«وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(١).
واذا كان القرآن قد أباح للانسان أن يأخذ حقه في معاقبة من اعتدى عليه ، فانه يضيف الى ذلك ان المقابلة بالحسنى خير وأفضل ، فيقول في سورة النحل :
«وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ، وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ، إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ»(٢).
ويقول في سورة الشورى :
«وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»(٣).
ومع ادراكنا هذا ينبغي أن ندرك أن الدفع بالتي هي أحسن لا يليق عند الاعتداء على العقيدة ، أو مع الخارجين على أمر الله بغيا وعدوانا ، أو
__________________
(١) سورة العنكبوت ، الآية ٤٦.
(٢) سورة النحل ، الآيات ١٢٦ ـ ١٢٨.
(٣) سورة الشورى ، الآيات ٤٠ ـ ٤٣.
الخائنين للامة والوطن ، فهؤلاء المتمردون المتجبرون لا بد من أخذهم أخذا وبيلا ، وعقابهم عقابا أليما ، والا ضاعت الحرمات وتهدم المجتمع.
ان الدفع بالحسنى لا يتعارض مع تأديب الفاسقين ، وكبح جماح المتجبرين ، ومقاومة العتاة الطاغين ، فانما يجمل الدفع بالحسنى مع الذين يصلح شأنهم بذلك الاسلوب ، واما الذين يتمردون ويتجبرون ويتجردون من دواعي الاستجابة لروح المعاملة بالحسنى ، فأولئك يستحقون الردع والقمع ، ومن هنا جاء قول الله العظيم لنبيه الرحيم :
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»(١).
ويجمل بنا ان نتذكر كلمة العربي الذي قال : «اللهم من ظلمني مرة فاجزه ، ومن ظلمني مرتين فاجزني ولا تجزه ، ومن ظلمني ثلاث مرات فاجزني ولا تجزه». ويا لها من كلمة ذات مدلول عميق!.
* * *
واذا انتقلنا من مائدة القرآن الكريم الى روضة السنة المطهرة وجدنا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم طائفة من الاحاديث الكريمة التي توجه الى الدفع بالحسنى في شتى ميادين الحياة : في القول والعمل ، في السلوك والمعاملة ، ومنها هذه الرقائق السامية :
«من أقال مسلما عثرته أقال الله عثراته يوم القيامة».
«اتق الله حيثما كنت ، واتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن».
__________________
(١) سورة التوبة ، الآية ٧٣.
«لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال : يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام».
«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا ، أو ليصمت».
* * *
ومن وراء روضة السنة تطالعنا هذه الكلمات الرقيقة المحببة في فضيلة الدفع بالحسنى ، كتلك الكلمة النبيلة المنسوبة الى عبد الله ورسوله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ، وفيها يقول : «ليس الاحسان أن تحسن الى من أحسن اليك ، فتلك مكافأة (١) ، وانما الاحسان أن تحسن الى من اساء اليك».
وكقول سعيد بن العاص : «ما شاتمت أحدا مذ صرت رجلا ، لأني لا أشاتم الا أحد رجلين : اما كريما فأنا أحق أن أحتمله ، أو لئيما فأنا أول من يرفع رأسه عنه».
* * *
ويمكننا أن نلقي نظرة الى طريقة الصوفية الخاصة بهم في فهم «الدفع بالحسنى» ، فنقرأ الآية الكريمة الواردة في سورة المؤمنون : «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ» ثم نعود الى القشيري لنجده في تفسيره «لطائف الاشارات» يقول عن الآية :
«الهمزة في (أحسن) يجوز ألا تكون للمبالغة ، ويكون المعنى : ادفع بالحسن السيئة. أو أن تكون للمبالغة ، فتكون المكافأة (١)جائزة ، والعفو عنها ـ في الحسن ـ أشدّ مبالغة.
__________________
(١) المراد بالمكافأة هنا هو مقابلة السيئة بسيئة مثلها.
ويقال : ادفع الجفاء بالوفاء ، وجرم أهل العصيان بحكم الاحسان.
ويقال : ادفع ما هو حظك ، اذا حصل ما هو حق لك.
ويقال : اسلك مسلك الكرم ، ولا تجنح الى طريق المكافأة.
ويقال : الأحسن ما أشار اليه القلب ، والسيئة ما تدعو اليه النفس.
ويقال : الأحسن ما كان باشارة الحقيقة ، والسيئة ما كان بوساوس الشيطان.
ويقال : الأحسن نور الحقائق ، والسيئة ظلمة الخلائق».
ونقرأ الآيتين الواردتين في سورة فصلت : «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ». ونعود الى «لطائف الاشارات» لنجد فيه هذه العبارة :
«قوله جل ذكره : «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» الآية : ادفع بالخصلة التي هي أحسن السيئة ، يعني بالعفو عن المكافأة (١) ، وبالتجاوز والصفح عن الزلة ، وترك الانتصاف. «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» : يشبه الوليّ الحميم ، ولم يصر وليا مخلصا ، وهذا من جملة حسن الادب في الخدمة في حق صحبتك مع الله ، تحلم مع عباده لاجله ، ومن جملة حسن الخلق في الصحبة مع الخلق ألا تنتقم لنفسك ، وأن تعفو عن خصمك.
قوله جل ذكره : «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» : لا يقوم بحق هذه الاخلاق الا من أكرم بتوفيق الصبر ، ورقّي
__________________
(١) المراد بالمكافأة هنا هو مقابلة السيئة بسيئة مثلها.
عن سفساف الشيم الى معالي الأخلاق ، ولا يصل أحسن الدرجات الا من صبر على مقاساة الشدائد».
* * *
وحين نجول في روضة الادب العربي الذي نزل بلغته القرآن المجيد تلقانا فيها رياحين مزهرة وثمرات يانعة ، تحببنا في فضيلة الدفع بالحسنى ، فهذا شاعر يترجم عن نفسه العالية القادرة على الانتصاف والانتقام ، ولكنه يتحصن بحلمه ورزانته ، ويتجلى فيه التسامي على سفاهة السفهاء ، فيقول :
وجهل رددناه بفضل حلومنا |
|
ولو آننا شئنا رددناه بالجهل |
رجحنا وقد خفت حلوم كثيرة (١) |
|
وعدنا على أهل السفاهة بالفضل |
وهذا ثان يضرب مثلا رائعا في الدفع بالتي هي أحسن ، فيعطي قومه كل ما يستطيع ، ويضحي من أجلهم بكل ما يقدر عليه ، ويعطي ولا ينتظر أن يأخذ ، ويحسن ولا يتوقع المقابلة بالمثل ، فيقول :
وان الذي بيني وبين بني أبي |
|
وبين بني عمي لمختلف جدا |
أراهم الى نصري بطاء ، وان هم |
|
دعوني الى نصر أتيتهم شدا |
وان يأكلوا لحمي وفرت (٢) لحومهم |
|
وان يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا |
وان زجروا طيرا بنحس تمر بي |
|
زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا |
__________________
(١) حلوم : جمع حلم وهو العقل.
(٢) وفرت : حفظت وصنت.
وان ضيّعوا غيبي حفظت غيوبهم |
|
وان هم هووا غيي هويت لهم رشدا |
ولا أحمل الحقد الدفين عليهم |
|
فليس كريم القوم من يحمل الحقدا |
لهم جل مالي ان تتابع لي غنى |
|
وان قلّ مالي لم أكلفهم رفدا (١) |
وهذا ثالث ، يعرف نفسه ، ويصون قدره ، ولا يقبل أن يكون مماثلا للعامة من الناس ، بل يسمو ويعلو ، معتصما بمكارم الاخلاق ، متباعدا عن سفاسف الامور ، منصفا لغيره من نفسه ، فيقول :
اذا كان دوني من بليت بجهله |
|
أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل |
فان كنت أدنى منه في العلم والحجا |
|
عرفت له حق التقدم بالفضل |
وان كان مثلي في محل من النهى |
|
أردت لنفسي أن أجل عن المثل |
ما أنبل الانسان حين يقتدر على الانتصاف والانتقام ، ولكنه يترفع عن ذلك ، ويأبى الا أن يكون من الذين يدفعون السيئة بالحسنة ، ليكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه. والله نصير الاخيار من الناس.
__________________
(١) رفدا : عطاء.
الشهادة
قد يبدو عجيبا عند بعض الناس أن نعد «الشهادة» خلقا من أخلاق القرآن الكريم ، ولكن لغة الكتاب العزيز تعطي كلمة «الشهادة» في طائفة من المواطن معنى أخلاقيا خاصا ، يجعل معناها القرآني في حمى المعاني الاخلاقية العظيمة.
وكلمة «الشهادة» في لغة العرب ـ لغة القرآن ـ تعطي أولا معنى الحضور مع المشاهدة ، اما بالبصر أو البصيرة ، والشهادة أيضا قول صادر عن علم يحصل بمشاهدة بصيرة أو بصر ، ومن معاني الشهادة أيضا الدلالة القاطعة بقول أو غيره. وقد جاءت الكلمة بمعنى الايمان في قول الله تبارك وتعالى في سورة آل عمران :
«رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ»(١).
أي اكتبنا مع المؤمنين من أمة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأثبت أسماءنا مع أسمائهم ، واجعلنا من جملتهم ، واجعلنا مع الذين
__________________
(١) سورة آل عمران ، الآية ٥٣.
شهدوا لأنبيائك بالصدق.
والشهادة في لغة القرآن تقتضي حضور العقل والقلب ، كما في قول الحق جل جلاله في سورة ق :
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»(١).
أي يشهدون ما يسمعونه بقلوبهم ، ويشهدون بأذهان وعقول حاضرة متفطنة لما تسمع ، واذا استمع أحدهم الكلام وعاه ، وتعقله بعقله وتفهمه بلبه. ولقد علق الامام ابن القيم في كتابه «مدارج السالكين» على هذه الآية الكريمة فقال :
«جعل الله سبحانه كلامه ذكرى ، لا ينتفع بها الا من جمع هذه الامور الثلاثة :
أحدها : أن يكون له قلب حي واع ، فاذا فقد هذا القلب لم ينتفع بالذكرى.
الثاني : أن يصغي بسمعه ، فيميله كله نحو المخاطب ، فان لم يفعل لم ينتفع بكلامه.
الثالث : أن يحضر قلبه وذهنه عند المكلم له. وهو «الشهيد» أي الحاضر غير الغائب ، فان غاب قلبه ، وسافر في موضع آخر ، لم ينتفع بالخطاب.
وهذا كما أن المبصر لا يدرك حقيقة المرئي الا اذا كانت له قوة مبصرة ، وحدّق بها نحو المرئي ، ولم يكن قلبه مشغولا بغير ذلك ، فان
__________________
(١) سورة ق ، الآية ٣٧.
فقد القوة المبصرة ، أو لم يحدق نحو المرئي ، أو حدق نحوه ، ولكن قلبه كله في موضع آخر ، لم يدركه ، فكثيرا ما يمر بك انسان أو غيره ، وقلبك مشغول بغيره ، فلا تشعر بمروره ، فهذا الشأن يستدعي صحة القلب وحضوره وكمال الاصغاء».
ثم ذكر ابن القيم أن «المشاهدة» كما يقرر الهروي هي المسقطة للحجاب ، وان أهل الاستقامة يريدون من الشهادة أو المشاهدة قوة اليقين ، ومزيد العلم ، وارتفاع الحجب المانعة من ذلك ، ونستطيع بعد هذا أن نفهم أن الشهادة هي أن يكون الانسان حاضر القلب يقظ العقل شفاف الروح ، وكأنه يستجيب لداعي الخير بحسه ونفسه ، وعقله وقلبه ، وروحه ووجدانه.
والشهادة التي تعد فضيلة من فضائل الاسلام ، وخلقا من أخلاق القرآن ، هي تلك الصفة التي تدفع صاحبها الحاضر القلب ، اليقظ العقل ، الشفاف الروح ، الى الابتعاد عن الآثام والسيئات ، والى التحصن بالحسنات والطاعات ، وبذلك يصبح أفضل من غيره من الضالين أو المقصرين ، وبذلك يصلح أن يكون شاهدا على غيره ، حيث لا يصلح لهذه الشهادة الا من شهد الحق فلزمه وخضع له ، وفاق غيره ايمانا وعملا وسلوكا وقولا.
وهذا المعنى القرآني للشهادة يرمز اليه كتاب الله عز شأنه حين يقول في سورة النساء :
«إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ، فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً»(١).
__________________
(١) سورة النساء ، الآيتان ٤٠ و ٤١.
وقد أوضح الاستاذ الامام محمد عبده جوانب لفضيلة الشهادة ، حين تعرض للكلام عن هذا النص المجيد ، فقال : «اذا كان الله لا يضيع من عمل عامل مثقال ذرة ، فكيف يكون حال الناس اذا جمعهم الله ، وجاء بالشهداء عليهم ، وهم الانبياء ، فما من أمة الا ولها بشير ونذير؟!.
هذه الشهادة هي التي غفل عنها الناس ، وبكى لها النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ اذ أمر بعض الصحابة بأن يقرأ عليه شيئا من القرآن ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم أعلم الناس بالقرآن.
هذه الشهادة يوم يجمع الله الناس مع أنبيائهم ، هي عبارة عن مقابلة عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم بعقائد الانبياء وأعمالهم وأخلاقهم.
تعرض أعمال كل أمة على نبيها ، لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين ، وسائر أتباع الانبياء ، فمن شهد لهم نبيهم ، بعد معرفة أعمالهم وظهورها بأنهم على ما جاء به وعمل ، وأمر الناس بالعمل به ، فهم الناجون.
ان كل أمة من أتباع الانبياء تدّعي اتباع نبيها ، وان كانت قلوبهم مملوءة بالحقد والحسد والغل ، وأعمالهم كلها شرورا ومفاسد عليهم وعلى الناس ، فهؤلاء يتبرأ الانبياء منهم ، وان ادعوا أنهم أتباعهم ومنتمون اليهم».
* * *
والشهادة فيها معنى الرقابة على الغير ، وذلك كما في قول الحق جل جلاله في سورة يونس :
«وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ»(١).
أي كنا رقباء عليكم.
__________________
(١) سورة يونس ، الآية ٦١.
ولا يصلح المرء للرقابة على غيره الا اذا كان الرقيب أفضل من غيره ، لان في الرقابة معنى من الولاية ، وحق الفاضل أن يتولى المفضول ، ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام أحق الافراد بالشهادة على أتباعه ، وفي هذا يقول القرآن المجيد في سورة المزمل :
«إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ»(١).
ويقول في سورة المائدة على لسان عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام :
«وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ»(٢).
ويقول القرآن الكريم في سورة البقرة :
«وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً»(٣).
وخلاصة المعنى في ذلك كما تحدث تفسير المنار أن الله جعلهم أمة ذات عدل وتوسط ، لأن الزيادة على المطلوب في الامر افراط ، ولأن النقص عنه تقصير وتفريط ، وكل من الافراط والتفريط ميل عن الصراط المستقيم ، فالخيار هو الوسط بين طرفي الامر ، أي المتوسط بينهما.
وانما جعلكم كذلك لتكونوا شهداء بالحق على الناس بما فرّطوا في جنب الدين أو أفرطوا فيه ، فأنتم تشهدون على الذين فرطوا فأنكروا
__________________
(١) سورة المزمل ، الآية ١٥.
(٢) سورة المائدة ، الآية ١١٧.
(٣) سورة البقرة ، الآية ١٤٣.
البعث وقالوا : «ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» بأنهم أخلدوا الى البهيمية ، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحية.
وتشهدون على الذين أفرطوا بالغلو في الدين الزاعمين أن الدين حبس للارواح ، وعقوبة لها ، فلا بد من اجتناب كل اللذات ، وتعذيب الاجساد والنفوس ، تشهدون على هؤلاء بأنهم انحرفوا عن جادة الاعتدال ... تشهدون على هؤلاء وهؤلاء ، وتسبقون الامم باعتدالكم وتوسطكم في الامور كلها ، ذلك بأن ما اهتديتم اليه هو الكمال الانساني الذي يستحق صاحبه أن يتحلى بفضيلة «الشهادة» التي تتضمن معنى السبق والقوامة الناشىء عن اجتناب السوء والتزام الخير والعدل ، لأن صاحب هذه الشهادة يعطي كل ذي حق حقه : يؤدي حقوق ربه ، وحقوق روحه ، وحقوق بدنه ، وحقوق الناس.
وما دام الرسول عليه الصلاة والسلام هو الاسوة الحسنة والقدوة الطيبة والمثل الاعلى لكم ، والنموذج الاكمل لمرتبة الوسط ، فانه سيكون عليكم شهيدا ، وأنتم الشهداء على غيركم ، وهو القاضي بين الناس فيمن اتبع سنته ، ومن ابتدع لنفسه تقاليد أخرى في الدين ، أو حذا حذو المبتدعين.
فكما تشهد هذه الأمة الوسط على الناس بسيرتها وحسن جمعها بين مطالب الروح ومطالب الجسد ، وتظهر الفرق بينها وبين غيرها من أهل الافراط أو التفريط ، يشهد لها الرسول بما وافقت فيه سنته ، وما كان لها من القدوة الحسنة فيه ، بأنها استقامت على الطريق ، والتزمت الصراط.
ولقد جاء في صحيح البخاري حديث يتعلق بموضوع الآية السابقة ، فعن أبي سعيد الخدري قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يدعى نوح عليهالسلام يوم القيامة ، فيقول : لبيك وسعديك يا رب. فيقول : هل بلغت؟. فيقول : نعم.
فيقال لأمته : هل بلغكم؟.
فيقولون : ما أتانا من نذير.
فيقول : من يشهد لك؟.
فيقول : محمد وأمته.
فيشهدون أنه قد بلغ ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ، فذلك قوله عزوجل : «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً».
ثم جاء في رواية الحديث : «فتقول تلك الأمم : كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟.
فيقول لهم الرب سبحانه : كيف تشهدون على من لم تدركوا؟.
فيقولون : ربنا بعثت الينا رسولا ، وأنزلت الينا عهدك وكتابك ، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا ، فشهدنا بما عهدت الينا.
فيقول الرب : صدقوا.
فذلك قوله عزوجل : «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» ـ والوسط العدل ـ «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً».
وعن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط الا الانبياء : كان الله اذا بعث نبيا قال له : «ادعني أستجب لك ، وقال لهذه الأمة : ادعوني أستجب لكم ، وكان الله اذا بعث النبي قال له : ما جعل عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، وكان الله اذا بعث النبي جعله
شهيدا على قومه ، وجعل هذه الامة شهداء على الناس».
* * *
ومن تكريم فضيلة الشهادة أن يصف القرآن الكريم بها رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أكثر من مرة ، فهو يقول في سورة الاحزاب :
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً»(١).
والمعنى كما يذكر القشيري هو : يا أيها المشرّف من قبلنا ، انا أرسلناك شاهدا بوحدانيتنا ، وشاهدا تبشر بمتابعتنا ، وتحذّر من مخالفة أمرنا ، وتعلم الناس مواضع الخوف منا.
أو : يا أيها النبي ، انا أرسلناك شاهدا على أمتك يوم القيامة ، أو شاهدا على الرسل والكتب ، أو : شاهدا لأمتك بتوحيدنا.
ويقول القرآن في سورة النساء :
«فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً»(٢).
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اقرأ عليّ (يعني القرآن).
قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل؟!
__________________
(١) سورة الاحزاب ، الآيتان ٤٥ و ٤٦.
(٢) سورة النساء ، الآية ٤١.
قال : نعم ، أحب أن أسمعه من غيري.
فقرأت سورة النساء ، حتى أتيت هذه الآية : «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً».
فقال : حسبك الآن.
فاذا عيناه تذرفان».
وهناك للحديث رواية أخرى جاء فيها : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اقرأ عليّ.
قلت : أقرأ عليك وعليك أنزل؟.
قال : اني أحب أن أسمعه من غيري.
فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت : «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» ، فرفعت رأسي ـ أو غمزني رجل الى جنبي ـ فرأيت دموعه تسيل.
وعن محمد بن فضالة أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أتاهم في بني ظفر ، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ، ومعه ابن مسعود ومعاذ وناس من أصحابه ، فأمر قارئا يقرأ ، حتى اذا أتى على هذه الآية : «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» بكى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى اخضلت وجنتاه ، فقال : يا رب ، هذا شهدت على من انا بين ظهرانيهم ، فكيف من لم أرهم؟.
ولقد قال العلماء : ان بكاء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انما كان لعظيم ما تضمنته الآية من هول المطلع ، وشدة الامر ، اذ يؤتى بالانبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب ، ويؤتى به صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم القيامة شهيدا.
هذا ولقد علق «تفسير المنار» على الآية بهذه الكلمات : «فليت شعري ، هل يعتبر المسلمون بهذا وهم المشهود عليهم ، كما اعتبر الشهيد الاعظم ، فيبكون لتذكر ذلك اليوم كما بكى؟ ويستعدون ـ باتباع سنته ، واجتناب جميع البدع والتقاليد الدينية التي لم تكن في عهده ـ لأن يكونوا كأصحابه أمة وسطا ، لا تفريط عندها في الدين ولا افراط ، لا في أمور الجسد ، ولا في أمور الروح ، أم يظلون سادرين في غلوائهم ، مقلدين لآبائهم؟ ألا يعلمون كيف يكون حال الكافرين والعاصين في ذلك اليوم»؟.
* * *
والشهادة قد تكون بمعنى تقرير الحق وذكره ، حتى لا تضيع لحقوق ، والقيام بهذه الشهادة أمر واجب ، والقائم بها صاحب خلق وفضيلة ، كما أن مهملها أو منكرها صاحب اثم ورذيلة ، وقد وردت في القرآن الحكيم آيات كثيرة تحض على أداء الشهادة ، وتذم تضييعها أو انكارها ، ومنها هذه الآيات :
١ ـ في سورة البقرة :
«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ»(١).
٢ ـ وفيها أيضا :
«وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ، وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ»(٢).
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية ١٤٠.
(٢) سورة البقرة ، الآية ٢٨٣.
٣ ـ وفي سورة المائدة :
«وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ»(١).
٤ ـ وفي سورة المعارج :
«وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ»(٢).
وقد أمر القرآن بالصدق والتزام الحق في النهوض بالشهادة ، سواء أكانت للقريب ام للغريب ، للصديق أم للعدو ، ولذلك قال في سورة المائدة :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ»(٣).
أي : لقد أتممت عليكم نعمتي ، فكونوا قوامين بالعدل ابتغاء وجه الله ، لتنالوا ثواب الله ، واشهدوا بالحق من غير ميل الى أقاربكم ، ومن غير ظلم لاعدائكم ، ولا تحملنكم عداوة قوم من الناس على ترك العدل ، أو هضم الحق.
وعاد القرآن يؤكد الحث على هذه الفضيلة ، فقال في سورة النساء :
__________________
(١) سورة المائدة ، الآية ١٠٦.
(٢) سورة المعارج ، الآية ٣٣.
(٣) سورة المائدة ، الآية ٨.
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما ، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ، وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً»(١).
أي حافظوا على الحق والعدل في شهادتكم ، ولو على أنفسكم أو آبائكم وأمهاتكم ، أو أقاربكم ، لأن هؤلاء مظنة المودة والتعصب.
ولقد كانت فضيلة الشهادة بالحق سببا في تبرئة نبي الله يوسف عليهالسلام ، فذلك حيث يقول الحق جل جلاله في سورة يوسف :
«قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ»(٢).
وكذلك توسعت السنة المطهرة في الدعوة الى أداء الشهادة لوجه الله ووجه الحق ، فقال الحديث : «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل ان
__________________
(١) سورة النساء ، الآية ١٣٥.
(٢) سورة يوسف ، الآيات ٢٦ ـ ٢٩.
يسألها». وكأن هذا حث على التطوع بالشهادة الصادقة ، حتى ولو لم يطلبها أحد من الشهيد ، ولا تعارض بين هذا الحديث والحديث الآخر الذي جاء فيه :
«ان خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السّمن».
لا تعارض بين الحديثين ، لأن المراد في الحديث الاخير هو شاهد الزور ، اذ يشهد بما لم يستشهد ، أي بما لم يتحمّله ، أو يراد به الذي يدفعه الشره ويحمله على تنفيذ ما يشهد به ، فيبادر مسرعا بالشهادة قبل أن تطلب منه ، فهذا شهادته مردودة ، لأن تسرعه يدل على وجود هوى غالب عند الشاهد.
* * *
وكأن الله جل جلاله أراد ـ وهو سبحانه أعلم بمراده ـ أن يعرّض بالذين يكتمون الحق ويكتمون الشهادة ، فذلك حين أعلم عباده أن اعضاء الضالين واطراف الآثمين ، تشهد عليهم بالحق يوم القيامة ، مع انها لا لسان لها في الدنيا ولا بيان ، وقد ورد هذا التعريض البليغ في مواطن عدة منها :
١ ـ في سورة النور :
«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»(١).
٢ ـ في سورة يس :
__________________
(١) سورة النور ، الآية ٢٤.
«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»(١).
٣ ـ في سورة فصلت :
«وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ»(٢).
ولقد علق القشيري في «لطائف الاشارات» على قوله تعالى : «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» بهذه العبارات :
«اليوم (٣) سخّر الله أعضاء بدن الانسان بعضها لبعض ، وغدا ينقض هذه العادة ، فتخرج بعض الأعضاء على بعض ، وتجري بينها الخصومة والنزاع ، فأما الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة ، وأما
__________________
(١) سورة يس ، الآية ٦٥.
(٢) سورة فصلت ، الآيات ١٩ ـ ٢٢.
(٣) يقصد بكلمة «اليوم» أيام الدنيا ، ويقصد بكلمة «غدا» يوم القيامة ..