تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ) : يعنون هودا (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : أي يزعم أنّ الله أرسله (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) (٣٨) : أي بمصدّقين. (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ) الله : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ). (٤٠)

قال الله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ) : أي العذاب (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) : أي كالشيء البالي المتهشّم في تفسير مجاهد (١). وقال بعضهم : مثل النبات إذا صار غثاء فتهشّم بعد أن كان أخضر. قال : (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤١).

قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي من بعد الهالكين (قُرُوناً آخَرِينَ) (٤٢).

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) : يعني الوقت الذي يهلكها فيه (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٤٣) : أي عن الوقت ساعة ولا يستقدمون ساعة قبل الوقت.

قوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) : أي تباعا ، بعضهم على أثر بعض. (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) : يعني العذاب الذي أهلكهم به ، أمّة بعد أمّة حين كذّبوا رسلهم (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) : أي لمن بعدهم (٢). (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (٤٤).

قال الله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٤٥) : أي وحجّة بيّنة. (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) : يعني قومه (فَاسْتَكْبَرُوا) : أي عن عبادة الله (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) (٤٦) : أي مشركين. وقال الحسن : مستكبرين في الأرض على الناس.

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) (٤٧) : كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل ووضعوا عليهم الجزية ، [وليس يعني أنّهم يعبدوننا] (٣).

قال الله : (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) (٤٨) : أي فأهلكهم الله بالغرق.

__________________

(١) وقال الفرّاء في المعاني : ج ٢ ص ٢٣٦ : «وقوله : (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) كغثاء الوادي : يبّسا بالعذاب. وتعبير أبي عبيدة في المجاز ج ٢ ص ٥٩ أدقّ وأوفى. قال : (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) وهو ما أشبه الزبد وما ارتفع على السيل وما أشبه ذلك ممّا لا ينتفع به في شيء».

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ص ٥٩ : (فَجَعَلْناهُمْ ، أَحادِيثَ) أي : يتمثّل بهم في الشرّ ، ولا يقال في الخير : جعلته حديثا».

(٣) وقع اضطراب في تفسير هذه الآيات في ب وع وسع فأثبتّ التصحيح والزيادة من ز ، ورقة ٢٢٦.

١٢١

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : أي التوراة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٤٩) : أي لكي يهتدوا.

قوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) : يقول : خلق لا والد له ، فهو آية. ووالدته ولدته من غير رجل ، فهي آية (١).

قال : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) (٥٠) : قال بعضهم : الرّبوة بيت المقدس. وقال بعضهم : بلغنا أنّ كعبا قال : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.

وقال مجاهد : الربوة بقعة في مكان مرتفع يستقرّ فيه الماء. وقال الحسن : الربوة : دمشق. قال : (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) : (قَرارٍ) يعني المنازل ، (وَمَعِينٍ) يعني الماء الذي أصله من العيون ، الظاهر الجاري.

وقال عكرمة : المعين : الظاهر. وقال الكلبيّ : المعين : الجاري ، وغير الجاري الذي نالته الدلاء (٢).

قوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) : أي الحلال من الرزق (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٥١) : أي هكذا أمر الله الرسل (٣).

قوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : قال بعضهم : ملّة واحدة. وقال بعضهم : أي

__________________

(١) جاء في كتاب الفاخر لأبي طالب المفضّل بن سلمة ص ٢٤٢ ـ ٢٤٣ مايلي : «الآية العلامة التي تدلّ على الشيء ... والآية أيضا المثل. فيراد به أنّه يتمثّل به في الشيء الذي ينسب إليه من خير أو شرّ. وقال الله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ، آيَةً) فيكون المعنى ـ والله أعلم ـ أنّهما مثل في كلّ ما يتعجّب منه. وتكون أيضا بمعنى العلامة ، أي : هما علامة تدلّ على قدرة الله جلّ وعزّ».

(٢) وقال أبو عبيدة في المجاز : «أي تلك الربوة لها ساحة وسعة أسفل منها ، وذات معين أي : ماء جار ظاهر بينهم».

(٣) هذا وجه من التأويل. وللفرّاء في المعاني ج ٢ ص ٢٣٧ وجه آخر إذ قال : «أراد النبيّ ، فجمع ، كما يقال في الكلام للرجل الواحد : أيّها القوم كفّوا عنّا أذاكم. ومثله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران : ١٧٣] الناس واحد معروف ، كان رجلا من أشجع يقال له نعيم بن مسعود». وقد نقل الطبريّ في تفسيره ، ج ١٦ ص ٢٨ هذا الكلام نقلا يكاد يكون حرفيّا ، ولكنّه جعل الكلام موجّها لعيسى بن مريم.

١٢٢

دينكم دين واحد ؛ يعني الإسلام ، وإن كانت الشرائع مختلفة. قال الله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨]. قال : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (٥٢) : أي لا تعبدوا غيري (١).

قوله : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) : هم أهل الكتاب ، تقطّعوا كتاب الله بينهم وحرّفوه ، وبدّلوا كتابا كتبوه على ما حرّفوا. وهي تقرأ على وجهين : (زُبُراً) و (زُبُراً). فمن قرأها (زُبُراً) [بفتح الباء] قال : قطعا. ومن قرأها (زُبُراً) [بضمّ الباء] قال : كتبا. وهي كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) [الأنعام : ١٥٩].

(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ) : أي بما عندهم ممّا اختلفوا فيه (فَرِحُونَ) (٥٣) : أي راضون. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : افترقت بنو إسرائيل على سبعين فرقة ، واحدة في الجنّة وسائرها في النار ، ولتفترقنّ هذه الأمّة على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنّة وسائرها في النار (٢).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر ، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه. قيل : يا رسول الله ، أهم اليهود والنصارى؟ قال : فمن إذا (٣).

قوله : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) : أي في غفلتهم ، يعني ضلالهم [(حَتَّى حِينٍ) (٥٤) : يعني إلى آجالهم] (٤) ، وهي منسوخة ، نسخها القتال. قوله : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ) : أي ما نزيدهم ونعطيهم (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) : أي ليس لذلك نمدهم بالمال والولد ، يعني المشركين (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٦) : أنّا لا نعطيهم ذلك مسارعة لهم في الخيرات وأنّهم يصيرون إلى النار ، إنّ ذلك شرّ لهم (٥).

__________________

(١) كذا في ب وع : «أي لا تعبدوا غيري» ، وفي سع ورقة ٤٦ و : «أن تعبدوا غيري». أي : فاتّقوا أن تعبدوا غيري.

(٢) أخرجه أبو داود والترمذيّ وابن ماجه وابن حبّان والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذيّ : حديث حسن صحيح. انظر ما سلف ج ١ تفسير الآية ١٠٣ من سورة آل عمران ، واقرأ تحقيقا قيّما في تخريج هذا الحديث كتبه الألبانيّ في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، (الحديث رقم ٢٠٣).

(٣) أخرجه أحمد والبخاريّ ومسلم وابن ماجه عن أبي سعيد ، وأخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة ، وانظر ما سلف ج ١ ، تفسير الآية ١٠٥ من سورة آل عمران.

(٤) سقط ما بين المعقوفين في ب وع وأثبتّه من سع ورقة ٤٦ ظ.

(٥) قال الفرّاء في المعاني ج ٢ ص ٢٣٨ : «وقوله : (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) يقول : أيحسبون أنّ ما نعطيهم في هذه ـ

١٢٣

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (٥٧) : أي خائفون وجلون.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (٥٨) : أي القرآن ، يصدّقون به. (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) (٥٩).

قال : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) : [ممدودة] (١) (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) : أي خائفة (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٦٠).

تفسير الحسن قال : كانوا يعملون ما عملوا من أعمال البرّ ويخافون ألّا ينجيهم ذلك من عذاب ربّهم. وقال مجاهد : يعملون ما عملوا من الخير وهم يخافون ألّا يقبل منهم.

ذكر عن ابن عبّاس وعائشة أنّهما كانا يقرآن هذا الحرف (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) خفيفة بغير مدّ. أي : يعملون ما عملوا ممّا نهوا عنه وقلوبهم وجلة خائفة] (٢) أن يؤخذوا به.

قوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) : أي في الأعمال الصالحة. قال الحسن : أي فيما افترض الله عليهم ، وهو واحد. قال : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) (٦١) : أي وهم للخيرات مدركون في تفسير الحسن. وقال بعضهم : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي : سابقون بالخيرات (٣).

قوله : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) : أي لا يكلّف الله نفسا إلّا طاقتها ؛ لا يكلّف الله المريض القيام ، ولا الفقير الزكاة ولا الحجّ.

قوله : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦٢) : أي لا يظلم عندنا أحد.

قوله : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) : أي في غفلة من هذا ، أي : ممّا ذكر من أعمال المؤمنين في الآية الأولى. (وَلَهُمْ) : يعني المشركين (أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) : [أي : دون أعمال المؤمنين ،

__________________

ـ الدنيا من الأموال والبنين أنّا جعلناه ثوابا لهم؟. ثمّ قال : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) إنّما هو استدراج منّا لهم».

(١) زيادة من ز ، ورقة ٢٢٧ للإيضاح ، أي : الهمزة ممدودة في قوله : (آتَوْا).

(٢) ما بين المعقوفين كلّه ساقط من ب وع لتكرار كلمة خائفة ، وأثبتّه باختصار من سع ورقة ٤٦ ظ ، ومن ز.

(٣) قال الفرّاء في المعاني ج ٢ ص ٢٣٨ : «وقوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يبادرون بالأعمال ، (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) يقول : إليها سابقون ، وقد يقال : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أي : سبقت لهم السعادة». وهذا اللّفظ الأخير هو تفسير ابن عبّاس كما جاء في صحيح البخاريّ ، كتاب القدر ، باب جفّ القلم على علم الله.

١٢٤

أي : شرّ من أعمال المؤمنين (هُمْ لَها عامِلُونَ) (٦٣) : أي لتلك الأعمال.

وتفسير مجاهد : (فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) يعني القرآن (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) (١) أي : خطايا من دون الحقّ.

وقال بعضهم : أعمال لم يعملوها سيعملونها. ذكر سعيد بن المسيّب عن عمر بن الخطّاب أنّه قال : يا رسول الله ، أنعمل لما قد فرغ منه ، أو لما يستأنف (٢)؟ قال : بل لما قد فرغ منه. فقال : ففيم العمل إذا؟ قال : اعملوا ، فكلّ لا ينال إلّا بالعمل (٣). قال هذا حين نجتهد.

ذكر بعض السلف قال : لم توكلوا إلى القدر وإليه تصيرون؟.

قوله : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ) : يعني أبا جهل وأصحابه الذين قتلوا يوم بدر. نزلت هذه الآية قبل ذلك بمكّة. قال : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) (٦٤) : قال بعضهم : إذا هم يجزعون (٤).

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) : أي لا تجزعوا اليوم ، وهو يوم بدر (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) (٦٥) : أي لا يمنعنكم منّا أحد. قال الحسن : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي إذا هم يصرخون إلى الله بالتوبة فلا تقبل منهم.

__________________

(١) ما بين المعقوفين ساقط من ب وع ، فأثبتّه من سع ورقة ٤٦ ظ.

(٢) كذا في ب وع : «يستأنف» ، وفي سع ورقة ٤٦ ظ : «لما نأتنف». وكلاهما بمعنى : أخذ أوّله وابتدأه. كما في اللسان (أنف).

(٣) لم أجده بهذا اللفظ وبهذا السند. وقد رواه ابن سلّام هكذا : «بحر السقاء عن الزهريّ عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر قال ...» والحديث صحيح أوردته كتب السنّة بألفاظ متشابهة. أشهرها : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له». أخرجه البخاريّ ومسلم في كتاب القدر ، عن عمران بن حصين قال : قال رجل : يا رسول الله ، أيعرف أهل الجنّة من أهل النار؟ قال : نعم. قال : فلم يعمل العاملون؟ قال : «كلّ يعمل لما خلق له ، أو لما يسّر له». واللفظ للبخاريّ في كتاب القدر ، باب : جفّ القلم على علم الله. وأخرجه الطبرانيّ في الكبير عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه قال : «قلت : يا رسول الله ، أنعمل على أمر قد فرغ منه أم على أمر مؤتنف؟ قال : بل على أمر قد فرغ منه. فقلت : ففيم العمل يا رسول الله؟ قال : «كلّ ميسّر لما خلق له».

(٤) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٦٠ : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي : يرفعون أصواتهم كما يجأر الثور».

١٢٥

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) : يعني القرآن (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) (٦٦) : أي تستأخرون عن الإيمان (١).

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) : أي بالحرم. (سامِراً تَهْجُرُونَ) (٦٧) : أي تتكلّمون بهجر القول ومنكره. قال الحسن : مستكبرين بحرمي (سامِراً تَهْجُرُونَ) أي تهجرون رسولي وكتابي.

وتفسير الكلبيّ : (سامِراً تَهْجُرُونَ) أي : سمّرا حول البيت ، وكذلك يقرأها الكلبيّ : (سمّرا) (٢).

[وقال قتادة : يعني بهذا أهل مكّة. كان سامرهم لا يخشى شيئا ؛ كانوا يقولون : نحن أهل الحرم فلا نقرب ، لما أعطاهم الله من الأمن ، وهم مع ذلك يتكلّمون بالشرك والبهتان ، والقراءة على تفسير قتادة بضمّ التاء وكسر الجيم] (٣).

قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) : يعني القرآن (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) (٦٨) : أي لم يأتهم إلّا ما أتى آباءهم الأوّلين.

قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) : أي الذين أرسل إليهم ، يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٦٩) : أي بل يعرفونه ويعرفون نسبه. (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) : أي بمحمّد جنون ، أي قد قالوا ذلك.

قال الله : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ) : أي القرآن. (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٠) : يعني جماعة من لم يؤمنوا منهم.

قوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) : أي أهواء المشركين (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) : أي لهلكت السماوات والأرض (وَمَنْ فِيهِنَّ) : يقول : لو كان الحقّ في أهوائهم

__________________

(١) كذا في ز ، وسع ورقة ٤٧ و : «تستأخرون عن الإيمان» ، وفي ب وع : «تستأخرون عن الأعمال».

(٢) السّمر «هو الحديث بالليل خاصّة. والسامر : الجماعة من الحيّ يسمرون. وهو اسم للجمع ، والواحد سامر وهم سمّار ، وسمّر ، وسمرة ، يقال «قوم سامر وسمّر. وقد يطلق السامر لمجلس السّمّار ، وللموضع الذي يجتمعون فيه للسمر. انظر اللسان (سمر).

(٣) ما بين المعقوفين زيادة من ز ، ورقة ٢٢٧ ، وقد جاءت جملة منه مضطربة في ب وع.

١٢٦

لوقعت أهواؤهم على هلاك السماوات والأرض ومن فيهنّ. قال بعضهم : الحقّ ههنا الله.

قال الله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي بشرفهم ، أي بشرف من آمن منهم به. قال الحسن : يعني القرآن ، أنزلنا عليهم فيه ما يأتون وما يذرون ، وما يحلّون وما يحرّمون. (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (٧١) : أي عمّا بيّنّا لهم معرضون. وقال في آية أخرى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠] أي فيه شرفكم ، أي من آمن به منهم.

قوله : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) : أي جعلا على ما تدعوهم إليه ، أي : إنّك لا تسألهم عليه أجرا. (فَخَراجُ رَبِّكَ) : أي ثوابه في الآخرة (خَيْرٌ) : من أجرهم لو أعطوك في الدنيا أجرا. قال : (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٧٢).

وقد جعل الله رزق العباد بعضهم من بعض ، يرزق الله إيّاهم ، فقسم رزق هذا على يد هذا.

ذكر عن أمّ الدرداء (١) قالت : ما بال أحدكم يقول : اللهمّ ارزقني وقد علم أنّ الله لا يمطر عليه من السماء دنانير ولا دراهم ، وإنّما يرزق بعضهم من بعض. فمن أتاه الله برزق فليقبله ، وإن لم يكن إليه محتاجا فليعطه أهل الحاجة من إخوانه ، وإن كان محتاجا استعان به على حاجته ، ولا يردّ على الله رزقه الذي رزقه (٢).

ذكروا عن عمران القصير (٣) قال : لقيت مكحولا بمكّة فأعطاني شيئا ، فانقبضت عنه. فقال : خذه فإنّي سأحدّثك فيه بحديث ، فقلت : حدّثني به ، فما شيء أحبّ إليّ منه. قال : أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر شيئا ، فكأنّه انقبض عن أخذه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا أتاك الله بشيء لم

__________________

(١) هي أمّ الدرداء الكبرى ، زوجة أبي الدرداء ، واسمها خيرة بنت أبي حدرد الأسلميّ. وقد حفظت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن زوجها أبي الدرداء ، عويمر الأنصاريّ ، وكانت من الصحابيّات الفضليات ، ذات رأي وعقل وكثرة عبادة. وقد توفّيت بالشام في خلافة عثمان. انظر ابن عبد البرّ ، الاستيعاب ، ج ٤ ص ١٩٣٤.

(٢) وقع اضطراب ونقص في هذا الخبر في مخطوطتي ب وع ، فأثبتّ تصحيحه من سع ورقة ٤٧ و.

(٣) في ب وع : «عمران بن حصين» ، وهو خطأ محض. والصواب ما أثبتّه من سع ورقة ٤٧ ظ : «عمران القصير». ذكره الذهبيّ في ميزان الاعتدال ، ج ٣ ص ٢٤٥ ، وذكره ابن حبّان في كتاب المجروحين ، ج ٢ ص ١٢٣ ، وهو أبو بكر عمران بن مسلم القصير المنقري. أمّا عمران بن حصين فهو الصحابيّ العالم الذي بعثه عمر ليفقّه أهل البصرة ، وتولّى القضاء بها. وتوفيّ سنة اثنتين وخمسين للهجرة. ولا يمكن أن يروي عن مكحول ، إمام أهل الشام ، المتوفّى سنة ثلاث عشرة بعد المائة للهجرة.

١٢٧

تطلبه ولم تعرض له فخذه ؛ فإن كنت محتاجا إليه فأنفقه ، وإن لم تكن محتاجا إليه فضعه في أهل الحاجة (١).

قوله : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٣) : أي إلى دين مستقيم ، وهو الطريق المستقيم إلى الجنّة. قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) (٧٤) : أي لجائرون ، وقال بعضهم : لتاركون ، أي : لتاركون له. وقال الكلبيّ : معرضون عنه ؛ وهو واحد.

قوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) : يعني أهل مكّة ، وذلك حين أخذوا بالجوع ، فقال الله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) ، (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٥) : أي في ضلالتهم يتمادون في تفسير الحسن. وبعضهم يقول : يلعبون.

قوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) : يعني ذلك الجوع في سبع سنين. (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) (٧٦) : يقول : لم يؤمنوا ، وقد سألوا أن يرفع ذلك عنهم فيؤمنوا. فقالوا : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) [الدخان : ١٢] وهو ذلك الجوع (إِنَّا مُؤْمِنُونَ). فكشف الله عنهم فلم يؤمنوا.

قال : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) : يعني يوم بدر ؛ أي : القتل بالسيف ، نزلت بمكّة قبل الهجرة ، فقتلهم الله يوم بدر. قال : (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٧٧) : أي يئسون [يئسوا من كلّ خير] (٢).

قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) : يعني سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٧٨) : أي أقلّكم من يشكر ، أي من يؤمن. قوله : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) : أي خلقكم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٧٩) : أي يوم القيامة.

قوله : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٨٠) :

__________________

(١) حديث صحيح ، أخرجه البخاريّ في كتاب الزكاة ، باب من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس «عن ابن عمر قال : سمعت عمر يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطيني العطاء فأقول : أعطه من هو أفقر اليه منّي فقال : خذه ، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ، وما لا فلا تتبعه نفسك».

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٢٢٨.

١٢٨

يقوله للمشركين ، يذكّرهم نعمته عليهم ؛ يقول : فالذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة ، والذي يحيي ويميت ، والذي له اختلاف الليل والنهار قادر على أن يحيي الموتى.

قال : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ). (٨١) ثمّ أخبر بذلك القول فقال : (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) : أي وعدنا أن نبعث نحن وآباؤنا فلم نبعث ، كقوله : (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٦) [الدخان : ٣٦]. قوله : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٨٣) : أي كذب الأوّلين وباطلهم. فأمر الله نبيّه أن يقول لهم :

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨٤) وقال : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ) : أي وإذا قالوا ذلك فقل (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٨٥) : فتؤمنوا وأنتم تقرّون أنّ الأرض ومن فيها لله.

ثمّ قال : (قُلْ) لهم يا محمّد (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٨٦) قال : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فإذا قالوا ذلك (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٨٧) وأنتم تقرّون أنّ الله خالق هذه الأشياء ، وهو ربّها. وقد كان مشركو العرب يقرّون بهذا كلّه.

ثمّ قال : (قُلْ) : لهم يا محمّد (مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ : مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : ملك كلّ شيء وخزائنه. (وَهُوَ يُجِيرُ) من يشاء ، فيمنعه فلا يوصل إليه (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي من أراد أن يعذّبه لم يستطع أحد منعه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨٨).

ثمّ قال : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فإذا قالوا ذلك (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (٨٩) : أي عقولكم ، يشبّههم بقوم مسحورين ، ذاهبة عقولهم (١).

ثمّ قال : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ) : أي بالقرآن ، أنزله الله على النبيّ عليه‌السلام (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٩٠). (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) وذلك لقول المشركين : الملائكة بنات الله. قال : (وَما

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٤١ : «وقوله : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)) : تصرفون ، ومثله تؤفكون. أفك وسحر وصرف ، سواء».

١٢٩

كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) وذلك لما عبدوا من الأوثان واتّخذوا مع الله الآلهة قال : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [يقول : لو كان معه آلهة إذا لذهب كل إله بما خلق] (١) (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) : أي لطلب بعضهم هلاك ملك بعض ، حتّى يعلو عليه كما يفعل ملوك الدنيا.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١) : ينزّه نفسه عمّا يكذبون. (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : قال الحسن : الغيب ههنا ما لم يجئ من غيب الآخرة ، والشهادة ما أعلم العباد. (فَتَعالى) : أي ارتفع الله (عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٩٢) : رفع نفسه عمّا قالوا.

قوله : (قُلْ) يا محمّد (رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) (٩٣) : أي من العذاب (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤) : أي لا تهلكني معهم إن أريتني ما يوعدون.

قال : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ) : أي من العذاب (لَقادِرُونَ) (٩٥).

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) : [يقول : ادفع بالعفو والصفح القول القبيح والأذى] (٢). وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم. (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) (٩٦) : أي بما يكذبون.

قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) (٩٧) : وهو الجنون (٣) (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٩٨) : أي فأطيع الشياطين فأهلك. أمره الله أن يدعو بهذا.

قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (٩٩) : قال الحسن : ليس أحد من خلق الله ليس لله بوليّ إلّا وهو يسأل الله الرجعة إلى الدنيا عند الموت بكلام يتكلّم به ، وإن كان أخرس لم يتكلّم في الدنيا بحرف قطّ ، وذلك إذا استبان له أنّه من أهل النار سأل الله الرجعة إلى الدنيا ولا يسمعه من يليه.

قوله : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) : أي فيما صنعت.

__________________

(١) زيادة من سع ، ورقة ٤٧ ظ للإيضاح.

(٢) زيادة من سع ورقة ٤٨ و.

(٣) هذا وجه من وجوه تأويل همز الشيطان ، ولم أجد فيما بين يديّ من المصادر من فسّره بالجنون ، كأنّه أراد صاحبه ما يؤدّي إليه همز الشيطان من المسّ والجنون أحيانا. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٦١ : «وهمز الشيطان غمزه الإنسان وقمعه فيه». وقال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٣٠٠ : «وهمزات الشياطين نخسها وطعنها. ومنه قيل للعائب : همزة كأنّه يطعن وينخس إذا عاب».

١٣٠

قال الله : (كَلَّا) : أي لست براجع إلى الدنيا. وهو مثل قوله : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠) [المنافقون : ١٠].

قال : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) : أي هذه الكلمة : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا احتضر الإنسان جمع كلّ شيء كان له يمنعه من الحقّ فيجعل بين عينيه ، فيقول عند ذلك : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ). (١)

قال : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٠٠) : قال مجاهد : البرزخ ما بين الموت إلى البعث (٢). وقال بعضهم : أهل القبور في البرزخ ، وهو الحاجز بين الدنيا والآخرة. وقال بعضهم : البرزخ : ما بين النفختين.

قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) : والصور قرن. وقد فسّرناه قبل هذا الموضع.

قوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (١٠١) : ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثلاثة مواطن لا يسأل فيهنّ أحد أحدا : إذا وضعت الموازين حتّى يعلم أيثقل ميزانه أم يخفّ ، وإذا تطايرت الصحف حتّى يعلم أيأخذ كتابه بيمينه أم بشماله ، وعند الصراط حتّى يعلم أيجوز الصراط أم لا يجوز؟ (٣).

وفي تفسير عمرو عن الحسن أنّ أنسابهم يومئذ قائمة معروفة. قال : يقول الله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ

__________________

(١) رواه يحيى بن سلّام عن خالد وإبراهيم بن محمّد عن صفوان بن سليم عن سليمان بن عطاء عن رجل من بني حارثة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... ورواه السيوطيّ عن الديلميّ بدون سند في الدرّ المنثور ، ج ٥ ص ١٥. من حديث جابر بن عبد الله.

(٢) وهو ما ذهب إليه الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٤٢ حيث قال : «البرزخ من يوم يموت إلى يوم يبعث». وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٦٢ : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) أي : أمامهم وقدّامهم. قال الشاعر :

أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا؟

وما بين كلّ شيئين برزخ ، وما بين الدنيا والآخرة برزخ».

(٣) انظر تخريجه فيما سلف ج ٢ ، تفسير الآية ٤٥ من سورة يونس.

١٣١

مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (٣٦) [عبس : ٣٤ ـ ٣٦]. وقال بعض الكوفيّين في قوله تعالى : (يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج : ١١]. أي يرونهم ، يقول : يعرفونهم في مواطن ولا يعرفونهم في مواطن.

وقال الحسن : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) يتعاطفون عليها كما كانوا يتعاطفون عليها في الدنيا ، (وَلا يَتَساءَلُونَ) عليها ، أي : أن يحمل بعضهم عن بعض كما كانوا يتساءلون في الدنيا بأنسابهم ، كما يقول الرجل : أسألك بالله وبالرحم.

قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٢) : أي السعداء. وهم أهل الجنّة (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : أي أن يغنموها ، فصاروا في النار. وقال : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (١٠٣) : أي لا يخرجون منها ولا يموتون.

قال : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) (١٠٤). ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : مثل الرأس المشيط.

ذكر أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : شفته السفلى ساقطة على صدره ، والعليا قالصة قد غطّت وجهه (١).

قوله : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٠٥) يقال لهم ذلك في النار. (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) : قال مجاهد : أي التي كتبت علينا (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) (١٠٦).

قوله : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) : أي من النار (فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١٠٧).

ذكروا عن عبد الله بن عمرو أنّ أهل جهنّم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثمّ يدعونه فيردّ عليهم : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧) [الزخرف : ٧٧] ثمّ ينادون ربّهم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي :

__________________

(١) أخرجه ابن سلّام هكذا : «وأخبرني صاحب لي عن يحيى بن عبد الله المدنيّ عن أبيه عن أبي هريرة». وأخرجه الترمذيّ في كتاب التفسير في سورة المؤمنين ، وأخرجه الحاكم وصحّحه عن أبي سعيد الخدريّ مرفوعا بلفظ : «تشويه النار فتقلّص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتّى تضرب سرّته».

١٣٢

من النار (فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) فيمسك عنهم قدر عمر الدنيا مرّتين ثمّ يردّ عليهم :

(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨). قال : فو الله ما ينبس القوم بعدها بكلمة ، وما هو إلّا الزفير والشهيق ، فشبّه أصواتهم بأصوات الحمير أوّلها زفير وآخرها شهيق.

ذكر بعضهم أنّهم يدعون ـ قبل أن يدعوا مالكا ـ خزنة جهنّم عشرين عاما فلا تجيبهم. ثمّ تجيبهم : (قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (٥٠) [غافر : ٥٠] ، ثمّ يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثمّ يجيبهم : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ). ثمّ يدعون ربّهم فيذرهم قدر عمر الدنيا مرّتين ثمّ يجيبهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) أي : اصغروا فيها. والخاسئ : الصاغر. وقال بعضهم : الخاسئ الذي لا يتكلّم بشيء ، ليس إلّا الزفير والشهيق.

قوله : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) : يعني المؤمنين (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١٠٩) : أي أفضل من رحم. وقد يجعل الله الرحمة في قلوب من يشاء ، وذلك من رحمة الله ، وهو أرحم الراحمين.

ذكروا عن سلمان الفارسيّ قال : خلق الله مائة رحمة ، كلّ رحمة منها طباقها السماوات والأرض. فأنزل الله منها رحمة واحدة ؛ فبها يتراحم الخلائق حتّى ترحم الوالدة ولدها ، والبهيمة بهيمتها. فإذا كان يوم القيامة جاء بتلك التسع والتسعين رحمة فكملها مائة رحمة ، ثمّ نصبها بينه وبين خلقه. فالمحروم من حرم تلك الرحمة (١). قوله : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) : يقوله لأهل النار (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (١١٠) : أي كانوا يسخرون بأصحاب (٢)

__________________

(١) هذا نصّ حديث رواه أحمد ومسلم عن سلمان الفارسيّ ، وروي عن أبي هريرة أيضا ، ورواه ابن ماجه وأحمد عن أبي سعيد. ولفظ مسلم في كتاب التوبة ، باب في سعة رحمة الله تبارك وتعالى ... (رقم ٢٧٥٢) : «عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ لله مائة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوامّ ، فبها يتعاطفون ، وبها يتراحمون. وبها تعطف الوحش على ولدها ، وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة ، يرحم بها عباده يوم القيامة».

(٢) كذا في المخطوطات : «يسخرون بأصحاب الأنبياء» ، يقال : سخر به وسخر منه. وقال الفرّاء : سخرت منه ، ولا يقال : سخرت به ، وأجازه الأخفش. ولا شكّ أنّ أفصح اللغتين هي سخر منه ؛ لأنّها العبارة التي وردت في القرآن في آيات كثيرة ، كقوله تعالى في سورة هود : ٣٨ : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ـ

١٣٣

الأنبياء ويضحكون منهم. (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) ليس يعني أنّ أصحاب الأنبياء أنسوهم ذكر الله فأمروهم ألّا يذكروه ، ولكن جحودهم واستهزاؤهم وضحكهم هو الذي أنساهم ذكر الله ، فأضاف ذلك إلى أصحاب النبيّ فقال : (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) أي هم كانوا أسباب نسيانكم لذكري. كقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥] فأضاف رجسهم إلى السورة ؛ لأنّها كانت سبب كفرهم. وهذا من المضاف ، كقول القائل : أنساني فلان كلّ شيء ، وفلان غائب عنه ، بلغه عنه أمر ، فشغل ذلك قلبه. وهي كلمة عربيّة معروفة في اللغة.

قوله : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) : أي في الدنيا (أَنَّهُمْ) : [أي بأنّهم] (١) (هُمُ الْفائِزُونَ) (١١١) : أي الناجون من النار إلى الجنّة.

قوله : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) (١١٢) : يقوله لهم في الآخرة. أي : كم عدد السنين التي لبثتم في الأرض. يريد بذلك أن يعلمهم قلّة بقائهم كان في الدنيا. فتصاغرت الدنيا عندهم. (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وذلك لتصاغر الدنيا عندهم. (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) (١١٣) : تفسير مجاهد : الملائكة. وقال قتادة : الحسّاب الذين كانوا يحسبون آجالنا] (٢).

(قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) : أي إنّ لبثكم في الدنيا في طول ما أنتم لابثون في النار كان قليلا. وهو كقوله : (وَتَظُنُّونَ) أي في الآخرة (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي في الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) (٥٢) [الإسراء : ٥٢]. قوله : (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١١٤) : أي لو أنّكم كنتم علماء لم تدخلوا النار ، والمشركون والمنافقون هم الذين لا يعلمون. كقوله : (ذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٥٩) [الروم : ٥٩] وأشباه ذلك.

قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) : أي لغير بعث ولا حساب. (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١١٥) : وهو على الاستفهام ، أي : قد حسبتم ذلك. ولم نخلقكم عبثا ، إنّما خلقناكم للبعث والحساب.

__________________

ـ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ).

(١) زيادة من ز ، ورقة ٢٢٩. قراءة الجمهور بفتح همزة (أنّهم) وكسر الهمزة حمزة والكسائيّ على الاستئناف.

(٢) زيادة من سع ، ورقة ٤٨ ظ.

١٣٤

قوله : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) : وهما اسمان من أسماء الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (١١٦) على الله. وبعضهم يقرأها : (الْكَرِيمِ) بالرفع ، يقول : الله الكريم ربّ العرش. وهو مثل هذا الحرف : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) (١٥) [البروج : ١٥] أي الكريم على الله ، على مقرأ من قرأها بالجرّ ، ومن قرأها بالرفع يقول : الله المجيد ، أي الكريم.

قوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) : أي لا حجّة له به. وقال بعضهم : لا بيّنة له به ، أي بأنّ الله أمره أن يعبد إلها من دونه. (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) : أي حساب ذلك الذي يدعو مع الله إلها آخر. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (١١٧) : أي ذلك حساب الكافرين عند الله : أنّهم لا يؤمنون ، وأنّهم أهل النار. [وهي تقرأ على وجه آخر (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أن يدخله النار. ثمّ قال : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) ، كلام مستقبل] (١).

قوله : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨) : أي أفضل من رحم. أمر الله النبيّ عليه‌السلام بهذا الدعاء.

* * *

__________________

(١) زيادة من سع ، ورقة ٤٩ و.

١٣٥

تفسير سورة النور وهي مدنيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) : أي هذه سورة أنزلناها (وَفَرَضْناها) : أي ما فرض في هذه السورة من فرائضه ، وحدّ فيها من حدوده ، وسنّ فيها من سننه وأحكامه. وهي تقرأ على وجهين : على التخفيف والتثقيل : (فَرَضْناها) و (فَرَضْناها). يعني ما فرض الله فيها وسنّ فيها (١). (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١) : أي لكي تذّكّروا.

قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) : وهذا في الأحرار إذا لم يكونا محصنين. فإن كانا محصنين رجما ، وأمّا المملوكان فيجلدان خمسين خمسين إذا أحصنا ، وليس عليهما رجم.

ولا يقام حدّ الزنا على أحد حتّى يشهد عليه أربعة أحرار عدول يأتون جميعا غير متفرّقين. حرّا كان الزاني أو مملوكا. فإن شهد أربعة على امرأة ، أحدهم زوجها ، ففي ذلك اختلاف ؛ فبعضهم يقول : الزوج أجوزهم شهادة ، إذا جاءوا معا رجمت بشهادتهم ، وبعضهم يقول : لا ترجم ، ويلاعنها زوجها ، ويجلد الثلاثة ثمانين ثمانين جلدة.

فأمّا الرجل الزاني فتوضع عنه ثيابه إذا جلد ، وأمّا المرأة فيترك عليها من الثياب ما يصل إليها الجلد. وإن أقرّ الرجل على نفسه بالزنا وكان حرّا أقيم عليه الحدّ (٢). والجلد في الزنا بالسوط.

قال بعضهم : بلغنا أنّ رجلا أقرّ عند رسول الله بالزنا فدعا بسوط ، فأتي بسوط مكسور ، فقال : فوق هذا ، فأتى بسوط [جديد] (٣) لم تقطع ثمرته فقال : دون هذا. فأتي بسوط قد ركب به

__________________

(١) في ب وع اضطراب في هذه الجمل ، أثبتّ صوابها من ز ورقة ٢٣٠ وفيه : «وتقرأ (فرّضناها) بالتثقيل يعني بيّنّاها. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٦٣ : (فَرَضْناها) أي حدّدنا فيها الحلال والحرام. ومن خفّفه جعل معناه من الفريضة».

(٢) كذا جاءت العبارة في ب وع. وفي سع ورقة ٤٩ وجاءت العبارة هكذا : «وإن أقرّ الزاني على نفسه بالزنا ، حرّا كان أو مملوكا ، لم يقم عليه الحدّ حتّى يقرّ على نفسه أربع مرّات».

(٣) زيادة من موطّأ الإمام مالك. كتاب الحدود ، ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا ، ص ٧١٥.

١٣٦

ولان ، فأمر به ، فجلد جلدا بين الجلدين (١). وكان بعضهم يقول : الحدّ في الزنا [المتح] (٢) الشديد.

وقال : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) : أي الجلد الشديد. [سعيد عن الحسن وعطاء قالا : أي حتّى لا تعطّل الحدود] (٣).

ذكر عكرمة عن ابن عبّاس قال : لا يقام الحدّ حتّى يشهدوا أنّهم رأوه يدخل كما يدخل المرود في المكحلة.

قال بعضهم : وأمّا الرجم فهو في مصحف أبيّ بن كعب. وهو في مصحفنا أيضا في سورة المائدة في قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) [المائدة : ٤٤] حيث رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهوديّين حين ارتفعوا إليه.

ذكروا عن [زرّ بن حبيش قال : قال لي] أبيّ بن كعب : كم تقرأون سورة الأحزاب؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية. قال : قط؟ قلت : قط. قال : فو الله لتوازي (٤) سورة البقرة ، وإنّ فيها لآية الرجم. قلت : وما آية الرجم يا أبا المنذر؟ قال : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم (٥). وقد رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير واحد.

قال بعضهم : كان عمر يقول : نزل الرجم في كتاب الله ، ورجم عمر ورجم عثمان ورجم عليّ (٦).

__________________

(١) رواه مالك في الموطّأ ، كتاب الحدود ، ما جاء في الرجم ، ص ٧١٥ ، عن زيد بن أسلم مرسلا. وانظر تخريج الحديث في نيل الأوطار ، ج ٧ ص ١٧١ ، وفيه : «قوله : لم تقطع ثمرته ، أي عذبته وهي طرفه». وقوله : «ركب به أي ركب به الراكب على الدّابّة وضربها به حتّى لان». وفي اللسان : «ثمر السياط : عقد أطرافها» ، وأورد صاحب اللسان هذه الجملة من الحديث.

(٢) سقطت التكملة من ب وع ، وفي سع «المتج» وفيها تصحيف ، والصواب ما أثبتّه إن شاء الله : «المتح» أي الضرب ، ففي اللسان : «متحه عشرين سوطا ، عن ابن الأعرابيّ ، ضربه».

(٣) ما بين المعقوفين زيادة من سع ، ورقة ٤٩ و.

(٤) في ع : «لتقارب» ، وأثبتّ ما جاء في ز وسع : «لتوازي».

(٥) ورد هذا الخبر مضطربا ناقصا في ب وع ، وأثبتّ تصحيحه من سع ورقة ٤٩ ظ.

(٦) أورد ابن سلّام في الموضوع خبرا هذا نصّه : «المسعوديّ عن القاسم بن عبد الرحمن أنّ عمر بن الخطّاب حمد الله ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ هذا القرآن نزل على رسول الله عليه‌السلام ، فكنّا نقرأ : ولا ترغبوا عن آبائكم ـ

١٣٧

وكان عليّ يقول : إذا قامت البيّنة رجمت البيّنة (١). ثمّ الإمام ثمّ الناس. فإذا أقرّ عند الإمام إقرارا من غير أن يقوم عليه بيّنة رجم الإمام ثمّ الناس.

قال بعضهم : لا تحصن الأمة ولا اليهوديّة ولا النصرانيّة ، ولا يحصن المملوك الحرّة. ولا يحصن الحرّ إذا كانت له امرأة لم يدخل بها. ولا تحصن المرأة إذا كان لها زوج لم يدخل بها.

وإذا أحصن الرجل أو المرأة بوطء مرّة واحدة ، ثمّ زنى بعد ذلك وليس له امرأة يوم زنى ، أو زنت امرأة ليس لها زوج يوم زنت فهما محصنان يرجمان. وهو قول جابر بن زيد.

وإذا زنى أحد الزوجين وقد أحصن أحدهما ولم يحصن الآخر رجم الذي أحصن منهما وحدّ الذي لم يحصن مائة جلدة.

ولا تحصن أمّ الولد وإن ولدت له أولادا.

فإذا زنى الغلام أو الجارية وقد تزوّجا. ودخل الغلام بامرأته ، ودخل على الجارية زوجها ، ولم يكن الغلام احتلم ، ولم تكن الجارية حاضت فلا حدّ عليهما ؛ لا رجم ولا جلد حتّى يحتلم وتحيض ، ويغشى امرأته بعدما احتلم ، ويغشى الجارية زوجها بعدما حاضت ، فحينئذ يكونان محصنين.

__________________

ـ فإنّه كفر ، وآية الرجم. وإنّي قد خفت أن يقرأ القرآن قوم يقولون : لا رجم. وإنّ رسول الله قد رجم ورجمنا ، والله لو لا أن يقول الناس ، إنّ عمر زاد في كتاب الله لكتبتها ولقد نزلت وكتبناها».

وقد كتب بعض من لم يطّلع على مؤلّفات الإباضيّة زاعما أنّ الإباضيّة أسقطوا حدّ الرجم وأنّهم لا يقولون به ، وهذا زعم باطل. والحقّ أنّهم يقولون به. وقد ثبت عندهم ـ كما ثبت عند بعض الفرق الإسلاميّة ـ بالسنّة لا بالقرآن. انظر مثلا : نور الدين السالمي ، جوهر النظام ، ج ٢ ص ١٣٧ ـ ١٤٢.

(١) البيّنة هنا هم الأربعة الشهداء الذين ورد ذكرهم في سورة النور. وجاء في الحديث : «سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زبيبا فقال : من بيّنتك؟ قلت : سمرة ، رجل من بني العنبر ورجل آخر سمّاه له». انظر الشوكاني ، نيل الأوطار ، ج ٨ ص ٢١٣ ـ ٢١٥ في حديث القضاء بالشاهد واليمين. وجاء في مسند الربيع بن حبيب في أوّل باب النكاح ، الحديث رقم ٥١٠ : «لا نكاح إلّا بوليّ وصداق وبيّنة» ، أي وشهود. وروى أبو يوسف في كتاب الخراج ، ص ٢٤٤ : «أنّ عمر بن الخطّاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجرّاح وهو بالشام : إذا حضرك الخصمان فعليك بالبيّنات العدول [أي : الشهود العدول] والأيمان القاطعة».

١٣٨

وإذا كانت لرجل أمّ ولد قد ولدت منه فأعتقها فتزوّجها. ثمّ زنى قبل أن يغشاها بعدما أعتقت فلا رجم عليه ، ولا هي إن زنت حتّى يغشاها بعد ما أعتقت ، وإن كان مملوك تحته حرّة قد دخل بها فعتق فزنى قبل أن يغشاها بعدما أعتق فلا رجم عليه. وإن كان الزوجان يهوديّين أو نصرانيّين فأسلما جميعا ، ثمّ زنى أحدهما أيّهما كان قبل أن يغشاها (١) بعدما أسلما فلا رجم عليه حتّى يغشاها في الإسلام. وإنّما رجم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليهوديّين لأنّهم تحاكموا إليه (٢).

وإحصان أهل الشرك في شركهم ليس بإحصان حتّى يغشى في الإسلام.

قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) أي رحمة (فِي دِينِ اللهِ) أي في حكم الله (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) : أي إن كنتم تصدّقون (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : أي تصدّقون باليوم الآخر الذي فيه جزاء الأعمال. فلا ترفقوا بالزانية والزاني اللذين نزع الله منهما الرأفة ، أي فلا ترجموهما.

وفي هذا دليل على أنّهما ليسا بمؤمنين ، إذ نزع الله الرأفة التي جعل للمؤمنين منها [نصيبا] (٣) ، قال الله : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٤٣) [الأحزاب : ٤٣] ووصف نبيّه فقال : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨) [التوبة : ١٢٨]. فلو كانا مؤمنين لم ينزع الرأفة التي جعلها للمؤمنين.

قوله : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) : أي ليشهد جلدهما طائفة من المؤمنين. قال بعضهم : الطائفة رجل فصاعدا. وقال بعضهم : الطائفة من ثلاثة فصاعدا.

وهذه الآية تشدّ الأولى ، إذ أمر الله المؤمنين أن يحضروا عذاب الزاني ، أي جلده ، وهم غير الزاني. فيجوز أن يحضر عذابهما طائفة من الزناة ، تحضر الزناة عذاب الزناة (٤) ، ففي هاتين الآيتين

__________________

(١) كذا في سع ورقة ٤٩ ظ : «قبل أن يغشاها» ، وفي ب : «حتّى يغشاها» ، وفي ع : «قبل أن يغشى» ، والصواب ما أثبتّه إن شاء الله.

(٢) يشير إلى قصّة اليهوديّ الذي زنى وهو محصن ، فرفع أحبار اليهود أمره إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آملين أن يجدوا عنده رخصة ، فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما جاء في التوراة وهو الرجم. فنزلت في ذلك آيات المائدة : ٤٢ ـ ٤٨. انظر تفصيل ذلك فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٤٣ من سورة المائدة.

(٣) زيادة لا بدّ منها لتستقيم العبارة. وقد جاءت مضطربة في المخطوطات.

(٤) كذا وردت هاتان الجملتان بالإثبات : «يجوز أن يحضر ... تحضر الزناة» ، وفي العبارة شيء من الغموض ؛ ـ

١٣٩

دليل لكلّ ذي حجى أو لجى (١) أنّ الزاني ليس بمؤمن.

وفيها ذكر الحسن عن النبيّ عليه‌السلام أنّه قال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يقتل النفس التي حرّم الله وهو مؤمن. فإذا فعل ذلك خلع ربقة الإسلام من عنقه (٢).

قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

وذلك أنّ النبيّ عليه‌السلام قدم المدينة ، وبها نساء من أهل الكتاب وإماء مشركات من إماء مشركي العرب مؤاجرات مجاهرات (٣) بالزنا ، لهن رايات مثل رايات البياطرة (٤).

قال بعضهم : لا يحلّ من نساء أهل الكتاب إلّا العفائف الحرائر ، ولا نساء المشركين من غير أهل الكتاب. وإماء المشركين حرام على المسلمين.

وقال بعضهم في قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) ؛ يعني من كان يزني بتلك المؤاجرات من نساء أهل الكتاب وإماء المشركين وإن كانت حرّة من المشركات ، لا ينكحها إلّا زان من أهل الكتاب أو من مشركي العرب. قال : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)،أي : تزويجهنّ. ثمّ حرّم النساء المشركات من غير أهل الكتاب ، زواني كنّ أو عفائف ، فقال : (وَلا تَنْكِحُوا

__________________

ـ ويبدو أنّ كلمات سقطت أثناء النسخ ، ولكنّ المعنى الإجماليّ واضح. فالمؤلّف ـ وهو هنا الشيخ هود ـ يريد أن يثبت أنّ الزاني لا يمكن أن يكون مؤمنا ، إذ لو كان كذلك لجاز ، بمقتضى الآية ، أن يحضر الزاني عذاب الزاني ، وهذا أمر مناف للحكمة الإلهيّة. ويزيد المؤلّف هذا المعنى تأكيدا بما يأتي.

(١) كذا في ق وب ، ولم أجد في معاجم اللغة هذا اللفظ.

(٢) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٣١ من سورة النساء.

(٣) في ب وع ، وحتّى في سع : «مهاجرات» وفيها تصحيف ، والصواب ما أثبتّه بمعنى أنّهنّ يجاهرن بالزنا ويعلنّه. وقد أورد الطبريّ في تفسيره ، ج ١٨ ص ٧٣ عن عكرمة أسماء تسع إماء من صواحب الرايات وعرّفهنّ.

(٤) «راية البيطار» ممّا يضرب به المثل في الشهرة ، فيقال : أشهر من راية بيطار. انظر الثعالبي : ثمار القلوب ، رقم ٣١٦ ، ص ٢٤٠.

١٤٠