موسوعة أخلاق القرآن - ج ٣

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٣

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٩

فأخذ أبو جعفر المنديل فوضعه على وجهه ، ثم بكى وانتحب حتى أبكاني.

ثم قلت :

يا أمير المؤمنين :

قد سأل جدك العباس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امارة مكة ، أو الطائف ، أو اليمن ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : «يا عباس ، يا عم النبي ، نفس تحييها خير من امارة لا تحصيها» (١) ، نصيحة منه لعمه ، وشفقة عليه ، وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئا ، اذ أوحي اليه :

«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(٢).

فقال : يا عباس ويا صفية عمّي النبي ، ويا فاطمة بنت محمد ، اني لست أغني عنكم من الله شيئا ، ان لي عملي ، ولكم عملكم» (٣).

وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا يقيم أمر الناس الا حصيف العقل ، أريب العقد ، لا يطلع منه على عورة ، ولا يخاف منه على حرة ، ولا تأخذه في الله لومة لائم.

وقال : الامراء أربعة ، فأمير قوي ، ظلف نفسه وعماله (٤) ، فذلك كالمجاهد في سبيل الله ، يد الله باسطة عليه بالرحمة ، وأمير فيه ضعف ، ظلف نفسه وأرتع (٥) عماله لضعفه ، فهو على شفا (٦) هلاك الا أن يرحمه

__________________

(١) روى هذا الحديث البيهقي.

(٢) سورة الشعراء ، الآية ٢١٤.

(٣) رواه البخاري وابن أبي الدنيا.

(٤) ظلف الانسان نفسه عن أهوائها أي منعها وصدها.

(٥) من رتع بمعنى أكل وشرب ما شاء في خصب ودعة.

(٦) الشفا : حرف كل شيء.

٢٤١

الله ، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه ، فذلك الحطمة (١) الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شر الرعاة الحطمة» (٢) فهو الهالك وحده ، وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعا.

وقد بلغني ـ يا أمير المؤمنين ـ أن جبريل عليه‌السلام أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار فوضعت على النار تسعّر ليوم القيامة ، فقال له : يا جبريل ، صف لي النار.

فقال : ان الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت ، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة ، لا يضيء جمرها ، ولا يطفأ لهبها ، والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب أهل النار أظهر لاهل الارض لماتوا جميعا ، ولو أن ذنوبا (٣) من شرابها صبّ في مياه الارض جميعا لقتل من ذاقه ، ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الارض جميعا لذابت وما استقلت ، ولو أن رجلا أدخل النار ، ثم أخرج منها ، لمات أهل الارض من نتن ريحه ، وتشويه خلقه وعظمه.

فبكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبكى جبريل عليه‌السلام لبكائه ، فقال : أتبكي يا محمد ، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟.

فقال : أفلا أكون عبدا شكورا؟ ولم بكيت يا جبريل وأنت الروح الامين : أمين الله على وحيه؟.

قال : أخاف ان ابتلى بما ابتلي به هاروت وماروت ، فهو الذي منعني

__________________

(١) الحطمة : الراعي الظلوم.

(٢) الحديث من الامثال النبوية ، يضرب في سوء الملك والسياسة ، ويضرب لمن يلي ما لا يحسن ولايته. وقد روى مسلم هذا الحديث.

(٣) الذنوب ـ بفتح الذال ـ الدلو.

٢٤٢

من اتكالي على منزلتي عند ربي ، فأكون قد أمنت مكره.

فلم يزالا يبكيان حتى نودي من السماء : يا جبريل ، ويا محمد ، ان الله قد آمنكما أن تعصياه فيعذبكما ، وفضل محمد على سائر الانبياء كفضل جبريل على سائر الملائكة (١).

وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : اللهم ان كنت تعلم أني أبالي اذا قعد الخصمان بين يديّ على من مال الحق ، من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين.

يا أمير المؤمنين :

ان أشد الشدة القيام لله بحقه ، وان أكرم الكرم عند الله التقوى ، وانه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ، ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه.

فهذه نصيحتي اليك ، والسلام عليك.

ثم نهضت فقال لي : الى أين؟.

فقلت : الى الولد والوطن باذن أمير المؤمنين ان شاء الله.

فقال : قد أذنت لك ، وشكرت لك نصيحتك ، وقبلتها ، والله الموفق للخير ، والمعين عليه ، وبه أستعين ، وعليه أتوكل ، وهو حسبي ونعم الوكيل ، فلا تخلني من مطالعتك اياي بمثل هذا ، فانك المقبول القول ، غير المتهم في النصيحة.

قلت : أفعل ان شاء الله. اه.

وروى محمد بن مصعب أن أبا جعفر المنصور أمر للاوزاعي بمال

__________________

(١) روى هذا الحديث ابن أبي الدنيا هكذا مفصلا بغير اسناد.

٢٤٣

يستعين به على خروجه ، فلم يقبله ، وقال : أنا في غنى عنه ، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا. وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه (١) في ذلك.

__________________

لم يجد عليه : لم يغضب عليه.

٢٤٤

التفويض

قال أهل اللغة : فوّض فلان الى فلان الامر ، أي وكّله فيه وردّه اليه. والتفويض هو الاتكال في الامر على آخر ، وردّه اليه ، فيقال : فوّض اليه أمره. وأفوض أمري الى الله ، أي أرده اليه.

ولقد سبق لي ان تحدثت عن «التوكل» في الجزء الثاني من كتابي «أخلاق القرآن» (١) ، وهناك تقارب بين معنى التوكل ومعنى التفويض ، حتى انه قد يعبّر في بعض الاحيان عن التوكل بلفظ التفويض ، ولكني هنا أخص فضيلة التفويض بحديث مستقل ، يظهر فيه الفرق عند علماء الاخلاق وأطباء القلوب والارواح بين التوكل والتفويض.

والتفويض فضيلة أخلاقية اسلامية قرآنية ، صرح بها الذكر الحكيم على لسان مؤمن آل فرعون ، في سورة المؤمن ، ـ أو سورة غافر ـ حيث يقول :

«فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ ، إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ»(٢).

__________________

(١) كتاب أخلاق القرآن ، ج ٢ ص ٢١٤.

(٢) سورة غافر ، الآية ٤٤.

٢٤٥

أي سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ، ونهيتكم عنه ، ونصحتكم وأوضحت لكم ، وستتذكرونه وتندمون حيث لا ينفع الندم ، وأتوكل على الله وأستعينه ، وأقاطعكم وأباعدكم ، وألتجىء الى الله ، فهو سبحانه بصير بعباده ، فيهدي من يستحق الهداية ، ويضل من يستحق الضلال.

ويعبر ابن جرير الطبري عن معنى الآية بقوله : «يقول تعالى ذكره مخبرا عن قول المؤمن من آل فرعون لفرعون وقومه : فستذكرون أيها القوم ـ اذا عاينتم عقاب الله قد حل بكم ، ولقيتم ما لقيتموه ـ صدق ما أقول ، وحقيقة ما أخبركم به من أن المسرفين هم أصحاب النار. وقوله «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ» يقول : واسلّم أمري الى الله ، وأجعله اليه ، وأتوكل عليه ، فانه الكافي من توكل عليه».

وهذه الآية الكريمة جاءت ـ كما أشرت ـ على لسان شخص مؤمن ، يسمى «مؤمن آل فرعون». ويقال انه كان ابن عم لفرعون ، وقيل ان اسمه «حبيب». وقيل غير ذلك. ولم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل ، وامرأة فرعون ، والرجل الآخر الذي قال : «يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ....

وكان مؤمن آل فرعون يكتم ايمانه عن قومه ، فحينما قال فرعون : «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى» أخذت هذا الرجل غضبة في الله عزوجل «وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» ، فقال : «أتقبلون رجلا أن يقول ربي الله»؟. وخوفهم وحذرهم ، وأرشدهم ونصح لهم ، ولكنهم أبوا الارتداع ، وأسرف فرعون في ضلاله وطغيانه ، فحفظ الله تعالى عبده المؤمن ، وأنزل بفرعون سوء العذاب ، وجعل مصيره ومصير قومه النار ، حيث يلقون العذاب الاليم.

وقد قص القرآن الكريم قصة هذا الرجل المؤمن ، ابتداء من الآية الثامنة والعشرين من سورة غافر ، وهي التي تقول :

٢٤٦

«وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ».

حتى الآية الخامسة والاربعين التي تقول :

«فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ».

ولقد بذل مؤمن آل فرعون غاية جهده في التنفير من الشر ، والتحبيب في الخير ، والتوجيه الى طريق الثواب ، والصدّ عن طريق العقاب ، ولكن الكافرين لم يستمعوا ولم يستجيبوا ، فلم يكن أمام المؤمن غير الاعتصام بفضيلة التفويض الى الله ، والالتجاء الى حماه ، ولذلك يقول الرازي :

«ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذه البيانات ختم كلامه بخاتمة لطيفة ، فقال : فستذكرون ما أقول لكم. وهذا كلام مبهم يوجب التخويف. ويحتمل أن يكون المراد أن هذا الذكر يحصل في الدنيا ، وهو وقت الموت ، وأن يكون في القيامة ، وقت مشاهدة الاهوال. وبالجملة فهو تحذير شديد.

ثم قال : وأفوض أمري الى الله ، وهذا كلام من هدد بأمر يخافه ، فكأنهم خوفوه بالقتل ، وهو أيضا خوفهم بقوله : فستذكرون ما أقول

٢٤٧

لكم. ثم عوّل في دفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على فضل الله تعالى ، فقال : وأفوض أمري الى الله. وهو انما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه‌السلام ، فان فرعون لما خوّفه بالقتل رجع موسى في دفع ذلك الشر الى الله ، حيث قال : اني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ...

ثم قال : ان الله بصير بالعباد ، أي عالم بأحوالهم وبمقادير حاجاتهم».

ونتساءل : متى فوض هذا المؤمن من آل فرعون أمره الى الله جل جلاله؟

انه لم يفوض أمره الى ربه تواكلا أو تكاسلا ، ولم يفوضه على سبيل الضعف والعجز ، ولا على سبيل الفرار من التبعة والتخلص من الواجب ، وانما فوض أمره الى ربه بعد أن قام بواجبه ، وبذل جهده ، واستنفد وسعه ، وبعد ان دعاهم الى النجاة وحذرهم النار ، وتعرض بسبب ذلك لمخاوف العدوان من هؤلاء الاعداء ، حتى لقد خاف أن يقتلوه ، ولكن ذلك لم يمنعه أن يصدع بكلمة الحق عالية ، وهذا أحد المفسرين يصور ذلك بقوله : «ويستنكر الرجل المؤمن أن يدعوهم الى النجاة فيدعونه الى النار ، فيهتف بهم في استنكار : «يا قَوْمِ ، ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ»؟.

وهم لم يدعوه الى النار ، انما دعوه الى الشرك ، وما الفرق بين الدعوة الى الشرك والدعوة الى النار؟ انها قريب من قريب ، فهو يبدل الدعوة بالدعوة في تعبيره في الآية التالية : «تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ».

وشتان بين دعوة ودعوة ، ان دعوته لهم واضحة مستقيمة ، انه

٢٤٨

يدعوهم الى العزيز الغفار ، يدعوهم الى اله واحد تشهد آثاره في الوجود بوحدانيته ، وتنطق بدائع صنعته بقدرته وتقديره. يدعوهم اليه ليغفر لهم ، وهو القادر على ان يغفر ، الذي تفضل بالغفران : «الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ».

فالى أي شيء يدعونه؟ يدعونه للكفر بالله ، عن طريق اشراك ما لا علم له به من مدعيات وأوهام وألغاز.

ويقرر من غير شك ولا ريبة أن هؤلاء الشركاء ليس لهم من الامر شيء ، وليس لهم شأن لا في دنيا ولا في آخرة ، وأن المراد لله وحده ، وأن المسرفين المتجاوزين للحد في الادعاء سيكونون أهل النار.

«لا جرم أن ما تدعونني اليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ، وان مردنا الى الله ، وأن المسرفين هم أصحاب النار».

وماذا يبقى بعد هذا البيان الواضح الشامل للحقائق الرئيسية في العقيدة ، وقد جهر بها الرجل في مواجهة فرعون وملئه بلا تردد ولا تلعثم ، بعد ما كان يكتم ايمانه ، فأعلن عنه هذا الاعلان؟. لا يبقى الا أن يفوض أمره الى الله ، وقد قال كلمته ، وأراح ضميره ، مهددا اياهم بأنهم سيذكرون كلمته هذه في موقف لا تنفع فيه الذكرى ، والامر كله لله : فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري الى الله ، ان الله بصير بالعباد».

وينتهي الجدل والحوار ، وقد سجل مؤمن آل فرعون كلمته الحق خالدة في ضمير الزمان»!!.

* * *

ويرى الامام الهروي أن التفويض أوسع معنى من التوكل ، فان التوكل ـ كما يعبّر ـ بعد وقوع السبب ، والتفويض قبل وقوعه وبعده ، وهو عين الاستسلام ، والتوكل شعبة منه.

٢٤٩

ولكن الامام ابن القيم يخالفه في الرأي ، ويرى أن التوكل فوق التفويض ، وأجل منه وأرفع ، ولذلك تكرر الامر بالتوكل في القرآن ، وأخبر القرآن أن التوكل صفة خاصة برسول الله وأوليائه وصفوة المؤمنين ، وسمى الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام «المتوكل» كما روى البخاري عن ابن عمر : «قرأت في التوراة صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : محمد رسول الله ، سميته المتوكل ...».

وأخبر النبي عن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، أنهم «أهل مقام التوكل».

ولذلك يعد ابن القيم التوكل أوسع من التفويض ، وأعلى وأرفع.

ويعلق ابن القيم على عبارة الهروي : «فان التوكل بعد وقوع السبب ، والتفويض قبل وقوعه وبعده» بقوله : «يعني بالسبب : الاكتساب ، فالمفوض قد فوض أمره الى الله قبل اكتسابه وبعده. والمتوكل قد قام بالسبب ، وتوكل فيه على الله ، فصار التفويض أوسع.

فيقال : والتوكل قد يكون قبل السبب ومعه وبعده ، فيتوكل على الله أن يقيمه في سبب يوصله الى مطلوبه ، فاذا قام به توكل على الله حال مباشرته ، فاذا أتمه توكل على الله في حصول ثمراته ، فيتوكل على الله قبله ومعه وبعده.

فعلى هذا هو أوسع من التفويض على ما ذكر».

ولا يكتفي ابن القيم في مخالفة الهروي حول الفرق بين التوكل والتفويض بما سبق ، يل يعلق أيضا على قول الهروي على التفويض : «وهو عين الاستسلام». فيقرر أن معنى ذلك أن التفويض هو عين الانقياد بالكلية الى الحق سبحانه ، ولا يبالي أكان ما يقضي له الخير أم خلافه ، والمتوكل يتوكل على الله في مصالحه ، وبهذا يعلو مقام التفويض

٢٥٠

على مقام التوكل.

ويرد ابن القيم على ذلك بأمرين :

أحدهما ان المفوض لا يفوض أمره الى الله الا لارادته أن يقضي له ما هو خير له في معاشه ومعاده ، وان كان المقضي له خلاف ما يظنه خيرا فهو راض به ، لأنه يعلم أنه خير له ، وان خفيت عليه جهة المصلحة فيه ، وهكذا حال المتوكل ، فهما في ذلك سواء ، بل المتوكل أرفع من المفوض ، لأن معه من عمل القلب ما ليس مع المفوض ، فان المفوض مفوض وزيادة ، فلا يستقيم مقام التوكل الا بالتفويض ، فانه اذا فوّض أمره اليه اعتمد بقلبه كله عليه بعد تفويضه.

ونظير هذا أن من فوض أمره الى رجل ، وجعل أمره اليه ، فانه يجد من نفسه ـ بعد تفويضه ـ اعتمادا خاصا ، وسكونا وطمأنينة الى المفوّض اليه ، أكثر مما كان قبل التفويض ، وهذه هي حقيقة التوكل.

والامر الثاني هو أن أهم مصالح المتوكل حصول مراضي محبوبه ومحابّه ، فهو يتوكل عليه في تحصيلها له ، فأي مصلحة أعظم من هذه؟. وأما التفويض فهو تفويض حاجات العبد المعيشية وأسبابها الى الله ، فانه لا يفوض اليه محابه ، والمتوكل يتوكل عليه في محابه.

والوهم انما جاء من ظن الظان أن التوكل مقصور على معلوم الرزق ، وقوة البدن ، وصحة الجسم ، ولا ريب أن هذا التوكل ناقص بالنسبة الى التوكل في اقامة الدين والدعوة الى الله عزوجل.

وابن القيم حين يقارن بين التوكل والتفويض ، لا يريد ان يبخس فضيلة التفويض شيئا من مكانتها العالية لأنه يصف المفوض بأنه يتبرأ من الحول والقوة ، ويفوض الامر الى صاحبه وهو الله عزوجل ، من غير أن يقيمه مقام نفسه في مصالحه ، فالتفويض براءة وخروج من الحول والقوة ، وهو تسليم الامر كله الى مالكه.

٢٥١

وحينما يقول الهروي : «الثقة سواد عين التوكل ، ونقطة دائرة التفويض ، وسويداء قلب التسليم» يذكر ابن القيم ان مراد الهروي بهذا هو أن «الثقة» خلاصة التوكل ولبه ، كما أن سواد العين أشرف ما في العين ، وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض ، الى أن مدار التوكل عليه ، وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة. فان النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ، ونسبة جهات المحيط اليها نسبة واحدة ، وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها ، كذلك «الثقة» هي النقطة التي يدور عليها التفويض.

وكذلك قوله : «وسويداء قلب التسليم» فان القلب أشرف ما فيه سويداؤه ، وهي المهجة التي تكون بها الحياة ، وهي في وسطه ، فلو كان التفويض قلبا لكانت الثقة سويداءه ، ولو كان عينا لكانت سوادها ، ولو كان دائرة لكانت نقطتها.

* * *

والتفويض ـ كما يراه أطباه الارواح ـ درجات ، الاولى ان يعلم العبد أنه لا يملك استطاعة قبل ان يعمل ، فالاستطاعة بيد الله تعالى لا بيد الانسان ، وان لم يعطه الله سبحانه استطاعة فهو عاجز.

والدرجة الثانية أن يعاين الانسان فقره وضرورته الى الله عزوجل ، فيرى ان كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة وفقر الى الله ، ويوقن بأن نجاته انما هي بالله ، لا بعمله.

والدرجة الثالثة أن يشهد انفراد الله الحق بملك الحركة والسكون ، فهو سبحانه الباسط القابض ، وهو عز شأنه المتصرف في كل شيء وكل أمر : «ألا الى الله تصير الامور».

واذا كان ابن القيم يرى أن درجة التفويض دون درجة التوكل ، فان أبا علي الدقاق يسلك طريقا آخر ، لأنه يجعل التوكل ثلاث درجات : التوكل ، ثم التسليم ، ثم التفويض. فالمتوكل يسكن الى وعده ، وصاحب

٢٥٢

التسليم يكتفي بعلمه ، وصاحب التفويض يرضى بحكمه ، فالتوكل بداية ، والتسليم واسطة ، والتفويض نهاية ، فالتوكل صفة المؤمنين ، والتسليم صفة الاولياء ، والتفويض صفة الموحدين (١).

وهناك نوع من التفويض ، يمكن أن نسميه «التفويض العقلي» أو أو «التفويض في الرأي» ، وهو تفويض الحكم في الامور الى الله جل جلاله ، ولعل هذا مما نفهمه من قول القرآن الكريم في سورة النساء :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً»(٢).

وننتقل في حديث التفويض الى روضة السنة المطهرة ، ولا ريب أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه هو خير من فوض أموره الى ربه عزوجل ، ولقد علّم النبي أمته كيف تفوض أمورها الى ربها ، فجاء مثلا في صحيح البخاري عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«اذا أتيت مضجعك ، فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الايمن ، ثم قل : اللهم أسلمت وجهي اليك ، وفوضت أمري اليك ، والجأت ظهري اليك ، رغبة ورهبة اليك ، لا ملجأ ولا منجى منك الا اليك ، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت. فان مت من ليلتك فأنت على الفطرة ، واجعلهن آخر ما تتكلم به».

__________________

(١) أنظر كتابي أخلاق القرآن ، ج ٢ ص ٢٢٧.

(٢) سورة النساء ، الآية ٥٩.

٢٥٣

ومعنى الحديث بايجاز ـ كما في فتح الباري ـ : «أسلمت» أي استسلمت وانقدت ، والمعنى جعلت نفسي منقادة لك ، تابعة لحكمك ، اذ لا قدرة لي على تدبيرها ، ولا على جلب ما ينفعها اليها ، ولا دفع ما يضرها عنها.

وقوله : «فوضت أمري اليك» أي توكلت عليك في أمري كله ، و «ألجأت» أي اعتمدت في أموري عليك ، لتعينني على ما ينفعني ، لأن من استند الى شيء تقوى به واستعان به ، وخصه بالظهر لأن العادة جرت أن الانسان يعتمد بظهره الى ما يستند اليه.

وقوله : «رغبة ورهبة اليك» أي رغبة في رفدك وثوابك ، ورهبة أي خوفا من غضبك ومن عقابك.

وقال الطيبي : في نظم هذا الدعاء عجائب لا يعرفها الا المتقن من أهل البيان ، فأشار بقوله : «أسلمت نفسي» الى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه ، وبقوله : «وجهت وجهي» الى أن ذاته مخلصة له بريئة من النفاق. وبقوله : «فوضت أمري» الى أن أموره الخارجة والداخلة مفوضة اليه ، لا مدبر لها غيره ، وبقوله : «ألجأت ظهري» الى أنه بعد التفويض يلتجىء اليه مما يضره ويؤذيه من الاسباب كلها.

ومن أذكار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدالة على فضيلة التفويض لله ، قوله عند التهجد ـ فيما رواه البخاري ـ : «اللهم لك الحمد ، أنت نور السموات والارض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت قيّم السموات والارض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت الحق ، ووعدك حق ، وقولك حق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق. اللهم لك أسلمت ، وعليك توكلت ، وبك آمنت ، واليك أنبت ، وبك خاصمت ، واليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما

٢٥٤

أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، لا اله الا أنت».

* * *

ولقد تجلى التفويض لله في حياة أبي الانبياء ابراهيم عليه وعليهم الصلاة والسلام ، والقرآن خير شاهد على ذلك. فهو يقول في سورة البقرة :

«وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ، قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ»(١).

وهو يقول في سورة الصافات :

«وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(٢).

وصورة القلب السليم ـ كما يقول بعض المفسرين ـ هي صورة الاستسلام الخالص ، تتمثل في مجيئه لربه ، وصورة النقاء والطهارة والبراءة والاستقامة تتمثل في سلامة قلبه ، والتعبير بالسلامة تعبير موح مصور لمدلوله ، وهو في الوقت ذاته بسيط قريب المعنى واضح المفهوم ، ومع أنه يتضمن صفات كثيرة من البراءة والنقاوة والاخلاص والاستقامة ، الا أنه يبدو بسيطا غير معقد ، ويؤدي معناه بأوسع مما تؤديه هذه الصفات كلها مجتمعات ، وتلك احدى بدائع التعبير القرآني الفريد.

وهو يقول في سورة الصافات أيضا :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيتان ١٣٠ و ١٣١.

(٢) سورة الصافات ، الآيتان ٨٣ و ٨٤.

٢٥٥

«فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ : يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى ، قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»(١).

ان لم يكن هذا هو التفويض الرائع ، والاستسلام الباهر ، فماذا يكون التفويض والاستسلام؟!

* * *

وبجوار هذه الكنوز المنثورة عن التفويض في القرآن والسنة ، نجد كنوزا بعدها في تراثنا الادبي والاخلاقي تجلّي فضيلة التفويض وتشيد بها ، وبخاصة تراث أطباء القلوب والارواح ، فهذا أبو عثمان الحيري النيسابوري يقول : «التفويض ردّ ما جهلت علمه الى عالمه ، والتفويض مقدمة الرضا ، والرضا باب الله الأعظم».

ويقول أيضا : «أنت في سجن ما تبعت مرادك وشهواتك ، فاذا فوّضت وسلّمت استرحت».

يا رب : فوضت أمري اليك ، وجعلت اعتمادي عليك ، فاقبلني لديك!.

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية ١٠١ ـ ١٠٥.

٢٥٦

التسليم

مادة «سلم» فيها معنى الخلوص ، والامان ، والنجاة ، والخلو من العوارض والموانع. والقلب السليم هو الخالي من دغل الشرك والذنوب ، ومنه قول الله في سورة الصافات عن ابراهيم :

«إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

والتسليم هو الانقياد والاذعان. ولفظ الاسلام يدل على الانقياد ، وعلى الاخلاص ، وعلى الدخول ، في دين الاسلام.

«والتسليم» فضيلة أخلاقية قرآنية ، تدل على الخضوع لله. والتوكل على الله ، والقاء القياد الى الله ، وقد أشار القرآن الكريم الى هذه الفضيلة حينما قال في سورة النساء مخاطبا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ، ويسلموا تسليما». أي لا يجدوا في أنفسكم ضيقا أو شكا ، وينقادوا لامرك في القضاء والحكم ، ويسلموا لحكمك تسليما لا يكون معه شك أو ارتياب.

وهذا الاذعان الذي تشير اليه الآية الكريمة ، انما يتحقق ـ كما في تفسير المنار ـ بثلاثة أمور : الاول أن يحكّموا الرسول في القضايا التي يختصمون فيها ويشتجرون ، والامر الثاني أن تذعن نفوسهم لقضاء الله جل جلاله ، الذي ينطق به الرسول ، فلا يكون عندهم ضيق أو

٢٥٧

امتعاض : «والمؤمن الكامل الايمان ينشرح صدره لحكم الرسول من أول وهلة لعلمه أنه الحق ، وأن الخير له فيه ، والسعادة في الاذعان له ، فاذا كان في ايمانه ضعف ما ضاق صدره عند الصدمة الاولى ، ثم يعود على نفسه بالذكرى ، وينحي عليها باللوم ، حتى تخشع وتنشرح بنور الايمان ، وايثار الحق الذي حكم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الهوى».

والامر الثالث التسليم والانقياد بالفعل ، وما كل من يعتقد حقية الحكم ، ولا يجد في نفسه ضيقا منه ، ينقاد له فعلا ، وينفذه طوعا.

ويصور الامام محمد عبده معنى الآية السابقة بقوله : «لا وربك لا يكونون مؤمنين حتى يكونوا موقنين في قلوبهم ، مذعنين في بواطنهم ، ولا يكونون كذلك حتى يحكّموك فيما شجر واختلط بينهم من الحقوق. ثم بعد أن تحكم بينهم لا يجدوا في أنفسهم الضيق الذي يحصل للمحكوم عليه ، اذا لم يكن خاضعا للحكم في قلبه ، فان الحرج انما يلازم قلب من لم يخضع ، ذلك بأن المؤمن لا ينازع أحدا في شيء الا بما عنده من شبهة الحق ، فاذا كان كل من الخصمين يرضى بالحق متى عرفه ، وزالت الشبهة عنه كما هو شأن المؤمن ، فحكم الرسول يرضيهما ظاهرا وباطنا ، لأنه أعدل من يحكم بالحق».

وكأن الاستاذ الامام قد نظر في كلامه هذا الى ما ذكره الامام ابن القيم في «مدارج السالكين» من أن التسليم في الآية الكريمة هو تسليم المؤمنين العارفين ، وهو تسليم لحكم الله الديني الامري ، حيث يقوم على ثلاث دعائم هي : التحكيم ، وسعة الصدر بانتفاء الحرج ، ثم التسليم بلا ضيق ولا تردد.

وهناك التسليم لحكم الله الكوني ، أي الرضا بقضاء الله جلت حكمته ، والرضا بالقضاء الديني الشرعي هو ـ كما في المدارج ـ هو أساس الاسلام وقاعدة الايمان ، فعلى العبد أن يكون راضيا به دون حرج

٢٥٨

ولا منازعة ، ولا معارضة ولا اعتراض ، قال الله تعالى :

«فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً».

فأقسم سبحانه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله ، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه ، وحتى يسلّموا لحكمه تسليما ، وهذه حقيقة الرضى بحكمه ، فالتحكيم في مقام «الاسلام» ، وانتفاء الحرج في مقام «الايمان» ، والتسليم في مقام «الاحسان».

ومتى خالطت القلب بشاشة الايمان ، واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين ، وحيي بروح الوحي ، وتمهدت طبيعته ، وصارت النفس الامارة نفسا مطمئنة راضية وادعة ، وتلقى أحكام الله تعالى بصدر واسع منشرح مسلّم ، فقد رضي كل الرضى بهذا القضاء الديني المحبوب لله وللرسول.

والرضى بالقضاء الكوني القدري ، الموافق لمحبة العبد وارادته ورضاه ـ من الصحة والغنى والعافية واللذة ـ أمر لازم بمقتضى الطبيعة ، لأنه ملازم للعبد محبوب له ، فليس في الرضى به عبودية ، بل العبودية في مقابلته بالشكر والاعتراف بالمنة ، ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن توضع فيها ، وأن لا يعصي المنعم بها ، وان يرى التقصير في جميع ذلك.

والرضى بالقضاء الكوني القدري ، الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته ـ مما لا يلائمه ، ولا يدخل تحت اختياره ـ مستحب ، وهو من مقامات أهل الايمان.

وينهض التسليم لله على ثلاث دعائم : الاولى تسليم الغيب لله ، وعدم

٢٥٩

تحكيم العقل في كل الامور ، فالعقل يعجز أمام الكثير من هذه الامور ، والثانية الاذعان لتصرف الله في الخلق وفي حظوظ الناس. والثالثة الاقدام على جلائل الامور ، لا يخاف اقتحام المخاطر والاهوال ، لأن قوة تسليمه تحميه من خطرها.

* * *

وجوهر التسليم هو الرضى بقضاء الله ، وهذا الرضى هو ثمرة التوكل ، لأن العبد اذا توكل على الله حق التوكل رضي بما يفعله ربه ، ويقول الامام ابن القيم :

«وكان شيخنا رضي الله عنه يقول : المقدور يكتنفه أمران : التوكل قبله ، والرضى بعده ، فمن توكل على الله قبل الفعل ، ورضي بالمقضي له بعد الفعل ، فقد قام بالعبودية ، أو معنى هذا.

قلت : وهذا معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعاء الاستخارة : «اللهم أني أستخيرك بعلمك ، واستقدرك بقدرتك ، واسألك من فضلك العظيم». فهذا توكل وتفويض.

ثم قال : «فانك تعلم ولا أعلم ، وتقدر ولا أقدر ، وأنت علام الغيوب». فهذا تبرؤ الى الله من العلم والحول والقوة ، وتوسل اليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل اليه بها المتوسلون.

ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الامر ، ان كان فيه مصلحته عاجلا أو آجلا ، وأن يصرفه عنه ان كان فيه مضرته عاجلا أو آجلا ، فهذا هو حاجته التي سألها ، فلم يبق عليه الا الرضى بما يقضيه له ، فقال : «واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضّني به».

فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الالهية والحقائق الايمانية ،

٢٦٠