موسوعة أخلاق القرآن - ج ٣

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٣

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٩

اني أنظر عن يميني فاذا امرأة تبادرني الى باب الجنة ، فأقول : ما لهذه تبادرني؟ فيقال لي : يا محمد ، هذه امرأة كانت حسناء جميلة ، وكان عندها يتامى لها ، فصبرت عليهن ، حتى بلغ أمرهن الذي بلغ ، فشكر الله لها ذلك» (١).

ومن آدابها أن لا تتفاخر على الزوج بجمالها ، ولا تزدري زوجها لقبحه ، فقد روي أن الاصمعي قال : دخلت البادية فاذا انا بامرأة من أحسن الناس وجها ، تحت رجل من أقبح الناس وجها ، فقلت لها : يا هذه ، أترضين لنفسك أن تكوني تحت مثله؟. فقالت : يا هذا ، اسكت ، فقد أسأت في قولك ، لعله أحسن فيما بينه وبين خالقه فجعلني ثوابه ، أو لعلي أسأت فيما بيني وبين خالقي فجعله عقوبتي ، أفلا أرضى بما رضي الله لي؟. فأسكتتني.

وقال الأصمعي : رأيت في البادية امرأة عليها قميص أحمر. وهي مختضبة ، وبيدها سبحة ، فقلت : ما أبعد هذا من هذا. فقالت :

ولله مني جانب لا أضيعه

وللهو مني والبطالة جانب

فعلمت أنها امرأة صالحة لها زوج تتزين له.

ومن آداب المرأة ملازمة الصلاح والانقباض في غيبة زوجها ، والرجوع الى اللعب والانبساط وأسباب اللذة في حضور زوجها ، ولا ينبغي أن تؤذي زوجها بحال. روي عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا الا قالت زوجته من الحور العين : لا تؤذيه قاتلك الله ، فانما هو عندك دخيل ، يوشك أن يفارقك الينا».

__________________

(١) للامام العراقي في سند هذين الحديثين كلام ، فقد ذكر أن سندهما ضعيف.

٨١

وتأتي المصاحبة بالمعروف من الأوصياء لليتامى الصغار الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم فهم كالسفهاء في هذا المجال ، فيقول الله تعالى في سورة النساء :

«وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً»(١).

أي عاملوا هؤلاء اليتامى معاملة حسنة طيبة ، فاحفظوا أموالهم ، وأعطوهم اذا كبروا وبلغوا الرشد ، فان المال اذا أحسنتم استعماله كان سبب اقامة المصالح الخاصة والعامة ، ومن الواجب عليكم ان تنفقوا من أموالهم في حدود حاجتهم ومصلحتهم ، وقولوا لهم قولا طيبا ، يدل على حسن العشرة والصحبة والتوجيه ، فعلموهم ما يحسن أن يتعلموه وارشدوهم الى الخير.

وكذلك وجه القرآن الى اتباع طريق المعروف حتى في مواطن القصاص ، ومواقف الدية ، فاذا كان هناك قصاص دعا الى أن يكون المقتص عادلا غير ظالم وغير متجاوز حد العدل ، فقال في سورة الاسراء :

«وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً»(٢).

واذا ترك صاحب القصاص قصاصه ، وانتقل الامر الى الدية طالب القرآن الطرفين باتباع المعروف ، فقال في سورة البقرة :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٥.

(٢) سورة الاسراء ، الآية ٣٣.

٨٢

الْقَتْلى ، الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ، ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ، فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ»(١).

أي على العافي أن يسلك طريقا معروفا غير شديد ، وذلك بأن لا يشدد في طلب الدية والتعجيل بها ، ولا يطالب بأكثر من حقه ، وعلى من يدفع الدية أن لا يؤخرها ولا يسوف في أدائها ، بل يؤديها بمعروف واحسان.

ولا عجب في ذلك ولا غرابة فان الله سبحانه يريد لأمة الاسلام أن تكون أمة معروف واحسان أليس هو القائل في سورة آل عمران :

«وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(٢).

حتى الكلمة الطيبة يعدها القرآن نوعا من أنواع المصاحبة بالمعروف والمعاشرة بالحسنى ، فيقول في سورة البقرة :

«قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً»(٣).

أي : كلام طيب جميل يرد به المسؤول على السائل ، ودعاء صالح

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٧٨.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ١٠٤.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢٦٣.

٨٣

له ، أفضل من اعطائه الصدقة مصحوبة بايذاء أو سوء معاملة.

والرسول يؤكد ذلك حين يقول : «ان من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام». وحين يقول في حديث آخر : «الكلمة الطيبة صدقة».

* * *

ثم نأتي الى الذين يعنون بتهذيب الارواح وتصفية النفوس من أهل الخشية والمراقبة والاحسان ، فنجدهم يصورون لنا المصاحبة بالمعروف في صور ذات بهاء ورواء وسناء ، فهم يقررون أن الصحبة المثالية التي تنشا بين اثنين تجعلهما روحا واحدة في جسدين ، وقلبا واحدا في بدنين ، وترتفع بهما الى الدرجات العلا التي تتهيأ للاحرار الابرار من الناس.

يقول بعض هؤلاء : اذا قال لك صاحبك : هيا ، فقلت له : الى أين فلست بصديق ومعنى هذا أن الصاحبين هنا قد تلاقيا على الهدى والتقى ، فلا يدعو أحدهما صاحبه الا الى خير أو بر أو معروف.

ويقول بعضهم : مثل المصطحبين مثل النورين ، اذا اجتمعا أبصرا باجتماعهما ما لم يكونا يبصرانه قبل ذلك.

وهم يطالبون بأن تكون المصاحبة للحق وبالحق ومع الحق ، ولذلك يقول ذو النون : «لا تصحب مع الله الا بالموافقة ، ولا مع الخلق الا بالمناصحة ، ولا مع النفس الا بالمخالفة ، ولا مع الشيطان الا بالعداوة والمحاربة» (١).

ليتنا نحرص على المصاحبة بالمعروف مع من تجمعنا واياهم أودية هذه الحياة لنستجيب لهدى فضيلة زكاها الله ، وحث عليها كتاب الله عزوجل.

__________________

مثل هذه العبارة جاءت منسوبة للامام أحمد الرفاعي في كتابه «البرهان المؤيد».

٨٤

الحكمة

«الحكمة» كلمة مشتقة من مادة «حكم» ، وهذه المادة تدل في الاصل على المنع للاصلاح ، ولذلك يقول القائل : «أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم» أي امنعوهم ، ويسمى اللجام حكمة ـ بفتح الحاء والكاف ـ لأنه يمنع الدابة من الشرود ، ومن المادة أيضا : حكم يحكم ، بمعنى قضى وفصل في الامر ، لأن الحاكم يمنع الاعتداء بين الناس. ويقال : حكّمه في الامر تحكيما ، أي فوض اليه الحكم فيه.

وأحكم فلان الشيء : اتقنه. وذو الحكمة هو من يحكم الاشياء ، ويحسن دقائق الصناعات ويتقنها. والامر الحكيم هو المشتمل على الصواب والحكمة ، وقد تطلق الحكمة على الكلمات البليغة المتضمنة معنى جليلا في لفظ قليل.

والحكم أعم من الحكمة ، فكل حكمة حكم ، وليس كل حكم حكمة ، فقد يكون الحكم مجانبا للرشاد والصواب. واذا كانت كلمة «الحكمة» تطلق بمعنى علمي ، أو عقلي ، أو عملي ، أو بياني ، فانها تطلق أيضا بمعنى أخلاقي ، وهذا المعنى الاخلاقي هو المقصود الاساسي لنا في هذا المجال.

ولقد ذكر القرآن الكريم مادة الحكمة في آيات كثيرة ، مثل قوله في سورة البقرة :

٨٥

«رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(١).

وقوله :

«كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ»(٢).

وقوله :

«وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ»(٣).

وقوله في سورة النساء :

«فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً»(٤).

وقد ذكر المفسرون عن معنى الحكمة المذكورة في القرآن أقوالا ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٢٩.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٥١.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢٣١.

(٤) سورة النساء ، الآية ٥٤.

٨٦

منها أنها النبوة ، أو السنة ، أو تفسير القرآن ، أو فهم حقائقه ... الخ.

ووصف القرآن ربّ العزة بصفة «الحكيم» في عشرات من الآيات ، والحكمة من الله سبحانه هي معرفة الاشياء وايجادها على غاية الاحكام ، أو هو الذي يعلم أجلّ الاشياء بأجلّ العلوم ، وعلمه أزلي دائم لا يتصور زواله ولا يتطرق اليه خفاء ولا شبهة ، أو هو العادل في التقدير ، المحسن في التدبير ، ذو الحكمة البالغة ، الذي يضع كلّ شيء موضعه ، ولا يعرف كنه حكمته غيره سبحانه.

وجاء في التنزيل المجيد وصف القرآن بأنه «الذِّكْرِ الْحَكِيمِ». أي ذو الحكمة ، أو المحكم المتقن الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، ولذلك جاء في أول سورة هود :

«الر ، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ».

ويشير ابن القيم الى قيام دعائم الكون على الحكمة ، فيقول «كل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة ، وكل خلل في الوجود وفي العبد فسببه الاخلال بها ، فأكمل الناس أوفرهم منها نصيبا ، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلهم منها ميراثا».

* * *

واذا كانت كلمة «الحكمة» قد فسرها بعضهم بالعلم ، أو الفقه. فقد فسرها كثير من الحكماء بتفسيرات موصولة الاسباب بجوانب الاخلاق ، ونحن نستطيع بملاحظة هذه الجوانب أن ننظر الى «الحكمة» على أنها فضيلة من الفضائل الاخلاقية التي دعا اليها القرآن المجيد.

ان الحكمة بهذا المفهوم تطلق على كل ما يتحقق فيه الصواب من

٨٧

القول والعمل ، وعلى اصابة الحق بالعلم والعقل ، ولذلك قيل في تعريف الحكمة : هي في الانسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات ، ولذلك ورد عن مجاهد : «الحكمة معرفة الحق والعمل به ، والاصابة في القول والعمل». وقال بعض المفسرين : الحكمة هي العلم الصحيح الذي يبعث الارادة الى العمل النافع ، ويقف بالعامل على الصراط المستقيم ، لما فيه من البصيرة وفقه الاحكام وأسرار المسائل.

ويفسر الامام محمد عبده قوله تعالى في سورة البقرة :

«يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ»(١).

فيذكر ان الحكمة هنا هي العلم الصحيح ، يكون صفة محكمة في النفس ، حاكمة على الارادة ، توجهها الى العمل ، ومتى كان العمل صادرا عن العلم الصحيح كان هو العمل الصالح الطيب النافع الموصل الى السعادة ، فتكون لفضيلة الحكمة منزلتها وثمرتها.

وكم من محصل لصور كثيرة من المعلومات ، خازن لها في رأسه ، ليعرضها في أوقات معلومة ، لا تفيده هذه الصور التي تسمى علما في التمييز بين الحقائق والاوهام ، ولا في التزييل بين الوسوسة والالهام ، لأنها لم تتمكن في النفس تمكنا يجعل لها سلطانا على الارادة ، وانما هي تصورات وخيالات تغيب عند العمل ، وتحضر عند المراء والجدل.

والتفسير الذي ترتضيه النفس لفضيلة الحكمة هو أنها فضيلة تمنع صاحبها من الجهل في القول والعمل ، وتصده عن سوء التصرف والمعاملة ، وتحذره رذيلة الاندفاع والعجلة ، وتعلمه أن يضع كل شيء في موضعه ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٦٩.

٨٨

ولذلك قيل ان الحكمة مجموعة معان من العلم ، والعدل ، والتنظيم ، والتقويم.

وكأن هذا هو ما أشار اليه الحديث القائل : «في رأس كل عبد حكمة ـ بفتح الحاء والكاف ـ اذا همّ بسيئة فان شاء الله أن يقدعه بها قدعه» أي ان شاء أن يمنعه بها من سوء التصرف منعه. فكأن هذه القوة الاخلاقية الموجودة في نفس الانسان تقف منه موقف الديدبان الحارس الذي يهتف بصاحبه : حذار أن تفعل هذا ، ولا تنس أن تفعل ذلك.

ولذلك لم يكن غريبا أن نجد كلمات بليغات لأئمة من السلف عن الحكمة توحي بمعان أخلاقية فيها ، فيقول مالك بن أنس : الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له.

ويقول : الحكمة طاعة الله ، والفقه في الدين ، والعمل به.

ويقول الحسن : الحكمة الورع.

ويقول الربيع بن أنس : الحكمة الخشية.

ويقول أسلم بن زيد : الحكماء هم العلماء ، وهم الراضون عن الله عزوجل اذا سخط الناس ، وهم جلساء الله غدا بعد النبيين والصديقين.

ويقول أبو بكر الوراق : الحكماء خلف الانبياء ، وليس بعد النبوة الا الحكمة ، وهي احكام الأمور.

ولقد أعطى أئمة التوجيه الروحي والاخلاقي ملامح للحكمة وللحكيم ، فمن ملامحها الاقتصار على التكلم بالحق والصدق ، ولذلك يقول أبو عثمان المغربي : «الحكمة هي النطق بالحق». وكذلك من ملامحها الميل الى الصمت أكثر من الميل الى الحديث ، مع وزن الكلمة قبل

٨٩

النطق بها ، ولذلك يقول أبو بكر الوراق : «أول علامات الحكمة طول الصمت ، والكلام على قدر الحاجة». ومنها انزال الناس منازلهم ، واعطاؤهم حقوقهم ، يقول شاه الكرماني : «علامة الحكمة معرفة أقدار الناس». ومنها عدم الحرص على متاع الحياة الزائل ، وعدم الانشغال به. يقول أبو سليمان الداراني : «اذا ترك الحكيم الدنيا فقد استنار بنور الحكمة».

* * *

ولا شك في أن الحكمة بصورتها الرائعة قد تمثلت في رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، وأكملهم في هذه الحكمة هو سيدنا ومولانا رسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه ، وكأن هذا كان استجابة ربانية لدعاء ابراهيم واسماعيل حين قالا كما حكى القرآن في سورة البقرة :

«رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»(١).

واذا كان هناك من يفسر الحكمة في هذه الآية بالسنة النبوية فان الامام محمد عبده يرى أن ذلك غير مسلّم على عمومه ، ويقرر أن الأصح أن يقال ان الحكمة هي في كل شيء معرفة سره وفائدته ، والمراد بها أسرار الأحكام الدينية والشرائع ومقاصدها ، وقد بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بسيرته في المسلمين ، وما فيها من الفقه والدين ، والآية تشير الى أن تعليم الكتاب والحكمة لا يكفي في اصلاح الامم واسعادها ، بل لا بد أن

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٢٩.

٩٠

يقرن التعليم بالتربية على الفضائل ، والحمل على الاعمال الصالحة بحسن الاسوة والسياسة ، ولذلك قالت الآية : «وَيُزَكِّيهِمْ» أي يطهر نفوسهم من الاخلاق الذميمة ، وينزع منها تلك العادات الرديئة ، ويعودها الاعمال الحسنة التي تطبع في النفوس ملكات الخير ، ويبغض اليها الاعمال القبيحة التي تغريها بالشر.

والله جل جلاله يأمر رسوله ـ ومن ورائه اتباعه ـ بأن يسلك في دعوته طريق الحكمة العاقلة الفاضلة ، فيقول له :

«ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(١).

ويشير القرطبي إلى أن هذا أمر من الله الى رسوله بأن يدعو الى دين الله وشرعه بتلطف ولين ، دون مخاشنة أو تعنيف.

والقرآن المجيد يذكر لنا أن طائفة من أنبياء الله ورسله قد آتاهم الله الحكمة وزانهم بها ، وجعلهم يقدرونها قدرها ، فمنهم من طلب الى الله أن يؤتيه اياها ، ففي سورة الشعراء جاء على لسان ابراهيم أبي الأنبياء :

«رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً (أي حكمة) وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ»(٢).

وفي سورة البقرة جاء قوله تعالى :

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ١٢٥.

(٢) سورة الشعراء ، الآية ٨٣.

٩١

«وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ»(١).

وفي سورة ص يقول القرآن عن سليمان :

«وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ»(٢).

وفي سورة يوسف جاء عن يوسف :

«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً» (أي حكمة) «وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»(٣).

وفي سورة مريم :

«يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا»(٤).

والحكم هنا بمعنى الحكمة. وفي سورة القصص جاء عن موسى :

«وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً» (أي حكمة) «وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»(٥).

وفي سورة آل عمران جاء عن عيسى :

«وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ»(٦).

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٥١.

(٢) سورة ص ، الآية ٢٠.

(٣) سورة يوسف ، الآية ٢٢.

(٤) سورة مريم ، الآية ١٢.

(٥) سورة القصص ، الآية ١٤.

(٦) سورة آل عمران ، الآية ٤٨.

٩٢

صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ويقول الله تعالى في سورة لقمان عن لقمان :

«وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ»(١)

ولقد كان لقمان حكيما عبّر عن حكمته بكلمات حكيمة تهدي الى طائفة من مكارم الاخلاق ، ومنها هذه الكلمات :

«من يقارن قرين السوء لا يسلم».

«من لا يملك لسانه يذم».

«يا بني كن عبدا للاخيار».

«يا بني ، كن أمينا ، تكن غنيا».

«جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ، ولا تجادلهم ، خذ منهم اذا ناولوك ، والطف بهم في السؤال».

«ان ما تأذيت به صغيرا ، انتفعت به كبيرا».

«كن لاصحابك موافقا في غير معصية».

«لا تحقرن من الامور صغارها ، فان الصغار غدا تصير كبارا».

«اياك وسوء الخلق ، والضجر ، وقلة الصبر».

«ان أردت غنى الدنيا فاقطع طمعك مما في أيدي الناس» ... الخ.

* * *

واذا كان هناك قول بأن المراد بالحكمة هي سنة الرسول صلى الله

__________________

(١) سورة لقمان ، الآية ١٢.

٩٣

عليه وسلم ، فان ذلك القول لا يبعد بكلمة «الحكمة» عن معناها الاخلاقي ، لأن سنة الرسول هي الهادية الى مكارم الاخلاق ، وصاحبها هو الذي جاء ليتمم مكارم الاخلاق ، وهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه ، وهو الذي قال : «عليكم بسنتي» ، وقال : «تركت فيكم ما ان تسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب الله وسنتي».

كما ان هناك صلة بين كلمتي «الحكمة» و «الحكم» لأن الحاكم لا يحسن الحكم الا بالحكمة ، ولعل هذا مما يشير اليه الحديث القائل : «الخلافة في قريش ، والحكم في الانصار ، فقد ذكر ابن الاثير أن الحديث هنا خصّ الانصار بالحكم ، لان أكثر فقهاء الصحابة فيهم ، ومنهم معاذ بن جبل ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت.

وقد استعمل الحديث النبوي كلمتي «الحكمة» و «الحكم» بمعنى ، فقال : «ان من الشعر لحكمة» وفي رواية : «ان من الشعر لحكما» أي ان من الشعر كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه ، وينهى عنهما ، والمراد به المواعظ والامثال التي ينتفع بها الناس.

* * *

وللحكمة أركان تقوم عليها ، وهي العلم والحلم والأناة ، ولها معاول هدم هي الجهل والطيش والعجلة ، فلا حكمة لجاهل ، ولا لطائش ، ولا لعجول. هكذا يقول ابن القيم ، كما يقرر أن الحكمة نوعان : حكمة علمية ، وهي الاطلاع على بواطن الاشياء ، ومعرفة ارتباط الاسباب بمسبباتها ، خلقا وأمرا ، قدرا وشرعا ، وحكمة عملية ، وهي وضع الشيء في موطنه ، ولذلك ثلاث درجات : الدرجة الاولى أن تعطي كل شيء حقه ، ولا تتعدى به حدّه ، ولا تسبق به وقته ، ولا تؤخره عنه ، ويوضح ابن القيم ذلك فيذكر أنه لما كانت الاشياء لها مراتب وحقوق ، تقتضيها شرعا وقدرا ،

٩٤

ولها حدود ونهايات تصل اليها ولا تتعداها ، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر ، كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث ، بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره ، ولا تتعدى بها حدها ، فتكون متعديا مخالفا للحكمة ، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة ، ولا تؤخرها عنه فتفوتها.

وهذا حكم عام لجميع الاسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا ، فاضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة اضاعة البذر وسقي الارض. وتعدي الحق كسقيها فوق حاجتها ، بحيث يغرق البذر ويفسد الزرع. وتعجيلها عن وقتها كحصاده قبل ادراكه وكماله. وكذلك ترك الغذاء والشراب واللباس اخلال بالحكمة ، وتعدي الحد المحتاج اليه خروج عنها أيضا ، وتعجيل ذلك قبل وقته اخلال بها ، وتأخيره عن وقته اخلال بها.

فالحكمة اذن هي فعل ما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي.

والدرجة الثانية لوضع الشيء في موضعه ، هي أن تعرف الحكمة في وعد الله تعالى ووعيده ، وأنه كما قال في سورة النساء :

«إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً»(١).

وتعرف الحكمة والعدل في أحكامه ، وقد عرّف أهل السنة حكمة الله بقولهم : «انها الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه بخلقه وأمره ، التي أمر لأجلها ، وقدر وخلق لاجلها ، وهي صفته القائمة به كسائر صفاته ، من سمعه وبصره ، وقدرته وارادته ، وعلمه وحياته وكلامه».

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٤٠.

٩٥

والدرجة الثالثة أن تبلغ درجة البصيرة في العلم والادراك ، واليها يشير القرآن الحكيم في قوله :

«قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»(١).

* * *

وقد نوه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بمكانة أهل الحكمة أيما تنويه حين قال : «ان الجنة للمحكّمين» ـ بتشديد الكاف المفتوحة ـ حيث قيل انهم المخصوصون بالحكمة ، والذين ينصفون من أنفسهم.

وقيل في تفسير هذا الحديث ان المحكمين هم المجاهدون الذين يقعون في يد الاعداء ، فيخيرهم أعداؤهم بين الشرك والقتل ، فيختارون القتل على الشرك ، كما حدث من المؤمنين من أصحاب الاخدود الذين اختاروا الثبات على الايمان مع القتل ، ومن ذلك حديث كعب الذي وصف فيه الجنة ، وكان من قوله : «ان في الجنة دارا لا ينزلها الا نبي أو صدّيق أو محكّم في نفسه».

ولا عجب أن ينال أهل الحكمة تلك المكانة ، لأنهم يتصفون بطائفة كريمة من الصفات ، ومنها التجربة ، ولذلك روى البخاري في الأدب : «لا حكيم الا ذو تجربة». ومنها الصمت الا في الحق ، ولذلك جاء الحديث : «الصمت حكم (أي حكمة) وقليل فاعله». ومنها خوف الله عزوجل ، ولذلك أخرج الحكيم الترمذي في النوادر : «رأس الحكمة مخافة الله».

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠٨.

٩٦

هذا ولرجال التربية الروحية كلمات بليغة في فضيلة الحكمة ، منها قول الفضيل بن عياض : «من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة». وجعل يوسف بن حسين الرازي الحكمة احدى المراحل الموصلة الى رضى الله ، فقال : «بالأدب تفهم العلم ، وبالعلم يصح لك العمل ، وبالعمل تنال الحكمة ، وبالحكمة تفهم الزهد ، وتوفق له ، وبالزهد تترك الدنيا ، وبترك الدنيا ترغب في الآخرة ، وبالرغبة في الآخرة تنال رضى الله». وقال الحارث المحاسبي : «أكثر شغل الحكيم فيما يوجبه عليه الوقت ، والذي هو أولى به فيه».

اللهم هبنا فضيلة الحكمة في ظل كتابك وهدي رسولك ، يا نعم المولى ونعم النصير.

٩٧

طيب الكلام

«الطيّب» كلمة تستعمل بمعنى الحلال ، وبمعنى الطاهر ، وبمعنى النظيف ، والتطيب هو ازالة الخبث ، والطيب في الاصل هو ما تستلذه الحواس والنفس ، والطعام الطيب في الشرع هو ما كان متناولا من حيث ما يجوز ، وبقدر ما يجوز ، ومن المكان الذي يجوز ، فانه متى كان كذلك كان طيبا عاجلا وآجلا ، والا فإنه ـ وان كان طيبا عاجلا ـ لا يطيب آجلا. والطيب من الناس هو من تعرى من خبث الجهل والفسق وقبائح الاعمال ، وتحلى بالعلم والايمان ومحاسن الاعمال.

وطيب القول ـ أو طيب الحديث ـ فضيلة قرآنية جليلة الشأن ، لأن المرء بأصغريه قلبه ولسانه ، فاذا رزقه الله تعالى قلبا طاهر الاحساس ، ولسانا طيب القول ، فقد أوسع الله لعبده في الفضل والتوفيق ، ولذلك يقول بعض الأئمة : «طيب الكلام من جليل عمل البر» ، وان الكلمة الطيبة تعمل في الانسان عمل السحر ، فتهدىء روعه ، وتريح نفسه ، وتدخل بالطمأنينة والانشراح على صدره. والتوفيق للنطق بالكلمة الطيبة هبة ربانية عظيمة الشأن ، ولذلك يقول الناس : الكلمات هبات ، ولا ريب في أن الكلام هو الترجمان والدليل والبرهان على عقل الانسان وطويته ، ولذلك قيل :

٩٨

ان الكلام لفي الفؤاد ، وانما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

ولقد حث القرآن المجيد على طيب الكلام في كثير من آياته ، فقال في سورة آل عمران :

«وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(١).

ويقول في سورة النحل :

«ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(٢).

ويقول في سورة فصلت :

«وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ»(٣).

ودعا القرآن الحكيم عباد الله الى أن يحرصوا على القول الحسن والكلام الطيب ، فقال في سورة الاسراء :

«وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، إِنَّ الشَّيْطانَ

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٠٤.

(٢) سورة النحل ، الآية ١٢٥.

(٣) سورة فصلت ، الآية ٣٣.

٩٩

يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً»(١).

أي قل لعبادي المؤمنين ينطقوا بالكلمة الحسنى ، وهي كلمة التوحيد والاقرار بالنبوة ، واذا جادلهم الكافر في أمر التوحيد والعقيدة ، فليقولوا له : هداك الله ، يرحمك الله.

وعليهم ـ من باب أولى ـ أن يحفظوا حسن الأدب وطيب القول فيما بينهم ، وليتذكروا أن فحش الكلام يكون من وسوسة الشيطان اللعين ، لأنه للانسان عدو مبين.

ولقد جعل القرآن الكريم طيب القول أو حسن الكلام جزءا من الميثاق أو العهد الذي أخذه على بني اسرائيل ، فقال عز من قائل في سورة البقرة :

«وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ : لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ»(٢).

ويتمثل القول الأحسن في دعوة الى خير ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وصدق في خبر ، وتلطف في حوار ، وهكذا ...

ويقول الحق جل جلاله في سورة الحج :

«إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) سورة الاسراء ، الآية ٥٣. وينزغ بينهم : أي يفسد ويهيج الشر بينهم.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٨٣.

١٠٠