موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ٥

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٢١

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله تبارك وتعالى ، وأصلي وأسلم على جميع أنبيائه ورسله ، وعلى خاتمهم سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، واتباعه واحبابه ، ومن دعا بدعوته باحسان الى يوم الدين ، واستفتح بالذي هو خير :

«رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا ، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».

٥
٦

«لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ، وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ».

سورة البقرة

٧
٨

تصدير

هذا هو الجزء الخامس من موسوعة «أخلاق القرآن». وهأنذا أعود مرة أخرى الى رفع يديّ الى السماء قبلة الدعاء ، خاشعا أمام جلال ربي وعظمته ، وفضله ورحمته ، حامدا ربي خير حمد على ما وهب واعطى ، ووفّق وهدى ، طامعا مرة أخرى في عطائه وكرمه ، كي يثبت قدميّ على الطريق ، ويواصل عليّ نعمته ، حتى أظل متابعا السير في طريق التشرف بخدمة القرآن المجيد ، متخذا اياه سميري ونصيري ، وظهيري وأميري.

وفي بصري وبصيرتي قول ربي جل جلاله :

«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً».

ويقول عز شأنه :

«لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».

٩

اللهم ارزقنا نعمة التدبر في كتابك ، والترتيل لآياتك ، والتفكر في ملكوتك ، والاستجابة لاحكامك ، والاستعاذة بك من كل وهم أو خاطر يصرفنا عنك ، فأنت نعم الملجأ وخير مستعان.

وعلى الله قصد السبيل ...

د. احمد الشرباصي

١٠

تطلب الأسوة

الأسوة ـ مثل القدوة ـ : ما يؤنس به ، أي يقتدى به. والاقتداء هو السير على سنن من يتخذ قدوة ، أي مثالا يتبع ، وائتسى فلان بفلان ـ كاقتدى ـ حذا حذوه ، أو نهج نهجه ، في قول أو عمل أو عقيدة.

وتطلب الأسوة هو الحرص على أن يكون أمام الانسان مثل يحتذيه ، أو قدوة يتشبه بها ، مع استشعار الانسان روح التأسي الحميد في أعماله وأحواله ، وهذه الصفة الطيبة خلق من أخلاق القرآن الكريم ، وفضيلة من فضائل الاسلام العظيم.

ولا شك أن القرآن العظيم هو أكمل أسوة وأفضل قدوة ، ولذلك يقول الحق جل جلاله في سورة الاسراء :

«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (١).

ويقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه : «ان أحسن الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». ومعنى هذا أن المسلم يجب عليه أولا أن يطلب الهدى من الله ، في كتاب الله ،

__________________

(١) سورة الاسراء ، الآية ٩.

١١

فان وجد الحكم أو الرأي لم يتجه الى سواه ، وان لم يجد طلبته اتجه الى سنة رسول الله ، ولذلك يقول بعض السلف : كانت الائمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يستشيرون الامناء من أهل العلم في الامور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فاذا وضح الكتاب والسنة ، لم يتعدوه الى غيره ، اقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والقرآن المجيد يقول في سورة الاحزاب عن المثل الاعلى في القدوة والاسوة أمام المسلم ، وهو الرسول صلوات الله وسلامه عليه :

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً» (١).

انه ـ كما يذكر القشيري ـ امامكم ، وقدوتكم ، ويجب عليكم متابعته فيما يرسمه لكم. ويعلق الامام ابن كثير على الآية الكريمة ، مبينا أنها أصل كبير في التأسي برسول الله عليه الصلاة والسّلام ، فيقول :

«هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في أقواله وأفعاله وأحواله ، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوم الاحزاب ، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته ، وانتظار الفرج من ربه عزوجل ، صلوات الله وسلامه عليه ، دائما الى يوم الدين.

ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا ، وتزلزلوا واضطربوا من أمرهم يوم الاحزاب :

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ».

__________________

(١) سورة الاحزاب ، الآية ٢١.

١٢

أي : هلا اقتديتم به ، وتأسيتم بشمائله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولهذا قال تعالى :

«لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً».

وانما كان الرسول أسوة حسنة لأنه الكامل في صفاته وأخلاقه ، وحسبه شهادة الله تعالى فيه ، وهي فوق كل شهادة ، وهي قول الله له :

«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (١).

والرسول هو القائل : «انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق».

والله عز شأنه هو الذي يأمر بالاقتداء بالرسول ، والائتساء بهديه ، والاتباع لسنته ، واتخاذه أسوة ومثلا ، ويؤكد ذلك في القرآن أكثر من مرة فيقول :

«وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (٢).

ويقول :

«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ» (٣).

ويقول :

«فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (٤).

__________________

(١) سورة القلم ، الآية ٤.

(٢) سورة الحشر ، الآية ٧.

(٣) سورة آل عمران ، الآية ٣١.

(٤) سورة النساء ، الآية ٦٥.

١٣

ويؤكد الرسول ذلك فيقول : كل أمتي يدخلون الجنة الا من أبى.

قالوا : يا رسول الله ، ومن يأبى؟

قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى.

والانسان العاقل لا يقبل لنفسه ، ولا يرتضي لذاته ، أن يسير في الحياة كيفما اتفق ، يخطىء مرة ، ويصيب مرة ، دون رائد أو مرشد ، بل ان العقل الحكيم يدعو صاحبه الى أن يتخذ لنفسه قدوة ومثلا ، فينتفع بتجارب من تقدمه أو سبقه ، ولا يتأبى على التقليد في الخير ، والمتابعة في الرشد ، ولذلك قال الحكيم :

فتشبهوا ان لم تكونوا مثلهم

ان التشبه بالرجال فلاح

وكلما كان الرائد أعلم وأقوم وأحكم فاز المتطلب للاسوة الرشيدة بخير أعظم وثمر أكبر ، ورسول الله عليه الصلاة والسّلام هو أفضل أسوة وأكمل قدوة. ولقد عقد الطوسي في كتابه «اللمع» فصلا جعل عنوانه : «الاسوة والاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيه يقول :

«أمر الله عزوجل الخلق كافة بطاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما أمرهم بطاعته ، لقوله عزوجل :

«وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ».

وقوله :

«مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ» (١).

وأمرهم بالقبول منه ، بقوله عزوجل :

«وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ» (٢).

وأمرهم بالانتهاء عما نهى عنه بقوله جل وعلا :

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٨٠.

(٢) سورة الحشر ، الآية ٧.

١٤

«وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (١).

ودلهم على الاهتداء باتباعه بقوله تعالى :

«وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (٢).

ووعدهم الهداية بطاعته بقوله عزوجل : «وان تطيعوه تهتدوا».

وحذرهم الفتنة والعذاب الاليم ان خالفوا أمره ، فقال عزوجل :

«فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».

ثم عرفنا الله تعالى أن محبة الله للمؤمنين ، ومحبة المحبين لله في اتباع رسوله ، بقوله عزوجل :

«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ».

ثم ندب الله المؤمنين الى الاسوة الحسنة برسوله عليه الصلاة والسّلام ، فقال :

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ».

ثم يعود الطوسي فيقول :

«فأما الخاصة من هؤلاء الخاصة : لما أحكموا الاصول ، وحفظوا الحدود ، وتمسكوا بهذه السنن ، ولم يبق عليهم من ذلك بقية. استبحثوا أخبار رسول الله عليه الصلاة والسّلام ، التي وردت في أنواع الطاعات ، والآداب والعبادات ، والاخلاق الشريفة ، والاحوال الرصينة ، وطالبوا أنفسهم بمتابعة رسول الله عليه الصلاة والسّلام ، والاسوة به ، واقتفاء أثره فيما بلغهم من آدابه وأخلاقه ، وأفعاله وأحواله ، فعظّموا ما عظّم ، وصغروا ما صغر ، وقلّلوا ما قلل ، وكثّروا ما كثر ، وكرهوا ما كره ،

__________________

(١) سورة الحشر ، الآية ٧.

(٢) سورة الاعراف ، الآية ١٥٨.

١٥

واختاروا ما اختار ، وتركوا ما ترك ، وصبروا ما صبر ، وعادوا من عادى ، ووالوا من والى ، وفضلوا من فضل ، ورغبوا فيما رغب ، وحذروا ما حذر ، لأن عائشة رضي الله عنها ، سئلت عن خلق رسول الله عليه الصلاة والسّلام ، فقالت : كان خلقه القرآن. تعني موافقة القرآن.

وروي عن النبي عليه الصلاة والسّلام أنه قال : بعثت بمكارم الاخلاق».

* * *

واذا كان الامام ابن القيم يقول : ان العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصة خلقه ، فان هذا القول من هذا الامام ينبغي له أن يذكرنا بأسوة حسنة لها مكانتها وقيمتها ، وتتمثل هذه الاسوة في أبي الانبياء وخليل الرحمن ابراهيم عليه‌السلام ـ جد نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفي هذه الاسوة يقول كتاب الله المجيد ، في سورة الممتحنة :

«قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ» (١).

فقد أرشد الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين الى التأسي بابراهيم عليه‌السلام ، ومن آمن معه ، وجعلهم قدوة لهم في سيرتهم التي كانت من هداية الله تعالى لهم.

وابراهيم هو داعية التوحيد الاول ، وصاحب الحنيفية السمحة ، ومقاوم الشرك والوثنية في الزمن القديم ، ففيه تتجلى الاسوة ، وتتألق القدوة ، التي تنير الطريق للسائر ، في الثبات على العقيدة ، والاستقامة في الطريقة ، وتقديم حق الله على من عداه ، وابراهيم هو جد محمد ، وهذه السلالة المؤمنة الطاهرة التي تناسلت من ذرية إبراهيم ، وعرفت الطريق الى ربها ، والتزمت النهج الذي سار عليه رائدها وقائدها ابراهيم ، والذي

__________________

(١) سورة الممتحنة ، الآية ٤.

١٦

خلفه في التزامه والسير عليه حفيده العظيم محمد عليه الصلاة والسّلام ، قد تطلبت لها الاسوة والقدوة من ابراهيم ومحمد ، وهكذا ـ كما يعبر صاحب ظلال القرآن ـ «ينظر المسلم فاذا له نسب عريق ، وماض طويل ، وأسوة ممتدة على آماد الزمن ، واذا هو راجع الى ابراهيم ، لا في عقيدته فحسب ، بل في تجاربه التي عاناها كذلك ، فيشعر أن له رصيدا من التجارب أكبر من رصيده الشخصي ، وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه.

ان هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمن من المؤمنين بدين الله ، الواقفين تحت راية الله ، قد مرت بمثل ما يمر به ، وقد انتهت في تجربتها الى قراز اتخذته ، فليس الامر جديدا ولا مبتدعا ، ولا تكليفا يشق على المؤمنين ، ثم ان له لأمة طويلة عريضة ، يلتقي معها في العقيدة ويرجع اليها ، اذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته ، فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور ، كثيرة الفروع ، وارفة الظلال ... الشجرة التي غرسها أول المسلمين : ابراهيم.

مر ابراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون.

وفيهم أسوة حسنة :

«إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ : إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، كَفَرْنا بِكُمْ ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً ، حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ» (١).

ثم يضيف : «وفي نهاية هذا العرض لموقف ابراهيم والذين معه ،

__________________

(١) سورة الممتحنة ، الآية ٤.

١٧

وفي استسلام ابراهيم وانابته ، يعود فيقرر الاسوة ويكررها ، مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين :

«لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (١).

فالاسوة في ابراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، هؤلاء الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم ، ويجدون فيها أسوة تتبع ، وسابقة تهدى ، فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة ، وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين.

فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج ، من يريد أن يحيد عن طريق القافلة ، من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق ، فما بالله من حاجة اليه سبحانه :

«فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ».

وقد كرر القرآن ذكر الاسوة في ابراهيم للتأكيد ، والمراد بالذين معه قد يكون الانبياء ، أو أصحابه المؤمنين ، أو اتباعه الذين آمنوا ، وكلهم خيار ، فيهم قدوة طيبة في التبرؤ من الكفر والاشراك.

وفي سورة الانعام يذكر الحق تبارك وتعالى طائفة من الانبياء والمرسلين ، ثم يقول عنهم :

«أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ،

__________________

(١) سورة الممتحنة ، الآية ٦.

١٨

قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ» (١).

والمعنى ـ كما في تفسير المنار ـ أن أولئك الانبياء هم الذين هداهم الله الهداية الكاملة ، فبهداهم دون غيره ، اقتد أيها الرسول ، فيما يتناوله كسبك وعملك ، مما بعثتك به : من تبليغ الدعوة ، واقامة الحجة ، والصبر على التكذيب والجحود ، وعلى ايذاء أهل العناد والجحود ، ومقلدة الآباء والجدود ، واعطاء كل حال حقها من مكارم الاخلاق وأحاسن الاعمال ، كالصبر والشكر ، والشجاعة والحلم ، والايثار والزهد ، والسخاء والبذل ، والحكم بالعدل ...

... وانما أمره الله أن يقتدي بهداهم الذي هداهم اليه في سيرتهم ، سواء ما كان منه مشتركا بينهم ، وما امتاز به في الكمال بعضهم ، كما امتاز نوح وابراهيم وآل داود بالشكر ، ويوسف وأيوب واسماعيل بالصبر ، وزكريا ويحيى وعيسى والياس بالقناعة والزهد ، وموسى وهارون بالشجاعة وشدة العزيمة في النهوض بالحق ، فالله تعالى قد هدى كلّ نبي ، ورفعه درجات في الكمال ، وجعل درجات بعضهم فوق بعض ، ثم أوحى الى خاتم رسله خلاصة سير أشهرهم وأفضلهم ، وهم المذكورون في القرآن الكريم ، وأمره أن يقتدي بهم في هداهم ، وهذه هي الحكمة العليا لذكر قصصهم في كتاب الله تعالى ، وقد قرر الحق جل جلاله أن القرآن المجيد قد جاء بالحق وصدق المرسلين ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن بدعا من الرسل ، فعلمنا من هذا أنه عليه الصلاة والسّلام كان مهتديا بهداهم كلهم ، وبهذا كانت فضائله ومناقبه الكسبية أعلى من جميع مناقبهم وفضائلهم ، لأنه اهتدى بها كلها ، فاجتمع له من الكمال ما كان متفرقا فيهم ، الى ما هو خاص به دونهم ، ولذلك شهد الله

__________________

(١) سورة الانعام ، الآية ٨٩ و ٩٠.

١٩

تعالى له بما لم يشهد به لأحد منهم ، فقال له :

«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (١).

وأما فضائله وخصائصه الوهبية ، فأمر تفضيله عليهم فيها أوضح وأظهر ، وأعظمها عموم بعثته وختم النبوات والرسالات به ، وكمال الاشياء في خواتيمها ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ويرى الرازي المفسر أن موضع الاقتداء والتأسي في الآية السابقة فيه أكثر من قول :

أ ـ يقتدى بهم في القول بالتوحيد والتنزيه لله عن كل ما لا يليق بجماله وجلاله وكماله.

ب ـ يقتدى بهم في جميع الاخلاق الحميدة والصفات الرفيعة.

ج ـ يقتدى بهم في شرائعهم ، الا ما نسخه الله منها.

ويجوز أن يكون الامور كل هذه الامور.

* * *

واذا انتقلنا من روضة القدوة السامية المتمثلة في أنبياء الله ورسله ، وبخاصة زعيمهم محمد عليه الصلاة والسّلام ، نجد القدوة والاسوة تتجلى وراء ذلك في صحابة رسول الله وخلفائه والصالحين من السلف الكريم ، ومن أمثلة ذلك ان عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليه أراد أن يقسّم الاموال في مصالح المسلمين ، فقال : هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء الا قسمتها بين المسلمين.

__________________

(١) سورة القلم ، الآية ٤.

٢٠