تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) : أي من بعد الله ، أي : لا يستطيع أحد أن يرسل ما أمسكه الله من رحمة (١) (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) : أي إنّه خلقكم ورزقكم (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : أي ما ينزل من السماء من المطر ، وما ينبت في الأرض من النبات (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : يقوله للمشركين ، يحتجّ به عليهم ، وهو استفهام ؛ أي : لا خالق ولا رازق غيره. يقول : أنتم تقرّون بأنّ الله هو الذي خلقكم ورزقكم وأنتم تعبدون من دونه الآلهة. (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣) : أي فكيف تصرفون عقولكم فتعبدون غير الله.

قال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) : يعزّيه بذلك ويأمره بالصبر.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده ما أصاب أحدا من هذه الأمّة من الجهد في الله ما أصابني (٢). قال : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤) : أي إليه مصيرها يوم القيامة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) : أي ما وعد الله من الثواب والعقاب (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٥) : وهو الشيطان.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) : يدعوكم إلى معصية الله (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) : أي أصحابه الذين أضلّ (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦) : أي يوسوس إليهم بعبادة الأوثان ليكونوا من أصحاب السعير ، فأطاعوه. والسعير اسم من أسماء جهنّم ، وهو الرابع.

قال : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) : أي جهنّم ، قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

(١) جاء في ع وب ، وفي سح ورقة ١٥٩ بعد قوله تعالى : (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) ما يلي : «من بعد الله ، لا يستطيع أحد أن يمسك ما يقسمه». وهذا تكرار لتفسير قوله تعالى : (فَلا مُمْسِكَ لَها) ، وهو خطأ ، ولعلّه سهو من الناسخ الأوّل تبعه فيه من بعده. وقد أثبتّ الصواب حسبما يقتضيه المعنى الواضح من سياق الآية.

(٢) أخرجه ابن سلام بهذا اللفظ : «حدّثنا أبو أميّة عن الحسن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : والذي نفسي بيده ما أحد من هذه الأمّة أصابه من الجهد في الله مثل الذي أصابني» ، كما جاء في سح ورقة ١٥٩.

٣٦١

الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) : أي لذنوبهم (وَأَجْرٌ) : أي ثواب (كَبِيرٌ) : (٧) أي الجنّة.

قال : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) : أي كمن آمن وعمل صالحا ، أي : لا يستوون. وهذا على الاستفهام ، وفيه إضمار. قال : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ) : أي على المشركين (حَسَراتٍ) : أي لا تتحسّر عليهم إذا لم يؤمنوا ؛ كقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النحل : ١٢٧] قال : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨).

قوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) : أي فسقنا الماء في السحاب (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) : أي ليس فيه نبات ، أي : إلى أرض ميّتة ليس فيها نبات. لّما قال : (إِلى بَلَدٍ) قال : (مَيِّتٍ) لأنّ البلد مذكّر ، والمعنى على الأرض ، وهي مؤنّثة. قال : (فَأَحْيَيْنا بِهِ) : أي بالمطر (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) : أي بعد أن كانت يابسة ليس فيها نبات. (كَذلِكَ النُّشُورُ) (٩) (١) : أي هكذا يحيون بعد الموت بالماء يوم القيامة ؛ أي : يرسل الله المطر فيها كمنيّ الرجال فتنبت به جسمانهم ولحمانهم كما تنبت الأرض من الثرى. ثمّ يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض ، فينفخ فيه ، فينطلق كلّ روح إلى جسده حتّى يدخل فيه ، ثمّ يقومون فيجيبون إجابة رجل واحد قياما لربّ العالمين. ذكر بعضهم قال : إنّ الحساب يكون عند الصخرة إلى بيت المقدس. قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) : قال بعضهم : من كان يريد العزّة فليتعزّز بطاعة الله. وتفسير الحسن أنّ المشركين عبدوا الأوثان لتعزّهم ، كقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (٨١) [مريم : ٨١]. قال : من كان يريد العزّة فليعبد الله حتّى يعزّه.

قوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) : هو التوحيد (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) : أي يرفعه التوحيد. أي : لا يرتفع العمل الصالح إلّا بالتوحيد ، ولا التوحيد إلّا بالعمل الصالح ؛ كقوله : (وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) والإيمان قول وعمل ، لا ينفع القول دون العمل (٢).

__________________

(١) في ب وع اضطراب في تفسير قوله تعالى : (كَذلِكَ النُّشُورُ) ،) فأثبتّ ما رأيت أنّه الصواب من سح وز ، وهذه من أمور الغيب التي لا يعلم حقيقتها إلّا الله ، (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ـ ٢٧].

(٢) وفي تفسير مجاهد ، ص ٥٣١ : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) يقول : العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيّب». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٦٧ : «وقوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ـ

٣٦٢

(فَأُولئِكَ) أي : الذين هذه صفتهم (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١٩) [الإسراء : ١٩] أي : كان عملهم مقبولا ، يعني من وحّد الله وعمل بفرائضه.

قال : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) : أي يعملون الشرك والنفاق (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) : أي عذاب جهنّم. (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (١٠) : أي وعمل أولئك هو يبور ؛ أي : هو يفسد عند الله ، أي : لا يقبل الله الشرك والنفاق ، ولا يقبل العمل من المشرك والمنافق ، أي : لا يقبل العمل إلّا من المؤمنين ، وقال في آية أخرى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢٧) [المائدة : ٢٧].

قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) : يعني آدم خلقه من تراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) : أي من نسل آدم (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) : يعني ذكرا وأنثى ، والواحد زوج. قال : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٤٥) [النجم : ٤٥].

قال : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١١) : أي هيّن عليه.

ذكروا عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنّه قال عن عمر العبد : كتب في أوّل الصحيفة أجله ، ثمّ يكتب أسفل من ذلك : مضى يوم كذا وكذا ، ومضى يوم كذا وكذا ، حتّى يأتي إلى أجله. وقال عكرمة : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) آخر ، يعني أن يكون عمره دون عمر الآخر.

وتفسير الحسن : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي : حتّى يبلغ أرذل العمر (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) أي : ولا ينقص من آخر عمر المعمّر فيموت قبل أن يبلغ عمر ذلك المعمّر الذي بلغ أرذل العمر (إِلَّا فِي كِتابٍ) (١). وبعضهم يقول : العمر ههنا ستّون سنة.

__________________

ـ أي : يرفع الكلم الطيّب ، يقول : يتقبّل الكلام الطيّب إذا كان معه عمل صالح».

(١) جاءت عبارة ب وع مضطربة فاسدة في تفسير الحسن للآية ، فأثبتّ التصحيح من سح ورقة ١٦١ ـ ١٦٢. وجاءت العبارة في ز ، ورقة ٢٨٠ مختصرة واضحة هكذا : «وتفسير الحسن وما يعمّر من معمّر حتّى يبلغ أرذل العمر ولا ينقص من آخر عمر المعمّر فيموت قبل أن يبلغ أرذل العمر (إِلَّا فِي كِتابٍ).

٣٦٣

قوله : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ) : أي حلو (سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) : أي مالح مرّ (١). (وَمِنْ كُلٍّ) : أي من العذب والمالح (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) : يعني الحيتان (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) : يعني اللؤلؤ (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) : أي مقبلة ومدبرة بريح واحدة (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : يعني طلب التجارة في البحر (٢) (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢) : أي ولكي تشكروا هذه النعم.

قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) : وهو أخذ كلّ واحد منهما من صاحبه (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) لا يعدوه (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) : يقوله للمشركين ، يعني أوثانهم (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (١٣) : وهي القشرة ، السحاءة البيضاء التي تكون على النواة (٣).

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) : أي بعبادتكم إيّاهم (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (١٤) : وهو الله.

قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١٥) : أي المستحمد إلى خلقه ، استوجب عليهم أن يحمدوه. (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) : أي يهلككم بعذاب الاستئصال (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٦) : هو أطوع له منكم. كقوله : (إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) [المعارج : ٤٠ ـ ٤١]. قال : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٧) : أي أن يفعل ذلك بكم.

قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : أي لا يحمل أحد ذنب أحد. (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) : أي من الذنوب (إِلى حِمْلِها) : ليحمل عنها (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) : أي لا يحمل القريب عن قريبه شيئا من ذنوبه (إِنَّما تُنْذِرُ) : أي إنّما يقبل نذارتك

__________________

(١) كذا في ز ورقة ٢٨٠ : «مالح مرّ» ، وفي سح ورقة ١٦٢ : «مرّ» ، وفي ب : «مزعق» ، وفي ع : «مزعوق» ، وهي كلّها ألفاظ متقاربة المعنى ، يقال : «مرّ زعاق» أي : «لا يطاق شربه من أجوجته». كما جاء في اللسان.

(٢) كذا في ب وع. وفي سح وز : «طلب التجارة في السفن».

(٣) «السحا ، والسحاءة ، والسحاية ما انقشر من الشيء كسحاءة النواة». كذا ذكره صاحب اللسان. وقال مجاهد : القطمير : لفافة النواة.

٣٦٤

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) : أي في السّرّ حيث لا يطّلع عليهم أحد (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) : أي المفروضة (وَمَنْ تَزَكَّى) : أي عمل صالحا (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) : أي يجد ثوابه (١) ، (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١٨) : أي المرجع.

قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (١٩) : وهذا تبع للكلام الأوّل : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) : وهذا كلّه مثل للمؤمن والكافر ؛ كما لا يستوي البحران العذب والمالح وكما لا يستوي الأعمى والبصير وكما لا تستوي الظلمات والنور فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر(٢).

قوله : (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) يعني ظلّ الجنّة ، والحرور ، يعني النار. وقوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) الأحياء هم المؤمنون ، أي : الأحياء في الدين كقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) أي : كافرا (فَأَحْيَيْناهُ) أي : بالإيمان [الأنعام : ١٢٣] والأموات هم الكفّار ، أي : أموات في الدين.

(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) : أي يهديه للإيمان (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٢٢) : أي وما أنت بمسمع الكفّار ، أي : هم بمنزلة الأموات من أهل القبور لا يسمعون منك الهدى سمع قبول ، أي : لا يقبلون منك ما تدعوهم إليه كما أنّ الذين في القبور لا يسمعون.

قال : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (٢٣) : أي تنذر الناس ، ليس عليك غير ذلك ، والله يهدي من يشاء ، أي : يمنّ عليه بالقبول لما يدعوه إليه من دين الله فيقبله.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ) : أي بالقرآن (بَشِيراً وَنَذِيراً) : أي بشيرا بالجنّة ونذيرا من النار (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢٤) : [يعني الأمم الخالية كلّها قد خلت فيهم النذر] (٣). وقال بعضهم : [أي : وإن من أمّة ممّن أهلكنا إلّا خلا فيها نذير] (٤). يحذّر المشركين أن ينزل بهم ما نزل بهم إن كذّبوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كذّبت الأمم رسلها. قال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ

__________________

(١) كذا في ب وع : «يجد ثوابه» وهو الصحيح ، وفي سح وز : «يجزون به».

(٢) في ع وب غموض في المعنى بسبب حذف بعض الكلمات فأثبتّ التصحيح من سح.

(٣) زيادة من سح ورقة ١٦٤ ، ومن ز ورقة ٢٨٠.

(٤) زيادة من سح ورقة ١٦٤ ، ومن ز ورقة ٢٨٠.

٣٦٥

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (٢٥) : والزّبر : الكتب على الجماعة. والبيّنات في تفسير الحسن : ما يأتي به الأنبياء. (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي : البيّن. والكتاب الذي كان يجيء به النبيّ منهم إلى قومه.

وتفسير الكلبيّ : البيّنات : الحلال والحرام والفرائض والأحكام.

قال : (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : يعني إهلاكه إيّاهم بالعذاب (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٢٦) : أي عقابي ، على الاستفهام ، أي : كان شديدا.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ) : أي فأنبتنا به ، أي : بذلك الماء (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) وطعمها في الإضمار (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) : أي طرائق (١) (بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) (٢٧) : والغربيب : الشديد السواد (٢). قال : (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) : أي كما اختلفت ألوان ما ذكر من الثمار والجبال.

ثمّ انقطع الكلام ثمّ استأنف فقال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) : وهم المؤمنون. وبلغنا عن ابن عبّاس أنّه قال : يعلمون أنّ الله على كلّ شيء قدير. وفي الآية تقديم ؛ يقول : العلماء بالله هم الذين يخشون الله. ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : ليس العلم رواية الحديث ، ولكنّ العلم الخشية ؛ يقول : من خشي الله فهو عالم. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٢٨).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) : السرّ التطوّع ، والعلانية الزكاة المفروضة. يستحبّ أن تعطى الزكاة علانية ، والتطوّع سرّا ، ويقال : صدقة السرّ تطوّعا (٣) أفضل من صدقة العلانية. قال : (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) (٢٩) : أي لن تفسد (٤) ، وهي تجارة الجنّة ، يعملون للجنّة.

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٦٩ : «وقوله : (جُدَدٌ بِيضٌ) الخطط والطرق تكون في الجبال كالعرق ، بيض وسود وحمر ، واحدها جدّة».

(٢) وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٥٤ : (وَغَرابِيبُ سُودٌ) مقدّم ومؤخّر لأنّه يقال : أسود غربيب».

(٣) كذا في ب وع. وفي سح ورقة ١٦٥ : «أي : صدقة التطوّع سرّا أفضل ...».

(٤) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٥٥ : (تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) أي : لن تكسد وتهلك. ويقال : نعوذ بالله من ـ

٣٦٦

قال : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) : أي ثوابهم الجنّة (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : أي يضاعف لهم الثواب. وقال الحسن : تضاعف لهم الحسنات ، أي : يثابون عليها في الجنّة. (إِنَّهُ غَفُورٌ) : أي لمن تاب (شَكُورٌ) (٣٠) : أي يشكر اليسير ويثيب بالكثير ، أي : يقبل العمل اليسير من المؤمن ويثيبه الجنّة.

قال : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) : يعني القرآن (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) : أي من التوراة والإنجيل. (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٣١).

قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) : أي اخترنا (مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها).

ذكروا عن جعفر بن زيد (١) أنّ رجلا بلغه أنّه من أتى بيت المقدس ، لم يشخصه إلّا الصلاة فيه ، فصلّى فيه ركعتين خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. قال : فأتيت بيت المقدس ، فدخلت المسجد فصلّيت فيه ركعتين ، ثمّ قلت : اللهمّ صل وحدتي ، وآنس وحشتي ، وارحم غربتي ، وسق إليّ جليسا صالحا تنفعني به. [فبينا أنا كذلك إذ دخل شيخ موسوم فيه الخير] (٢) ، فقام عند سارية فصلّى ركعتين ، ثمّ جلس. فقمت إليه ، ثمّ سلّمت عليه ، ثمّ جلست فقلت : من أنت ، يرحمك الله؟ فقال : أنا أبو الدرداء ، فقلت : الله أكبر! قال : ما لك يا عبد الله ، أذعورة (٣) أنا؟ قلت : لا والله ، ولكن بلغني أنّ من أتى هذا المسجد لم يشخصه إلّا الصلاة فيه ، فصلّى فيه ركعتين خرج من ذنوبه

__________________

ـ بوار الأيّم ، ويقال : بار الطعام وبارت السوق».

(١) روى ابن سلّام هذا الخبر من طريقين. فقد جاء في سح ورقة ١٦٦ ما يلي : «حدّثنا الخليل بن مرّة وإسرائيل بن يونس عن جعفر بن زيد العبديّ. وحدّثنيه النضر بن بلال عن أبان بن عياش عن جعفر بن زيد أنّ رجلا بلغه ، قال الخليل : لا أدري يعني نفسه ، وقد كان كبيرا ، أو يعني غيره ، أنّ رجلا بلغه أنّه من أتى ...».

(٢) كذا في سح ورقة ١٦٦ ، وهو أتمّ وأوضح ، وفي ع : «... تنفعني به إذ دخل رجل فقام عند سارية ...».

(٣) كذا في ب وع ، وفي سح أيضا : «أذعورة أنا». وفي لوحة من قطع مخطوطات القيروان المصوّرة بدار الكتب بالقاهرة : «يا عبد الله ، أذعرة أنا؟ قلت : لست بذعرة». وفي اللسان : «رجل ذاعر ، وذعرة ، وذعرة : ذو عيب». وكأني باللفظ هنا يفيد معنى هل أنا أوحى لك بالذعر؟ هل أخيفك؟.

٣٦٧

كيوم ولدته أمّه. قال : الحديث كما بلغك. قلت : فجئت إلى هذا المسجد فصلّيت فيه ركعتين ، ثمّ قلت : اللهمّ صل وحدتي ، وآنس وحشتي ، وارحم غربتي ، وسق إليّ جليسا صالحا ينفعني.

قال : فأنا أحقّ بالحمد منك إذ أشركني الله في دعوتك ، وجعلني ذلك الجليس الصالح. لا جرم لأحدثنّك بحديث سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم أحدّث به أحدا قبلك ولا أحدث به أحدا بعدك. سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في هذه الآية : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ..). إلى آخر الآية. قال : فيجيء هذا السابق بالخيرات فيدخل الجنّة بغير حساب ، ويجيء هذا المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، ثمّ يدخل الجنّة ، ويجيء هذا الظالم لنفسه فيوقف ويعيّر ويوبّخ (١) ويعرّف ذنوبه ثمّ يتجاوز الله عنه فيدخله الجنّة بفضل رحمته ، فهم الذين قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ). غفر الذنب الكبير ، وشكر العمل اليسير ، سبحانه وتعالى (٢).

ذكروا عن أبي قلابة أنّه تلا هذه الآية إلى قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) فقال : دخلوها كلّهم. ذكروا عن أبي المتوكّل الناجي أنّ حبرا من الأحبار لقي كعبا فقال : يا كعب ، تركت دين موسى واتّبعت دين محمّد؟ فقال : بل أنا على دين موسى واتّبعت دين محمّد ، فقال : فما حملك على ذلك؟ فقال : إنّي وجدت أمّة محمّد يقسمون يوم القيامة ثلاثة أثلاث : ثلث يدخلون الجنّة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ، وثلث يقول الله تبارك وتعالى لملائكته : قلّبوا عبادي فانظروا ما كانوا يعملون.

فيقلّبونهم فيقولون : ربّنا نرى ذنوبا كثيرة وخطايا عظيمة.

فيقول : قلّبوا عبادي فانظروا ما كانوا يعملون فيقلّبونهم إلى ثلاث مرّات ، فيقول في الرابعة : قلّبوا ألسنتهم فانظروا ما كانوا يعملون ، فيقلّبون ألسنتهم ، وهو العالم بقولهم ، فيقولون : ربّنا ،

__________________

(١) كذا في ز ورقة ٢٨٢ : «يعيّر ويوبّخ» ، وفي ع : «يعيّر ويحزن» ، وفي سح : «يعيّر ويخزى».

(٢) الحديث صحيح ، أخرجه أحمد ، وابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٢ ص ١٣٧ مختصرا ، وفيه أنّ الرجل الذي لقي أبا الدرداء يسمّى أبا ثابت. ولم أجد فيما بين يديّ من مصادر التفسير والحديث من روى هذا الحديث مفصّلا كما رواه ابن سلّام.

٣٦٨

نراهم يخلصون لك ولا يشركون بك شيئا. فيقول : عبادي أخلصوا لي ولم يشركوا بي شيئا اشهدوا يا ملائكتي إنّي قد غفرت لعبادي ، وقد (١) رحمتي بالغفران لعبادي بما أخلصوا لي ولم يشركوا بي شيئا.

ذكروا عن عقبة بن صهبان قال : سألت عائشة عن هذه الآية ، فقالت : نعم ، يا بنيّ ، كلّهم إلى الجنّة ؛ السابق من مضى على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد شهد له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحياة والرزق ، والمقتصد من اتّبع أثره من أصحابه حتّى لحق به ، والظالم لنفسه مثلي ومثلك. فألحقت نفسها بنا من أجل الحدث الذي أصابت. ذكروا عن عمر بن الخطّاب قال : سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له بعد توبته.

ذكروا عن الحسن قال : السابقون أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقتصد رجل سأل عن آثار أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتّبعهم ، والظالم لنفسه منافق قطع به دونهم.

ذكروا عن الضحّاك بن مزاحم أنّه قرأ هذا الحرف : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) فقال : سقط هذا ، يعني ما قال الحسن : إنّه المنافق.

وتفسير مجاهد : إنّه منافق (٢). وقال : هي التي في سورة الواقعة ، السابقون هم السابقون ، يعني قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١٠) [الواقعة : ١٠] فوصف صفتهم في أوّل السورة ، والمقتصد أصحاب اليمين ؛ وهم المنزل الآخر في سورة الواقعة : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (٢٧) [الواقعة : ٢٧] فوصف صفتهم. والظالم لنفسه أصحاب المشأمة.

وقال بعضهم : إنّ أصحاب اليمين هم الذين يحاسبون حسابا يسيرا ، وهو المقتصد في حديث أبي الدرداء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم أصحاب المنزل الآخر في سورة الرحمن حيث يقول : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) (٦٢) [الرحمن : ٦٢] فوصفهما. ومنزل السابقين المنزل الأوّل في سورة الرحمن : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦) [الرحمن : ٤٦].

__________________

(١) كلمة مطموسة في ب ، وهي ساقطة من ع وسح وز ، ولعلّها : «سبقت».

(٢) كذا في ع وب. وفي سح ورقة ١٦٨ : «إنّه الجاحد والمنافق». ولم يرد في تفسير مجاهد ، ص ٥٣٢ لفظ الجاحد ولا المنافق. وانظر تفسير الطبريّ ، ج ٢٢ ص ١٣٣ ـ ١٣٧.

٣٦٩

قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) قد فسّرنا ذلك في غير هذه الآية.

قوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً). وقال في آية أخرى : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان : ٢١].

قوله : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) (٣٣) : ذكروا عن أبي هريرة قال : دار المؤمن من درّة مجوّفة ، في وسطها شجرة تنبت الحلل ، ويأخذ بأصبعيه حلّة منظّمة (١) باللؤلؤ والمرجان.

ذكروا عن عمرو بن ميمون الأوديّ قال : إنّ المرأة من نساء أهل الجنّة من الحور العين ليكون عليها سبعون حلّة ، وإنّه ليرى مخّ ساقها من وراء ذلك كما يبدو الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.

قوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (٣٤) : وقد فسّرناه قبل هذا الموضع (٢). وقال بعضهم : كانوا في الدنيا محزونين ، كقوله : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) (٢٦) [الطور : ٢٦] أي : خائفين. وقال بعضهم : الموت ، ومنه تحزن القلوب.

قوله : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٥) : أي إعياء.

ذكروا أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، ما راحة أهل الجنّة فيها؟ فقال ، رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : سبحان الله! وهل فيها من لغوب ، كلّ أمرها إلى راحة (٣). فأنزل الله هذه الآية : (لا يَمَسُّنا فِيها) أي : في الجنّة ، (نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ).

__________________

(١) جاءت الكلمة هكذا في ع : «مبطّنة» ، وفي سح : «منطّقة» ولها وجه ؛ أي : عليها نطاق ، وأثبتّ ما جاء في ز ، ورقة ٢٨١ : «منظّمة» ، أي : عليها نظم من اللؤلؤ والمرجان.

(٢) انظر ما سلف قريبا ، من هذا الجزء ، تفسير الآية ٣٢ من هذه السورة ، وهو يشير إلى ما ذكر في حديث أبي الدرداء عن الصنف الثالث.

(٣) رواه ابن سلّام بالسند التالي كما جاء في سح ورقة ١٦٩ ـ ١٧٠ : «حدّثنا خالد عن نفيع ، مولى أمّ سلمة ، زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عبد الله بن أبي أوفى أنّ رجلا ...». ولفظه : «مه مه! أوهل فيها من لغوب ، كلّ أمرهم راحة». وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقيّ عن عبد الله بن أبي أوفى كما في الدرّ المنثور ، ج ٥ ص ٢٥٤.

٣٧٠

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) : وقال في آية أخرى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٣٠) [النبأ : ٣٠].

ذكروا عن ابن عمر قال : ما نزل في أهل النار آية هي أشدّ من هذه.

قال : (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) (٣٦) : أي بربّه. وهو كفر دون كفر وكفر فوق كفر.

قوله : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) : أي في النار (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) : أي أخرجنا فردّنا إلى الدنيا نعمل صالحا غير الذي كنّا نعمل. قال الله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) : يعني النبيّ. ذكر بعضهم قال : نزلت هذه الآية فيها ابن ثمان عشرة سنة. وكلّ شيء ذكر من كلام أهل النار فهو قبل أن يقول الله لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٨].

قوله : (فَذُوقُوا) : أي العذاب (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٧) : وهذا ظلم الشرك ، وهو ظلم فوق ظلم ، وظلم دون ظلم.

قوله : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : غيب السماوات هو ما ينزل من السماء من المطر وما فيها ، وغيب الأرض ما يخرج منها من النبات وما فيها. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣٨) : وهو كقوله : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) (١٠) [العنكبوت : ١٠] ، وكقوله : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) [التغابن : ٤] وأشباه ذلك.

قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) : أي خلفا من بعد خلف. (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) : أي انه يثاب عليه النار (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) (٣٩).

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) : أي في خلق السماوات ، على الاستفهام ، أي : إنّهم لم يخلقوا مع الله منها شيئا. (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) [فيما هم عليه من الشرك] (١). (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) : أي لم يفعل ذلك. كقوله : (أَمْ ـ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أي : فيما هم عليه من الشرك ، (فَهُمْ

__________________

(١) زيادة من سح ورقة ١٧٠ ، وفي ز ورقة ٢٨٢ : «بما هم عليه من الشرك».

٣٧١

بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) (٢١) [الزخرف : ٢١]

قال : (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ) : أي المشركون. كلّ هذا ظلم الشرك ، وهو ظلم دون ظلم ، وظلم فوق ظلم (بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) (٤٠) : يعني الشياطين الذين دعتهم إلى عبادة الأوثان والمشركين الذين دعا بعضهم بعضا إلى ذلك.

قوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) : أي لئلّا تزولا. (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) : وهذه صفة. يقول : إن زالتا ولن تزولا (١).

ذكروا عن (٢) عن الأعمش عمّن حدّثه عن عبد الله بن مسعود أنّ رجلا جاء إليه ، فرأى عبد الله بن مسعود عليه أثر السفر ، فقال له : من أين قدمت؟ قال : من الشام. قال : فمن لقيت؟ قال : لقيت فلانا وفلانا ، ولقيت كعب الأحبار. قال : فما حدّثك به؟ قال : حدّثني أنّ السماوات تدور على منكبي ملك. فقال عبد الله بن مسعود : ليتك افتديت من لقيّك إيّاه براحلتك ورحلك؟ كذب كعب ، إنّ الله يقول : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ).

قال الله : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤١) : أي حليما لا يعجّل بالعقوبة ، غفورا لمن تاب وآمن.

قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) : كقوله : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٩) [الصافّات : ١٦٧ ـ ١٦٩].

قال الله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) : أي محمّد (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) (٤٢) : أي عن الإيمان.

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٥٦ : «... ثمّ جاء (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) مجازه : لا يمسكهما أحد. و (إن) في موضع آخر معناه (ما) (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) معناه : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال» [إبراهيم : ٤٦].

(٢) روى ابن سلّام هذا الخبر بقوله : «أخبرني صاحب لي عن الأعمش».

٣٧٢

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) : أي عن عبادة الله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) : يعني الشرك وما يمكرون برسول الله وبدينه. وقال في آية أخرى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..). إلى آخر الآية [الأنفال : ٣٠].

قال : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) : وهذا وعيد لهم. قال : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) : أي سنّة الله في الأوّلين. كقوله : (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) [غافر : ٨٥] المشركين ، أي : إنّهم كانوا إذا كذّبوا رسلهم أهلكهم ، فيؤمنون عند نزول العذاب فلا يقبل ذلك منهم.

قال : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) : أي لا يبدّل بها غيرها (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤٣) : أي لا تحول. وأخّر عذاب كفّار آخر هذه الأمّة إلى النفخة الأولى بالاستئصال ، بها يكون هلاكهم. وقد عذّب أوائل مشركي هذه الأمّة بالسيف يوم بدر.

قوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي بلى ، قد ساروا ، وليتفكّروا فيما أهلك الله به الأمم ، فليحذروا أن ينزل بهم ما نزل بهم (١). وكان عاقبة الذين من قبلهم أن دمّر الله عليهم ثمّ صيّرهم إلى النار.

قال : (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ) : أي ليسبقه (مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) : أي حتّى لا يقدر عليه (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) (٤٤).

قوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) : أي بما عملوا (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) : يقول : لحبس عنهم القطر ، فهلك ما في الأرض من دابّة (٢). (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ) : يعني المشركين (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي الساعة التي يكون بها هلاك آخر كفّار هذه الأمّة (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) : أي الساعة (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥) : لا تخفى عنه منهم خافية ، أي : لا يكذّب صادقا ، ولا يصدّق كاذبا ، ولا يقضي بباطل ، سبحانه وتعالى.

__________________

(١) كذا في ب وع ، وفي سح ورقة ١٧٢ : «فلو تفكّروا فيما أهلك الله به الأمم فيحذروا أن ينزل بهم ما نزل بهم».

(٢) في ع : «يحبس عنهم المطر فتهلك كلّ دابّة». وما أثبتّه من سح ومن ز أصحّ عبارة وأنسب.

٣٧٣

تفسير سورة يس وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (يس) (١) : يقول : يا إنسان ، والسين حرف من حروف الإنسان. يقول للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا إنسان (١). (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٢) : أي المحكم بالحلال والحرام. (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) : [أقسم للنبيّ عليه‌السلام بالقرآن الحكيم إنّه (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، أي : على دين مستقيم] (٢). والصراط هو الطريق المستقيم ، أي : إلى الجنّة.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٥) : يعني القرآن هو تنزيل العزيز الرحيم ، نزّله مع جبريل على محمّد عليهما‌السلام.

قوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) : يعني قريشا (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) : قال بعضهم : لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم. وقال جماعة من أهل العلم : أي : بالذي أنذر آباؤهم. فمن قال : لم ينذر آباؤهم فهو يعني مثل قوله : (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) [السجدة : ٣] يعني قريشا. ومن قال : مثل الذي أنذر آباؤهم فهو يأخذها من هذه الآية : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (٦٨) [المؤمنون : ٦٨] يعني من كان قبل قريش (٣). قال : (فَهُمْ غافِلُونَ) (٦) : أي عمّا جاءهم به النبيّ عليه‌السلام ، أي : في غفلة من البعث.

قال : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) : يعني لقد سبق القول على أكثرهم ، أي : من لا يؤمن منهم. (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧).

__________________

(١) هذا قول ابن عبّاس : وقال سعيد بن جبير : هو اسم من أسماء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهنالك أقوال أخرى ذكرها المفسّرون في تأويل كلمة (يس) قالوا معناها : يا سيّد ، يا إنسان ، يا رجل ، يا محمّد. وقال أبو عبيدة : «مجازه مجاز ابتداء أوائل السور».

(٢) زيادة من سح ورقة ١٧٢ ، ومن ز ورقة ٢٨٢.

(٣) أورد الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٧٢ الوجهين معا في تأويل (ما) ؛ الوجه الأوّل أن تكون نافية ، والوجه الثاني أن تكون اسم موصول. وقال عن هذا الوجه الأخير : «ويقال : لتنذرهم بما أنذر آباؤهم ، ثمّ تلقي الباء فيكون (ما) في موضع نصب ، كما قال : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصّلت : ١٣]».

٣٧٤

قوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) (٨) : أي فهم فيما تدعوهم إليه من الهدى بمنزلة الذي في عنقه الغلّ ، فهو لا يستطيع أن يبسط يده ، أي : أنّهم لا يقبلون الهدى ، والمقمح ، فيما ذكروا عن عبد الله بن مسعود ، الذي غلّت يده إلى عنقه. وقال بعضهم : الأذقان : الوجوه ، أي : غلّت يده فهي عند وجهه. وتفسير الحسن : المقمح : الطامح ببصره الذي لا يبصر موطئ قدمه ، أي : حيث يطأ ؛ أي : لا يبصر الهدى. وقال مجاهد : رافعو رؤوسهم وأيديهم موضوعة على أفواههم.

قال : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) : ذكروا عن عكرمة قال : [(مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) قال : ما صنع الله فهو سدّ ، وما صنع ابن آدم فهو سدّ] (١). وقد قالوا : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصّلت : ٥] أي : فلا نبصر ما تقول.

قال : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٩) : أي الهدى. وهذا كلّه كقوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) فلا يبصر الهدى بالكفر الذي عليه. قال : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣] أي : لا أحد يهديه بعد أن يضلّه الله بفعله (٢).

وبعضهم يقول : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) أي : ما كان عليه آباؤهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي : من خلف آبائهم (سَدًّا) يعنيهم ؛ وهو تكذيبهم بالبعث. (فَأَغْشَيْناهُمْ) يعني ظلمة الكفر بكفرهم ، (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي : لا يبصرون الهدى.

قوله : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠) : يعني الذين لا يؤمنون. (إِنَّما تُنْذِرُ) : أي إنّما يقبل نذارتك فينتذر ، أي : فيتّعظ (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) : يعني القرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) : كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨] وقوله : (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي : في السّرّ ، فأخلص لله القول والعمل.

قال : (فَبَشِّرْهُ) : أي فبشّر هذا (بِمَغْفِرَةٍ) : أي لذنبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (١١) : أي وثواب

__________________

(١) زيادة من سح ورقة ١٧٣.

(٢) ذكر الفرّاء سببا لنزول هذه الآية فقال في المعاني ، ج ٢ ص ٢٧٣ : «ونزلت هذه الآية في قوم أرادوا قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني مخزوم ، فأتوه في مصلّاه ليلا ، فأعمى الله أبصارهم عنه ، فجعلوا يسمعون صوته بالقرآن ولا يرونه. فذلك قوله : (فَأَغْشَيْناهُمْ) وتقرأ : (فَأَغْشَيْناهُمْ) بالعين ، أعشيناهم عنه».

٣٧٥

كريم ، وهو الجنّة.

قوله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) : يعني البعث (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) : وهو قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٥) [الانفطار : ٥]. (ما قَدَّمُوا) أي : ما عملوا من خير أو شرّ. (وَآثارَهُمْ) أي : ما أخّروا من سنّة حسنة فعمل بها من بعدهم ، فإنّ لهم أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ، أو سنّة سيّئة يعمل بها من بعدهم ، فإنّ عليهم مثل وزر من عمل بها ، ولا ينقص من أوزارهم شيء.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّما داع دعا إلى هدى فاتّبع عليه فإنّ له مثل أجر من اتّبعه ولا ينقص لهم من أجورهم شيء ، وأيّما داع دعا إلى ضلالة فاتّبع عليها كان عليه مثل وزر من اتّبعه ولا ينقص من أوزارهم شيء (١).

ذكروا عن عمر بن عبد العزيز أنّه قال : (وَآثارَهُمْ) أي : خطوهم (٢).

وقال بعضهم : أي : ذكرهم. وقال بعض العلماء : لو أنّ الله مغفل شيئا ، أي : تارك شيئا ، من شأنك يا ابن آدم لأغفل هذه الآثار التي تعفوها الرياح.

قال : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢) : أي في كتاب بيّن ، وهو اللوح المحفوظ.

قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) : وهي أنطاكية (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) : تفسير مجاهد فشدّدنا بثالث (٣). قال : إنّه

__________________

(١) انظر ما مضى في هذا الجزء ، تفسير الآية ١٣ من سورة العنكبوت.

(٢) روى الواحديّ في أسباب النزول ، ص ٣٨٤ ما يلي : «قال أبو سعيد الخدريّ : كان بنو سلمة في ناحية من المدينة ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ آثاركم تكتب ، فلم تنتقلون». وعن ابن عبّاس وسعيد بن جبير أنّها الخطى إلى المساجد خاصّة ، وقد صحّت في هذا المعنى أحاديث عن النبيّ عليه‌السلام. انظر تفسير القرطبيّ ، ج ٥ ص ١٢.

(٣) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٥٨ : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي : قوّينا وشدّدنا. قال النمر بن تولب :

كأنّ جمرة أو عزّت لها شبها

بالجذع يوم تلاقينا بإرمام

٣٧٦

أرسل إليهم اثنان قبل الثالث فقتلوهما ، ثمّ أرسل الثالث. (فَقالُوا) : يعني الأوّلين قبل الثالث ، والثالث بعدهما. (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) : وجحدوا أنّهم رسل (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) (١٥).

(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٧).

قوله : (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) : أي تشاءمنا بكم. قال بعضهم : قالوا : إن أصابنا سوء (١) فهو من قبلكم. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) : أي لنقتلنّكم ، في تفسير الحسن. غير أنّ الحسن قال : لنرجمنّكم بالحجارة حتّى نقتلكم. (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨) : أي موجع ، قبل أن نقتلكم.

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) : أي عملكم معكم (٢) (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) : أي أئن ذكّرناكم بالله تطيّرتم بنا ، على الاستفهام. ومقرأ العامّة بالتشديد : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩) : أي مشركون.

قوله : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) : يعني أنطاكية (رَجُلٌ يَسْعى) : أي يسرع ؛ وهو حبيب النجّار. (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) : أي خلقني (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢) : أي يوم القيامة. (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) : على الاستفهام.

(إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ) : يعني الآلهة (شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) (٢٣) من ضرر (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) : يعني في خسران بيّن (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (٢٥) (٣).

__________________

أو عزّتها : أو غلبتها. يقال في المثل : من عزّ بزّ : من قهر سلب. وتفسير بزّ : انتزع ...».

(١) في ع وب : «شؤم» ، وفي تفسير الطبريّ ، ج ٢٢ ص ١٥٧ : «شرّ». وأثبتّ ما جاء في سح ورقة ١٧٥ : «سوء». والمعنى واحد.

(٢) قال أبو عبيدة : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي : حظّكم من الخير والشرّ». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٧٤ : «يريد طائركم معكم حيثما كنتم ، والطائر هاهنا الأعمال والرزق ، يقول : هو في أعناقكم».

(٣) قال أبو عبيدة : «مجازها اسمعوني ، اسمعوا منّي» ، وقال الفرّاء : «أي : فاشهدوا لي بذلك ، يقوله حبيب ـ

٣٧٧

وتفسير مجاهد غير هذا ؛ قال مجاهد : كان رجلا من قوم يونس وكان به جذام ، فكان يطيف بآلهتهم يدعوها فلم تغن عنه شيئا. فبينما هو يوما كذلك إذ مرّ بجماعة فدنا منهم ، فإذا نبيّ الله يدعوهم إلى الهدى ؛ وقد قتلوا قبله اثنين فدنا منه. فلمّا سمع كلام النبيّ قال له : يا عبد الله ، إنّ معي ذهبا فهل لك أن تأخذه منّي وأتّبعك فتدعو الله أن يشفيني. قال له : اتّبعني ولا حاجة لي في ذهبك ، وأنا أدعو الله لك فيشفيك. قال : فدعا الله ، فبرأ. فقال : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ ، أَجْراً) لما كان عرض عليه من الذهب فلم يقبله منه ، (وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ، أي : خلقني (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي : بعد الموت (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) أي : لما كان يدعو آلهتهم لما به من الجذام فلم تغن عنه شيئا (وَلا يُنْقِذُونِ) أي : من ضرّ. يعني الجذام الذي كان به. (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) أي : فاسمعوا قولي ، أي : فاقبلوه. ودعاهم إلى الإيمان. وليس هذا الحرف من تفسير مجاهد. فأخذه قومه فقتلوه.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) : أي وجبت لك الجنّة. (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٧) : فنصحهم حيّا وميّتا.

قال الله : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) : أي من رسالة في تفسير مجاهد. (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) (٢٨). والجند في تفسير الحسن : الملائكة الذين يجيئون بالوحي إلى الأنبياء ، فانقطع عنهم الوحي ، واستوجبوا العذاب فجاءهم العذاب. قال الله : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) : والصيحة عند الحسن : العذاب (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (٢٩) : أي قد هلكوا.

قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) : في أنفسهم (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٠) : أي فيا لك حسرة عليهم ؛ مثل قوله : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] أي : في أمر الله. إذا كان القول من العباد قال العبد : يا حسرتا ، وقال القوم : يا حسرتنا. وإنّما أخبر الله أنّ تكذيبهم للرسل حسرة عليهم (١).

__________________

ـ للرسل الثلاثة».

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٧٥ : «وقوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) المعنى : يا لها حسرة على العباد. وقرأ ـ

٣٧٨

قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) (٣١) : أي لا يرجعون إلى الدنيا. يعني من أهلك من الأمم السالفة حين كذّبوا رسلهم. يقول هذا لمشركي العرب. يقول : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) ، يحذّرهم أن ينزل بهم ما نزل بهم. قال : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٣٢) (١) : أي : يوم القيامة ، يعني : الماضين والباقين.

قال : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) : أي المجدبة (أَحْيَيْناها) : أي بالنبات يعني بالميتة الأرض اليابسة التي ليس فيها نبات. فالذي أحياها بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى. قال : (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) : أي ولم تعمله أيديهم ، ونحن أنبتنا ما فيها وفجّرنا فيها من العيون (٢). (أَفَلا يَشْكُرُونَ) (٣٥).

قوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) : يعني الأصناف كلّها (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) : أي الذكر والأنثى (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٣٦) : أي ممّا خلق في البرّ والبحر من صغير وكبير. وهو كقوله : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨) [النحل : ٨].

قال : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) : أي نذهب منه النهار (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٧).

قال : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) : أي لا تجاوزه. وهذا أبعد منازلها ، ثمّ ترجع إلى

__________________

ـ بعضهم : (يا حسرة العباد) والمعنى في العربيّة واحد ؛ والله أعلم. والعرب إذا دعت نكرة موصولة بشيء آثرت النصب يقولون : يا رجلا كريما أقبل ، ويا راكبا على البعير أقبل وإذا أفردوا رفعوا أكثر ممّا ينصبون».

(١) وقال الفرّاء في ص ٣٧٦ ـ ٣٧٧ : «وقوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ) شدّدها الأعمش وعاصم. وقد خفّفها قوم كثير منهم من قرّاء أهل المدينة ، وبلغني أنّ عليّا خفّفها. وهو الوجه ؛ لأنّها (ما) أدخلت عليها لام تكون جوابا لإن ، كأنّك قلت : وإن كلّ لجميع لدينا محضرون ، ولم يثقّلها من ثقّلها إلّا عن صواب ...».

(٢) قال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ص ٣٦٥ : «أي : وليأكلوا ممّا عملته أيديهم». وزاد الطبريّ وجها آخر لإعراب (ما) فقال في تفسيره ، ج ٢٣ ص ٤ : «ولو قيل : (ما) بمعنى المصدر كان مذهبا ، فيكون معنى الكلام : ومن عمل أيديهم. ولو قيل : إنّها بمعنى الجحد ، ولا موضع لها ، كان أيضا مذهبا ، فيكون معنى الكلام : ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم». وهذا الوجه الأخير هو الذي أورده المؤلّف هنا ، وهو أولى بالاعتبار حتّى يستشعر الإنسان سبوغ نعم الله عليه فيقابل ذلك بالشكر والحمد.

٣٧٩

أدنى منازلها ، في تفسير الحسن ، إلى يوم القيامة ، ثمّ تكوّر فيذهب ضوؤها. ذكروا عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّه كان يقرؤها : (والشّمس تجري لا مستقرّ لها) ، وهو كقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) [إبراهيم : ٣٣] قال : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٣٨).

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) : أي يزيد وينقص ، وفي تفسير الكلبيّ : يجري في منازله (١). قال الحسن : لا يطلع ولا يغيب إلّا في زيادة ونقصان. (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٩) : أي كعذق النخلة اليابس ، يعني إذا كان هلالا (٢).

قوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) : أي لا يجتمع ضوؤهما ، في قول مجاهد ، يقول : ضوء الشمس بالنهار ، وضوء القمر بالليل لا ينبغي لهما أن يجتمع ضوؤهما.

وفي تفسير الكلبيّ : لا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل فتكون مع القمر في سلطانه. وقال الحسن : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ليلة الهلال خاصّة ؛ لا يجتمعان في السماء ، وقد يريان جميعا ويجتمعان في غير ليلة الهلال ؛ وهو كقوله : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (٢) [الشمس : ٢] أي : إذا تبعها ليلة الهلال.

ذكروا عن بعض أهل التفسير قال : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي : يتلوها صبيحة الهلال. وبعضهم يقول : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي : صبيحة ليلة البدر ، أي : يبادر فيغيب قبل طلوعها.

قال : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) : أي يأتي عليه النهار فيذهبه. كقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهار

__________________

(١) جاءت العبارة ناقصة في ع ، ومضطربة مطموسة في سح ، وهي أوضح في ز ورقة ٢٨٤ : «أي : يجري على منازله ، لا يزيد ولا ينقص».

(٢) كذا في المخطوطات كلّها ، وهو الصحيح ، فإنّ لفظ الهلال يطلق أحيانا أيضا على القمر إذا كان في أواخر منازله ليلة سبع وثمان وعشرين ، قبل أن يستتر ، وهو المراد باللفظ هنا ، يدلّ على ذلك لفظ : (عادَ). وحقيقة العرجون ما ذكره اللغويّون : (عود الكباسة) أي : العود من الموضع النابت في النخلة إلى موضع الشماريخ». قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن ، ص ٣١٧ : «والعرجون ، إذا يبس دقّ واستقوس حتّى صار كالقوس انحناء ، فشبّه القمر به ليلة ثمانية وعشرين». وانظر تفسير الطبريّ ، ج ٢٣ ص ٦. أمّا أبو عبيدة فشرح العرجون بقوله : «هو الإهان ، إهان العذق الذي في أعلاه العثاكيل ، وهي الشماريخ». والمعنى واحد.

٣٨٠