-198-2
الصفحات: ٤٤٠

١
٢

٣
٤

تقديم

امامك أيّها القارى الكريم رسالتان صادرتان من يراع أحد جهابذة الفن ، واعلام الدين ، وممّن قضى عمره الشريف في البحث والتأليف والتدريس ، وتتلمذ عليه جماعة كبيرة من الطلبة الذين غدوا لاحقا مجتهدين متمرسين ، وفقهاء عظام خدموا مذهب اهل البيت عليهم‌السلام. وليس هذا العلم الفذّ سوى شيخنا واستاذنا سماحة آية الله العظمى الشيخ ميرزا محمد باقر الزنجاني رحمه‌الله ، وقد كتبت قبل عدة سنوات ـ بطلب من بعض الافاضل ـ ترجمة وافية لحياته الشريفة اقتطع منها بعضى المقاطع التي تفيد القارئ الكريم للوقوف على المقام السامي لهذه الشخصيّة العلميّة الفذّة :

(هو درّة الفخر ، وفريدة العصر ، استاذنا وملاذنا ، علّامة المحقّقين ، وفهّامة المدقّقين ، شيخ الإسلام والمسلمين ، جمال الملّة والدّنيا والدّين ، آية الله العظمى في العالمين ، والمولى المأمون على الدّنيا والدّين ، الشيخ الأوحدي الربّاني ، الآقا الميرزا محمّد باقر الزنجاني أعلى الله جلّ جلاله مقامه في فراديس الجنان ، وأسبغ على روحه الطاهر إفضاله وإنعامه في روضة الرّضوان ، وكتب لي بخطّه المبارك الميمون إجازة اجتهاد ورواية ، إجازة نفيسة مقدّسة تترشّح منها القداسة والطهارة والميمنة ، مؤرّخة بتاريخ الرابع من شهر ذي الحجّة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وثمانين هجريّة ، ممهورة بخاتمه الشريف.

ولا أدري كيف أؤدّي حقّ هذا المولى العظيم ، والاستاذ المكرّم ، وإنّي أهيم

٥

بسماع اسمه ، فكيف بتذكّر أيّام كنّا في خدمته ، وكان يفيض علينا من سيل علومه المتدفّق ، وكنّا نشرب من سهله العذب ، وما كان قلبي المستهام راضيا بفراقه ولو بلحظة فكيف بهذا الفراق الطويل!!

وما أحسن أن نتمثّل بكلام لسيّد المكارم والآداب السيّد عليّ صدر الدّين المدني المعروف بابن معصوم رضوان الله تعالى عليه :

(شمائله مقتدّة من برد النسيم ، وأخلاقه منتسخة من الروض الوسيم ، ومحاورته مختلسة من الدّر النظيم ، وأنواره يقتبس منها محيّا البدر في الليل البهيم ، ذكره أطيب من نفس الحبيب ، وروحه أخفّ من مغيب الرّقيب ، ومفاكهته أشهى من رشف الثغر الشّنيب ، وصدره أوسع من الافق الرّحيب).

وقد كتب هذا المولى المكرّم ترجمتين لنفسه بقلمه الشريف بتلخيص واختصار ، وينبغي لنا أن نتيمّن بذكر ما ذكره هو نفسه رحمه‌الله تخليدا لذكراه :

فهو محمّد باقر جمال الدّين ابن محمّد مهدي بن أحمد الزنجاني ، ولد في بلدة زنجان في صبيحة الليلة الثانية أو الثالثة والعشرين من شهر رمضان المبارك ، سنة ألف وثلاثمائة واثنتي عشر من الهجرة المقدّسة ، نشأ واشتغل فيها بما وفّقه الله سبحانه ويسّر له من تحصيل العلوم العربيّة والأدبيّة الآلية ، والعلوم العالية الدينيّة عند جماعة من الأساتيد العظام والأساطين الأعلام ، جزاهم الله عنه خير جزاء الصالحين من عباده.

وكان والده رحمه‌الله من خيار طبقة التجّار المحترفين ، محبّا لأهل العلم والدّين والتقوى ، وكان كثير الرغبة في انسلال ولده في سلك الروحانيّة ، فواصل هو امتثالا لأمره وطلبا لمرضاة الله تعالى شأنه في طلب العلم ، والاستكمال في مراتب العلوم الدينيّة المحضة ، فأخذ الآليات وأوائل العلوم من عدّة من أفاضل

٦

بلدة زنجان رحمهم‌الله تعالى.

منهم : شقيقه المغفور له الشيخ محمد حسن الخطيب المتخلّص بالسّعيد ، وكان شاعرا مفلّقا ، وخطيبا كلمانيّا لسنا.

ثمّ حضر سطحا وخارجا في أبحاث عدّة من الحجج الأعلام في تلك البلدة :

منهم : العلّامة الحاج الشيخ زين العابدين رحمه‌الله.

ومنهم : العلّامة الآقا ميرزا عبد الرحيم الطارمي رحمه‌الله.

ومنهم : العلّامة الشيخ عبد الكريم الخوئيني رحمه‌الله.

ومنهم : العلّامة الآقا ميرزا إبراهيم الرياضي الفلكي رحمه‌الله.

ومنهم : العلّامة الحاج السيّد حسن الشهير بابن القنّاد.

وغيرهم من الأعلام قدّس الله أسرارهم.

وبعد وفاة والده رحمه‌الله تعالى رأى بطبيعة الحال أنّ الاغتراب أحسن ذريعة وأقرب وسيلة إلى نيل المنية وفوز البغية ، فأحبّ أن يلوذ إلى باب بيت من البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، فكان من منن الله عظمت آلاؤه عليه ، وحسن صنيعه أن ألهمه وألقى في روعه أن لا يقصد مدينة العلم إلّا من بابها ، فرحل إلى الغريّ الأقدس ، والحرم المقدّس ، مهبط النور الإلهي ، ومعدن الفيض القدسي ، حرم أمير المؤمنين ، وسيّد الوصيّين ، على مشرّفه أفضل الصلاة والسلام ، وأكمل التحيّة والإكرام ، فوجّه وجهه إلى ذلك الباب باب الرحمة ، فوجده بحمد الله مفتوحا بمصراعيه ، فتوكّأ على عصا السؤال ، وألقى عنده رحل الترحال ، ولاذ بتربة مرقده المقدّسة ، وعكف على سدّته السنيّة ، مستمدّا من مواهبه القدسيّة ، وتشرّف بتقبيل العتبة الطاهرة في السابع عشر

٧

من شهر ربيع الثاني سنة ثمانية وثلاثين بعد الألف وثلاثمائة. ثمّ حضر في كربلاء المشرّفة مدّة قليلة في بحث علم التّقى آية الله في أرضه ، المجاهد الكبير ، الآقا الميرزا محمّد تقي الشيرازي قدّس الله نفسه الزكيّة ، وكان بحثه في مسائل الوقف ، ثمّ رحل إلى النجف الأشرف واشتغل في طلب المبتغى ، وحضر الأبحاث الاصوليّة والفقهيّة عند جماعة من أساطين الدّين ، وحماة شريعة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحملة علوم الأئمّة الغرّ الميامين :

منهم : وفي طليعتهم ظهير الملّة وعميدها ، وحبر الامّة وفريدها ، شيخ الطائفة ووحيدها ، محور دائرة التدقيق ، وسلطان أريكة التحقيق ، قطب فلك الفقاهة ، آية الله في أرضه ، الشيخ العلّامة الميرزا محمّد حسين النائيني قدس‌سره.

ومنهم : سيّد العلماء الأعلام ، وقدوة فقهاء الإسلام ، غياث الامّة ، ووارث الأئمّة ، الناهض بأعباء الرئاسة الإماميّة الحقّة في الطائفة الاثنى عشريّة المحقّة ، آية الله في أرضه ، السيّد أبو الحسن الأصفهاني قدّس الله سرّه.

ومنهم : ذخر الأيّام ، وعلم الأعلام ، جمال الملّة وفخر الدّين ، وعلّامة العصر ، شيخ المحقّقين ، آية الله في أرضه الشيخ ضياء الدّين العراقي قدس‌سره.

ومنهم : الحبر المعتمد ، والعلّامة الأوحد ، عماد الأعلام ، أكمل المتبحّرين ، وأفضل المتكلّمين ، حجّة الإسلام الشيخ إسماعيل المحلّاتي ، صاحب كتاب «أنوار العلم والمعرفة» قدّس الله سرّه.

وغير هؤلاء الكرام من الأساتيد العظام ، جمعهم الله وإيّانا في دار كرامته ، ومستقرّ رحمته.

ولكن شيخنا العلّامة المترجم له اختار من بينهم العلّامة الأوحد ، والأستاذ الأكبر ، وحيد الدهر وفريد العصر ، آية الله العظمى الآقا الميرزا محمد

٨

حسين النائيني قدّس الله نفسه الزكيّة ، فاختصّ به ، واستفاد منه ما شاء الله أن يستفيد ، وشرب من منهله العذب ، وحضر في مختلف أبحاثه الاصوليّة والفقهيّة ليلا ونهارا ، طيلة ما يقرب من أربعة عشر سنة ، فهو قدّس الله نفسه مورده ومصدره ، وبه تشرّف بالاتّصال إلى اسناد المشايخ العظام في الروايات المأثورة عن الرسول الأكرم ، والأئمّة الهداة المهديّين صلوات الله عليهم أجمعين ، كما له الاتّصال أيضا بواسطة شيخ الباحثين والمتتبّعين العلّامة الرازي صاحب الذريعة أعلى الله مقامه الشريف.

ولشيخنا الاستاد العلّامة من التأليفات :

تقريرات بحث استاذه المذكور في الاصول والفقه على ما فصّل في الذريعة.

وله تعاليق على «الفرائد» و «المكاسب» و «الكفاية». وقد ذكرت في الذريعة.

وله «تنقيح القواعد في علم الاصول» دورة كاملة محتاجة إلى تهذيب وتلخيص.

ومباحث التجارة من أوّل المكاسب المحرّمة إلى آخر أحكام القبض ، محتاجة إلى تهذيب وتلخيص أيضا ؛ وهي بأسلوب التعاليق على متاجر شيخ المشايخ العظام ، العلّامة الأنصاري قدّس الله نفسه ، وهي غير التعليق على المكاسب المذكور في الذريعة.

وله رسالة في الإجارة ، ورسالة في المضاربة ، ورسالة في الشركة ، ورسالة في الحجّ ، ورسالة في النكاح.

وهذه كلّها كالشروح والتعاليق على المقدار المدوّن من هذه الأبواب في

٩

كتاب «العروة الوثقى».

وله تعاليق كثيرة متفرّقة على المجلّدات الثلاثة من «مصباح الفقيه».

وله تعليقة على رسالة «اللّباس المشكوك» لأستاده المحقّق النائيني قدس‌سره.

ورسالة في «فروع العلم الإجمالي» وهي في شرح المسائل الخمسة والستّين من مسائل الخلل في الصلاة التي عنونت في كتاب «العروة الوثقى».

ورسالة في مفاد «صحيحة لا تعاد».

ورسالة في الجواب عن سؤال متعلّق بالمثوبات الموعودة لبعض المندوبات.

والحاشية على كتاب الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والخمس والحجّ والمضاربة والشركة والنكاح من «العروة الوثقى».

ومجموعة تحتوي على النتف المنتخبة من الفوائد المتفرّقة.

وكان رحمه‌الله مفيدا ومفيضا على الطلّاب وروّاد العلم مدّة عمره ، مفرطا مستهاما في حبّ الأئمّة الطاهرين ، سيّما أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وكان ما دام قادرا على الحركة والتشرّف إلى الحضرة العلويّة الشريفة ، لا يترك زيارة الحرم الشريف ولو مرّة واحدة في كلّ يوم وليلة. ومن العجيب وقوع وفاته أيّام شهادة مولى الموحّدين ، فجر يوم الاثنين عشرين من شهر رمضان المبارك بعد صلاة الفجر ، نام نوم راحة تبدّل بالنوم الأبدي والرّاحة الأبديّة ، فخيّم هالة الحزن على سماء النجف ، واغتمّ أهلها والحوزة العلميّة ، فاجتمع جمع كثير من العلماء والطلّاب ، ونقلوا جثمانه الطاهر برفقة ستّة عشر سيّارة إلى كربلاء المقدّسة ، وغسّلوه في النهر العلقمي ، وشيّع تشييعا حافلا بالعلماء والفضلاء في كربلاء ، وجدّدوا العهد به مع الحرمين الشريفين الحسيني

١٠

والعبّاسي ، ثمّ اعيد الجثمان الشريف إلى الغريّ المقدّس ، وشيّع تشييعا مهيبا ، حضره أعاظم العصر والعلماء والأهالي في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة ١٣٩٤ هجريّة ، ودفن في إحدى مقابر الصحن الشريف بجوار جماعة من الأعيان منهم المرحوم شيخ الشريعة الشيخ فتح الله النمازي الأصفهاني قدّس الله أسرارهم ، ورحمهم برحمته الواسعة ، وأفاض على تربتهم المقدّسة شآبيب لطفه ومغفرته وفضله وعنايته.

سلام عليهم حنّ قلبي لذكرهم

حنين فصيل أفردته الرّكائب

وما كان قلبي راضيا بفراقهم

ولكن أمر الله لا شكّ غالب

* * *

اقول : وهاتان الرسالتان ـ وهما رسالة فى «فروع العلم الإجمالى» ، ورسالة في مفاد «صحيحة لا تعاد» ـ كتبتهما بخطي نقلا عن نسخة المؤلف قبل نصف قرن ، وبقيت محفوظة عندي هذه الفترة الطويلة ، الى أن وفقنى الله سبحانه لنشرها ، ولا يسعنى الّا أن اسجد لله سبحانه وتعالى شاكرا لذلك ، واهدي ثواب ذلك الى روح شيخنا الاستاذ رضوان الله تعالى عليه ، وأملي أن ينتفع بهما طلّاب الحوزات العلمية. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مرتضى بن جواد الحسيني النجومي

١٥ ربيع الثاني ١٤٣٠ ه

١١
١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين. والصّلاة والسّلام على سيّد البريّة محمّد وآله الطيّبين الطاهرين. واللّعنة الدائمة على أعدائهم أعداء الدّين.

وبعد ، فيقول العبد الآثم محمّد باقر جمال الدّين ابن محمّد مهدي الزنجاني عفى الله عن سيّئاتهما ، هذه نبذة من المباحث المتعلّقة بالمسائل المدوّنة في ختام مبحث الخلل من كتاب «العروة الوثقى» ، قد اهتديت إليها ، وساعد عليها نظري القاصر أوان اشتغالي بالبحث عنها ، فأودعتها في هذه الصحائف ، سائلا من الله عظمت آلائه أن يجعلها ذخرا ليوم فقري وفاقتي ومسكنتي.

* * *

١٣
١٤

المسألة الاولى

قال رحمه‌الله : (إذا شكّ أنّ ما بيده ظهر أو عصر ، فإن كان قد صلّى الظهر بطل ما بيده).

وذلك من جملة أنّ الأخبار الدالّة على الترتيب ، المشتملة على مثل قولهم عليهم‌السلام (إلّا أنّ هذه قبل هذه ظاهرة) ، بل هي كالصريحة في أنّ الصلوات الخمس ـ حتّى المشتركة منها في المقادير كالظهرين والعشاء للحاضر أو الأربعة للمسافر ، والمتّفقة منها في الأحكام وجميع الخصوصيّات ، كالظهرين للحاضر أو المسافر ، أو الصبح والعشاء للمسافر ، أو الظهرين والعشاء في المرأة الحاضرة ، أو المسافرة التي لا يجب عليها الجهر في شيء منها ـ أنواع متباينة يمكن أن يشار إلى كلّ منها قبل وجودها بمثل كلمة (هذه) ونحوها ، ويحكم بأن هذه لا بدّ أن تكون قبل هذه.

فهناك في مثل الظهرين مثلا أمران متغايران ومتمايزان بالنوع حتّى قبل وجودهما ، وكلّ منها قابل قبل أن توجد للإشارة إليها بمثل كلمة (هذه) ، والمكلّف مختار تكوينا في أنّ يوجد هذه أوّلا ثمّ يوجد غيره ثانيا أو يعكس الأمر ، ولكنّ الشارع أوجب عليه أن يوجد هذه بالخصوص قبل إيجاده للثانية بالخصوص ، ومن الواضح أنّ هذا لا يتصوّر الّا فيما فرض التمايز بينها نوعيّا.

وإلّا فلو فرض اتّحاد الصّلاتين في الماهيّة بحيث تكون كلّ منهما فردا ذات أربع ركعات أو ركعتين ، ولا مائز بينهما إلّا مائز التفرّد الذي لا محيص منه في الأمور التدريجيّة ، عن أن يكون من الميزات الفرديّة المتحقّقة بينها من حيث

١٥

وقوع أحدهما في الزمان الأوّل والثاني في الزمان الثاني ، فلو فرض إيجاد هذين الفردين المتماثلين ، فإنّه لا محالة يتحقّق الميز الخارجي ، ويمكن أن يشار إليها بأنّ هذه وقعت قبل هذه وهذه وقعت بعد هذه ، وأمّا قبل إيجادهما فلا ميز خارجي بعد ولا ميز نوعي حتّى يشار إليه فيهما ، فحالهما حال العتقين المأمور بهما في مثل قوله : (اعتق رقبتين على التدريج) ، ومن الواضح أنّه لا مصحّح في مثله ، لأن يقول المولى إلّا أنّ هذا العتق لا بد أن يكون قبل هذا ، بل لو شرع في أيّ من العتقين كان هو الأوّل والآخر هو الثّاني ، فيشار إلى أحدهما بعد الإيجاد بأنّ هذا وقع قبل هذا ، ولا يصحّ أن يشار إليهما قبل الإيجاد ويحكم بالترتيب.

نعم ، لو أضاف العتق إلى رقبة خاصّة من جهة ، كما لو قال مثلا : (اعتق رقبة مسلمة وكافرة ، وليكن عتق المسلمة قبل عتق الكافرة) ، فحيث إنّه يتحقّق هناك ميز ماهويّ قبل الإيجاد ، فلا محالة تصحّ الإشارة إلى كلّ منهما بالخصوص قبل الإيجاد ، ويصحّ الحكم بوجوب الترتيب.

ومن هنا يتبيّن أنّ مثل رواية داود بن فرقد وصحيحة الحلبي ، ونحوهما ممّا استظهر المشهور دلالتها على اختصاص كلّ من الظهرين والعشاءين بمقدار من الوقت في أوّله وآخره ، أوضح دلالة على ثبوت التمايز النوعي قبل الإيجاد وحين الإيجاد ، بحيث لا يصحّ مقدار من الوقت إلّا لإيجاد أحدهما بالخصوص ، بحيث لو أوجد فيه الآخر لبطلت ، ولما حصل امتثال شيء من الأمرين ، وإن كان هذا الاستظهار ممنوعا عندنا.

أقول : الحقّ أنّ مساق مثل هذه الأخبار أيضا مساق الأخبار الدّالة على

١٦

الترتيب في حال العمد والذّكر ، على ما أوضحناه في محلّه.

هذا كلّه مضافا إلى الأخبار الواردة في العدول من الحاضرة اللّاحقة إلى الحاضرة السابقة ، المشتملة على مثل قولهم عليهم‌السلام : (يجعلها) ، أو (يجعل ما بيده) ، أو (ينويها ظهرا) ، ونحو ذلك ، الظاهرة بل كالصّريحة في أنّ تمحّض ما بيده في تعنونه بعنوان الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الصبح مثلا ، إنّما هو بالنّسبة إلى قصد ذلك العنوان ؛ إمّا في أوّل ما يفتتح الصلاة ، أو حينما يتذكّر في أثناء الثانية أنّه لم يصلّ السابقة ، دون مجرّد تكميل ما بيده حتّى يبلغ مقدار السابقة ، أو قطع ما بيده في مقدار ينطبق على السابقة ولا يتجاوز مقداره ، ودون مجرّد الوقوع سابقا ، بحيث يكون الأربع التامّ ، أو الاثنين المقصورة التي بها سابقا معنونة بعنوان الظهريّة مثلا قهرا من دون حاجة إلى قصد ونيّة ، سواء فرض التذكّر في الأثناء أو بعد الفراغ ، كيف وصحيحة زرارة الدالّة على أنّه :

(إذا نسيت الظهر حتّى صلّيت العصر ، فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك ، فانوها الاولى ، ثمّ صلّ العصر ، فإنّما هى أربع مكان أربع).

المؤيّدة بالخبر الذي رواه الحلبي أنّه قال :

«سألته عن رجل نسي أن يصلّي الاولى حتّى صلّى العصر؟

قال : فليجعل صلاته التي صلّى الاولى ، ثمّ يستأنف العصر».

حيث أنّ الخبر الأخير ـ برغم أنّ المشهور لم يعملوا به بالنسبة إلى ما بعد الفراغ ـ مشتمل أيضا على مثل قوله عليه‌السلام : (فانوها الاولى) ، أو (فليجعل صلاته التي صلّى الاولى) ، فلا يحتمل في شيء من أخبار العدول أن يكون مفادها تعنون أوّل

١٧

ما وجد بعنوان الظهريّة قهرا.

وجملة القول : إنّ الأخبار متطابقة في ثبوت نحو من التمايز النوعي في الصّلوات الخمس أجمعها ، وأنّ هذا الميز النّوعي ممّا لا بدّ أن يكون مقصورا ومنويّا للمكلّف من أوّل افتتاحه للصّلاة ، أو لا أقلّ في أثنائها ، أو لا أقلّ بعد الفراغ عنها. فقصد عناوين الظهر والعصر والمغرب وهكذا ، ليس لمجرّد تمييز أنه في مقام امتثال أيّ من الأمرين ، حتّى يختصّ بموارد تعدّد الأمر والاشتراك والمماثلة في المتعلّق ، بل إنّما هو في نفسه من القيود الدخيلة في المأمور به ، لدخالته في المصالح المقتضية لإيجابه ، فكما لا تحصل تلك المصالح بالصلاة الفاقدة للطهور أو الركوع مثلا ، كذلك لا تحصل بالأربع ركعات الجامعة لكلّ الأجزاء والقيود ، الفاقدة لقصد عنوان الظهريّة أو العصريّة وهكذا ، قصدا تفصيليّا أو إجماليّا بنحو من أنحاء الإشارات الممكنة.

وهذا الذي تطابقت عليه الأخبار ، هو ظاهر كلمات المشهور ، وكأنّه ممّا تطابقت عليه كلماتهم على ما لا يخفى على المراجع فيها.

وبعد هذا فنقول : حيث إنّه لا ميز نوعي واقعي حقيقي بين أربع ركعات متكرّرة ، أو ركعتين المقصورتين المتكرّرتين ، بحيث لا يكون للقصد مدخل في تحقّقها ، فلا محيص عن أن يقال :

إنّ هذا التمايز النّوعي بين الصّلوات ممّا للقصد مدخل فيه لا محالة ، وإلّا فليس هناك إلّا فردان مماثلان من مركّب اعتباري ذات أربع ركعات ، أو ذات ركعتين.

١٨

وحينئذ فأمّا أن نقول : إنّ الميز الحقيقي أوّلا وبالذات ، إنّما هو بين الأمرين المتعلّقين بالصلاة السابقة واللّاحقة ، والميز إنّما هو من جهة فعليّة أحد الأمرين في الزمان الأوّل ، وفعليّة الثاني بعد ذلك الزمان ، ولو مع اشتراكهما واجتماعها في الفعليّة في مقدار من الزّمان ، وأمّا المتعلّقان ؛ فلولا التغاير بينهما من حيث المقدار ، أو في بعض الأجزاء والقيود كالجهريّة والإخفاتيّة مثلا فلا ميز بينهما أصلا.

نعم ، هناك عناوين اعتباريّة تنتزع من إتيان المأتي به بداعي امتثال أحد هذه الأوامر بالخصوص ، وهي عناوين الظهريّة والعصريّة والمغربيّة وهكذا ، وعليه فلو قام بإتيان الأربع أو الاثنتين بداعي امتثال الأمر ، الذي صار فعليّا في أوّل الزوال ، فلا محالة يتعنون ما أتى به بعنوان الظهريّة.

أمّا لو قام بإتيانها بداعي امتثال الأمر الذي صار فعليّا بعد فعليّة الأوّل فيما بين الزوال والغروب ، فلا محالة يتعنون ما أتى به لا بعنوان العصريّة.

أمّا لو أتى بالثلاث بداعي امتثال الأمر الذي صار فعليّا في أوّل المغرب ، فلا محالة يتعنون ما أتى به بعنوان المغربيّة.

ولو أتى بالأربع أو الاثنتين بداعي امتثال الأمر الذي صار فعليّا بعد فعليّة الأمر الأوّل فيما بين الغروب ونصف اللّيل ، فإنّه يتعنون ما أتى به بعنوان العشائيّة.

ولو أتى بالاثنتين بداعي الأمر الّذي صار فعليّا في أوّل الفجر ، فإنّه يتعنون ما أتى به بعنوان الصبحيّة.

وهذا وإن كان يستقيم في الجملة ، إلّا أنّه لا يستقيم بالنسبة إلى الظهرين أو العشاءين ، إلّا بناء على مذهب المشهور القائلين بالوقت ، لاختصاص الموجب لا

١٩

محالة لفعليّة أحد الأمرين في زمان سابق على فعليّة الآخر ، ويكون هناك أمران متمايزان من هذه الجهة.

وأمّا بناء على ما هو المختار من اشتراك الوقت بين الصلاة ، من مع لزوم الترتيب ، فلا محيص عن فعليّة كلا الأمرين بمجرّد الزوال على ما أوضحناه في محلّه.

وبالجملة : وحينئذ فلا ميز بين الأمرين ، حتّى يكون قصد امتثال أحدهما بالخصوص منشأ لانتزاع عنوان الظهريّة أو العصريّة مثلا ، والمفروض عدم الميز الواقعي الحقيقي ولا الانتزاعي والاعتباري بين نفسي المتعلّقين في المرتبة السابقة على الأمرين.

هذا كلّه ، مضافا إلى كون هذه العناوين منتزعة عن إتيان العمل بداعي أمر مخصوص ، بحيث تكون مرتبة تعنون العمل بهذه العناوين متأخّرة عن مرتبة تعلّق الأمر بذات العمل ، ويعدّ مخالفا لظاهر ما تقدّمت إليه الإشارة في الأخبار والأقوال ، حيث إنّ ظواهرها ثبوت التمايز ولو اعتباريّا بين نفس المتعلّقات في المرتبة السابقة على تعلّق الأمر بها ، وحينئذ فلا محيص عن أن يقال :

إنّ هذه العناوين حالها كحال عناوين التعظيم والتوهين والتحقير ، ونحو ذلك ممّا له تحقّق بالاعتبار فيما قصد الفاعل تحقّقها في عمله ، فذوات الصلوات الخمسة التامّة أو المقصورة في حدّ أنفسها ، خالية عن التعنون بعنوان الظهريّة والعصريّة ونحوها ، ما لم يقصد المصلّي في صلاته تحقّق شيء منها ؛ كخلوّ مثل تقويس القامة عن التعنون بعنوان التعظيم والتحقير ونحو ذلك ، ما لم يقصد العامل تحقّق شيء منها ، وهذه العناوين ليست بأنفسها هي المأمورة بها ، حتّى يكون

٢٠