موسوعة أخلاق القرآن - ج ٣

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٣

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٩

«قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا»(١).

ويقبل خاتم الانبياء والمرسلين محمد عليهم جميعا الصلاة والسلام ، فيكون للتعوذ في حياته شأن ، فقد روى أهل التفسير أن أول ما نزل به جبريل على رسول الله هو أنه قال له : قل يا محمد : أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. ثم قال : قل «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.

ثم يأمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدة مرات بأن يتعوذ بالله فيتوجه اليه ربه والى أتباعه من ورائه بهذه الآيات الكريمات :

في سورة المؤمنون :

«وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ»(٢).

وفي سورة الاعراف :

«وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(٣).

وفي سورة الفلق :

«قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ ، وَمِنْ

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٣٠.

(٢) سورة المؤمنون ، الآيتان ٩٧ و ٩٨.

(٣) سورة الاعراف ، الآية ٢٠٠.

١٦١

شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ ، وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ».

وفي سورة الناس :

«قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ ، مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ».

وفي سورة فصلت :

«وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(١).

والمعنى : ان حاول الشيطان بمكره ووسوسته أن يثير في نفسك داعية الشر أو الفساد ، فافزع الى ربك مستعصما به ، متعوذا بجنابه ، حتى يصونك ويحفظك. ومثل هذه الآيات برهان قاطع على وجود الشيطان الموسوس للانسان وفي «تفسير المنار» جاءت هذه العبارة :

«ثبت في وحي الله تعالى الى رسله أن في عالم الغيب خلقا خفيا اسمه الشيطان ، لا تدركه حواسنا له أثر في أنفسنا ، فهو يتصل بها ، ويقوي داعية الشر فيها ، بما سماه الوحي وسواسا ونزغا ومسا ، ونحن نجد أثر ذلك في أنفسنا ، وان لم ندرك مصدره.

وقد شبهنا تأثير هذه الشياطين الخفية في الارواح بتأثير النّسم

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية ٣٦.

١٦٢

الخفية المادية المسماة بالبكتيريا وبالميكروبات في الاجساد ، فقد مرت القرون التي لا يحصيها الا رب العالمين ، والناس يجهلون هذه النسم الخفية ، ويجهلون فعلها ، لعجز الابصار عن ادراكها بنفسها ، وعن رؤية فعلها لدقتها وتناهيها في اللطف والصغر ، الى أن اخترعت في هذا العصر المرايا أو النظارات المكبرة ، التي ترى الجسم أضعاف أضعاف جرمه ، وعلم ما يحدث بسببها في المواد السائلة والرخوة وكل ذات رطوبة من التحول والتغيير كالاختمار والفساد وغيرها ، ومن الامراض المعدية في الانسان والحيوان ...

وحكمة اخبار الله تعالى ايانا على ألسنة رسله عليهم‌السلام بهذا العالم الغيبي المعادي لنا ، الضار بأرواحنا كضرر نسم الامراض بأجسادنا ، أن نراقب أفكارنا وخواطرنا ، ولا نغفل عنها ، كما نراقب ما يحدث في أجسادنا من تغير في المزاج ، وخروج الصحة عن الاعتدال ، فنبادر الى علاجه ، فمتى فطنّا بميل من أنفسنا الى الشر أو الباطل عالجناه بما وصفه الله تعالى من العلاج».

ولقد كان سيدنا رسول الله صلوات الله عليه يكثر من التعوذ بالله ، ليكون مرتبطا بالله عقلا وقلبا ، حسا ونفسا ، وكان من تعوذه قوله : «أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من غضبك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك».

وقوله : «اللهم اني أعوذ بك من الهرم ، وأعوذ بك من الهدم والغرق ، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت».

وقوله : «باسم الله أعوذ بكلمات الله التامة ، من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين ، وأن يحضرون».

* * *

١٦٣

هذا ، ولقد طلب القرآن الكريم الاستعاذة عند قراءة القرآن الكريم ، فقال في سورة النحل :

«فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ»(١).

وهذا الطلب على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب ، وبعض الفقهاء أوجب الاستعاذة في الصلاة. وطلب القرآن التعوذ بالله من شر الوسواس الخناس ، ومن شر الخلق ، ومن شر الغاسق اذا وقب ، ومن شر النفاثات في العقد ، ومن شر حاسد اذا حسد ، وفي كل موطن يتوجس الانسان فيه شرا.

وانما أكد القرآن وكرر طلب التعوذ من الشيطان ، لأنه عدو مبين للانسان ، ولا يقبل مصادقة ولا احسانا ، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم ، لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل ، وحينما يقول الانسان : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» كأنه يقول : أستجير بحول الله جل جلاله من الشيطان اللعين ، أن يضرني في ديني أو دنياي ، أو يصدني عن فعل ما أمرني الله به ، أو يحثني على فعل ما نهاني الله عنه.

واذا كان في الجن شياطين ، فكذلك في الانس شياطين ، ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى :

«مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ»(٢).

ودليله من السنة أنه جاء في مسند أحمد أن الرسول صلى الله عليه

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ٩٨.

(٢) سورة الناس ، الآيات ٤ ـ ٦.

١٦٤

وسلم قال لأبي ذر : «يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الانس والجن».

فقال أبو ذر : أو للانس شياطين؟. قال النبي : نعم.

ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي على لسان الجن :

وكم متعوذ بالله منا

تعوذ الأرض منه والسماء

* * *

ومما يدل على ثمرة التعوذ وفائدته ما رواه مسلم : استب رجلان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فغضب أحدهما ، واحمر وجهه ، وانتفخت أوداجه ، فقال النبي : «اني لأعلم كلمة لو قالها لذهب هذا عنه : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

ويقول الامام ابن كثير : «ومن لطائف الاستعاذة انها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث ، وتطييب له ، وهو لتلاوة كلام الله ، وهي استعانة بالله ، واعتراف له بالقدرة ، وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني ، الذي لا يقدر على منعه ودفعه الا الله الذي خلقه ، ولا يقبل مصانعة ، ولا يدارى بالاحسان ، بخلاف العدو من نوع الانسان».

ويأتي الصوفية ليتكلموا عن فضيلة التعوذ بطريقتهم واسلوبهم ، فعند قوله تعالى : «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» يقول القشيري في «لطائف الاشارات» هذه العبارة :

«ان سنح في باطنك من الوساوس أثر ، فاستعذ بالله يدركك بحسن التوفيق ، وان هجس في صدرك من الحظوظ خاطر فاستعذ بالله يدركك بازالة كل نصيب ، وان لحظتك في بذل الجهد فترة فاستعذ بالله يدركك بادامة آلائه ، وان اعترتك في الترقي الى محل الوصول وقفة فاستعذ بالله يدركك بادامة التحقيق».

١٦٥

وعند قوله تعالى :

«فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ».

يقول : «شيطان كل واحد ما يشغله عن ربه ، فمن تسلطت عليه نفسه ، حتى شغلته عن ربه ـ ولو بشهود طاعة ، أو استحلاء عبادة ، أو ملاحظة حال ـ فذلك شيطانه ، والواجب عليه أن يستعيذ بالله من شر نفسه ، وشر كل ذي شر».

ان فضيلة التعوذ بالله جل جلاله أمان واطمئنان ، وثقة بوعد الله وأمل في فضله ، وهذه الفضيلة شعار المؤمنين الذاكرين :

«الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(١).

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية ٢٨.

١٦٦

المجاهدة

«المجاهدة» كلمة مأخوذة من مادة «الجهد». وهي تدل في الاصل على المشقة ، وتدل كذلك على الجد والمبالغة في الشيء ، ومن ذلك قولهم : جهد الرجل دابته ، أي حمل عليها في السير فوق طاقتها.

والمجاهدة هي بذل الوسع في المدافعة والمغالبة ، وقد تطلق المجاهدة على استفراغ الوسع في مدافعة العدو. ولكن المجاهدة حين تستعمل في المجال الاخلاقي يراد بها مقاومة الشهوات والاهواء ، ولعل هذا هو ما أشار اليه الحسن البصري حين قال : «ان الرجل ليجاهد وما ضرب يوما من الدهر بسيف».

ومجاهدة النفس كما يراها أهل التهذيب والتربية الروحية والتصفية الاخلاقية هي منع النفس عن اتيان الحرام ، والابتعاد بها عن حمى الاثم ، وعماد ذلك حياة القلب وطهارته ، كما أشار الى ذلك الحديث القائل : «الحلال بيّن ، والحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن أبقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن واقع الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك ان يقع فيه ، ألا وان لكل ملك حمى ، ألا وان حمى الله محارمه ، ألا وان في الجسد مضغة اذا صلحت صلح الجسد كله ، واذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب».

١٦٧

واذا كان ذهن الكثير من الناس ينصرف في الغالب ـ عند سماع كلمتي الجهاد والمجاهدة ـ الى جهاد الاعداء في الميدان ، فان المجاهدة عند الاخلاقيين يتسع مفهومها ، حتى يشمل ما يذكره حاتم الاصم بقوله : «الجهاد ثلاثة : جهاد في سرك مع الشيطان حتى تكسره ، وجهاد في العلانية ، في اداء الفرائض حتى تؤديها كما أمر الله ، وجهاد مع أعداء الله في غزو الاسلام». ويؤكد الاصفهاني ذلك حين يذكر ان للجهاد أضربا ثلاثة : مجاهدة العدو الظاهر ، ومجاهدة الشيطان ، ومجاهدة النفس ، وتدخل الثلاثة في قول الله سبحانه :

«وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ»(١).

ولا يختلف عاقلان في أن جهاد الاعداء بالمال والنفس فريضة قائمة باقية واجبة ، كلما نهضت دواعيها ، ولكن ينبغي أن نلاحظ أن الجهاد الحسي بالمال والنفس انما يكون على وجهه وصدقه ، بعد التحلي بفضيلة المجاهدة النفسية الروحية ، التي تجعل صاحبها يزهد في المال ، ويقدمه طائعا مختارا في سبيل ربه ، بلا شح ولا بخل ولا تردد ، وتجعله يفضل ارضاء الله على البقاء في الحياة ، وبذلك يكون ضمن أولئك المؤمنين الأخيار ، الذين قال عنهم ربهم في سورة البقرة :

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(٢).

وقال عنهم في سورة الانفال :

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ

__________________

(١) سورة الحج ، الآية ٧٨.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٢١٨.

١٦٨

فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ»(١).

وقال عنهم في سورة التوبة :

«الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ»(٢).

* * *

ولعل مجاهدة الانسان نفسه هي أشد الواجبات وأثقلها على الانسان ، لأن سلطان الهوى عنيف ، والشهوات كثيرة ، والجوارح الطالبة متعددة ، فللعين شهواتها ، وللاذن شهواتها ، وللسان شهواته ، وللبطن شهواته ، وللفرج شهواته ، وهكذا ...

والمغريات كثيرة ، والشيطان بالمرصاد ، ونفس الانسان الأمارة بالسوء تغري صاحبها بالشهوات واللذات ، واذا سيطر الهوى على الانسان ، غطى قلب الانسان ـ كما يقول بعض العلماء ـ بدخان الشهوات ، فيحول بينه وبين النظر الى نور العقل ، فتحدث للقلب غفلة عما يليق به ، ويؤدي به ذلك الى الطغيان والاستعلاء ، لمحاولة الوصول الى ما يشتهيه ، والحصول على ما يريد.

وقد يفرح الانسان بذلك ، ولكنه الفرح الذي ذمه القرآن المجيد حين قال :

__________________

(١) سورة الانفال ، الآية ٧٢.

(٢) سورة التوبة ، الآية ٢٠.

١٦٩

«لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ»(١).

وانما الفرح الحقيقي العظيم المحمود هو فرحة المؤمن بفضل ربه ونعمته ، ولذلك يقول التنزيل المجيد :

«قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ»(٢).

وحين نعقل هذه الحقائق التي سلفت يتأكد لدينا أن تحلي الانسان بفضيلة المجاهدة واجب ثقيل وهدف جميل. ولقد تحدث القرآن الحكيم عن هذه «المجاهدة» في أكثر من موطن ، فهو يقول في سورة الحج :

«وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ»(٣).

أي جاهدوا في ذاته ، ومن أجله ، حق جهادكم فيه فلا تفعلوا هذا الجهاد رغبة في الدنيا ، ولكن لابتغاء وجه الله. وقد فسّر ابن عباس هذه الآية بقوله : «لا تخافوا في الله لومة لائم». وفسرها الضحاك بقوله : «اعملوا لله حقّ عمله». وقيل ان المعنى : استفرغوا وسعكم في احياء دين الله ، واقامة حقوقه ، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل. وقال عبد الله بن المبارك : ان حق الجهاد هو مجاهدة النفس والهوى. ولذلك قيل ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما رجع من غزوة تبوك قال : رجعنا من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر ، وهو يعني بهذا ـ اذا صحت الرواية ـ مجاهدة النفس.

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٧٦.

(٢) سورة يونس ، الآية ٥٨.

(٣) سورة الحج ، الآية ٧٨.

١٧٠

وقوله تعالى : «وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ» تعبير جامع شامل ، بضم جهاد النفس ، وجهاد الفساد ، وجهاد الشر ، وجهاد العدو. وهذا الجهاد يتطلب تعبئة ضخمة واعدادا واسعا ، ولعل هذا هو ما يوحي به جو الآية التي جاءت فيها هذه العبارة ، وما تضمنه النص الالهي من توجيه الى صفات وواجبات ، فالنص يسير هكذا :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ، هُوَ اجْتَباكُمْ ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ، وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ ، فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ»(١).

ويذهب القشيري في «لطائف الاشارات» الى أن «حق الجهاد» هو موافقة أمر الله في القدر والوقت والنوع ، فاذا حصلت مخالفة في شيء من الامر فليس ذلك بحق الجهاد ، ثم يضيف هذا التفصيل :

«ويقال : المجاهدة على أقسام : مجاهدة بالنفس ، ومجاهدة بالقلب ، ومجاهدة بالمال ، فالمجاهدة بالنفس ألّا يدخر العبد ميسورا الا بذله في الطاعة ، يتحمل المشاق ، ولا يطلب الرخص والارفاق [أي التخفيف والتسهيل].

__________________

(١) سورة الحج ، الآيتان ٧٧ و ٧٨.

١٧١

والمجاهدة بالقلب صونه عن الخواطر الرديئة ، مثل الغفلة والعزم على المخالفات ، وتذكر ما سلف أيام الفترة والبطالات.

والمجاهدة بالمال : بالبذل والسخاء ، ثم بالجود والايثار.

ويقال : حق الجهاد الأخذ بالأشق ، وتقديم الاشق على الاسهل ، وان كان في الاخف أيضا حق.

ويقال : حق الجهاد ألا يفتر العبد عن مجاهدة النفس لحظة».

* * *

ويعود القرآن في موطن ثان ليقول عن المجاهدة في سورة العنكبوت :

«وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ، إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ»(١).

واذا كان الله جل جلاله قد كلّف عباده أن يجاهدوا أنفسهم ، فانما ذلك لاصلاحهم وتكميلهم ـ كما يقول بعض أهل التفسير ـ وتحقيق الخير لهم في دنياهم وأخراهم ، فالمجاهدة تصلح من نفس المجاهد وقلبه ، وترفع من مشاعره وآفاقه ، وتجعله يتأبى على البخل والشح ، وتثير فيه أفضل المزايا والدوافع.

ولذلك يذكر القشيري أن من اتبع طريق الاحسان فانه يطلب بذلك نجاة نفسه وسعادة حاله ، ومن اتبع طريق السوء فقد استوجب لنفسه الشقاء والعقاب ، وثواب المطيعين عنهم مصروف ، وعذاب العاصين عليهم موقوف.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية ٦.

١٧٢

ويعود الذكر الحكيم الى الحديث عن المجاهدة في موطن ثالث ، فيقول في سورة العنكبوت :

«وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»(١).

أي ان الذين قاوموا شهواتهم وطهروا نفوسهم وصانوا قلوبهم ، ابتغاء وجه ربهم يهبهم الله الهداية والوقاية والرعاية ، لأنه يكون معهم بفضله وتأييده ، ومن كان الله معه فقد سعد وفاز.

ولقد أتى القرآن الكريم بهذه الآية في ختام سورة العنكبوت بعد أن ذكر قبلها مباشرة الفريق الخاسر الشقي فذلك حيث يقول :

«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ»(٢).

ثم يعقب ذلك بمسك الختام في حديثه عن أهل المجاهدة ، وهم ـ كما يقول بعض المفسرين ـ : «الذين جاهدوا في الله ليصلوا اليه ويتصلوا به ، الذين احتملوا في الطريق اليه ما احتملوا ، فلم ينكصوا ولم ييأسوا. الذين صبروا على فتنة النفس وفتنة الناس. الذين حملوا اعباءهم ، وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب ... أولئك لن يتركهم الله وحدهم ، ولن يضيع ايمانهم ، ولن ينسى جهادهم. انه سينظر اليهم من عليائه فيرضاهم ، وسينظر الى جهادهم فيه فيهديهم ، وسينظر الى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم ، وسينظر الى صبرهم واحسانهم فيجازيهم خير

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية ٦٩.

(٢) سورة العنكبوت ، الآية ٦٨.

١٧٣

الجزاء. : «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ، وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»

ويقرر الرازي أن من جاهد بالطاعة هداه الله سبيل الجنة ، وأن قوله : «وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» اشارة الى قوله :

«لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ»(١).

فقوله : «لَنَهْدِيَنَّهُمْ» اشارة الى الحسنى ، وقوله :

«وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ».

اشارة الى المعية والقربة التي تكون للمحسن زيادة على حسناته.

ويرى النيسابوري أن الآية آية جامعة ، فيها تسلية قلوب المؤمنين المتطهرين ، والمراد منها أن من جاهد النفس أو الشيطان ـ من أجل رضا الله سبحانه ـ فان الله يهديه طريق الجنة أو طريق الخير ، باعطائه مزيدا من الألطاف والتوفيق.

ويذهب عباس الهمداني الى أن معنى الآية هو : الذين يعملون بما يعلمون ، يهديهم الله الى ما لا يعلمون.

ولقد أعجب سليمان الداراني بهذا التفسير ، وعلق عليه بقوله :

«ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر ، فاذا سمعه في الأثر عمل به ، وحمد الله حين وافق ما في قلبه».

ويأبى القشيري الا أن يصور المجاهدة هنا على طريقته ، فيذكر أن الجهاد يكون أولا بترك المحرمات ، ثم بترك الشبهات ، ثم بترك الفضلات ، ثم بقطع العلاقات ، والتنقي من الشواغل في جميع الاوقات. ويضيف قول

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ٢٦.

١٧٤

من قال : الجهاد هنا يكون بحفظ الحواس لله ، وبعدّ الأنفاس مع الله.

* * *

ويشير القرآن الكريم الى المجاهدة حين يقول في سورة القتال :

«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ»(١).

وعن طريق الابتلاء والامتحان ـ كما يعبر صاحب لطائف الاشارات ـ تتبين جواهر الرجال فيظهر المخلص ، ويفتضح المماذق (٢) ، وينكشف المنافق ، فالذين آمنوا وأخلصوا ، نجوا وتخلصوا ، والذين كفروا ونافقوا ، وقعوا في الهوان وأذلوا ، ووسموا بالشقاوة وقطعوا.

* * *

فاذا انتقلنا من روضة القرآن الحكيم الى روضة السنة النبوية وجدناها تعطي المجاهدة مكانتها وحقها ، فيروي ابن حنبل والترمذي قول الرسول عليه الصلاة والسلام : «المجاهد من جاهد نفسه». ويذكر الاصبهاني في «المفردات» حديثا يقول : «جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم».

كما أن الرسول عليه صلوات الله وسلامه جعل الاحسان الى الوالدين والقيام بحقوقهما مجاهدة تنوب عن الجهاد في الميدان ، فقد روى البخاري قصة الفتى الذي أراد أن يخرج غازيا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له الرسول : أحيّ والداك؟. قال الفتى : نعم.

__________________

(١) سورة محمد ، الآية ٣١.

(٢) المماذق : غير المخلص.

١٧٥

قال النبي : ففيهما فجاهد.

* * *

ثم يأتي حديث المجاهدة عند الصوفية ، وهو حديث يسير على طريقتهم التي انفردوا بها. وقد شغلوا أنفسهم كثيرا بموضوع المجاهدة ، وهي عندهم تحتاج الى قوة وصبر واخلاص قصد ، ولذلك نجد في كتاب «اللمع» هذا النص :

«ان طبقة من الصوفية غلطت في العبادات ، والمجاهدات ، ورياضات النفوس والمكابدات ، فلم تحكم في ذلك أسبابها ، ولم تضع الاشياء في مواضعها ، فانهزمت ونكصت على أعقابها القهقرى. وذلك أنهم حين سمعوا بمجاهدات المتقدمين ، وما نشر الله بذلك أعلامهم في خلقه ، بالثناء الجميل والقبول عند الناس واظهار الكرامات ، طمعت نفوسهم وتمنوا ، فتكلفوا شيئا من ذلك ، فلما طالت المدة ولم يصلوا الى مرادهم كسلوا ، فاذا دعاهم داعي العلم الى المجاهدة والعبادة ورياضة النفس ، فلا يقام لذلك عندهم وزن.

ولو جذبهم الحق جذبة الى خدمته ، وأرادهم بالمداومة على طاعته ، وأدركهم بلطفه وعنايته ، لازدادت رغباتهم ، وقويت نياتهم ، ودامت على ما كانت عليه نياتهم ، فلما لم يكونوا مرادين بذلك ـ لضعف دعائمهم وفساد قصدهم ـ توهموا أن ذلك فتور. وقد غلطوا في ذلك ، لأن الفتور ما تتروح به قلوب المجتهدين وقتا دون وقت ، ثم تعود الى الحال.

فأما ما وقع فيه هؤلاء فهو الكسل والتواني والاماني الكاذبة».

ويرى الصوفية أن الطريق الى المجاهدة عمادها وأساسها تطهير الباطن ليتزين الظاهر ، والحارث المحاسبي يقول : «من صحّ باطنه بالمراقبة والاخلاص ، زيّن الله ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة». ويقول منصور

١٧٦

ابن عمار : «الناس رجلان : عارف بنفسه ، فشغله في المجاهدة والرياضة ، وعارف بربه ، فشغله بخدمته وعبادته ومرضاته».

ولقد أسرف بعض الصوفية في تصوير المجاهدة اسرافا لا يتواءم مع سماحة الدين ويسر الاسلام ، وهذا مثلا هو الحكيم الترمذي يرى أن جهاد النفس يشمل صدها عن الحرام ، وعن الاقتراب من حمى الاثم ، بل منعها عن الحلال في أول الامر ، حتى لا تطمع في الحرام ، ويصوّر ذلك بأن الانسان يلزم نفسه الصمت عن الكلام حتى تتعود السكوت ، وتموت عندها شهوة الكلام ، وبذلك يقوى الانسان على الصدق بعد ذلك ، فلا يتكلم الا بحق ، وبذلك يصير سكوته عبادة ، وكلامه عبادة ، لأنه ان نطق نطق بحق ، وان سكت سكت بحق.

ويتوسع الترمذي توسعا غير جميل وغير مقبول ، فيقول : «وفي الجملة ينبغي أن يتفقد كل حال وكل أمر للنفس فيه فرح واستبشار ، من نعمة أو وجود لذة أو أنس بشيء ، فيقطعه عنها ، وانه كلما هويت النفس شيئا أعطاها فرحت به ، فينبغي له أن يمنعها ، ولو شربة من ماء باردة تريد أن تشربها ، فيمنعها في تلك الفورة التي تشوفت لوجود بردها ولذتها ، حتى تسكن تلك الفورة ، وينغص عليها ، ثم يسقيها بعد ذلك ، حتى يملأها غما ، ويوقرها هما (١) ، لأن من شأنها اذا حبس عنها هذه الافراح بهذه الاشياء وبهذه الاحوال ، فكأنه صيّرها في سجن ، فيتقرب الى الله عزوجل بغمها وهمها ، فيجعل الله عزوجل له ثوابه نورا على القلب ، فيزداد القلب بذلك النور قوة على منع النفس شهواتها ، وعلى أخذ سلطانها ، ويستولي عليها وهي تذل وتذبل ، والعدو يخسا ويتحير ، ويبطل كيده ومكره».

__________________

(١) يوقرها : يثقلها ويملؤها.

١٧٧

هكذا يتحدث الترمذي ، ولكنا نتذكر قول الله جلت حكمته في سورة الأعراف :

«يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ ؛ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ»(١).

ان الصورة الحلوة التي نتطلبها للمجاهدة هي أن يقيم الانسان المؤمن من ارادته وعزيمته ومراقبته على نفسه ما يصده عن الخنا والأذى ، وما يربطه على الدوام بالتقى والهدى ، وما يجعله يقاوم الشهوات والاهواء ، دون أن يحرم ما أحل الله :

«وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ ، وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ»(٢).

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآيات ٣١ ـ ٣٣.

(٢) سورة النحل ، الآية ٩.

١٧٨

اليقين

كلمة «اليقين» تدل على معنى الثبات مع الوضوح ، واليقين هو العلم الذي انتفت عنه الشكوك والشبهات ، ويقال : أيقن الانسان الامر وأيقن به ، اذا علمه علما لا شك فيه ، واستيقن الامر وأيقنه : علمه ، والايقان عند الاطلاق يراد به الايقان بما يجب الايمان به في الدين واليقين ـ عند علماء التوحيد ـ هو الاعتقاد المطابق للواقع الذي لا يقبل الشك ولا الزوال.

واليقين ـ كما يقول الاصفهاني ـ فوق المعرفة والدراية وأخواتها ، ولذلك يقال : علم يقين ، ولا يقال : معرفة يقين. واليقين سكون الفهم مع ثبات الحكم (١).

وقد يطلق اليقين في لغة القرآن على الموت ، لأنه واقع محتوم ، لا مفر منه ولا شك ، فيقول في سورة الحجر :

«وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ»(٢).

__________________

(١) للصوفية تصوير آخر للمعرفة ، ليس هنا مجال بحثه.

(٢) سورة الحجر ، الآية ٩٩.

١٧٩

ويقول في سورة المدثر :

«وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ»(١).

واليقين بالمعنى الاخلاقي فضيلة من أعظم الفضائل وأجلها ، لأنها تعلّم صاحبها استقرار الايمان ، وثبات الروح ، وزكاة النفس ، ولذا نرى ابن القيم يقول في تصوير اليقين : «هو من الايمان بمنزلة الروح من الجسد ، وبه تفاضل العارفون ، وفيه تنافس المتنافسون ، واليه شمّر العاملون. وعمل القوم انما كان عليه ، واشاراتهم كلها اليه. واذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما حصول الامامة في الدين. قال تعالى وبقوله يهتدي المهتدون :

«وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ»(٢).

ويقول أيضا : «اليقين روح أعمال القلوب ، التي هي أرواح أعمال الجوارح ، وهو حقيقة الصديقية ، وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره».

وحق له أن يقول ذلك. لأن اليقين هو استقرار العلم الذي لا يتقلب ولا يتحول ولا يتغير ، ولأن اليقين يعطينا معنى الاحسان الذي يقول فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام : «الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك».

وهذا اليقين الجازم الدائم الثابت يقتضي كمال التصديق لرسول

__________________

(١) سورة المدثر ، الآيتان ٤٦ و ٤٧.

(٢) سورة السجدة ، الآية ٢٤.

١٨٠