موسوعة أخلاق القرآن - ج ٣

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٣

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٧٩

التي من جملتها التوكل والتفويض قبل وقوع المقدور ، والرضى بعده وهو ثمرة التوكل ، والتفويض علامة صحته ، فان لم يرض بما قضى له فتفويضه معلول فاسد».

وهؤلاء هم السابقون الاولون من المؤمنين ، تقبل عليهم الاحزاب بخيلها ورجلها ، وعدوانها وطغيانها ، فلا يزدادون الا ايمانا واقبالا على الله وتسليما له ، وبذلك كانوا صادقين أوفياء ، فذلك حيث يقول الله جل جلاله في سورة الاحزاب :

«وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ، لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ، وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ، إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً».

ويقرر ابن القيم ان التسليم لله يتحقق بخلاص الانسان من الشبهة التي تعارض الخبر الصحيح ، ومن الشهوة التي تعارض الامر الالهي الحكيم ، ومن ارادة النفس التي تعارض الاخلاص لله ، ومن الاعتراض على أحكام الشرع ، ومتى تحلى الانسان بهذا التخلص أصبح صاحب القلب السليم الذي ينجو صاحبه يوم القيامة : «يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم».

ولذلك يجب على الانسان أن يتخلص من الشبهات والشهوات وارادة الذات والاعتراض ، وبذلك يبلغ أجل مقامات الايمان ، وعلة التسليم هي

٢٦١

عدم اكتمال الرضى : «وليس في التسليم الا علة واحدة ، وهي أن لا يكون تسليمه صادرا عن محض الرضى والاختيار ، بل يشوبه كره وانقباض ، فيسلّم على نوع اغماض ، فهذه علة التسليم المؤثرة ، فاجتهد في الخلاص منها».

* * *

وفي صدق الاسلام معنى التسليم ، لأن الاسلام انقياد لله ، وخضوع لما وضعه من الشرائع والاحكام ، مع التوجه الكلي الى الله ، ولعل هذا هو ما عبر عنه القرآن الكريم باسلام الوجه ، وقد وردت في كتاب الله تعالى يظهر فيها هذا المعنى ، كقول الله جل جلاله في سورة البقرة :

«بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».

وفي سورة آل عمران :

«فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ».

وفي سورة النساء :

«وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً».

وفي سورة لقمان :

«وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ

٢٦٢

بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ».

وكلمة «السلام» في القرآن المجيد غير بعيدة في مفهومها وظلالها من معنى «التسليم» لأن السلام أمان وخلاص ، والتسليم انقياد لله يورث الاطمئنان والرضى ، ونستطيع أن نلحظ هذا حين نتدبر قول الله تبارك وتعالى في سورة المائدة :

«قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».

وقوله في سورة الأنعام :

«لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ».

وقوله في سورة يونس :

«وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».

* * *

وتقبل السنة المطهرة لتحدثنا عن «فضيلة التسليم» فنجد رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به». والذي جاء به الرسول هو دين الله

٢٦٣

ودعوته ، وحكمه وامره ، وقوله : «حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» معناه أن تكون ارادة الانسان تابعة لأمر الله ، خاضعة له ، راضية به ، فلا يكون للانسان أمر بجوار أمر الله ، ولا ارادة بجوار ارادة الله ، ولا شهوة في غير أمر الله ، وهذا هو التسليم حق التسليم.

ولقد كان سيدنا رسول الله خير من تحقق بالتسليم لربه ، ولذلك كان يقول عند النوم ـ كما يروي البخاري ـ : «اللهم أسلمت نفسي اليك ، ووجهت وجهي اليك» أي استسلمت وانقدت ، وجعلت نفسي خاضعة لك ، تابعة لحكمك ، لا قدرة لي على تدبيرها ، ولا على جلب ما ينفعها اليها ، ولا على دفع ما يضرها عنها. وكان صلوات الله وسلامه عليه يدعو ربه فيقول : «اللهم أنت ربي ومليكي والهي ، لا اله الا أنت ، اليك وجهت وجهي». وكان يردد في تهجده بالليل ، «اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت».

ولقد عرف البصراء من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام مكانه التسليم لله ، فنوهوا به ووجهوا اليه ، فهذا هو الزهري مثلا يقول : «من الله عزوجل الرسالة ، وعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البلاغ ، وعلينا التسليم».

ويرينا الحارث المحاسبي الصورة الرائعة للتسليم فيقول : «التسليم هو الثبات عند نزول البلاء ، من غير تغير منه في الظاهر والباطن». ومن هنا نفهم أن التسليم ليس استسلاما أو خنوعا ، وليس تواكلا وتبطلا ، وليس تركا للاسباب أو العمل ، وانما هو اتجاه الى الله ، واعتصام بحماه ، واستعانة بهداه ، واستنفاد الوسع والطاقة في السعي والحركة وتحقيق ما يرضي الله.

وممن تكلموا في «التسليم» بشر بن الحارث الحافي ، وقد رووا عنه أنه كان في مجلسه يتحدث عن التسليم والرضى. فقال له بعض من

٢٦٤

حضر : يا أبا نصر ، انقبضت عن أخذ البرّ من يد الخلق لاقامة الجاه ، فان كنت متحققا بالزهد ، منصرفا عن الدنيا ، فخذ من أيديهم ، ليمتحي جاهك عندهم ، وأخرج ما يعطونك الى الفقراء ، وكن بعقد التوكل ، تأخذ قوتك من الغيب.

فقال بشر : اسمع أيها الرجل الجواب : الفقراء ثلاثة : فقير لا يسأل ، وان أعطي لا يأخذ ، فذاك من الروحانيين ، اذا سأل الله أعطاه ، وان أقسم على الله أبرّ قسمه.

وفقير لا يسأل ، وان أعطي قبل ، فذاك من أوسط القوم ، عقده التوكل والسكون الى الله تعالى ، وهو من توضع له الموائد في حظيرة القدس.

وفقير اعتقد الصبر ومدافعة الوقت ، فاذا طرقته الحاجة خرج الى عبيد الله ، وقلبه الى الله بالسؤال فكفارة مسألته صدقه في السؤال.

فقال السائل لبشر : رضيت ، رضي الله عنك.

الله نسأل أن يجعلنا من أهل التسليم والسلام والاسلام.

٢٦٥

الكرامة

كلمة «الكرامة» مشتقة من مادة «الكرم» ، والكرم في اللغة ضد اللؤم ، وكرم فلان : سلك في حياته مسلكا مرضيا ، وعزّ في ذاته وصار نفيسا ، والكريم هو الشريف أو المنعم أو رضيّ الخلق ، والرزق الكريم هو الرزق الطيب الموفور ، وكرّم فلان فلانا تكريما وتكرمة : عظّمه ونزهه ، وكرم الله وجهه : أي شرفه ، والكريمان هما الحج والجهاد ، وأكرم فلان نفسه عن الخنا ، أي صانها ونزهها عما لا يليق بها ، وأكرم القوم أشرفهم.

هذا حديث اللغة عن مادة «الكرامة» ، والكرامة بالمعنى الاخلاقي هي أن يحسن المرء الاحساس بآدميته وانسانيته وبأنه صنع الله ومخلوقه ، وان الله تبارك وتعالى قد وهب الانسان تكريما وتمجيدا ، فيلزم هذا الانسان أن يكون مقدّرا هذه الهبة ، صائنا هذا التكريم ، مرتفعا بخلقه وقوله وعمله وسلوكه ، الى مستوى هذا التمجيد ، فلا يصدر منه قول أو فعل أو سلوك يشين هذه الانسانية التي كرمها الله جل جلاله ، وزكّى شأنها ، وأراد لها أن تكون تأهيلا لخلافة الانسان في الارض ، وسيادته على غيره من المخلوقات فيها ، ومن وراء هذا الاحساس لا يقبل الانسان لنفسه أن يتعرض لما يسيء الى شرفه أو سمعته في قليل أو كثير.

٢٦٦

وفضيلة الكرامة قريبة من فضيلة العزة ، لأن الكرامة يوجد فيها معنى الترفع عن الخسيسة ، والتباعد عن المذلة ، والتأبي على الضيم والهوان ، والعزة فيها هذه المعاني ، ولذلك قلت حين حديثي عن «العزة» في الجزء الاول من كتابي ، «أخلاق القرآن» هذه العبارة عن شأن المسلم في موطن الابتلاء : «واذا شاء الله تعالى له لونا من ألوان الاختبار والابتلاء تحمله راضيا صابرا ، محتفظا بعزته وكرامته وشهامته ، موقنا بأن احتمال الالم خير ألف مرة من التخاذل والاستسلام» (١). وقد يجمع بين العزة والكرامة أن يسير المسلم في ضوء القول النبوي الجليل : «ان الله يحب معالي الامور ويكره سفسافها» (٢).

والكرامة ضدها الذل والهوان ، ومن هنا قال القائل الحكيم :

اذا أنت لم تعرف لنفسك حقها

هوانا بها كانت على الناس أهونا

ويقول الآخر :

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت ايلام!!

ومن التشريف لفضيلة «الكرامة» المشتقة من مادة «الكرم» أن من أسماء الله عز شأنه وصفاته وصف «الكريم» وأن الله تعالى قد وصف القرآن المجيد بأنه كريم ، فقال في سورة الواقعة : «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ» ، لأنه كثير النفع والخير ، لاشتماله على أصول العلوم المهمة في اصلاح المعاش والمعاد ، ولأنه حسن مرضي في جنسه ، ولأنه مطهر منزه عن الخطأ والسوء.

وكذلك وصف الله تعالى رسله بأنهم كرام ، فقال عن رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في سورة الحاقة :

__________________

(١) انظر الجزء الاول من كتابي «أخلاق القرآن» ص ١٨. نشر دار الرائد العربي ببيروت ، سنة ١٩٧١.

(٢) انظر شرح هذا الحديث في كتابي «من أدب النبوة» نشر المجلس الاعلى للشؤون الاسلامية بالقاهرة ، سنة ١٩٧١.

٢٦٧

«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ».

أي ان القرآن يبلغه رسول الله عن الله ، لا من عند نفسه ، وهو رسول كريم على الله تعالى ، قد طهره ربه ونزهه عن الافتراء والانحراف والخنا. ويحتمل أن يكون المراد بالرسول هنا هو جبريل عليه‌السلام. كما في قوله في سورة التكوير :

«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ».

وقال القرآن الكريم عن موسى عليه‌السلام في سورة الدخان :

«وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ، وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ».

أي صاحب كرامة وتكريم عند الله تعالى ، وهو كريم على المؤمنين ، أو كريم في نفسه ، لشرف نسبه وفضل حسبه ، ومثل هذا يحرص على الكرامة ، ولا يرتكب ما يعاب.

ووصف القرآن الملائكة بأنهم كرام مكرمون ، فقال في سورة الانبياء :

«وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ»

وقال في سورة الذاريات عن ضيوف ابراهيم من الملائكة :

«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ».

أي مكرمين عند الله عزوجل ، أو عند ابراهيم عليه‌السلام ، حيث لم يعرضهم لاهانة أو مذلة ، بل خدمهم بنفسه ومعه زوجته ، فصان عليهم بذلك كرامتهم. وقال في سورة عبس :

٢٦٨

«كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ».

أي بأيدي ملائكة سفراء ، أعزاء على الله ، أو منعطفين على المؤمنين ، يكلمونهم ويستغفرون لهم. وقال في سورة الانفطار :

«وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ».

أي كراما عند الله لتعظيم الجزاء.

ومتى امتلأ سمع المسلم وقلبه بأن الله تبارك وتعالى موصوف بأنه لكريم ، وأن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم موصوفون بأنهم كرام ، وأن الملائكة كرام ، وأن القرآن كريم ، أدرك المسلم أن الكرامة من صفات لخير والعلو ، فاستشعر في نفسه روح هذه الكرامة ، وحافظ عليها.

ويقول القرآن الكريم عن عباد الرحمن في سورة الفرقان :

«وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً».

أي ان عباد الرحمن الذين لا يقولون الشهادة الباطلة ، ولا ينطقون بكلمة الزور ، لأن هذا قادح في كرامتهم ، ولا يحضرون مواطن الكذب والافتراء ، لأن مشاهدة الباطل نوع من المشاركة فيه ، واذا مر هؤلاء المؤمنون بشيء من اللغو الذي ينبغي ان ينبذ ويطرح ، مروا كراما معرضين عنه ، مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ، ويدخل في ذلك الاغضاء عن الفواحش ، والصفح عن الذنوب ، والكناية عما

٢٦٩

يستهجن التصريح به ، وهذه صفات أهل الكرامة ، فهم شرفاء يترفعون عن اللغو من الكلام ، فلا يستمعون اليه ، وعن اللغو من الاعمال ، فلا يقبلون عليها ، بل يعرضون عنها.

وليس من شأن المسلم المتحلي بفضيلة الكرامة أن يرد على السفه بسفه مثله ، ولا أن يجاوب على اللغو بلغو من قبيله ، وكيف والقرآن الكريم يقول في صفات المؤمنين : «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ».

والقائل الحكيم يقول :

اذا نطق السفيه فلا تجبه

فخير من اجابته السكوت

اذا جاوبته فرجت عنه

ولو أهملته كمدا يموت

والقائل الآخر الكريم على نفسه يقول :

وكلمة حاسد في غير جرم

سمعت فقلت مري فانفذيني

فعابوها عليّ ولم تسؤني

ولم يعرق لها أبدا جبيني

وذو اللونين يلقاني طليقا

وليس اذا تغيّب يأتليني

سمعت بعيبه فصفحت عنه

محافظة على حسبي وديني

والكرامة لها مواطن كثيرة ، فهناك الكرامة في التفكير ، فالكريم على نفسه لا يفكر في مقابح الامور ، والكرامة في القول تمنع صاحبها أن ينطق بفحش ، أو يجادل في باطل ، أو يماري فيما لا يفيد ، والكرامة في العمل لا يفعل صاحبها عملا يسيء الى سمعته أو مكانته ، والكرامة في الصحبة هي التي تمنع صاحبها أن يصادق اللئام ، أو يخادن الطغام ، والكرامة في النظرة تجعل صاحبها لا يتوقع ولا يتبجح لينظر الى شيء غيره ، أو ما يباح النظر اليه ، والكرامة في الاستماع تصون أذن صاحبها عن التجسس وتتبع العورات ، والكرامة في معاملة الغير ، تجعل صاحبها يمنع نفسه عن الاساءة اليهم في قول أو عمل أو اشارة أو ظن أو حكم ،

٢٧٠

وما أبلغ قول القرآن في سورة الحجرات :

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ، وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ، وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ».

ولقد ختم الله توجيهه الحكيم السابق بقوله كما رأينا :

«وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ».

«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ».

وذلك لأن التقوى تكمل النفوس ، وبها يتفاضل الاشخاص ، فمن أراد شرفا فليلتمسه في التقوى ، ومن أراد أن تتوافر له الكرامة عند الله وعند الناس فعليه بالتقوى ، وقد جاء في الحديث الشريف : «يا أيها الناس ، انما الناس رجلان ، مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هيّن على الله». وجاء في السنة حديث غريب ، يشير الى أن التقوى هي مفتاح الكرامة العظمى ، يقول : «ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم» قيل : يا رسول الله ، ولا الملائكة؟. قال : «ولا الملائكة ، الملائكة

٢٧١

مجبورون بمنزلة الشمس والقمر».

ويؤكد القرآن الحكيم أن الايمان والتقوى يصيران بصاحبهما الى الكرامة والاكرام. فيقول في سورة يس عن المؤمن حبيب النجار :

«إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ».

وكذلك يقول القرآن المجيد في سورة الصافات :

«وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ، أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ، فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ».

أي مكرمون في نيل هذا الرزق ، يصل اليهم من غير سؤال أو اذلال أو تعب. وكذلك يقول في سورة المعارج :

«وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ، أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ».

وهكذا يؤكد القرآن المجيد في أكثر من موطن أن التقوى هي التي توفر لصاحبها فضيلة الكرامة ، لأن التقوى وقاية وقوة ، ومن تدثر بالتقوى صادقا مخلصا اعتز بالله وحده ، وتعالى عن الصغائر والكبائر والقبائح التي لا تليق بكرامته.

٢٧٢

والله تبارك وتعالى يمتن على بني الانسان بما حباهم به من الكرامة والتكريم ، والتشريف والتنويه ، فيقول في سورة الاسراء :

«وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ، وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً».

يقول أهل التفسير : كرمناهم بحسن الصورة ، والمزاج الاعدل ، والتمييز بالعقل ، والافهام بالنطق والاشارة والحظ ، والاهتداء الى أسباب المعاش والمعاد ، والتسلط على ما في الارض ، والتمكن من الصناعات ، وانسياق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية ، الى ما يعود عليهم بالمنافع ، الى غير ذلك مما يقف الحصر دون احصائه.

ومن ذلك ما ذكره عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وهو أن كل حيوان يتناول طعامه بفمه ، الا الانسان ، فانه يرفعه اليه بيده.

وكذلك حمل الله بني آدم على الدواب وغيرها من المركوبات في البر ، وحملهم في البحر على السفن باختلاف أنواعها ، ورزقهم من الطيبات المستلذات ، مما يكون بفعلهم أو بغير فعلهم ، وفضّلهم على كثير من المخلوقات بالغلبة والاستيلاء ، أو بالشرف والكرامة.

وقيل أيضا في تفسير هذه الآية : كرمنا الانسان بحسن الصورة واعتدال القامة والعقل ، فاهتدى الى الصناعات ومعرفة اللغات ، وحسن التفكير في وسائل المعاش ، والتسلط على ما في الارض ، وتسخير ما في العالم السفلي والعلوي ، وحملناهم على الدواب والقاطرات والطائرات والسفن وغيرها ، (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) ، ورزقناهم من الطيبات والاغذية النباتية والحيوانية ، وفضلناهم على كثير من المخلوقات

٢٧٣

بالتغلب والشرف والكرامة.

أليس الواجب أمام هذا التكريم الالهي العظيم ، أن يكون الانسان كريما على نفسه وعلى الناس ، فيجمّل ذاته بفضيلة الكرامة ، ويحصن ذاته ضد كل ما لا يليق به في قول او عمل؟. ان الكرامة هبة الله للانسان ، فواجب عليه ان يصون هبة الرحمن. ان الله تعالى هو الذي أعطى الكرامة ، وكما حللها الاخيار من عباده ، وهو سبحانه يدعو عباده الى أن يظهروا أثر نعمة الله وكرامته ، ويبشر هؤلاء العباد المستجيبين بتكريم من الله ونعيم مقيم.

ولكن الكثير من الدهماء لم يصونوا النعمة ، ولم يقدروا الكرامة ، فالله تعالى قد خلقهم في أحسن تقويم ، ولكنهم بلؤمهم وتمردهم ، انحطوا الى أسافل سافلين ، الا من رحم الله.

«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ».

ويعود القرآن ليؤكد هذا فيقول في سورة الانفطار :

«يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ».

كذلك يقول القرآن في سورة الفجر :

«فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ

٢٧٤

رَبِّي أَكْرَمَنِ ، وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ، فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ، كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ...».

والمعنى أن الانسان لا يهمه الا الدنيا ولذتها ، فاذا ما اختبره ربه بالغنى واليسر ، فأكرمه ونعّمه بالجاه والمال ، فان الانسان يقول : ان ربي كرمني ، أي فضلني بما أعطاني ، وأما اذا اختبره بالفقر والتقتير ، فانه يقول : ربي أهانني ، وذلك لقصور نظره وسوء تفكيره ، لأن التقتير في المال قد يؤدي الى كرامة الدارين ، والتوسعة قد تؤدي الى الانهماك في حب الشهوات وايثار الملذات على الطاعات والقربات.

والقرآن يلفت أبصارنا وبصائرنا الى أن الكرامة اذا فقدها الانسان من جهة ربه تبارك وتعالى ، فانه لن يستطيع أن يحصل عليها من جهة اخرى ، فيقول في سورة الحج :

«وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ، إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ».

أي من يهينه الله بالشقاوة والذلة لا يوجد له من يعزه بالقوة والسعادة ، ان الله يفعل ما يشاء من الاكرام والاهانة. وهؤلاء أقوياء كتب الله عليهم الشقوة بعد العزة ، فماذا كانت النتيجة؟. كانت كما قال القرآن في سورة الشعراء :

«فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ».

أو كما قال في سورة الدخان :

٢٧٥

«كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ».

أو كما قال عن الكافر في السورة نفسها :

«ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ».

يقول له ذلك على سبيل السخرية والتهكم ، فقد صار مدعي العزة او الشرف أذل الاذلاء وأشقى الاشقياء.

* * *

هذا وقد جاء في السنة المطهرة ما يؤكد أن الكرامة حق الكرامة في الايمان والتقوى ، فجاء الحديث : «كرم الرجل دينه». وقيل للنبي من أهل الكرم يا رسول الله؟. فأجاب : مجالس الذكر في المسجد. وسئل النبي عليه الصلاة والسلام : أي الناس أكرم؟. قال : أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله. قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : فعن معادن العرب تسألونني؟. قالوا : نعم. قال : فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام اذا فقهوا.

وكذلك قال رسول الله صادقا مصدوقا : «أنا أكرم الاولين الآخرين».

وهناك أشياء كثيرة يحسبها أهل الجهل ضد الكرامة ، مع انها من صميمها ، فالرجوع الى الحق بعد معرفته من صميم الكرامة ، والخضوع لهذا الحق مهما كان مرا من صميم الكرامة ، وترك التمادي في الباطل من صميم الكرامة ، والتزام العدل مع الصديق والعدو من صميم الكرامة ،

٢٧٦

والتواضع في مواطنه السليمة من صميم الكرامة ، وعدم الشماتة بمن حاربته الاقدار من صميم الكرامة ... وهكذا.

يا رب ، يا معز كل كريم ، ومذل كل لئيم ، خذ بنواصينا الى طريق الكرامة ، لنحيا حياة الكرام الاعزاء.

٢٧٧
٢٧٨

الفهرست

الموضوع

الصفحة

المقدمة.......................................................................... ٩

تبين الامور.................................................................... ١٥

خفض الجناح.................................................................. ٢٨

الخشية........................................................................ ٤٠

التطهر........................................................................ ٥٦

المصاحبة بالمعروف.............................................................. ٧٠

الحكمة........................................................................ ٨٥

طيب الكلام................................................................... ٩٨

الدفع بالحسنى................................................................ ١١٣

الشهادة..................................................................... ١٢٧

الستر....................................................................... ١٤٢

التعوذ....................................................................... ١٥٤

المجاهدة...................................................................... ١٦٧

اليقين....................................................................... ١٧٩

الدعوة الى الخير............................................................... ١٩١

الامر بالمعروف............................................................... ٢٠٧

النهي عن المنكر.............................................................. ٢٢٠

عظة بالغة للاوزاعي........................................................... ٢٣٢

التفويض..................................................................... ٢٤٥

التسليم...................................................................... ٢٥٧

الكرامة...................................................................... ٢٦٦

٢٧٩