تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

حَقٌّ) : أي الذي قذف في قلبها : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) : أي جماعتهم لا يعلمون.

قوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) : قال مجاهد : (بَلَغَ أَشُدَّهُ) : يعني ثلاثا وثلاثين سنة (١) ، (وَاسْتَوى) يعني أربعين سنة. (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) : أي أعطيناه فهما وعقلا (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٤).

قوله : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها). ذكر ابن عبّاس قال : دخل وسط النهار. وقال الحسن : يوم عيد لهم ، فهم في لهوهم ولعبهم. (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ) : أي من بني إسرائيل. (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) : أي قبطيّ [من قوم فرعون] (٢) (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) : أي من جنسه (عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ). وكان القبطيّ سخّر الإسرائيليّ ليحمل حطبا لمطبخ فرعون فأبى فقاتله.

قال : (فَوَكَزَهُ مُوسى) : بعصاه (٣) ، ولم يتعمّد قتله (فَقَضى عَلَيْهِ). قال الحسن : ولم يكن يحلّ له قتل الكفّار يومئذ في تلك الحال. كانت حال كفّ عن القتال. وقال الكلبيّ : كان فرعون وقومه يستعبدون بني إسرائيل ، ويأخذونهم بالعمل ويتسخّرونهم. فمرّ موسى على رجل من بني إسرائيل قد تسخّره رجل من أهل مصر ، فاستغاث بموسى ، فوكزه موسى فقضى عليه ولم يكن أمر بالقتال.

(قالَ) موسى : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (١٥) : أي بيّن العداوة.

__________________

(١) في المخطوطات الأربع : «بلغ أشده : عشرين سنة» وهو خطأ. أثبتّ صوابه : «ثلاثا وثلاثين سنة» من تفسير مجاهد ص ٢٨١ ـ ٢٨٢ ، ومن تفسير الطبريّ ، ج ٢٠ ص ٤٢.

(٢) زيادة من سع ورقة ٧٢ ظ ، ومن سح ورقة ٤٦.

(٣) كذا وردت الكلمة في ب وع : «بعصاه». وفي سح ورقة ٤٦ : «قال قتادة : بعصا» ولعلّها زيادة خاطئة من بعض النسّاخ. فكلمة العصا لم ترد في سع ولا في ز. ثمّ إنّ الوكز لغة الدفع والضرب والطعن «بجمع الكفّ» ، كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني وفي اللسان. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٩٩ : (فَوَكَزَهُ مُوسى) بمنزلة لهزه في صدره بجمع كفّه ، فهو اللكز واللهز». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٠٤ : (فَوَكَزَهُ مُوسى) يريد : فلكزه ، وفي قراءة عبد الله (فنكزه) ووهزه أيضا لغة. كلّ سواء».

٢٤١

ثمّ (قالَ) موسى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) : يعني قتله القبطيّ ، ولم يتعمّد قتله ، ولكنّه تعمّد وكزه فمات (فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٦).

(قالَ) موسى : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) : أي عوينا (لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧) : أي للمشركين. وقال بعضهم : أي فلن أعين بعدها على فجرة ؛ وقلّ ما قالها رجل قطّ إلّا ابتلي.

قوله : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً) : أي من قتله النفس (يَتَرَقَّبُ) : أي أن يؤخذ.

ذكر عن الحسن عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال : البلاء موكّل بالنطق (١).

قوله : (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) : أي يستغيثه ، ويستنصره ويستصرخه واحد. (قالَ لَهُ مُوسى) : أي للإسرائيليّ (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (١٨) : أي بيّن الغواية.

ثمّ أدركت موسى الرقّة عليه (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) : أي بالقبطيّ (قالَ) الإسرائيليّ. [قال بعضهم] (٢) : وبلغنا أنّه السامريّ ، فخلى السامريّ عن القبطيّ وقال : (يا مُوسى) الإسرائيليّ يقوله : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) : يعني قتالا في الأرض (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩) (٣).

قوله : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ

__________________

(١) كذا في ب وع : «بالنطق» ، وفي سع وسح : «موكل بالقول».

(٢) زيادة من سع لا بدّ من إثباتها ، والقول ليحيى بن سلّام.

(٣) جاءت عبارة الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٠٤ أوضح وأدلّ على المعنى المقصود. قال : «... وذلك أنّ الذي من شيعته لقيه رجل بعد قتله الأوّل فتسخّر الذي من شيعته موسى ، فمرّ به موسى على تلك الحال فاستصرخه ـ يعني استغاثه ـ فقال له موسى : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أي : قد قتلت بالأمس رجلا فتدعوني إلى آخر. وأقبل إليهما ، فظنّ الذي من شيعته أنّه يريده. فقال : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) ولم يكن فرعون علم من قتل القبطيّ الأوّل. فترك القبطيّ الثاني صاحب موسى من يده ، واخبر بأنّ موسى القاتل. فذلك قول ابن عبّاس : فابتلي بأنّ صاحبه الذي دلّ عليه».

٢٤٢

لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢٠) : وذلك أنّ القبطيّ الآخر لّما سمع قول الإسرائيليّ لموسى : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) أفشى عليه. فأتمر الملأ من قوم فرعون أن يقتلوه. فبلغ ذلك مؤمن آل فرعون ، فجاء من أقصى المدينة يسعى. وهو الذي قال الله : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ).

قال الله : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) : أي من المدينة خائفا من قتله النفس ، يترقّب الطلب (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢١).

قوله : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) : أي نحو مدين (١) (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (٢٢) : أي أن يرشدني سواء السبيل ، أي : قصد الطريق. وكان خرج لا يدري أين يذهب ، ولا يهتدي طريق مدين ، فقال : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي : الطريق إلى مدين.

قوله : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) : أي جماعة من الناس (يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) : أي الناس عن شائهما ؛ وفي بعض القراءة : (تذودان النّاس عن شائهما) ، أي : حابستين شاءهما لذودان الناس عنهما. وقال بعضهم : تمنعان غنمهما أن تختلط بأغنام الناس (٢).

(قالَ) لهما موسى : (ما خَطْبُكُما) : أي ما أمركما (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) : أي حتّى يسقي الناس ثمّ نبتغي فضالتهم في تفسير الحسن (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (٢٣).

__________________

(١) «بلد بالشام تلقاء غزّة». وقيل : «مدينة على بحر القلزم محاذية لتبوك». وهو أيضا اسم لقبيلة قوم شعيب ، انظر ياقوت ، معجم البلدان ، ج ٥ ص ٧٧ ـ ٧٨ ، وانظر البكري : معجم ما استعجم ، ج ٢ ص ١٢٠١.

(٢) أصل معنى الذود ، أو الذياد ، هو الطرد والدفع ، وقد عبّر كلّ من أبي عبيدة والفرّاء عن المعنيين اللذين أشار إليهما المؤلّف هنا. قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٠١ : (تَذُودانِ) مجازه : تمنعان وتردّان وتطردان». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٠٥ : «تحبسان غنمهما. ولا يجوز أن تقول : ذدت الرجل : حبسته. وإنّما كان الذياد حبسا للغنم ، وإنّ الغنم والإبل إذا أراد شيء منها أن يشذّ ويذهب فرددته فذلك ذود ، وهو الحبس». وفي قراءة عبد الله : (ودونهم امرأتان حابستان).

٢٤٣

(فَسَقى لَهُما) فلم يلبث أن أروى غنمها (ثُمَّ تَوَلَّى) : أي انصرف (إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢٤) : يعني الطعام. وكان بجهد. وقال سعيد بن جبير : كان فقيرا إلى شقّ تمرة.

قوله : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) : واضعة يديها على وجهها (١). قال الحسن : بعيدة والله عن البذاء (٢).

قال : ويقولون شعيب وليس بشعيب ، ولكنّه سيّد أهل الماء يومئذ ؛ ذكروا عن ابن عبّاس قال : اسم ختن موسى يترى (٣).

(قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) : أي خبره (قالَ) الشيخ : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٥).

(قالَتْ إِحْداهُما) : أي إحدى المرأتين (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (٢٦) : أي القويّ في الصنعة ، الأمين فيما ولّي.

قال مجاهد : الأمين ؛ غضّ طرفه عنهما حين سقى لهما. وكان الذي رأت من قوّته أنّه لم تلبث ماشيتها أن سقاها وأرواها. وأنّ الأمانة التي رأت منه أنّها حين جاءت تدعوه قال لها : كوني ورائي وكره أن يستدبرها. وبعضهم يقول في قوله : (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أنّه كان على تلك البئر التي سقى منها صخرة لا يرفعها إلّا أربعون رجلا ، فرفعهما موسى وحده ، وذلك أنّه سألهما هل ههنا بئر غير هذه؟ فقالتا : نعم ، ولكن عليها صخرة لا يرفعها إلّا أربعون رجلا (٤).

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع : «واضعة يديها» ، وفي تفسير مجاهد ، ص ٤٨٣ : «واضعة ثوبها على وجهها». ولم يثبت ـ فيما أعلم ـ خبر موثوق بصحّته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علامة استحيائها. وقد نسب هذا القول إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وإلى غيره ، كما أورده الطبريّ في تفسيره ج ٢ ص ٦٠.

(٢) تقول : بذأت الرجل بذءا ، وبذأته عيني تبذؤه بكذا ، وبذاءة : إذا رأيت منه حالة كرهتها فاز دريته واحتقرته. وتقول : بذأت الشيء : إذا ذممته. والمعنى أنّه ليس في مشيتها وهيئتها ما يذمّ أو يستهجن. اللسان : (بذأ).

(٣) انظر أقوال المفسّرين في اسم ختن موسى واسم المرأتين في تفسير الطبريّ ، ج ٢٠ ص ٦٢. والحقّ ما ذهب إليه الطبريّ أنّ «هذا ممّا لا يدرك علمه إلّا بخبر ، ولا خبر بذلك تجب حجّته».

(٤) في تفسير مجاهد ص ٤٨٣ : «عشرة رجال». على أنّ هذا كلّه ممّا لم يثبت فيه نصّ قطعيّ.

٢٤٤

(قالَ) الشيخ لموسى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) : أي تؤاجرني في نفسك (ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧) : أي في الرفق بك. وقال لموسى في آخر ذلك : كل سخلة تخرج على غير شبه أمّها في هذا البطن فهي لك. فأوحى الله إلى موسى : إذا ملأت الحياض وقرّبتها لتشرب فألق عصاك في الحياض ففعل ؛ فولدن كلّهن خلاف شبه أمّهاتهنّ ، فذهب بأولاد غنمه تلك السنة. وقال بعضهم : كلّ بلقاء تولد فهي لك ، فولدن بلقا كلّهنّ.

(قالَ) موسى : (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) : [قال بعضهم] (١) وهي بلسان كلب. (فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) : [أي : فلا سبيل عليّ] (٢) (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٢٨) : أي شهيد.

قال : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) : ذكر ابن عبّاس قال : قضى أوفاهما وأبرّهما : العشر (٣). قوله : (وَسارَ بِأَهْلِهِ) : قال مجاهد : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ) أي : قضى العشر السنين ثمّ أقام بعد ذلك عشر سنين فخرج بعد عشرين سنة. (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) : أي حسب أنّها نار ، وإنّما كانت نارا عند موسى ، وهي نور وليست بنار. (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) : أي بخبر الطريق ، وكان على غير الطريق (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) : وهي أصل شجرة (٤) (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢٩) : أي

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها ، والقول لقتادة كما جاء في سح ورقة ٥٠.

(٢) جاء في ز ورقة ٢٥٤ ما يلي : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) يعني أيّ الأجلين قضيت ، وما زائدة (فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) أي فلا سبيل عليّ».

(٣) هذا قول ابن عبّاس ؛ وقد رويت أحاديث يعضد بعضها بعضا في معناه تبيّن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقال عليه‌السلام : أبرّهما وأوفاهما. انظر تفسير الطبريّ ، ج ٢٠ ص ٦٨ ، وتفسير ابن كثير ، ج ٥ ص ٢٧٥ ـ ٢٧٧. والحديث صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك وأبو يعلى في المسند عن ابن عبّاس ولفظه : «سألت جبريل : أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال : أكملهما وأتمّهما».

(٤) كذا في المخطوطات الأربع : «أصل شجرة» ، و «أصل الشجرة». ولكن لا بدّ من إضافة عبارة : «فيها نار» حتّى يتّضح المعنى ؛ لأنّ الجذوة هي «الشعلة من النار» أو «العود من الحطب الذي فيه النار».

٢٤٥

لكي تصطلوا ، وكان شاتيا.

قال الله : (فَلَمَّا أَتاها) : أي أتى موسى النار عند نفسه (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) : أي نودي عن يمين الشجرة ، أي : الأيمن من الشجرة. وفيها تقديم ؛ وتقديمها : من شاطئ الوادي الأيمن من الشجرة في البقعة المباركة. (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فألقاها.

(فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ) : أي كأنّها حيّة (وَلَّى مُدْبِراً) : أي هاربا (وَلَمْ يُعَقِّبْ) : أي ولم يلتفت ، أي : من الفرق. وقال مجاهد : ولم يرجع. (يا مُوسى أَقْبِلْ :) الله يقوله : يا موسى أقبل (وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) (٣١).

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) : أي أدخل يدك في جيبك. أي : في جيب قميصك (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : أي من غير برص. قال الحسن : أخرجها والله كأنّها مصباح. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) : أي يدك (١) (مِنَ الرَّهْبِ) : أي من الرعب.

قال بعضهم : أي واضمم يدك إلى صدرك فيذهب ما في صدرك من الرعب ، وكان قد دخله رعب وفرق من آل فرعون فأذهب الله ذلك عنه.

قوله : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) : أي بيانان من ربّك ، يعني العصا واليد. وقال بعضهم : برهانان ، أي بيّنتان من ربّك. والبرهان في قول الحسن : الحجّة. أي : حجّتان من ربّك. (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) : أي وقومه (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٣٢) : أي مشركين. (قالَ) موسى : (رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً) : أي القبطيّ (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (٣٣).

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) : يعني العقدة التي كانت في لسانه. (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) : أي عونا ، في تفسير الحسن (٢). (يُصَدِّقُنِي). وقال الكلبيّ : (مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي)

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع : «يدك» و «يديك». وكذلك فسّره أبو عبيدة وابن قتيبة. ولكنّ الفرّاء أوّل اللفظ تأويلا آخر فقال في المعاني ، ج ٢ ص ٣٠٦ : «وقوله : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) يريد عصاه في هذا الموضع. والجناح في الموضع الآخر : ما بين أسفل العضد إلى الرّفغ ، وهو الإبط».

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٠٤ : (رِدْءاً) أي : معينا. ويقال : قد أردأت فلانا على عدوّه وعلى ـ

٢٤٦

أي : كيما (١) يصدّقني ، أي : كي يكون معي في الرسالة. (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٣٤).

(قالَ) الله تعالى : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) : أي حجّة (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (٣٥).

فانطلق موسى إلى فرعون ، وأوحى الله إلى هارون أن يستقبل أخاه فاستقبله. فأتيا باب فرعون ، فقالا للبوّاب : اذهب فأخبر فرعون أنّ بالباب رسول ربّ العالمين. فدخل عليه البوّاب فقال : إنّ بالباب رجلا مجنونا يزعم أنّه رسول ربّ العالمين. فقال له فرعون : أتعرفه فقال له : لا ، ولكن معه هارون. وكان هارون عندهم معروفا. وكان موسى قد غاب عنهم زمانا من الدهر. قال فرعون : اذهب فأدخله. فدخل عليه ، فعرفه ، في تفسير الحسن. وقال بعضهم : كأنّه عرف وجهه ولم يثبته. ففال : من أنت؟ فقال : أنا رسول ربّ العالمين. فقال : ليس عن هذا أسألك ، ولكن من أنت وابن من أنت؟ فقال : أنا موسى بن عمران. وكان قد ربّاه في حجره حتّى صار رجلا ؛ فقال له فرعون : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) (١٨) أي : وأنت لا تدّعي شيئا من هذه النبوّة (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١٩) شعراء : ١٨ ـ ١٩] أي : لنعمتنا ، أي : فيما ربّيناك.

قال الله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا) : أي بحجّتنا (بَيِّناتٍ) : أي واضحات (قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) (٣٦).

(وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) : أي إنّني أنا جئت بالهدى من عنده (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٣٧) : أي المشركون ، أي : لا يدخلون الجنّة ، والمفلحون هم أهل الجنّة. (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) : أي تعمّدا منه للكذب. (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) : أي فاطبخ لي آجرّا ، فكان أوّل من طبخ الآجرّ. (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) : أي فابن لي صرحا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٣٨) فبنى له صرحا عاليا ، وقد علم فرعون أنّ موسى رسول الله ، وهذا منه كذب. قال الله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا).

__________________

ـ ضيعته. أي : أكنفته وأعنته ، أي : صرت له كنفا».

(١) كذا في ع ، وفي سح ورقة ٥١ : «كيما» وهو الصحيح ، وفي ب : «قيما يصدقني». وفيه تصحيف.

٢٤٧

قال الله : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) (٣٩) : أي يوم القيامة.

قال : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ) : وقد فسّرنا ذلك في غير هذه السورة (١). قال : (فَانْظُرْ) يا محمّد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٤٠) : فكان عاقبتهم أن دمّر الله عليهم ثمّ صيّرهم إلى النار.

قال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) : أي يتبعهم من بعدهم من بعدهم من الكفّار (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (٤١).

قال : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) : أي العذاب الذي عذّبهم به ، [أي : الغرق] (٢) (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢) : أي في النار. وأهل النار مقبوحون مشوّهون ، سود زرق كأن رؤوسهم آجام القصب كالحون ؛ شفة أحدهم السفلى ساقطة على صدره ، وشفته العليا قالصة قد غطّت وجهه ؛ رأس أحدهم مثل الجبل العظيم ، وضرسه مثل أحد ، وأنيابه كالصياصي ، وهي الجبال ، وغلظ جلده أربعون ذراعا ، وبعضهم يقول : أربعون سنة ، تسير الدوابّ فيما بين جلده ولحمه كما تسير الوحوش في البرّيّة ، وفخذه مسيرة يومين. وقال عبد الله بن مسعود : إني أراه يشغل من جهنّم مثل ما بيني وبين المدينة ؛ وهو بالكوفة (٣).

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : يعني التوراة (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٣) : أي لكي يتذكّروا. فكانت التوراة أوّل كتاب نزل فيه الفرائض والحدود والأحكام. قوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أي : قرنا بعد قرن ، كقوله : على مقرأ هذا الحرف : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) [هود : ١٠٢].

__________________

(١) انظر ما سلف قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآيات ٥٢ ـ ٦٨ من سورة الشعراء.

(٢) زيادة من ز ورقة ٥٥ و. ومن سح ورقة ٥٣.

(٣) ذهب المؤلّف هنا في تفسير المقبوحين إلى معنى قبحهم الجسماني وقبح صورتهم. وذهب أبو عبيدة والطبريّ إلى معنى الإهلاك في جهنّم ، وذهب آخرون إلى معنى الإبعاد عن كل خير ؛ يقال : قبح الله فلانا قبحا وقبوحا أقصاه وباعده من كلّ خير. وهو معنى وجيه في هذا المقام.

٢٤٨

قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ) : [أي : غربي] الجبل (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) : أي الرسالة. (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٤٤) : أي لم تكن شاهدا يومئذ لذلك (١).

قال : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) : كان بين عيسى ومحمدعليهما‌السلام خمسمائة سنة. وبعضهم يقول : ستّمائة سنة. (وَما كُنْتَ ثاوِياً) : أي ساكنا (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) : [قال بعضهم : أي لم تكن يا محمّد مقيما بمدين فتعلم كيف كان أمرهم فتخبر أهل مكّة بشأنهم وأمرهم] (٢). (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٤٥) ، كقوله : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٥) [الدخان : ٥].

قال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) : أي نودي : يا أمّة محمّد ، أجبتكم قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم قبل أن تسألوني. قال : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً) : يعني قريشا (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٦) : أي لكي يتذكّروا.

قوله : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) : يعني المشركين (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) : أي بالذي هم عليه من الشرك. والمصيبة في هذا الموضع العذاب. يقول : ولو عذّبناهم لا حتجّوا وقالوا : (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧). فقطع الله عذرهم بمحمد فكذّبوه.

قال الله : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) : أي القرآن (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ) : يعنون النبيّ محمّدا عليه‌السلام (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) : أي هلّا أعطي مثل ما أعطي موسى ؛ أي : هلّا أنزل عليه القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة. قال الله : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) : وقد كان كتاب موسى عليهم حجّة ، في تفسير الحسن. (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) : أي موسى ومحمّد ، في تفسير الحسن ؛ وهذا قول مشركي العرب. (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) (٤٨) : أي بالتوراة والقرآن.

وقال بعضهم : (ساحران تظاهرا) أي : موسى وهارون. وقال مجاهد : (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ

__________________

(١) كذا في ب وع وفي سح ورقة ٥٣ : «لم تكن شاهدا يومئذ لذلك» ، وفي سح زيادة : «قال السدّيّ : لم تكن من الحاضرين». وفي ز ورقة ٢٥٥ : «لم تشاهد ذلك». والمعاني متقاربة.

(٢) زيادة من ز ومن سح.

٢٤٩

ما أُوتِيَ مُوسى) هذا قول اليهود ؛ أمروا قريشا أن يسألوا محمّدا مثل ما أوتي موسى ؛ يقول الله : يا محمّد ، قل لقريش يقولوا لهم : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) قول يهود لموسى وهارون (وَقالُوا) أي : اليهود (إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) أي : نكفر أيضا بما أوتي محمّد (١).

قال الله : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) : أي من التوراة والقرآن (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٩) (٢).

قال : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) : فيأتوا به ، ولا يأتون به ، ولكنّها حجّة عليهم ، (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) جاءه ، أي : لا أحد أظلم منه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥٠) : أي المشركين الذين يموتون على شركهم.

قوله : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) : أي أخبرناهم بما أهلكنا به الأمم السالفة قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، أي : أهلكناهم بتكذيبهم رسلهم (٣). قال : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥١) : أي لكي يتذكّروا فيحذروا ألّا ينزل بهم ما نزل فيهم فيؤمنوا.

قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) : أي من قبل هذا القرآن (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) : أي هم بالقرآن يؤمنون ؛ يعني من آمن من أهل الكتاب ، يعني من كان متمسّكا بدين موسى وعيسى ثمّ آمن بمحمّد. قوله : (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) : أي القرآن (قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) : أي من قبل القرآن (مُسْلِمِينَ) (٥٣).

قال الله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) : أي على دينهم. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) : أي يعفون عن السيّئة ويأخذون بالحسنة. والسيّئة ههنا الجهل ، والعفو : الحلم. وإذا حلم فعفا عن السيّئة فهو حسنة. [وقال السّدّيّ : يقول : ويدفعون بالقول المعروف والعفو الأذى والأمر القبيح] (٤) قال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٥٤) : أي الزكاة الواجبة.

__________________

(١) جاء قول مجاهد هذا في ب وع مضطرب العبارة ناقصا أحيانا فأثبتّ التصحيح من سح ورقة ٥٥.

(٢) سقطت هذه الآية وتفسيرها من ب ومن ع فأثبتّها من ز وسع.

(٣) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٠٧ : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) : أنزلنا عليهم القرآن يتبع بعضه بعضا».

(٤) ما بين المعقوفين زيادة من سح ورقة ٥٦ ، ومن ز ورقة ٢٥٦. ففيها شرح لكلمة (يَدْرَؤُنَ) ، بمعنى ـ

٢٥٠

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) : أي الباطل ، أي : الشرك والنفاق ، والقول السيّئ. وقال بعضهم : الشتم والأذى [من كفّار قومهم] (١). (أَعْرَضُوا عَنْهُ) : أي لم يردّوا عليهم. (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : كلمة حلم عن المشركين وتحيّة بين المؤمنين (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٥٥) : أي لا نكون من الجاهلين.

وقال بعضهم : هم مسلمو أهل الإنجيل.

وقال الكلبيّ : هم أناس من أهل الكتاب لم يكونوا هودا ولا نصارى ، وكانوا على دين أنبياء الله ورسله ، وكرهوا ما عليه اليهود والنصارى ، وأخذوا بأمر الله ، فكانوا ينتظرون النبيّ عليه‌السلام ، فلمّا سمعوا به وهو بمكّة أتوه. فلمّا رأوه عرفوه بنعته ، وسألوه أن يقرأ عليهم القرآن. فلمّا سمعوه (قالُوا آمَنَّا بِهِ) ، أي : بالقرآن ، (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) ، قال الله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) ، يقول : بأخذهم بالكتاب الأوّل وإيمانهم بالكتاب الآخر.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين : من آمن بالكتاب الأوّل والكتاب الآخر ، والعبد إذا أطاع الله وأطاع سيّده ، والرجل إذا أعتق أمته ثمّ تزوّجها (٢).

قال الكلبيّ : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ ، أَعْمالُكُمْ). قال أبو جهل لهؤلاء الرهط الذين أسلموا من أهل الكتاب : أفّ لكم من قوم منظور إليكم ، اتّبعتم غلاما قد كرهه قومه ، وهم أعلم به منكم. فقالوا لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ).

قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦). نزلت في أبي طالب حين راوده النبيّ عليه‌السلام على أن يقول : لا إله إلّا

__________________

ـ يدفعون ويردّون ، وفي الحديث : «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم».

(١) زيادة من سح وز.

(٢) حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب العلم ، باب تعليم الرجل أمته وأهله. وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب وجوب الإيمان برسالة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جميع الناس ... (رقم ١٥٤). كلاهما يرويه من حديث أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعريّ عن النبيّ عليه‌السلام. واللفظ عند مسلم أكثر تفصيلا وأتمّ رواية.

٢٥١

الله فأبى.

وقال مجاهد : قال له النبيّ عليه‌السلام : [قل كلمة الإخلاص ، وهي التوحيد] (١) أجادل بها عنك يوم القيامة (٢). فقال له : يا ابن أخي ، قد علمت أنّك صادق ، وأنّك لن تدعو إلّا إلى خير ، ولو لا أن تكون عليك وعلى بنيك سبّة لأقررت بما عندك عند الفراق ، ولكن سوف أموت على ملّة الأشياخ.

قال : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي : من قدّر عليه الهدى ، ممّن يقبل الهدى أو يجيب له (٣).

قوله : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) : أي لقلّتنا في كثرة العرب ، ولكن ينفي الحرب عنّا أنّا على دينهم ، فإذا آمنّا بك واتّبعناك خشينا أن يتخطّفنا الناس.

قال الله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) : أي من عندنا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) : أي قد كانوا في حرمي يأكلون رزقي ، ويعبدون غيري ، وهم آمنون ، أفيخافون ، إن آمنوا ، أن أسلّط عليهم من يقتلهم ويسبيهم؟ ما كنت لأفعل.

قوله : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) كقوله : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) [النحل : ١١٢].

ذكر بعضهم قال : إنّ سيلا أتى على المقام واقتلعه فإذا في أسفله كتاب. فدعوا له رجلا من حمير فزبره لهم في جريدة ، ثمّ قرأه عليهم فإذا فيه : هذا بيت الله المحرّم ، جعل رزق من يعمره يأتيهم من ثلاث سبل ، مبارك لأهله في الماء واللحم ، وأوّل من يحلّه أهله.

__________________

(١) سقطت هذه الجملة من ب وع ، ولا بدّ من إثباتها ليستقيم المعنى ، وهي موجودة في تفسير مجاهد ، ص ٤٨٨ ، وفي سح ورقة ٥٧.

(٢) حديث صحيح متّفق عليه. أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير ، سورة القصص ، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب الدليل على صحّة إسلام من حضره الموت (رقم ٢٤) ، كلاهما يرويه من حديث سعيد بن المسيّب عن أبيه. ولفظ البخاريّ : «أي عمّ ، قل لا إله إلّا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله». ولفظ مسلم : «يا عمّ ، قل لا إله إلّا الله كلمة أشهد لك بها عند الله».

(٣) كذا في ب وع ، وفي سح ورقة ٥٧.

٢٥٢

ذكر مجاهد قال : وجد عند المقام كتاب الله فيه : إنّي أنا الله ذو بكّة ، صنعتها (١) يوم خلقت السماوات والأرض والشمس والقمر ، وحرّمتها يوم خلقت السماوات والأرض ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء ، يأتيها رزقها من ثلاث سبل ، مبارك لأهلها في الماء واللحم ، وأوّل من يحلّها أهلها.

قال : (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) أي : من عندنا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : جماعتهم لا يعلمون ، يعني من لا يؤمن منهم.

قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) : كقوله : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) [النحل : ١١٢] أي : فأهلكناهم ، يعني من أهلك من القرون الأولى. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) (٥٨) : كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠].

قال : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) : أي معذّبهم ، يعني هذه الأمّة (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) : وأمّها : مكّة ، هي أمّ القرى. والرسول : محمّد. قال : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٥٩) : وقال في آية أخرى مدنيّة في النحل (٢) بعد هذه الآية : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) والرغد ألّا يحاسبها أحد بما رزقها الله (مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) أي : كفر أهلها ، وهي مكّة (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) محمّد (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١١٣) [النحل : ١١٢ ـ ١١٣] أي : وهم مشركون.

قوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) : أي الجنّة. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٠) : يقوله للمشركين.

ثمّ قال على الاستفهام : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) : أي الجنّة (فَهُوَ لاقِيهِ) : أي داخل الجنّة (كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٦١) : أي

__________________

(١) كذا في ب وع : «صنعتها» ، وفي سع وسح : «صغتها».

(٢) الحقّ أنّ سورة النحل كلّها مكّيّة إلّا الآيات الثلاث الأخيرة منها.

٢٥٣

في النار ، أي : إنّهما لا يستويان ، أي : لا يستوي من يدخل الجنّة ومن يدخل النار. وبعضهم يقول : نزلت في النبيّ عليه‌السلام وأبي جهل (١).

قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) : أي في الآخرة ، يعني المشركين (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٦٢) : أي في الدنيا أنّهم شركائي ، فأشركتموهم في عبادتي.

(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : أي الغضب (٢) ، يعني الشياطين الذين دعوهم إلى عبادة الأوثان (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ) : أي أضللناهم (كَما غَوَيْنا) : أي كما ضللنا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) (٦٣) : أي لا سلطان كان لنا عليهم استكرهناهم به ، وإنّما دعوهم بالوسوسة كقول إبليس : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] ، وكقوله في قولهم : (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) [الصافّات : ٣٠] ، وكقول الله : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) [سبأ : ٢١] ... إلى آخر الآية. وكقوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) (١٦٢) أي : بمضلّين (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (١٦٣) [الصافّات : ١٦٢ ـ ١٦٣].

قال : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) : يعني الأوثان (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ) : أي ودخلوا العذاب (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) (٦٤) : [أي : لو أنّهم كانوا مهتدين في الدنيا ما دخلوا العذاب. وبعضهم يقول : لو أنّهم كانوا مهتدين] (٣) أي : في الدنيا كما أبصروا الهدى في الآخرة ما دخلوا العذاب ، وإيمانهم في الآخرة لا يقبل منهم.

قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) : يعني المشركين (فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٦٥) : يستفهمهم ، فيحتجّ عليهم ، وهو أعلم بذلك ، ولا يسأل العباد عن أعمالهم إلّا الله وحده.

قال : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) : أي الحجج (يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٦٦) : أي أن يحمل بعضهم عن بعض من ذنوبه شيئا ، في تفسير الحسن.

وقال مجاهد : (لا يَتَساءَلُونَ) أي : بالأنساب ، وفي تفسير بعضهم أنّه لا يسأل قريب قريبه أن

__________________

(١) انظر اختلاف المفسّرين فيمن نزلت فيهم هذه الآية عند الواحديّ ، أسباب النزول ، ص ٣٥٣ ، وتفسير الطبريّ ، ج ٢ ص ٩٧.

(٢) وقال ابن قتيبة : «أي : وجبت عليهم الحجّة فوجب العذاب».

(٣) زيادة من ز ورقة ٢٥٦ ، ومن سح وسع.

٢٥٤

يحمل من ذنوبه شيئا ، كقوله : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر : ١٨].

قوله : (فَأَمَّا مَنْ تابَ) : أي من شركه (وَآمَنَ) : أي أخلص الإيمان لله ، (وَعَمِلَ صالِحاً) : أي في إيمانه (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (٦٧) : وعسى من الله واجبة. والمفلحون السعداء ، وهم أهل الجنّة.

قوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) : أي من يشاء من خلقه ، أي : للنبوّة. (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) : أي ما كان لهم أن يختاروا هم الأنبياء فيبعثوهم (١). بل الله هو الذي اختار ، وهو (أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤](سُبْحانَ اللهِ) : ينزّه نفسه (وَتَعالى) : أي ارتفع (عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٨).

قال : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) : أي ما يسرّون (وَما يُعْلِنُونَ) (٦٩).

(وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) : في الدنيا والآخرة (وَلَهُ الْحُكْمُ) : أي القضاء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٧٠) : أي يوم القيامة.

قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) : [أي : دائما لا ينقطع] (٢) (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) : وهذا على الاستفهام (يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) : أي بنهار (أَفَلا تَسْمَعُونَ) (٧١) أمره ، يقوله للمشركين (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً) : أي دائما (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) : كقوله : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦] أي : يسكن فيه الخلق (أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٧٢) أمره. يقوله للمشركين. قال الله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) : أي في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : أي بالنهار. وهذا رحمة من الله للمؤمن والكافر فأمّا المؤمن فتتمّ عليه رحمة الله في الدنيا والآخرة ، وأمّا الكافر فهي رحمة له في الدنيا ، وليس له في الآخرة نصيب. قال : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣) : أي ولكي تشكروا.

__________________

(١) كذا في سح وسع : «فيبعثوهم» ، وفي ز ورقة ٢٥٧ ، وفي ع : «فيتبعوهم».

(٢) زيادة من ز ، ومن سح وسع.

٢٥٥

قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٧٤) : وهي مثل الأولى.

قال : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) : أي جئنا برسولهم ، كقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٤١) [النساء : ٤١] ، وكقوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] أي : بنبيّهم ، وقال بعضهم : بكتابهم قال : (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) : أي حجّتكم ، في تفسير الحسن ، أي : بأنّ الله أمركم بما كنتم عليه من الشرك. وقال بعضهم : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : بيّنتكم. قال : (فَعَلِمُوا :) أي يومئذ (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) : أي التوحيد (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥) : يعني أوثانهم التي كانوا يعبدون.

قوله : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) كان ابن عمّه ، أخي أبيه (فَبَغى عَلَيْهِمْ) كان عاملا لفرعون فتعدّى عليهم وظلمهم (وَآتَيْناهُ) : يعني قارون أعطيناه (مِنَ الْكُنُوزِ) : أي من الأموال (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) : قال بعضهم : خزائنه ، يعني أمواله ، وقال بعضهم : مفاتح خزائنه (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) : أي لتثقل العصبة (أُولِي الْقُوَّةِ) : أي من الرجال ، والعصبة الجماعة ، وهم ههنا أربعون رجلا (١).

(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) : إذ قال له موسى والمؤمنون من بني إسرائيل (لا تَفْرَحْ) : أي لا تبطر (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (٧٦) : أي المرحين المشركين الذين يفرحون بالدنيا ولا يفرحون بالآخرة ، أي : لا يؤمنون بها ، لا يرجونها. وقال في آية أخرى : (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) ، وهم المشركون. وقال مجاهد : (لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [المتبذّخين] (٢) الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم ، وهو واحد.

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ) : أي من هذه النعم والخزائن (الدَّارَ الْآخِرَةَ) : أي الجنّة (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) : أي اعمل في دنياك لآخرتك ، في تفسير بعضهم. ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) ، أي : طاعة الله وعبادته (٣).

__________________

(١) وقال مجاهد في تفسيره ص ٤٨٩ : «العصبة ما بين العشرة إلى خمسة عشر».

(٢) زيادة من ز ورقة ٢٥٧ ، ومن تفسير مجاهد ، ص ٤٩٠.

(٣) وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١١١ : «مجازه : لا تدع حظّك وطلب الرزق الحلال منها». وهذا الوجه ـ

٢٥٦

(وَأَحْسِنْ) : أي فيما افترض الله عليك (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٧٧) : أي المشركين في هذا الموضع (١).

(قالَ) قارون (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) : أي إنّما أعطيته ، يعني ما أعطي من الدنيا ، (على علم عندى) أي : بقوّتي وعلمي ، وهي مثل قوله : (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) قال الله : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي : بليّة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٩) [الزمر : ٤٩].

قوله : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) قارون ، أي : بلى قد علم ، وهذا على الاستفهام (أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ) : من قبل قارون (مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) : أي من الجنود والرجال.

قال الله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٧٨) : أي المشركون والمنافقون ، أي : ليعلم ذنوبهم منهم ، أي : يعرفون بسواد وجوههم وزرقة عيونهم ، كقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٣٩) [الرحمن : ٣٩] ، وكقوله : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) الرحمن : ٤١] أي : يجمع بين ناصيته وقدمه.

قوله : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ) : يعني قارون (فِي زِينَتِهِ) : قال الكلبيّ : خرج وعليه ثياب حمر مصبوغة بالأرجوان على بغلة بيضاء. وقال الحسن : خرج في صنوف ماله من درّ وذهب وفضّة ، وقيل : خرج في الحمرة والصفرة.

(قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) : أي المشركون الذين لا يقرّون بالآخرة : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٧٩) : أي لذو نصيب واف.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : وهم المؤمنون للمشركين (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ) : أي جزاء الله ، أي : الجنّة (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ممّا أوتي قارون ، (وَلا يُلَقَّاها) :

__________________

ـ أقرب إلى حقيقة التأويل.

(١) اللفظ يشمل كلّ مفسد في الأرض ، من مشرك ، وباغ ، وظالم ، ومفسد بين الناس وغيرهم من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

٢٥٧

[أي : يعطاها ، أي : الجنّة] (١) (إِلَّا الصَّابِرُونَ) (٨٠) : أي العاملون بطاعة الله ، وهم المؤمنون (٢).

قال الله : (فَخَسَفْنا بِهِ) : أي بقارون (وَبِدارِهِ) : أي وبمسكنه (الْأَرْضَ) فهو يخسف به كلّ يوم قامة إلى أن تقوم الساعة. (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) (٨١) : أي من الممتنعين من عذاب الله.

قوله : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ) : [أي إنّ الله] (٣) (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٨٢) : [أي : وإنّه لا يفلح الكافرون] (٤).

بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل يكلّمه في شيء : ويكأنّك لم تكن لتفعله.

وقال بعضهم : (وَيْكَأَنَّ اللهَ) أي : ولكنّ الله ، (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي : ولكنّه لا يفلح الكافرون (٥).

قوله : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) : يعني الشرك (وَلا فَساداً) : أي قتل الأنبياء والمؤمنين وانتهاك حرمتهم (٦). (وَالْعاقِبَةُ) : أي الثواب

__________________

(١) زيادة من سح ، ورقة ٦٢ ، ومن ز ورقة ٢٥٧.

(٢) هذا وجه من وجوه تأويل قوله تعالى : (وَلا يُلَقَّاها) أي : الجنّة. وأورد الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣١١ وجها آخر له قيمته فقال : «يقول : ولا يلقّى أن يقول ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا إلّا الصابرون. ولو كانت : ولا يلقاه لكان صوابا ؛ لأنّه كلام ، والكلام يذهب به إلى التأنيث والتذكير».

(٣) زيادة من سح ومن ز.

(٤) زيادة من سح ومن ز.

(٥) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١١٢ : «(وَيْكَأَنَّ اللهَ) مجازه : ألم تر أنّ الله». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣١٢ : «وقوله : (وَيْكَأَنَّ اللهَ) في كلام العرب تقرير ، كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله». وقد أورد الفرّاء بعض معاني (وَيْكَأَنَّ) ووجوه استعمالها مفصّلة في ص ٢١٢ ـ ٢١٣ ، وانظر ابن الأنباريّ ، البيان في إعراب غريب القرآن ، ج ٢ ص ٢٣٧. وانظر ابن جنّي ، المحتسب ، ج ٢ ص ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٦) هذا قول رواه القرطبيّ في تفسيره ، ج ١٣ ص ٣٢٠ ونسبه إلى يحيى بن سلّام. وهذا دليل آخر على أنّ تفسير ابن سلّام كان متداولا في إفريقية والأندلس ، وكان من مصادر المفسّرين.

٢٥٨

(لِلْمُتَّقِينَ) (٨٣) : وهي الجنّة.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) : وهي الإيمان ، أي : إكمال الفرائض (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) : أي فله منها خير ، وفيها تقديم : فله منها خير ، وهي الجنّة. (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) : أي بالشرك والنفاق وكلّ كبيرة موبقة. (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤) : أي إلّا ثواب ما عملوا.

قوله : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) : أي نزّل عليك القرآن. وقال مجاهد : الذي أعطاكه (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) : قال مجاهد : لرادّك إلى مولدك ، إلى مكّة.

ذكر بعضهم قال : إنّ النبيّ عليه‌السلام ، وهو مهاجر متوجّه إلى المدينة حين هاجر ، نزل عليه جبريل عليه‌السلام ، وهو بالجحفة ، فقال : أتشتاق يا محمّد إلى بلادك التي ولدت بها؟ قال : نعم. فقال : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي : إلى مولدك الذي خرجت منه ظاهرا على أهله. وقال ابن عبّاس : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي : إلى الجنّة التي إليها معادك.

قال الله للنبيّ عليه‌السلام : (قُلْ) يا محمّد (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) : أي إنّ محمّدا جاء بالهدى ، وإنّه على الهدى. (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : (٨٥) أي المشركون والمنافقون.

قوله : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا) : يقول للنبيّ (أَنْ يُلْقى) : أي أن ينزل (إِلَيْكَ الْكِتابُ) : أي القرآن (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) : أي ولكن أنزل إليك الكتاب رحمة من ربّك (١) (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (٨٦) : أي عوينا للكافرين.

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) : أي عن حجج الله (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) : أي إلى عبادة ربّك (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) : يعني إلّا هو ، كقوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧](لَهُ الْحُكْمُ) : أي له القضاء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨) : أي إليه يرجع الخلق يوم القيامة.

* * *

__________________

(١) هذا ما يسمّيه النحاة بالاستثناء المنقطع.

٢٥٩

تفسير سورة العنكبوت وهي مكّيّة كلّها إلّا عشر آيات

مدنيّة من أوّلها إلى قوله : (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (الم) (١) : قد فسّرناه في أوّل سورة البقرة. (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) : أي صدّقنا (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) : أي بالجهاد في سبيل الله ، وبالفرائض التي أمرهم الله بها وابتلاهم بها.

وهم قوم كانوا بمكة ممّن أسلم وأجاب النبيّ عليه‌السلام إلى دينه ؛ كان قد وضع عنهم النبيّ عليه‌السلام الجهاد ، والنبيّ بالمدينة بعدما افترض عليه الجهاد ، وقبل منهم أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، ولا يجاهدوا. ثمّ افترض عليهم الجهاد ، وأمرهم به ، وأذن لهم فيه ، وذلك حين أخرجهم أهل مكّة فقال : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٣٩) [الحج : ٣٩]. فلمّا أمروا بالجهاد كره قوم القتال فقال الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أي : فلمّا فرض عليهم القتال (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) أي : لم فرضت علينا القتال (لَوْ لا) أي : هلّا (أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) [النساء : ٧٧] ، وأنزل الله في هذه الآية في أوّل السورة : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) أي : صدّقنا فقط (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي : وهم لا يبتلون بالجهاد في سبيل الله. قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي ولقد ابتلينا الذين من قبلهم ، أي : بعد تصديقهم وإقرارهم (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) : أي أهل الوفاء والاستكمال لما ابتلاهم الله به من الأعمال (١) ، (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣) : أي أهل الخيانة والكذب فيما ابتلوا به من الأعمال وهم المنافقون. وهذا علم الفعال (٢).

__________________

(١) كذا في ب وع ، وجاء في سح ورقة ٦٥ ، وفي ز ورقة ٢٥٨ ما يلي : «(فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) بما أظهروا من الإيمان (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) الذين يظهرون الإيمان وقلوبهم على الكفر ، وهم المنافقون». وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١١٢ : «(فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) مجازه : فليميّزنّ الله ، لأنّ الله قد علم ذلك من قبل».

(٢) جاء في ز ورقة ٢٥٨ ما يلي : «قال محمّد : معنى علم الفعال العلم الذي تقوم به الحجّة ، وعليه يكون الجزاء ، ـ

٢٦٠