موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٦

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٠٧

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله تبارك وتعالى ، وأصلي وأسلم على جميع أنبيائه ورسله ، وعلى خاتمهم سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وأتباعه وأحبائه ، ومن دعا بدعوته باحسان الى يوم الدين.

وأستفتح بالذي هو خير :

«رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا ، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

٥
٦

قبس من كتاب الله

«وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ ، إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ، إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ، وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً».

(سورة الفرقان)

٧
٨

تصدير

هذا هو الجزء السادس من كتابي «أخلاق القرآن» ، وقد عشت سنوات وسنوات ، أعد منه كل شهر فصلا عن خلق من أخلاق القرآن العظيم ، واني لأرجع الآن بالذكرى الى بداية هذا العمل الموصول الاسباب برحاب الله وكتابه ، فأرى سعة الفرق بين ما افتتحت من بداية ، وما انتهى اليه الحاضر من غاية ، فاعتبر واتعظ ، وافهم بما يشبه المشاهدة أن الخطوة الاولى غالبا ما تكون قصيرة محدودة ، ولكن روح الامل والرجاء تمد عبد الله بفيض موصول من فضل خالقه ، فاذ الخطوات تتوالى ، حتى يتكون منها مسيرة طويلة ممدودة.

والبحر قد كان في أول أمره جدولا ، ثم صار بحرا زخارا تتلاطم أمواجه ، والبدر كان أول أمره هلالا ، ثم اكتمل بدرا عند منتصف الشهر.

والامر هنا يحتاج الى الايمان ، والعمل مع الامل ، والثقة بفضل الله الذي لا يحد ولا يعد ، والله على كل شيء قدير ، والله يختص برحمته من يشاء ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم.

الهي ، لا تحرمني في هذا العمل نعمة الابتغاء به لوجهك ، ولا تحرمني شرف الانتساب الى خدمة كتابك ، ووفقني دائما أن أجعله سميري

٩

وأميري وظهيري :

«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً».

الهي ، كما وفقتني وأعنتني ـ وأنت صاحب المنة أولا وأخيرا ـ فكتبت ما كتبت عن أخلاق القرآن الكريم ، التي تصوّر فضائل الاسلام العظيم ، ويزدان بها هدى رسولك عليه الصلاة والتسليم ، أسألك التوفيق والعون على التحلي بأخلاق القرآن ، وفضائل الاسلام ، وهدى النبي عليه الصلاة والسّلام.

أبو حازم

أحمد الشرباصي

١٠

التبصر

البصر هو حاسة الرؤية ، وقيل ان البصر هو النور الذي تدرك به العين المبصرات. وبصر القلب نظره وخاطره. والبصر نفاذ في القلب ، والبصير هو الرجل العالم بالاشياء ، والبصيرة هي قوة القلب المدركة ، وقيل هي اسم لعقيدة القلب ، أي لما يعتقد في القلب من الدين وتحقيق الامر ، وفلان بصيرة على القوم : أي رقيب وشاهد. ويقال : أما لك بصيرة في هذا؟ أي عبرة. ومنه قول قس بن ساعدة :

في الذاهبين الاولين

من القرون لنا بصائر

وتبصرت الشيء أي رمقته. وأبصر الرجل اذا خرج من الكفر الى بصيرة الايمان.

وتبصر الرجل في رأيه واستبصر : تبين ما يأتيه من خير وشر. والتبصر أو الاستبصار في الشيء : هو التمهل والاناة في تبين الامور وكشفها ، والسير في علاجها على بصيرة ورشد ، واتزان وفطنة ، وادراك لمرامي الامور وغاياتها القريبة والبعيدة ، وفي التبصر ملاحظة ودقة استنباط. وقد ورد في الحكمة : عمى الأبصار أهون من عمى البصائر.

والتبصر بهذا المعنى خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من

١١

فضائل الاسلام العظيم ، وجانب من هدى النبي عليه الصلاة والتسليم ، والمراد بهذا الخلق في هذا المجال التربوي الأخلاقي هو أن يكون الانسان صاحب تفكر وتدبر ، وأهل رزانة وتمهل ، وأن لا تغره المظاهر ، بل يحاول أن يستبطن حقائق الامور. ويستدل بالعلامات والاشارات على النتائج والغايات ، فيكون له من ذلك مرشد يهديه ، وقائد يقود قلبه وعقله الى سواء السبيل.

وقد وردت الكلمة بهذا المعنى في قول الله تبارك وتعالى في سورة «ق» :

«تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» (١).

أي علامة ودلالة. والله جل جلاله من أسمائه الحسنى : «البصير» كما يقول تعالى في سورة البقرة :

«وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» (٢).

أي لا تخفى عليه خافية من أمرهم. وقد تكرر ذكر هذا الاسم في السورة نفسها في قوله تعالى :

«إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (٣).

أي لا يخفى عليه منه شيء لأنه سبحانه لا يغيب عنه ما تطويه السرائر أو الضمائر.

__________________

(١) سورة ق ، الآية ٨.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٩٦.

(٣) سورة البقرة ، الآية ١١٠.

١٢

ومما يذكر بهذه الفضيلة القرآنية الاسلامية قوله عز شأنه في سورة الانعام :

«قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» (١).

من أبصر الحق والهدى ، فآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، فلنفسه أبصر ، ولسعادتها ما قدم من الخير وأخر ، ومن عمي عن الحق باعراضه وعدم النظر والاستبصار ، وأصر على ضلاله ، فعلى نفسه جنى ، وعمى البصائر أدهى من عمى الابصار ، وأسوأ عاقبة في هذه الدار وما بعدها من دار القرار.

ويقول الله سبحانه في سورة الاعراف :

«إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» (٢).

فاذا هم أهل بصيرة وعلم ، وتدبر وتفكر ، لا يقبلون لأنفسهم طاعة الشيطان ، ولا التأثر بوسوسته ، فهم يسارعون الى النظر والتبصر ، ويتيقظون لمداخل الشيطان الرجيم لينأوا عنها ويفروا منها ، أو يسدوها عليه.

والله العليم الحكيم يلفتنا الى أن تدبر القرآن العظيم هو خير ما يهدي الى التبصر والاستدلال على وجه الحق والخير ، فلا يلتبس عليه

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١٠٤.

(٢) سورة الاعراف ، الآية ٢٠١.

١٣

ايلة بفضيلة ، ولا شر بخير. يقول تعالى في سورة الاعراف مشيرا الى القرآن المجيد :

«هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (١).

هذا القرآن الحكيم الذي أوحاه الله تعالى حجج ناهضة واضحة من بكم ، تجعل الذي يتأملها ويعقلها ويتبصر فيها ، بصير العقل ، متألق لذهن ، فيهتدي إلى الطريق القويم ، لأن هذه الآيات تدل على الحق.

ويعود القرآن الكريم الى التحريض على فضيلة التبصر ، عن طريق ضرب الامثال الواعظة المعلمة ، فيقول في سورة فاطر :

«وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ» (٢).

قال أهل التفسير : هذا مثل ضربه الله سبحانه ، فالمؤمن بصير في دين الله ، متبصر لأمره ، وهذا الكافر أعمى يخبط خبط عشواء ، كما لا يستوي الظل ولا الحرور ، ولا الاحياء ولا الاموات ، فكذلك لا يستوي هذا المؤمن الذي يبصر دينه ، ولا هذا الاعمى ، كما في قوله تعالى :

«أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» (٣).

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ٢٠٣.

(٢) سورة فاطر ، الآية ١٩ ـ ٢٢.

(٣) سورة الانعام ، الآية ١٢٢.

١٤

فقد جعل المؤمن حيا متبصرا ، وجعل الكافر ميتا ضال القلب.

وقد أكد الله جل جلاله هذا المثل في سورة الانعام فقال :

«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ» (١).

والمعنى كما يقول أهل التفسير : قل يا أيها النبي لهؤلاء الضالين المشركين : هل يستوي أعمى البصيرة الضال عن الصراط المستقيم الذي أدعوكم اليه ، فلا يميز بين التوحيد والشرك ، ويتصرف بضلال وجهالة ، وصاحب البصيرة المهتدي الى الحق ، المستقيم في مسيرته عليه ، المتبصر في أموره على بينة وبرهان ، مما يجعل القلب يرى أوضح من رؤية العين ، فكما أن أعمى العينين وبصيرهما لا يستويان ، لا يستوي صاحب القلب الاعمى وصاحب القلب البصير.

وكم من رجل يكون أعمى العينين ، ولكن قلبه مبصر ، فهو به من أعلم العلماء وأهدى الفضلاء ، وكم من بصير العينين وبصره فيهما حديد ، ولكنه أعمى القلب فهو أضل من الانعام والبهائم ، ولذلك قال القرآن مقرعا لهم : «أفلا تتفكرون» : أفلا تتفكرون في ذلك فتميزوا بين ضلالة الشرك وهداية الاسلام ، وتعقل حجة الرسالة الاسلامية بما في هذا القرآن من أنواع الهداية والعرفان.

وقد تكررت دعوة أصحاب العقول النيرة والقلوب الحية الى التبصر والاعتبار ، فقال تبارك وتعالى في سورة آل عمران :

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (٢).

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ٥٠.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ١٣.

١٥

أي لأصحاب الابصار الصحيحة التي استخدمت فيما خلقت لأجله ، من التأمل في الامور بقصد الاستفادة منها ، وقيل ان الابصار هنا بمعنى البصائر والعقول ، ولذلك قيل ان المعنى في قوله تعالى في سورة الحشر :

«فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (١).

هو : اتعظوا يا أصحاب العقول والالباب.

والتبصر فضيلة تحلّى بها الانبياء ، وعلى رأسهم امامهم محمد ، عليه وعليهم الصلاة والسّلام ، فالله تعالى يقول له في سورة يوسف : «قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» : أي أدعو الى طريق ربي على معرفة وعلم ، وتحقق وتبصر.

والقرآن الكريم يذكر الانسان بأن تبصره لفائدته ومصلحته ، لأنه سيكون حجة على نفسه ، فاذا لم يثمر التبصر عنده استقامة وهداية انتهى الى شر المعاطب ، يقول القرآن في سورة القيامة :

«بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ» (٢).

وينفر القرآن تنفيرا رادعا من ترك التبصر في الامور والتدبر للاشياء ، فيقول في سورة الأعراف :

«وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ

__________________

(١) سورة الحشر ، الآية ٢.

(٢) سورة القيامة ، الآية ١٤.

١٦

أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» (١).

أي لقد خلقنا كثيرا من أهل النار لهم قلوب لا يعقلون بها شيئا ، ولهم أبصار لا يتبصرون بها ، وأسماع لا ينصتون بها ، وهم لا يتوجهون الى التأمل والتفكر فيما يشاهدون من آيات الله تبارك وتعالى ، وفيما يسمعون من آيات الله المنزلة على رسله ، ومن أخبار التاريخ الدالة على سنن الله عزوجل في خلقه ، ليهتدوا الى السعادة في الدنيا والآخرة ، نتيجة لتبصرهم وتدبرهم.

ويقول القرآن عن المشركين :

«وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» (٢).

أي ان الذين حرمهم الله تعالى نعمة التبصر في الامور يصيرون كالعميان لا ينتفعون بأبصارهم ، ولو أنهم تبصروا بقلوبهم وتعقلوا ببصائرهم ، لما ضرهم فقدان البصر ، وفي هذا المجال يوضح «تفسير المنار» المراد من النص الكريم بما صورته تقريبا : إن تدعوا أيها المؤمنون هؤلاء الضالين من المشركين ، الذين لم يعقلوا هذه الحجج والبراهين ، الى طريق الله ودينه وتوحيده ، لا يسمعوا دعاءكم بفهم أو اعتبار ، ولا يتحركون الى نظر أو استبصار ، وتراهم أيها النبي ، ينظرون اليك شاخصين ، دون أن يبصروا ما آتاك الله من سمت الجلال والوقار الذي يمتاز به صاحب البصيرة بين أهل الجد والصدق والحق ، والتاريخ يروي أن بعض ذوي الفطرة السليمة ينظر الى رسول الله عليه الصلاة والسّلام ، فيعرف من

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ١٧٩.

(٢) سورة الاعراف ، الآية ١٩٨.

١٧

شمائله وأخلاقه وسيماه في وجهه ، أنه صادق غير مخادع ، ويقول : والله ما هذا بوجه كاذب.

والعادة قد جرت بأن أهل البصيرة والتبصر يعرف بعضهم بعضا ، والحديث النبوي يقول : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف».

يقول التفسير : بهذه البصيرة النيرة عرفت السيدة خديجة فضلى عقائل قريش فضائل محمد بن عبد الله قبل بعثته ، فاستمالته وخطبته لنفسها ، مع غناها وفقره ، وقد رفضت من قبل كبراء من قريش خطبوها بعد وفاة زوجها الاول ، وكانت أول من صدق برسالته عند ما حدثها بنزول الوحي عليه ، وكذلك كان أبو بكر الصديق أول رجل استجاب لدعاء الرسول له الى الاسلام ، وذلك بحسن فراسته فيه ، فلم يتوقف ولم يتريث ، بل سارع الى اجابة الدعوة منشرح الصدر قرير العين لأنه كان أجدر الناس بمعرفة حقيقتها وحقيقة من دعا اليها.

وأوضح الامثلة على ذلك في عصرنا تعلق الامام محمد عبده بالسيد جمال الدين الافغاني ، من أول ليلة رآه فيها ، ولازمه الى أن خرج من هذه الديار ، فلم يعرفه حق المعرفة غير الاستاذ الامام ، مع كثرة المكبرين له والمعجبين به.

ونأتي الى الصوفية لنجدهم يتحدثون عن التبصر على طريقتهم الخاصة بهم ، فيتعرض القشيري في «لطائف الاشارات» لقول الله تبارك وتعالى :

«وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» (١).

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ١٩٨.

١٨

فيقول تفسيرا للنص الالهي الكريم على طريقته : «شاهدوه بأبصارهم ، لكنهم حجبوا عن رؤيته ببصائر أسرارهم وقلوبهم ، فلم يعتد برؤيتهم. ويقال : رؤية الاكابر ليست بشهود أشخاصهم ، لكنه بما يحصل للقلوب من مكاشفات الغيب ، وذلك على مقادير الاحترام وحصول الايمان».

ويتعرض لقوله جل ذكره :

«إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» (١).

بقوله : «انما يمس المتقين طيف الشيطان في ساعات غفلتهم عن ذكر الله ، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسهم طائف الشيطان ، فان الشيطان لا يقرب قلبا في حال شهوده الله ، لأنه ينخنس عند ذلك. ولكن لكل صارم نبوة ، ولكل عالم هفوة ، ولكل عابد شدة ، ولكل قاصد فترة ، ولكل سائر وقفة ، ولكل عارف حجبة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انه ليغان على قلبي فاستغفر الله وأتوب اليه في اليوم مائة مرة». أخبر أنه يعتريه ما يعتري غيره. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحدة تعتري خيار أمتي» فأخبر أن خيار الامة ـ وان جلّت رتبتهم ـ لا يتخلصون من حدة تعتريهم في بعض أحوالهم ، فتخرجهم عن دوام الحلم».

وحينما تعرض الصوفية على طريقتهم لقوله تعالى في سورة آل عمران :

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (٢).

__________________

(١) سورة الاعراف ، الآية ٢٠١.

(٢) سورة آل عمران ، الآية ١٣.

١٩

قالوا : اذا أصابت الغشاوة بصيرة قوم لم تنفعهم قوة أبصارهم ، واذا فتح أسرار آخرين لم يضرهم فقدان أبصارهم.

وحينما تعرضوا لقول الله تعالى في سورة الانعام :

«قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» (١).

قالوا : أوضح الله البيان وألاح الدليل ، وأزاح العلل ، وأنار السبيل ، ولكن قيل :

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره

اذا استوت عنده الأنوار والظلم

فلنسأل الله جل جلاله أن يحفظنا من الغفلة ، وأن يرزقنا نعمة الاعتبار وأن يجملنا بفضيلة التبصر والاستبصار ، انه المنعم الوهاب.

* * *

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ١٠٤.

٢٠