موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

الدكتور أحمد الشرباصي

موسوعة أخلاق القرآن - ج ١

المؤلف:

الدكتور أحمد الشرباصي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الرائد العربي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٦٢

العفة

العفة ـ كما عرّفها الأصفهاني في مفردات القرآن ـ هي حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة عليها ، والعفة والعفاف بمعنى واحد ، وأصل مادة «العفة» يدل على أمرين : أحدهما الكفّ عن القبيح ، ولذلك قيل : إن العفة هي الكف عما لا ينبغي ، والآخر قلة الشيء ، وذلك مأخوذ من العفّة والعفافة ـ بضم العين فيهما ـ وهي بقية اللبن في الضرع ؛ أو البقية من الشيء. وتطلق العفة أيضا على الابتعاد عما لا يحل ولا يجمل ، ولذلك قيل : عفّ الرجل عن الحرام ، والعفيفة هي المرأة الخيّرة ، والتي تصون عرضها وشرفها.

والتعفف هو الاقتصار على أخذ الشيء القليل ، وهو أيضا طلب العفاف ، والمتعفف هو الذي يحاول الاتصاف بالعفة عن طريق الممارسة وقوة الإرادة. وكذلك يقال للشخص التارك للسؤال إنه متعفف ، والاستعفاف كالتعفف.

وقد وردت مادة «العفة» في أربعة مواطن من القرآن الكريم ، الأول في سورة النساء في قوله تعالى :

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ).

والثاني والثالث في سورة النور في قوله :

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً).

وقوله :

(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ).

والرابع في سورة البقرة في قوله :

اخلاق القرآن ـ (١)

١

(يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ).

ومن أهم ما يتعفف عنه الإنسان الفاضل شهوة الفرج إذا كانت خارجة عن نطاق ما أحلّه الله عزوجل ، لأن الاستجابة لهذه الشهوة فيها من الآفات ما يهلك الدين والدنيا ، إذا لم يضبطها صاحبها بضوابط الدين والعقل ، والمحمود في هذه الشهوة كما يقول حجة الإسلام الغزالي هو «أن تكون معتدلة ، ومطيعة للعقل والشرع في انقباضها وانبساطها» ولقد جرى العرف على استعمال كلمة «العفة» فيما يشير إلى صيانة الإنسان شهوته الجنسية عن الحرام والرذيلة ، وهذا العرف يدل على أن العفة هنا ذات مكانة جليلة ، حتى كأنها كل العفة.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه العفة في قوله :

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

أي فليلجأ إلى العفة أولئك الذين لا يجدون وسائل القدرة على الزواج ، حتى يهبهم الله تعالى من فضله ورزقه ما يقدرون به على تبعات الزواج ولوازمه ، وطلب العفة هنا يكون بضبط النفس وحفظ الحواس عن الاستجابة للشهوات ، وعدم الخوض فيما يثير هذه الشهوات من أحاديث أو عوامل أخرى ، وأن يعالج الإنسان نفسه بمثل الصوم ، أو العبادة ، أو العمل.

وعاد القرآن الكريم إلى الحديث عن هذا اللون من العفة ، فقال في صفة المؤمنين : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ).

وأعطانا كتاب الله عزوجل أروع صورة للعفة الجنسية في قصة يوسف عليه‌السلام مع امرأة العزيز ، حيث يقول عنهما :

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

وحيث قال عنه :

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ

٢

أَصْبُ إِلَيْهِنَ (١) وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ، فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وجاء أدب النبوة الممتع فقص علينا قصة أصحاب الصخرة التي سدت عليهم باب الغار ، فجعل كلّ منهم يدعو بعمل صالح ، حتى يزيل الله عنهم الكرب وينقذهم ، وقال الثاني منهم في دعائه : اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحبّ الناس إلي ، فراودتها عن نفسها فامتنعت مني ، حتى ألمت بها سنة من السنين ـ أي شدة من الشدائد ـ فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين دينارا ، على أن تخلّي بيني وبين نفسها ففعلت ، حتى إذا قدرت عليها ، قالت : اتق الله ، ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فتحرجت من الوقوع عليها ، فانصرفت عنها وهي من أحبّ الناس إليّ ، وتركت الذهب الذي أعطيتها ، اللهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك ، ففرّج عنا ما نحن فيه ..». الحديث رواه البخاري.

وكذلك روى أبو بكر بن عبد الله المزني ان قصّابا هام بفتاة لبعض جيرانه ، وبادلته الفتاة حبا بحب ، ولكنها كانت عفيفة شريفة ، فتبعها ذات يوم وهي على خلوة من الطريق ، وراودها عن نفسها ، فقالت له : لا تفعل فإني أشد حبا لك منك لي ، ولكني أخاف الله. فارتدع وقال : أنت تخافينه وأنا لا أخافه؟. ثم رجع تائبا ، فاستجاب الله دعاءه.

ومما رواه السلف أن شابا عابدا كان بالكوفة ، فتعرضت له امرأة في الطريق ، وقالت له : يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها. فقال لها : هذا موقف تهمة ، وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعا ، فقالت له : والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك ، ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني ، والذي حملني على أن لقيتك في مثل هذا الأمر بنفسي معرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير ، وأنتم معاشر العبّاد على مثال القوارير ، أدنى شيء يعيبها ، وجملة ما أقوله لك : إن جوارحي كلها مشغولة بك ، فالله الله في أمري وأمرك.

__________________

(١) أصب اليهن : أمل الى أجابتهن.

٣

ومضى الشاب في طريقه ثم كتب إليها يقول : «بسم الله الرحمن الرحيم ، اعلمي أيتها المرأة أن الله عزوجل إذا عصاه العبد حلم ، فإذا عاد الى المعصية مرة أخرى ستره ، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق منها السموات والأرض والجبال والشجر والدواب ، فمن ذا يطيق غضبه؟ فإن كان ما ذكرت باطلا فإني أذكّرك يوما تكون السماء فيه كالمهل (١) ، وتصير الجبال كالعهن ، وتجثو الأمم لصولة الجبار العظيم ، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي ، فكيف بإصلاح غيري؟. وإن كان ما ذكرته حقا فأنا أدلك على طبيب هدى ، يداوي الكلوم (٢) الممرضة والأوجاع المرمضة ، ذلك هو الله رب العالمين ، فاقصديه بصدق المسألة ، فإني مشغول عنك بقوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ (٣) إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) فأين المهرب من هذه الآية؟».

وبعد أيام تعرضت له فأراد الرجوع من الطريق فقالت له : يا فتى ، لا ترجع ، فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبدا إلا غدا بين يدي الله تعالى ، ثم بكت وقالت : اسأل الله الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك ، وامنن علي بموعظة أحملها عنك ، وأوصني بوصية أعمل بها. فقال لها : أوصيك بحفظ نفسك من نفسك وأذكّرك قول الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ).

وطالب القرآن المؤمنين بالتعفف في النظر بغض البصر ، فقال في سورة النور : «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ

__________________

(١) المهل : الفضة المذابة ، أو دردى الزيت. والعهن : الصوف المصبوغ. وتجثو : تركع وتخشع.

(٢) الكلوم : جمع كلم ـ بفتح فسكون ـ وهو الجرح.

(٣) يوم الآزفة : يوم القيامة. وكاظمين : يمسكون غمهم وكربهم.

٤

فُرُوجَهُنَّ).

وكما طالب القرآن بالعفة في النظر طالب بالتعفف عن التبرج وإبداء الزينة المثيرة أو العورة التي يجب سترها ، فقال في سورة النور : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). أي أن العجائز اللاتي يغلب عليهن البقاء في البيوت والقعود فيها ، ولا يطمعن في الزواج لكبر سنهن ، ويأسهن من تطلع الرجال إليهن ، لا حرج عليهن في وضع بعض ثيابهن الخارجية ، مع الابتعاد عن التبرج وكشف العورات ، ومهما يكن الأمر فالاستعفاف بالاحتياط والتستر خير لهن ، فقد يساء استغلال وضعهن بعض ثيابهن ، والله مطلع على خفايا النوايا ، وخبايا الصدور ، لأنه سميع عليم.

وقد أكد القرآن هذا المعنى حين قال في سورة النور عن النساء : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ (١) مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ، وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وفي سورة الأحزاب يقول الله تعالى :

(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى).

وأشار القرآن الكريم الى العفة في شأن المال ، والأساس فيها أن لا يأخذ الإنسان إلا ما كان حقّا حلالا له ، وأن يصون يده عن أن تتناول شيئا من مصدر حرام أو فيه شبهة ، لأن كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به.

وفي سورة النساء جاء قول الله تعالى :

__________________

(١) أصحاب الرغبة والحاجة الى النساء.

٥

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ).

وقد ورد هذا النص في مقام الحديث عن اليتيم ورعاية ماله ، ومعناه أن من كان منكم غنيا متوليا لأمر يتيم ، فليعف عن الأكل من مال اليتيم ، وليطالب نفسه بذلك ، ويحملها على العفة في هذا المجال.

ويشير القرآن الى التعفف عن سؤال الغير عند الاحتياج فيقول في سورة البقرة : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ (١) يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

أي اجعلوا ما تنفقونه وتتصدقون به للفقراء الذين حوصروا في الجهاد ، ولا يتمكنون من التكسب ، ويراهم من يجهل حالهم ، فلا يعرف أنهم محتاجون لأنهم يعفون أنفسهم عن ذل السؤال ، ولكن لو دققت النظر في أمرهم لعرفت دلائل تدل على احتياجهم ، وهم لا يلحون في السؤال ، فهم أولى من غيرهم بالإعطاء.

ولقد رمز القرآن الكريم إلى العفة في القول ، بترك الألفاظ النابية ، والابتعاد عن أحاديث المجون والفجور ، حين قال عن عباد الله الأخيار :

(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ، وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ).

وحين قال :

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

وهكذا أراد الله تبارك وتعالى من عباده أن يتحلّوا بالعفة في كل مجال من مجالات الحياة ، فيعفوا في مجال الشهوة ، ويعفوا عن الحرام ، ويعفوا عن النظر الجامح ، ويعفوا عن التبرج الفاضح ، ويعفوا عن القول الجارح ، ويعفوا عن كل ما لا يجمل ولا يليق.

ولقد جاء في سنة الرسول عليه الصلاة والسّلام : «من يستعفف يعفه الله»

__________________

(١) أي سيرا فيها للاكتساب.

٦

أي من طلب العفة وحاولها أعطاه الله إياها ، ولقد كان من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «اللهم إني أسألك العفاف والغنى».

وقد تردد ذكر العفة والتعفف في تراثنا الأدبي ، فقال عمرو بن الأهتم :

انا بنو منقر قوم ذوو حسب

فينا سراة بني سعد وناديها

جرثومة أنف يعتفّ مقترها (١)

عن الخبيث ، ويعطي الخير مثريها

والشاهد في قوله : «جرثومة أنف يعتف مقترها» أي أن قبيلته قبيلة أصيلة ، يأنف أبناؤها من العمل القبيح ، وفقيرها يعف عما لا يليق به.

وكذلك يقول بشار بن بشر :

وإني لعفّ عن فكاهة جارتي

وإني لمشنوء إليّ اغتيابها

إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها

زؤورا ، ولم تأنس إليّ كلابها

ولم أك طلّابا أحاديث سرّها

ولا عالما من أي حوك ثيابها

هذا ، وإذا كانت العفة خلقا من أخلاق القرآن ، وصفة من صفات أهل الإيمان ، فما أجدر أتباع محمد عليه الصلاة والسّلام بأن يحرصوا عليها ، ويتصفوا بها ، ليكونوا صادقين في اتّباعهم رسولهم الذي وصفته عائشة رضي الله عنها بقولها «كان خلقه القرآن».

__________________

(١) الجرثومة : الاصل. والانف ـ بضم الهمزة والنون ـ : السادة المترفعون. ويعتف : يتعفف. والمقتر : البخيل

٧

المراقبة

مادة «المراقبة» في لغة العرب تدل على الانصراف إلى مراعاة شيء ، وكذلك تدل على ملاحظة الرقيب ، فمن احترز من أمر من الأمور بسبب غيره يقال عنه إنه يراقب فلانا ويراعي جانبه ، فالمراقبة فيها معنى المراعاة والحفظ ، وفيها كذلك معنى الانتظار ، يقال : رقب فلان الموعد ، أي انتظره. وفي القرآن آيات تشير إلى هذا المعنى ، ففي سورة القمر : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي انتظر وتوقع ما يحصل لهم ، وفي سورة القصص (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي يترصد الأخبار ، أو يتوقع المكروه ؛ وفي السورة نفسها : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) أي يتوقع لحوق الطالبين به. وفي سورة الدخان : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ). وفيها أيضا : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ). وفي سورة هود : (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ).

ومن الآيات القرآنية التي تشير إلى معنى الحفظ والمراعاة في مادة «المراقبة» قوله تعالى في سورة التوبة : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي ان يظفروا بكم لا يحفظوكم ولا يراعوا قرابة ولا عهدا. وكذلك جاء في السورة نفسها : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ).

ومن أسماء الله تعالى «الرقيب» لأنه رقيب لعباده ؛ حفيظ عليهم ويعلم

٨

أحوالهم ، ويعدّ أنفاسهم ، كما قال القشيري في كتابه «التحبير في التذكير». ويقول ابن الأثير إن الله هو الرقيب لأنه الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء ، وقد جاء وصف الله تعالى باسم الرقيب في أكثر من آية ، ففي سورة المائدة على لسان عيسى : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ). وفي سورة النساء : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً). وفي سورة الأحزاب : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً).

والمراقبة بالمعنى الأخلاقي هي ملاحظة الإنسان نفسه في أعمالها وأقوالها ، وتحركاتها وخطراتها ، ليقيمها على الصراط السويّ ، لأن إهمال ملاحظة النفس يؤدي بها الى الطغيان والفساد. ويرى الصوفية أن المراقبة هي حالة للقلب يثمرها نوع من المعرفة ، وهذه الحالة تثمر أعمالا في الجوارح وفي القلب ، والمعرفة هنا هي العلم بأن الله محيط بكل شيء ، وأنه عليم بكل شيء ، وأنه مطلع على الضمائر ، رقيب على السرائر ، قائم على كل نفس بما كسبت. ومتى سيطرت تلك المعرفة على القلب جعلته مراعيا لله جل جلاله ، ملاحظا إياه ، منصرفا إليه. ولذلك يقول ابن القيم : «المراقبة دوام علم العبد باطلاع الحقّ سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه ، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة ، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب ، ناظر إليه ، سامع لقوله ، وهو مطلع على عمله كلّ وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين». ويقول القشيري عن المراقبة في مفهوم الصوفية : «فالمراقبة عند أهل هذه الطائفة أن يصير الغالب على العبد ذكره بقلبه أن الله مطلع عليه على الدوام ، فيخاف سطوات عقوبته في كل نفس ، ويهابه في كل وقت».

ومن هذا نفهم أن فضيلة «المراقبة» صفة تنبع من أعماق القلب ، وتنبثق من طوايا النفس ، وترتبط بالباطن اكثر مما ترتبط بالظاهر ، فهي قائمة على الشعور الحيّ العميق بجلال الله وسلطانه ، ولقد قال عبد الله بن المبارك لرجل : راقب الله تعالى ؛ فسأله عن معنى ذلك ، فقال له : كن أبدا كأنك ترى الله. والمرء لا يرى الله بباصرة ولا بجارحة ولا بحاسة ، وإنما يرى جلاله بقلبه

٩

وشعوره ووجدانه.

وفي كتاب الله المجيد آيات تشير إلى هذه المراقبة ، وتدعو إليها وتأمر بها وإن لم تصرح بمادتها ، فيقول القرآن الكريم : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) .. ويقول : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ). ويقول (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى). ويقول (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) ويقول : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟. والمراقبة لله تعالى تنشأ عن خشية جلاله ، وعميق الشعور بسلطانه ، ولذلك سئل بعض العارفين عن معنى قوله عز من قائل : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) ، فأجاب : «معناه : ذلك لمن راقب ربّه عزوجل ، وحاسب نفسه وتزود لمعاده». وقال محمد بن علي الترمذي : «اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك ، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك ، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه ، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه».

وإنما يتحلى بفضيلة المراقبة خيار العباد من العقلاء ، وصفوة الناس من الأتقياء ، وأرباب البصائر الذين يعلمون ـ كما يعبّر الغزالي ـ أن الله تعالى لهم بالمرصاد ، وأنهم سيناقشون في الحساب ، ويطالبون بمثاقيل الذرّ من الخطرات واللحظات (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) أولئك الذين تحققوا ـ كما قال أيضا ـ أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار الا لزوم المحاسبة ، وصدق المراقبة ، ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات ، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره خفّ يوم القيامة حسابه وحضر له عند السؤال جوابه ، وحسن منقلبه ومآبه ، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته ، وطالت في ساحات القيامة وقفاته ، وقادته إلى العقاب سيئاته.

وصفة المراقبة لا تتجلى في صاحبها بقوتها ومكانتها في يوم وليلة ، بل هي تنبثق وتنمو ، وتزهر وتعلو ، وتشرف وتسمو ، بطول المجاهدة وتكرار

١٠

المحاولة ، وقوة العزيمة في حمل النفس على ما ينبغي لها ويليق بها من تطهير وتصفية وتعلية ؛ ولذلك يقرر بعض المربين الإسلاميين أن أول المراقبة هو علم القلب بقرب الله سبحانه ، والقرآن الكريم يقول : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). وهذا القرب يستوجب اشتغال العبد بمن قرب منه وأحاط به وهيمن عليه ، وإذا كان هناك أناس من الأقارب أو الأباعد ، يدنون من الإنسان أو يتصلون به ، فهؤلاء لا يعلمون إلا الظاهر من أمره ، ولا يستطيعون أن يستبطنوا في طواياه وحناياه ، فللناس الظواهر ، والله يتولى السرائر ، وكذلك كان من هدى الصوفية في تقويم سلوك الإنسان ، وربطه بحبل المراقبة ، أن يقولوا له مثلا : إذا جلست للناس فكن واعظا لنفسك وقلبك ، ولا يغرنك اجتماعهم عليك ، فإنهم يراقبون ظاهرك ، والله رقيب على باطنك.

ومما يقوي جانب المراقبة في صدر الإنسان ويدعم كيانها أن يترطب لسانه على قدر طاقته بذكر أسماء الله الحسنى التي تحيي فيه عناصر هذه المراقبة ، كهذه الأسماء الكريمة : «الرقيب ، الحفيظ ، العليم ، السميع ، البصير» ، وأن يطيل التفكير فيها والتدبر لها ، والتأثر بها ، والاستجابة لموحياتها وتوجيهاتها ، فمن عقل معاني هذه الأسماء وتعبّد بمقتضاها ، بسقت في صدره شجرة المراقبة.

كما تقتضي المراقبة أمورا منها :

١ ـ الاقبال على الله تعالى حسّا ونفسا.

٢ ـ الدوام على هذا الاقبال حتى لا يكون هناك انقطاع يتخلله ، او فترة تعرض له

٣ ـ أن يكون عماد الاقبال هو حضور القلب ويقظته المستمرة.

٤ ـ تعظيم الخالق تعظيما منبعثا من الشعور بجلاله وكماله وجماله.

٥ ـ امتلاء القلب بهذا التعظيم حتى لا يلتفت الانسان إلى سواه.

وكذلك تقتضي المراقبة من صاحبها أنه إذا همّ بأن يعمل عملا يتأكد أولا من الدافع الذي يدفعه الى هذا العمل : أيعمله لوجه الله ، أم يعمله لشهوته وهواه؟

١١

ثم يتأكد من وجه أدائه ، أو حالة أدائه ، أيؤديه عن علم ، أم يؤديه بجهل أو ظن ، ثم يتأكد أيضا من توافر الاخلاص في أدائه ، وأنه لا يريد به المراءاة للعباد ، ولذلك روى أبو نعيم في كتابه «الحلية» أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات». وكذلك قال : «ثلاث من كنّ فيه فقد استكمل إيمانه : لا يخاف في الله لومة لائم ، ولا يرائي بشيء من عمله ، وإذا عرض له أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة آثر الآخرة على الدنيا».

والمراقبة السويّة قد تبلغ عند المؤمن رتبة تجعله يتذكر على الدوام أن الله تعالى مراقب له ، فيراقب المؤمن مراقبة الله له ، حتى يتجرد من الشهوات فتتابع إرادته إرادة ربه في كل صغيرة وكبيرة ، فلا يكون منه اعتراض على شيء مما شرعه الله أو دعا إليه أو أمر به ، ولا يكون منه في الدين رأي أو خاطر يستحسن شيئا حراما ، أو يستقبح شيئا شرعه الله عزوجل ، فهو لا يحكّم شهوته ولا عقله ولا مصلحته ولا تأويله فيما شرع الله ، بل يتلقى كل ذلك بالرضى والقبول ، ومن هنا قال ابن عطاء الله : أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات. وقال ذو النون : علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله ، وتعظيم ما عظّم الله ، وتصغير ما صغّر الله.

ومتى تحققت عند الانسان فضيلة المراقبة فقد حرص على أداء حقوق الله وحقوق العباد وحقوق الأشياء كلّها بإتقان وإحسان.

وما أحوج مجتمعاتنا إلى وجود هذه الفضيلة بين الأفراد واجماعات ، لأن انعدام وازع المراقبة في نفس الانسان يجعله شبيها بالحيوان ، يرتع ليتمتع ، ويجمع لينتفع ، ويسطو على حقوق غيره ، وينتهك حرمات سواه ، ويسيء استخدام حقوق نفسه ، وبذلك تفشو الرذائل ، وتضمر الفضائل ، ويتعامل الناس بشرعة الغاب دون ارعواء أو حساب. ولو وجدت فضيلة المراقبة عند الانسان لجعلته أمينا على الأعراض لا يدنو منها ، ولو كان السبيل إليها ميسّرة

١٢

مهيأة ، بل يعتصم بنور إيمانه وبرهان ربه ووازع دينه ، ويقول : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ). أو يقول : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

والمراقبة هي التي تجعل الانسان أمينا على الأموال بين يديه ، فقد يستطيع أن يسرق منها أو يختلس ، ولكن صوتا من الأعماق ينهاه ، لأنه يرى على الدوام نور مولاه. والمراقبة هي التي تجعل الإنسان يؤدي عمله على خير ما يكون الأداء ، لأنه لا يرائي في عمله كبيرا أو رئيسا ، ولكنه يراقب ربّه ، ويتذكر قول نبيه : «إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه».

وما دمنا قد عرفنا من قبل أن المراقبة تنمو وتعلو بطول المجاهدة ، وما دامت عزائم الناس تختلف ، فمن الطبيعي أن تتفاوت درجات أهل المراقبة ، فمنهم سابق مبرّز ، ومنهم معتدل متوسط ، ومنهم بادىء يسعى نحو غايته ، ولقد تحدث حجة الاسلام الغزالي عن درجات المراقبة ، فجعلها درجتين ، والدرجة الأولى في تصويره وتعبيره هي درجة الصديقين ، وهي كما يعبّر ـ درجة التعظيم والاجلال ، أي أن يصير القلب مستغرقا بملاحظة ذلك الجلال ، وخاضعا تحت الهيبة فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى الغير أصلا ، وهذه مراقبة مقصورة على القلب ، وأما الجوارح فإنها تتعطل عن التلفت إلى المباحات فضلا عن المحظورات ، وإذا تحركت بالطاعات كانت كالمطبوعة عليها ، فلا تحتاج إلى تدبير وتثبيت في حفظها على طريق الرشاد والسداد ، ولا عجب فالقلب هنا هو القائد وهو الراعي ، فإذا صار مستغرقا بالمعبود جل جلاله صارت الجوارح منقادة له ، جارية على الطاعة والاستقامة بلا تكلف.

وصاحب هذه الدرجة من المراقبة هو الذي يصير همّه هما واحدا ، ويكفيه الله سائر الهموم ، وقد يغفل عن الخلق فلا يحس بهم ، ولا يرى منهم ، ولا يسمع لهم.

والدرجة الثانية هي درجة الورعين من أصحاب اليمين ، وهم قوم غلب على قلوبهم يقين اطلاع الله على ظاهرهم وباطنهم ، ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال

١٣

بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال ، متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال ، إلا أنها مع ممارسة الأعمال لا تخلو من المراقبة ، وإن غلب عليهم الحياء من الله تعالى ، فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بعد التثبت والتدبر ، ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة ، فإنهم يرون الله في الدنيا مطّلعا عليهم ، فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة.

ومن فضل الله العميم على صاحب فضيلة المراقبة أنه إذا صدق في مراقبة الله جل جلاله في باطنه وخواطره ، عصمه الله من الاثم والانحراف في جوارحه وظاهره ، ولذلك أجمع الصوفية ـ كما يذكر ابن القيم ـ على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر ، فمن راقب الله في سرّه حفظه في حركاته وعلانيته. وهذا الحفظ الالهي يجعل العبد المؤمن في حال الرضى والأمن والاطمئنان ، فالمراقبة لا تستلزم الخوف الفازع ، أو الرعب الهالع ، بل إن المراقب الصادق يجد لذة روحية ونفسية في بلوغه هذه المرتبة السامية ، التي تجعله مستغنيا بالله عن سواه ، راضيا به عما عداه ، ولذلك قال أحد الصوفية : «إذا كان سيدي قريبا مني فلا أبالي بغيره».

ومن أعظم ثمرات المراقبة أنها تجعل المؤمن مشتغلا بحاضره ليملأه بأفضل ما تملأ به الأوقات ، ولقد جاء في الأثر الاسلامي الكريم أن المؤمن ابن وقته ، أي يشغل نفسه بما هو فيه ، لا يتحسر على ما فات ، ولا ينشغل بمستقبل لم يتحقق بعد ، بل ينتهز ما بين يديه من وقت ، فيتفرغ له ، ويحصر جهده فيه ، فإن قدر الله تعالى له مزيدا من الوقت تابع خطواته على طريق الاتقان المستمر وإن لم يتح له وقت لقي الله ربّه وهو على خير ، وما أروع عبارة «الاحياء» حين تقول في ذلك :

«الساعات ثلاث : ساعة مضت لا تعب فيها على العبد ، كيفما انقضت : في مشقة أو رفاهية ، وساعة مستقبلة لم تأت بعد ، لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا ، ولا يدري ما يقضي الله فيها ، وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها

١٤

نفسه ، ويراقب فيها ربه ، فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة ، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقّه منها كما استوفى من الأولى. ولا يطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيها ، بل يكون ابن وقته ، كأنه في آخر أنفاسه ، فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدري ، وإذا أمكن ان يكون آخر أنفاسه فينبغي أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحالة.

نسأل الله جلّ جلاله أن يعصمنا بعصمته ، وأن يربطنا بحبل طاعته ، وأن يكتب لنا نعمة مراقبته.

١٥

العزة

«العزة» كلمة فيها معنى القوة والشدة والغلبة ، والعزيز : هو الغالب لسواه ، ولذلك عرّف القدماء العزة بأنها صفة مانعة للانسان من أن يغلبه غيره ، وكلمة «العزة» مأخوذة من قول العرب : أرض عزاز ، أي صلبة ، ويقال : عزّ فلان ، إذا برىء وسلم من الذل والهوان ، والمادة كلها توحي بمعاني القوة والشدة والارتفاع والامتناع ، فيقال : عزّني فلان ، أي غلبني ، ومنه قول القرآن الكريم : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ). ويقال : عز على نفسي غيابك ، أي صعب ، ومنه قول القرآن (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) ، ويقال : عزّ الوفاء بين الناس ، أي قلّ وجوده ، ومنه قول القرآن : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي يصعب مناله ولا يوجد مثاله.

ومن أوصاف الله تعالى وأسمائه : «العزيز» أي الغالب القوي ، الذي لا يغلبه شيء ، وهو أيضا «المعز» الذي يهب العزة لمن يشاء من عباده ، وقد تكرر وصف الله تعالى بوصف «العزيز» في القرآن ما يقرب من تسعين مرة.

وقد أشار كتاب الله المجيد إلى أن العزة خلق من أخلاق المؤمنين التي يجب أن يتحلوا بها ، ويحرصوا عليها ، فقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، وقال عن عباده الأخيار : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) .. وقال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ). والشدة على الكافرين تستلزم العزة وقال : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وهذا يقتضي أن يكونوا أعزاء.

١٦

وهذه الآية الأخيرة تفهّمنا أن كتاب الله جل جلاله يعلّم المؤمنين «إباء الضيم» ، وهو خلق يفيد معنى الاستمساك بالعزة والقوة ، والثورة على المذلة والهوان ، وإذا كنا قد عرفنا أن القرآن قد كرر وصف ذات الله القدسية بصفة «العزيز» ما يقرب من تسعين مرة ، فكأنه أراد بذلك ـ وهو أعلم بمراده ـ أن يملأ أسماع المؤمنين بحديث العزة والقوة ، فإذا ما سيطر عليهم اليقين بعزة ربهم استشعروا القوة في أنفسهم ، واعتزوا بمن له الكبرياء وحده في السموات والأرض ، وتأبوا على الهوان حين يأتيهم من أي مخلوق ، وفزعوا إلى واهب القوى والقدر ، يرجونه أن يعزهم بعزته ، وكأن الله عزوجل قد أراد أن يؤكد هذا المعنى في نفوس عباده حين جعل كلمة «الله أكبر» تتردد كلّ يوم في أذان الصلاة مرات ومرات ، ثم يرددونها في صلواتهم كلّ يوم مرات ومرات ، فتشعرهم بأن الكبرياء لله جل علاه ، وأن عباده يلزمهم أن يلتمسوا العزة من لدنه ، وأن يستوهبوا القوة من حماه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ). (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ولقد أراد القرآن المجيد أن يهدي المؤمنين إلى الطريق الذي يصون لهم العزة ، ويحصنهم ضد الرضا بالهوان ، أو السكوت على الضيم ، فأمرهم بالإعداد والاستعداد لحفظ الكرامة والذود عن العزة ، فقال لهم : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) لأن القوة تجعل صاحبها في موطن الهيبة والاقتدار ، فلا يسهل الاعتداء عليه من غيره من الضعفاء.

وعلّمهم القرآن الإقدام والاحتمال والثبات في مواطن اليأس ، موقنين أن الله معهم ، فقال لهم :

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ ، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ ، وَتَرْجُونَ

١٧

مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ ، وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

وفي موطن آخر يقول لهم : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ).

وليست هذه دعوة إلى بغي أو طغيان ، وإنما يعوّد القرآن أتباعه أن يكونوا أولا على حيطة وحذر ، فيقووا أنفسهم بكل وسائل التقوية والتحصين ، حتى يكونوا أصحاب رهبة في نفوس أعدائهم ، وإلّا تطاولوا عليهم وعصفوا بهم ، ومن هنا قال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ). ويقول : (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً). ويقول : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ).

وإذا شاءت الأقدار يوما أن يلتقي المؤمنون في معركة مع الكافرين ، فالواجب حينئذ على كل مؤمن أن يظل عزيزا قويا ، وأن يثبت على مبادئه وعقائده ، لا يخيفه الألم ولا التعب ، بل يبذل جهده وطاقته ، مستخدما كلّ ما أعده قبل ذلك من سلاح وعتاد ، واثقا أنه مربوط الأسباب بالله القوي القادر ؛ وإذا شاء الله تعالى له لونا من ألوان الاختبار والابتلاء ، تحمله راضيا صابرا ، محتفظا بعزته وكرامته وشهامته ، موقنا بأن احتمال الألم خير ألف مرة من التخاذل والاستسلام : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

والإسلام ـ مع هذا ـ يدعو أتباعه إلى السّلام العادل المنصف ، الذي لا ينطوي على ضيم أو ذل ، ويدعوهم أن يغفروا الهفوة إذا كانت عن غير تعمد أو كانت لا تبلغ مبلغ الإهانة ، أو لا تخدش العزة والكرامة ، أما إذا كانت الخطيئة بغيا فعلاجها الرد عليها بما يغسل العار ، ويدفع الضيم ، ويصون الكرامة ، ولذلك يقول التنزيل المجيد :

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ، فَمَنْ

١٨

عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : «يعجبني من الرجل إذا سيم خطة خسف أن يقول : لا بملء فيه».

ولم يكتف القرآن العزيز بتحريض المؤمنين على إباء الضيم وإيثار العزة تحريضا يقوم على الأمر الصريح أو التوجيه المباشر ، بل عمد إلى ضرب الأمثال من الأمم السابقة التي استجابت لدعوات الحق ، وتابعت رسل الله جل جلاله ، واستشعرت العزة ، وتمردت على المذلة ، فكان جزاؤها كريما ، وثوابها عظيما ، حيث خاضت المعارك من أجل عقيدتها ، ومبدئها ، ولم تهن أو تضعف ، بل صبرت وصابرت ، وكافحت وناضلت ، حتى ظفرت وانتصرت ، وذلك فضل الله القوي الذي يحب الأقوياء الشرفاء ، العزيز الذي ينصر من استمسك بالعز والإباء ، يقول القرآن :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ (١) ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا ، وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا ، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا ، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ، فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

* * *

وفي نور النبوة الرائع ما يهدي أتباع محمد عليه الصلاة والسّلام إلى منهج الشرف وطريق الكرامة وصراط العزة ، فإن هذا الهدي النبوي الكريم يعلّم الإنسان أن لا يرضى الدنية في دينه ولا في دنياه ، بل يحفظ لنفسه حقّها ويذود عن هذا الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، فإن مات دونه فهو شهيد ،

__________________

(١) الربيون والربانيون : المنسوبون إلى الله لإيمانهم وحكمتهم.

١٩

وإن فاز وانتصر عاش عيشة الأحرار ، وباء أعداؤه بالسعير وبئس القرار.

جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : يا رسول الله ، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي (أي اغتصابا). قال الرسول : لا تعطه. قال الرجل : أرأيت إن قاتلني؟. قال الرسول : قاتله. فقال الرجل : أرأيت إن قتلني؟. قال الرسول : فأنت شهيد. فقال الرجل : أرأيت إن قتلته؟. قال الرسول : هو في النار.

ولقد تردد في سنة الرسول عليه الصلاة والسّلام صوت الدعاء إلى العزة وإباء الضيم ، فقال : «من تضعضع لغنيّ لينال مما في يده أسخط الله» .. وفي رواية : «من جلس إلى غني فتضعضع له لدنيا تصيبه ذهب ثلثا دينه ، ودخل النار» .. وقال : اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس ، فإن الأمور تجري بالمقادير وقال : «إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها». وقال «من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا».

والعزة ليست تكبرا أو تفاخرا ، وليست بغيا أو عدوانا ، وليست هضما لحق أو ظلما لإنسان ، وإنما هي الحفاظ على الكرامة ، والصيانة لما يجب أن يصان ، ولذلك لا تتعارض العزة مع الرحمة ، بل لعل خير الأعزاء هو من يكون خير الرحماء ، وهذا يذكّرنا بأن القرآن الكريم قد كرر قوله عن رب العزة : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تسع مرات في سورة الشعراء ، ثم ذكر في كل من سورة يس والسجدة ، والدخان وصفي : (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) مرة.

ثم إن أغلب المواطن التي جاء فيها وصف الله باسم «الْعَزِيزُ» قد اقترن فيها هذا الاسم باسم «الْحَكِيمُ». والحكيم هو الذي يوجد الأشياء على غاية الإحكام والضبط ، فلا خلل ولا عيب.

وكما تكون العزة خلقا كريما ووصفا حميدا ، إذا قامت على الحق والعدل واستمدها صاحبها من حمى ربه لا من سواه : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ... تكون العزة الكاذبة أو الضالة خلقا ذميما حين تقوم على البغي والفساد ، ومن ذلك النوع قول الله تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ

٢٠