موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٢

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد كلّ الحمد لله تبارك وتعالى ، أحمده سبحانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، هو ولي النعمة ومصدر الرحمة : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ، هو نبي المرحمة ، وقائد الملحمة : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

وأصلي وأسلم على جميع أنبياء الله ورسله ، وعلى خاتمهم سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وأتباعه وأحبابه ، ومن دعا بدعوته بإحسان الى يوم الدين.

واستفتح بالذي هو خير : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا ، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

٥
٦

قبس من كتاب الله

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ ، أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

«سورة المؤمنون»

٧
٨

مقدمة المؤلف

هذا هو الجزء الثاني من كتابي «أخلاق القرآن» أقدمه الى قرائي راجيا أن يكون عملا مقبولا عند الله سبحانه ، وأن يكون محمود الاثر والثمر عند الناس ، والله وحده هو الذي تتم بفضله الصالحات.

ولقد ختمت الجزء الاول من هذا الكتاب بالعبارة التالية :

«أما بعد ، فيا أخي القارىء ، ان القرآن الكريم كنز نعرف أوله ، ولكننا لا نبلغ بجهدنا القليل غايته ، فهو واسع فسيح ، وما سبق من حديث عن «أخلاق القرآن» لم يستوعب كل ما تحدث عنه كتاب الله من فضائل ومكارم ، والرجاء في عون الله كبير ، والأمل في عودة الى مواصلة الحديث عن «أخلاق القرآن» قريب غير بعيد ، فالى لقاء بمشيئة الله».

وها قد شاء الله أن يمد في الاجل ، وأن يبارك في العمل ، وأن يحقق الأمل ، فنعود الى اللقاء حول مائدة القرآن الكريم ، لنستمد منه الدواء والغذاء والضياء ، ولنتخذه خير ما يزكي النفوس ويحيي القلوب ، وصدق العلي الكبير حين يقول : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ

٩

يَتَفَكَّرُونَ (١)». ولا عجب فهو (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢).

ومما أتحدث به من نعمة الله تبارك وتعالى ، وأشكره عليه ، أنه أسعدني حين شغلني بالقرآن ـ منذ صباي ـ في أكثر من ميدان ، فقد حفظت القرآن المجيد في قريتي «البجلات» بمحافظة الدقهلية في مصر ، وانا دون الثانية عشرة من عمري ، فقوّم لساني ، وشغل جناني ، ثم انتسبت الى الازهر الشريف لطلب العلم الديني ، فكان القرآن يغاديني ويراوحني فيما أدرس من علوم اسلامية وعربية ، ثم اشتغلت بالخطابة المنبرية ، فجعلت القرآن أول ينبوع للاستمداد والاسترشاد ، ثم كتبت فصولا في التفسير نشرتها في مجلات : «الاعتصام» و «الرابطة الاسلامية» وغيرهما من مجلات مصر ، وفي سنة ١٩٦٢ م أصدرت كتابي «قصة التفسير».

وفي سنة ١٩٦٥ م بدأت أقدم برنامج «مع كتاب الله» في التلفزيون المصري ، حيث قدمت عشرات وعشرات من الحلقات في التفسير ، وقد عرضت هذه الحلقات في أكثر من تلفزيون في الدول العربية ، ثم قدمت حلقات اخرى عن التفسير في الاذاعة المسموعة بمصر والكويت ، وقمت باعداد مسابقات عن القرآن لاذاعة الشعب بالقاهرة.

ونشرت حلقات من سلسلة «معاني مفردات القرآن» في مجلة «منبر الاسلام» بالقاهرة ، وكنت عضوا في لجنة التفسير بالمجلس الاعلى للشؤون الاسلامية ، وشاركت في كتابه «المنتخب في تفسير

__________________

(١) سورة الحشر ، الآية ٢١.

(٢) سورة فصلت ، الآيتان ٢ و ٣.

١٠

القرآن الكريم» الذي اصدره المجلس ، كما اشتركت في لجنة التفسير بمجمع البحوث الاسلامية في الازهر الشريف ، وقمت بتدريس مادة التفسير عدة سنوات في كلية اللغة العربية ، حرسها الله معقلا للغة القرآن وأدب العرب.

وفي كتابي «أدب الاحاديث القدسية» ، وكتابي «من أدب النبوة» استعنت كثيرا بالآيات القرآنية في الشرح والايضاح ، لا يماني بأن الاحاديث ينبغي أن نفهمها في ضوء القرآن الحكيم.

ولقد نشرت في أحيان متباعدة سلسلة مقالات عن طائفة من «المفردات القرآنية» ، على طريقة استيعاب الكلمة القرآنية في كل استعمالاتها في كتاب الله عزوجل ، وقد تحدثت عن ذلك في كتابي «قصة التفسير» (١). وفي أغلب الاوقات أجعل محاضراتي العامة للناس مستمدة من تفسير التنزيل المجيد.

أذكر هذا كله تحدثا بنعمة الله وشكرا له ، ورجاء في فضله أن يديم عليّ نعمة الارتباط بكتابه ، والاستمداد منه ، والاهتداء به.

وها هي ذي موضوعات «أخلاق القرآن» تربطني بالقرآن أكثر وأكثر ، لانها تدفعني ـ مع كل موضوع ـ الى الآيات الكريمة أنظر فيها ، وأتقلب في مجانيها ، فيتصل الحمد والشكر لواهب القوى والقدر.

ولذلك لست مبالغا حين أقرر أنني اشعر بسعادة غامرة وأنا أقدم هذا الجزء الثاني من كتابي «أخلاق القرآن». وما زال فضل الله واسعا بلا انقطاع.

* * *

__________________

(١) انظر كتابي «قصة التفسير» ص ١٦٤ و ١٦٥

١١

واذا كان القرآن الكريم في مجال هذه البحوث هو العماد والاساس ، فقد عاونتني في البحث مراجع أفيء اليها بين الحين والحين ، وبعض هذه المراجع معاجم لغوية ، كالقاموس المحيط للفيروزابادي ، وشرحه «تاج العروس» للزبيدي ، وأساس البلاغة للزمخشري ، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس ، ولسان العرب لابن منظور ، وتهذيب اللغة للأزهري ، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير.

ومنها كتب تفسير ، مثل مفردات القرآن للراغب الاصفهاني ، وتفاسير : الطبري ، والرازي ، والقرطبي ، والزمخشري ، والطبرسي ، وابن الجوزي ، و «غرائب القرآن» للنيسابوري ، و «لطائف الاشارات» للقشيري ، وتفسير المنار ، وتفسير جزء عم للامام محمد عبده ، واعجاز القرآن للرافعي ...

وبعضها كتب اخلاقية روحية ، كاحياء علوم الدين للغزالي ، ومدارج السالكين لابن القيم ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، والتحبير في التذكير للقشيري ، واللمع للطوسي.

ومنها كتب سيرة أو تراجم ، كالسيرة النبوية لابن كثير ، وطبقات الصوفية للسلمي.

ومنها كتب عامة ، كالعقد الفريد لابن عبد ربه ، وعيون الاخبار لابن قتيبة ، وبدائع الفوائد لابن تيمية ... وغيرها.

* * *

واذا كنت أتمنى أن يمتد الطريق أمامي أكثر مما امتد في الكتابة

١٢

عن «أخلاق القرآن» فانه يحلو لي أن أردد هنا ما قاله الامام محمد عبده في فاتحة تفسيره لجزء «عم» ، وهو :

«فتحت لي يا رب أبواب فضلك ، وعرفتني ما شئت من أسرار قولك ، فبأي لسان أحمدك ، وبأية جارحة أشكرك؟

أسألك المعونة على بيان الحق ، لارشاد المستعدين لقبوله من الخلق ، وأن تجعل الكلمة العليا لكتابك المبين ، والسلطة العظمى لهدى خاتم المرسلين ، سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى جميع النبيين ، ومن تبعهم على الصراط المستقيم ، واقتفى أثرهم في الصالحات والسير القويم. وأرشد اللهم هذه الامة العانية الى ما فيه لها السلامة والعافية ، ولا تجعلها حربا للهادين ، ولا فتنة للضالين المضلين»!.

اللهم آمين.

أبو حازم

أحمد الشرباصي

١٣
١٤

الامانة

الأمانة مصدر أمنه يأمنه أمانة ، أي وثق به واطمأن اليه ، ولم يخفه ، والأمين هو الثقة المؤتمن ، ويذكر ابن فارس أن مادة «الأمانة» لها أصلان متقاربان ، أولهما الامانة التي هي ضد الخيانة ، ومعناها سكون القلب ، والآخر التصديق ، والمعنيان متدانيان. وأصل الامن هو طمأنينة النفس وزوال الخوف ، ونلاحظ ان هناك ثلاثة ألفاظ من مادة الالف والميم والنون ، وبينها علاقة او رابطة ، وهذه الكلمات هي ، الامن ، والامانة ، والايمان ، والمعنى المشترك بينها هو الاطمئنان ، لأن الامانة تدل على الثقة ، والثقة اطمئنان ، والأمن عدم الخوف ، وعدم الخوف اطمئنان ، والايمان تصديق واذعان ، وفيهما استقرار واطمئنان.

والامانة بمعناها الاخلاقي شعور بالتبعة ، واحتكام الى الضمير اليقظ ، ونهوض بالرعاية لكل ما في عهدة الانسان من شيء حسي أو معنوي ، وكأن الحديث النبوي يرمز الى هذا المعنى حين يقول : «كلكم راع ، وكل راع مسؤل عن رعيته».

ولقد تحدث القرآن الكريم عن فضيلة «الامانة» في أكثر من موطن ، منوها بشأنها ، حاثا على رعايتها وصيانتها ، ومن الآيات المجيدة التي جاء فيها ذكر الامانة قول الله تعالى في سورة الاحزاب : (إِنَّا

١٥

عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (١). ولقد ذكر الاصفهاني في كتابه «المفردات» أن معنى الامانة هنا فيه أقوال ، هي : كلمة التوحيد ، أو العدالة ، أو حروف التهجي ، أو العقل ، ثم مال الى اختيار معنى العقل ، لأنه في رأيه يشمل الأقوال السابقة ، فقال عنه : «وهو صحيح ، فان العقل هو الذي بحصوله تتحصل معرفة التوحيد ، وتجري العدالة ، وتعلم حروف التهجي ، بل لحصوله تعلم كل ما في طوق البشر تعلمه ، وفعل ما في طوقهم من الجميل فعله ، وبه فضّل (الانسان) على كثير من خلقه».

ولكن الأقرب الى القبول في معنى «الامانة» هو أنه يراد بها التكاليف والحقوق المرعية التي أودعها الله المكلفين ، وائتمنهم عليها ، وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد ، وأمرهم بمراعاتها وأدائها والمحافظة عليها ، من غير اخلال بشيء من حقوقها ، وفي كتابي «يسئلونك في الدين والحياة» اجابة على سؤال يتعلق بتفسير هذه الآية ، وقد جاء في الاجابة ما يلي :

«هذه الآية الكريمة جاءت في سورة الاحزاب ، والمقصود منها ـ والله أعلم بمراده ـ هو تصوير خطورة التكاليف التي كلف الله بها الانسان ، فمن شأن هذه التكاليف أنها تحتاج الى القلب السليم والعقل القويم والتصرف المستقيم ، فلو أن هذه التكاليف عرضت على السموات بشمسها وقمرها وكواكبها ، أو على الارض بما فيها وما لها من ضخامة ، أو على الجبال بعلوها وشموخها ، لتخلّص من تبعاتها ، لا تمردا ولا عصيانا ، بل خوفا ورهبة واشفاقا.

__________________

(١) سورة الاحزاب ، الآية ٧٢.

١٦

ولكن الانسان الذي أوتي العقل والتفكير تعرض لحمل هذه الامانة والنهوض بها ، وهو بهذا التعرض كان ظالما لنفسه ، وكان جاهلا بكثير من تبعات هذه الامانة ، ولذلك أوقع نفسه في مسؤوليات وتبعات تحتاج الى موصول العمل ، حتى لا يتعرض للعقاب والعذاب.

وعرض الامانة هنا هو على أساس أن من يقبل هذه الامانة ، ويحفظها ويقوم بحقوقها ، فله الفوز والثواب والنعيم ، ومن يضيعها أو يهمل حقوقها فله الخسران والعقاب والجحيم ، ولذلك قال الله تعالى عقب هذه الآية مباشرة ، (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ، وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً). الآية ٧٣.

ولقد ذكر المفسرون أقوالا كثيرة في المراد بالامانة ، فقيل ان الامانة هي المحافظة على الصلوات ، وأداء الزكاة ، والصوم ، وحج البيت من استطاع اليه سبيلا ، وقيل انها أمانات الناس ، أي ودائعهم التي يودعونها عند غيرهم ، وقيل انها الامانة في الحديث وعدم الزيادة عليه ، وقيل انها صيانة المرأة لعرضها ، وقيل انها الاغتسال من الجنابة ، وقيل انها صيانة الانسان لدم غيره وعدم الاعتداء عليه.

وهذه الأقوال كلها وأمثالها لا تخرج عن كونها ضرب أمثلة وأنواع لصور من الامانة الكثيرة الصور والانواع ، والذي يطمئن اليه القلب هو أن المراد بالامانة الطاعة والتكاليف والفرائض التي افترضها الله على عباده ، وهي كل أمور الدين بما فيها من واجبات وحدود ، ولذلك استحسن الامام الطبري أن يكون المراد بالامانة في هذا الموضع هو جميع الامانات الموجودة في الدين ، وكذلك جميع الامانات التي تكون بين

١٧

الناس ، لأن الآية الكريمة لم تخصص نوعا من أنواع الأمانة ، فكان التعميم أولى وأحسن (١)»

* * *

ويقول الحق تبارك وتعالى في سورة النساء : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ولا تؤدى الامانات الى أهلها على وجهها الا من المتصفين بفضيلة الامانة ، حتى يرعوا حقوق الناس حق رعايتها. وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما فتح مكة دعا عثمان بن طلحة ، وكان بيده مفاتيح الكعبة ، فلما جاء عثمان قال له النبي : أرني المفتاح (يعني مفتاح الكعبة) ، فلما مد عثمان يده بالمفتاح ، قال العباس بن عبد المطلب : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، اجمعه لي مع السقاية.

فقبض عثمان يده بالمفتاح خوفا أن ينتزع منه ، فقال له النبي عليه الصلاة والسّلام : هات المفتاح يا عثمان. فأعطاه قائلا : هاك أمانة الله. فقام النبي وفتح الكعبة وطهرها ، وخرج فطاف بالبيت ، ثم عاد فرد المفتاح الى عثمان ، وتلا قول ربه تبارك وتعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ...) (٢).

ويقول الله تعالى في سورة البقرة : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) (٣). أي ان وثق بعضكم ببعض

__________________

(١) كتاب «يسألونك في الدين والحياة» ص ٤٢٠ و ٤٢١. طبعة دار الرائد العربي ببيروت.

(٢) سورة النساء ، الآية ٥٨.

(٣) سورة البقرة ، الآية ٢٨٣.

١٨

فليحفظ الموثوق به أمانته ، والمؤتمن عليه هاهنا عام يشمل الوديعة وغيرها ، فعلى المؤتمن ان يؤدي الامانة الى من ائتمنه ، وليتق الله ربه ، فلا يتخون من الامانة شيئا ، لأنه لا حجة على ذلك الشيء ولا شهيد ، فان الله رب العالمين هو خير الشاهدين ، فهو أولى بأن يتقى ويطاع ...

مما يدل على جلال مكانة الامانة أن القرآن الكريم وصف سفير الرحمن جبريل عليه‌السلام بأنه أمين ، فقال في سورة الشعراء : «نزل به الروح الأمين (١) أي المؤتمن على وحي الله ، لا يزيد فيه ولا ينقص منه. وكذلك قال عن جبريل في سورة التكوير : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٢).

وأشار القرآن الكريم أكثر من مرة ان رسل الله عليهم الصلاة والسّلام يتصفون بصفة الامانة ، ففي سورة الشعراء نرى أن نوحا قد قال لقومه : () [١] ، أي اني رسول من الله اليكم ، أمين فيما بعثني به ، أبلغكم رسالات ربي ، ولا أزيد فيها ولا أنقص منها ، ونوح هو أول رسول أرسله الله تعالى الى أهل الارض بعد ما عبد الناس الاصنام.

وكذلك قال كل من هود وصالح ولوط وشعيب ـ عليهم‌السلام : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) كما نرى في سورة الشعراء (٤).

وأشار القرآن الى أمانة موسى منذ شبابه ، فجاء في سورة القصص

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ١٩٣.

(٢) سورة التكوير ، الايات ١٩ ـ ٢١.

(٣) سورة الشعراء ، الآية ١٠٧

(٤) سورة الشعراء ، الآيات ١٢٥ و ١٤٣ و ١٦٢ و ١٧٨.

١٩

على لسان ابنة شعيب : (قالت احداهما يا أبت استأجره انّ خير من استاجرت القوي الأمين) (١). وقولها «القوي» لأنه كان ـ فيما يروى ـ يحمل الصخرة لا يطيق حملها جمع من الرجال ، وقولها «الامين» لأنه كان ذا أمانة ، فقد رووا ان ابنة شعيب حينما سارت أمامه لتبلغ به مكان أبيها ، وصفت الريح جسمها ، فأنف موسى من ذلك ، وطلب اليها أن تمشي خلفه ، وتدله على الطريق ، حتى لا يتطلع الى جسمها والريح تلعب بثوبها حوله.

وأشار القرآن الى أمانة يوسف ، حيث جاء فيه على لسان العزيز ليوسف : (انك اليوم لدينا مكين أمين) (٢).

ولقد كان سيدنا محمد رسول الله مثلا أعلى في فضيلة الامانة ، حتى لقبه الناس منذ فتوته بقلب «الصادق الأمين» ، ومن الادلة على ذلك أنهم جعلوه حكما بينهم عند النزاع على وضع الحجر الأسود ، وقالوا عند ما رأوه : هذا هو الامين ، لقد رضيناه حكما بيننا ...

ومن هنا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يستعيذ من الخيانة ـ وهي ضد الامانة ـ ويتحدث عنها كأنها سبع كاسر أو شر مستطير ، فيقول لربه : «أعوذ بك من الخيانة ، فانها بئس ال بطانة».

وقد أقسم القرآن بمكة في سورة التين فقال : () [١]. أي أنه بلد يحفظ من دخله ، كما يحفظ الامين ما يؤتمن عليه ، أو ان أهله آمنون.

ووصف الله تبارك وتعالى المؤمنين ، فقال فيما وصفهم به : (وَالَّذِينَ

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٢٦.

(٢) سورة يوسف ، الاية ٥٤.

(٣) سورة التين ، الاية ٣.

٢٠