تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (٢٢) : أي بخبر يقين.

وسبأ في تفسير بعضهم أرض باليمن يقال لها مأرب ، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال.

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سبأ أرجل هو أم امرأة أم أرض؟ فقال : بل هو رجل ولد عشرة ، فباليمن منهم ستّة وبالشام أربعة (١). فأمّا الذين باليمن ، فمذحج ، وكندة ، وحمير ، وأنمار ، والأزد ، والأشعريّون ، وأمّا الشاميّون : فلخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان.

قوله : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) : أي من كلّ شيء أوتيت منه (٢). (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (٢٣) : وعرشها سريرها ، وكان سريرها حسنا ؛ كان من ذهب ، وقوائمه لؤلؤ وجوهر. وكان مستّرا بالديباج والحرير. وكانت عليه سبعة مغاليق ، وكانت دونه سبعة أبيات بالبيت الذي هو فيه مغلقة مقفلة.

قوله : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) : قال الحسن : كانوا مجوسا. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) : وفيها تقديم ، أي : وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل ألّا يسجدوا لله. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي : بتركهم السجود (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ). وفي بعض كلام العرب : ألا تسجدوا ، أي : فاسجدوا. قوله : (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي يعلم السرّ في السماوات والأرض. والخبء من الخبيئة وقال مجاهد : الخبء : الغيب ؛ وهو واحد. قال : (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٦) : ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : لا يعلم قدر العرش إلّا الذي خلقه (٣).

__________________

(١) أخرجه ابن سلّام بهذا السند ، قال : «وحدّثني ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن علقمة بن وعلة أنّه سمع ابن عبّاس يقول : سئل رسول الله ...» الحديث.

(٢) جاءت العبارة في ب هكذا : «أوتيته أقسمته» ، وفي ع : «أوتيت أقسمته» ، ولم أر للكلمة الأخيرة وجها فأثبتّ ما ورد في سع وسح وز.

(٣) كذا جاء هذا القول موقوفا على ابن عبّاس في ع وفي سع وفي سح. لكنّه جاء في ب مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويبدو أن هذا سهو من ناسخ مخطوطة ب. فإنّي لم أجده حديثا مرفوعا فيما بين يديّ من مصادر الحديث والتفسير.

٢٢١

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أذن لي أن أحدّث عن ملك في حملة العرش ، رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش ، وبين شحمة أذنه إلى عاتقه خفقان الطير مسيرة سبعمائة سنة يقول : سبحانك اللهمّ وبحمدك لم يخل منك مكان (١).

قوله : (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢٧) : قال الحسن : فابتلى ، أي : فاختبر منه ذلك فوجده صادقا.

قوله : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) : يقول انصرف عنهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) (٢٨). قال بعضهم : ذكر لنا أنّها امرأة من أهل اليمن كانت في بيت مملكة يقال لها بلقيس بنت شر حبيل فهلك ملك قومها فملّكت. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لن يفلح قوم تملكهم امرأة (٢).

قال : وكانت إذا رقدت غلّقت الأبواب ، وأخذت المفاتيح ووضعتها تحت رأسها. فلمّا غلّقت الأبواب وأوت إلى فراشها أتاها الهدهد حتّى دخل من كوّة بيتها ، فقذف الصحيفة على بطنها أو بين ثدييها ، فأخذت الصحيفة فقرأتها ف (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) (٢٩) : [أي : حسن ، حسن ما فيه] (٣) (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) : أي لا تمتنعوا عليّ. وقال بعضهم : لا تخلّفوا عليّ [وأتوني مسلمين]. وكذلك كانت تكتب الأنبياء جملا ، لا يطيلون ، ولا يكثرون.

قوله : (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣١) : يعني الإسلام. وقال الكلبيّ : (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : وأتوني مقرّين بالطاعة مستسلمين ، ليس يعني الإسلام.

__________________

(١) كذا وردت الجملة الأخيرة في ب وفي ع : «سبحانك لم يخل منك مكان» ، وفي سع ٦٧ ظ ، وفي سح ورقة ٢٥ : «سبحانك حيث كنت». والحديث صحيح تقدّمت الإشارة إليه فيما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٤ من سورة الأنعام.

(٢) حديث صحيح أخرجه البخاريّ في كتاب المغازي ، باب كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كسرى وقيصر. وفي كتاب الفتن ، باب الفتنة التي تموج كموج البحر عن أبي بكرة ، ولفظه : «لّما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال : لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة».

(٣) زيادة من سع وسح. وقال الفرّاء في المعاني : «جعلته كريما لأنّه كان مختوما ، كذلك حدّثت. ويقال : وصفت الكتاب بالكرم لقومها لأنّها رأت كتاب ملك عندها فجعلته كريما لكرم صاحبه».

٢٢٢

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) : أي إنّها استشارتهم (١) (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) (٣٣).

قال بعضهم : ذكر لنا أنّه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا هم أهل مشورتها ، كلّ رجل منهم على عشرة آلاف فجميعهم ثلاثة آلاف ألف ومائة ألف وثلاثون ألفا. (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) : أي خرّبوها (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) قال الله : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٣٤).

قوله : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥) : أي رسلي (٢) ، أي : إن قبل هديّتنا فهو من الملوك وليس من أهل النبوّة كما ينتحل.

وقال بعضهم : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) فمصانعتهم بها عن ملكي إن كانوا أهل دنيا. فبعثت إليهم بلبنة من ذهب في حريرة وديباج. فبلغ ذلك سليمان ، فأمر بلبنة من ذهب فصيغت ، ثمّ قذفت تحت أرجل الدوابّ على طريقهم تبول عليها وتروث عليها. فلمّا جاءت رسلها فرأوا اللبنة تحت أرجل الدوابّ صغر في أعينهم الذي جاءوا به.

وقال مجاهد : بعثت إليهم بجوار قد ألبستهنّ لباس الغلمان ، وغلمان قد ألبستهم لباس الجواري ، فخلّص سليمان بعضهم من بعض ، ولم يقبل هديّتها.

قوله : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ) : أي ما أعطاني الله (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) : أي خير ممّا أعطاكم (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) (٣٦).

(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) : يعني الرسل (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) : أي لا طاقة لهم بها (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٧).

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٩٢ : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي) جعلت المشورة فتيا ، وذلك جائز لسعة العربيّة».

(٢) يذكر بعض الرواة أنّ الرسول كان واحدا ، وقيل : كان امرأة. ويستدلّ الذين يقولون إنّ الرسول كان واحدا بقوله تعالى فيما بعد : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) أي : فلمّا جاء الرسول سليمان. وبقوله : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ). انظر معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٢٩٣.

٢٢٣

قوله : (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) : أي بسريرها (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣٨). وذلك أنّه لّما بلغ سليمان أنّها جائية ، وكان قد ذكر له سريرها فأعجبه. [وكان عرشها من ذهب ، وقوائمه لؤلؤا وجوهرا. وكان مستّرا بالديباج والحرير ، وكانت عليه سبعة مغاليق ، فكره أن يأخذه بعد إسلامها] (١) وقد علم أنّهم متى أسلموا تحرم أموالهم مع دمائهم ، فأحبّ أن يؤتى به قبل أن يكون ذلك من أمرهم. فقال : (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). قال الكلبيّ : (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) قبل أن يأتوني مقرّين بالطاعة.

(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ) : أي مارد من الجنّ ، والعفريت لا يكون إلّا الكافر : (أَنَا آتِيكَ بِهِ) : أي بالسرير. (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) : ومقامه مجلسه الذي يقضي فيه. أي : لا يفرغ من قضيّته حتّى يؤتى به ، فأراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو أعجل من ذلك. (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (٢٩) (٢).

ف (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) : وكان رجلا من بني إسرائيل يقال له : آصف بن برخيا (٣) ، يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب : يا ذا الجلال والإكرام ، والمنن العظام والعزّ الذي لا يرام. هذا تفسير اسمه الأعظم ، والله أعلم. (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) : وطرفه أن يبعث رسولا إلى منتهى طرفه فلا يرجع حتّى يؤتى به (٤).

فدعا الرجل باسم الله : (فَلَمَّا رَآهُ) : يعني رأى سليمان السرير (مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) : أي أشكر نعمة الله أم أكفرها. (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٤٠).

ذكر ابن عبّاس قال : إنّ صاحب سليمان الذي عنده علم من الكتاب كان يحسن الاسم الأكبر ؛ فدعا به ؛ وكان بينه وبين السرير مسيرة شهرين ، فلمّا أتى به ورآه سليمان مستقرّا عنده كأنّه

__________________

(١) زيادة من سع ومن سح ، وقد جاءت بعض الجمل فاسدة مضطربة فأثبتّ التصحيح من سع وسح.

(٢) لم ترد هذه الجملة الأخيرة من الآية في كلّ المخطوطات.

(٣) لم يرد اسم برخيا إلّا في مخطوطة ع.

(٤) هذا وجه من أوجه تأويل ارتداد الطرف ، وهنالك أوجه أخرى ذكرها المفسّرون : منها : «أن يبلغ طرفك مداه وغايته». انظر ابن الجوزي ، زاد المسير ، ج ٦ ص ١٧٥ ، وتفسير الطبري ، ج ١٦ ص ١٦٤.

٢٢٤

وقع في نفسه مثل الحسد له. ثمّ فكّر فقال : أليس هذا الذي قدر على ما لم أقدر عليه مسخّرا لي. (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ). وقال بعضهم : هو جبريل الذي قال : (أَنَا آتِيكَ بِهِ).

قوله : (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) : قال مجاهد : غيّروا لها عرشها. وقال بعضهم : وتغييره أن يزاد فيه وينقص منه. (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) : أي أتعرفه (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) (٤١) : أي أم لا تعرفه.

قوله : (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) : على الاستفهام. (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) : أي شبّهته. قال سليمان : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) : يعني النبوّة. (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) (٤٢).

قوله عزوجل : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي كفرها بالله الذي صدّها عن الهدى ، ليس الوثن (١). (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) (٤٣).

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) : تفسير الحسن أن سليمان أمر الشياطين أن تصنع صرحا ، أي : مجلسا من قوارير.

وقال الكلبيّ : إنّ الجنّ استأذنوا سليمان فقالوا : ذرنا فلنبن صرحا من قوارير ، والصرح قصر ، فننظر كيف عقلها. وخافت الجنّ أن يتزوّجها فتطلع سليمان على أشياء كانت الجنّ تخفيها من سليمان. وذلك أنّ أحد أبويها كان جنّيّا ، فلذلك تخوّفوا ذلك منها.

قال الكلبيّ : فأذن لهم. فعمدوا إلى الماء ففجّروه في أرض فضاء ، ثمّ أكثروا فيه من الحيتان والضفادع ، ثمّ بنوا عليه سترة من زجاج ، ثمّ بنوا من حوله صرحا ، أي : قصرا ، ممرّدا من قوارير ؛ الممرّد : الأملس. ثمّ أدخلوا عرش سليمان ، أي : سريره ، وعرشها وكراسي عظماء الملوك. ثمّ دخل الملك سليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودخل معه عظماء جنده. ثمّ قيل لها : ادخلي الصرح ، وفتح الباب. فلمّا أرادت الدخول إذا هي بالحيتان والضفادع ، فظنت أنّه مكر بها لتغرق. ثمّ نظرت فإذا هي بالملك سليمان

__________________

(١) كذا في ب وع. وجاءت العبارة في سع ورقة ٦٨ و ، وفي سح ٢٨ هكذا : «كفرها بقضاء الله ، غير الوثن ـ وذلك من قضاء الله ـ صدّها أن تهتدي إلى الحقّ». وهو تفسير مجاهد. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٩٥ في تفسير الآية : «يقول : هي عاقلة ، وإنّما صدّها عن عبادة الله عبادة الشمس والقمر ، وكان عادة من دين آبائها». وانظر وجوه إعراب (ما) وكسر همزة إنّ أو فتحها كما يراها الفرّاء في الآية.

٢٢٥

على سريره ، والناس حوله على الكراسي ، فظنّت أنّها مخاضة (١) ، فكشفت عن ساقيها. وكان لها شعر ، فلمّا رآها سليمان كرهها. فعرفت الجنّ أن سليمان قد رأى منها ما كانت تكتم. قالت لها الجنّ : لا تكشفي عن ساقيك ولا عن قدميك فإنّه صرح ممرّد ، أي مملّس ، من قوارير.

وقال بعضهم : كان الصرح بني من قوارير على الماء. فلمّا رأت اختلاف السمك من ورائه لم يشتبه عليها أنّه لجّة ، وكشفت عن ساقيها. وكان أحد أبويها جنّيّا. وقال مجاهد : كانت أمّها جنّيّة. قال : وكان مؤخّر رجليها كحافر الدّابّة ، فكانت إذا وضعته على الصرح هشمته. قال مجاهد : كان الصرح بركة ماء ضرب عليها سليمان قوارير ألبسها إيّاه.

وقال بعضهم : إنّها لّما أقبلت إلى سليمان خافت الشياطين من أن يتزوّجها سليمان ، وقالوا : قد كنّا نلقى من سليمان من السخرة ما نلقى ، فكيف إذا اجتمع عقل هذه وتدبيرها مع ملك سليمان ونبوّته ، مع أنّ أمّها كانت من الجنّ ، فالآن هلكتم. فقال بعضهم : أنا أصرف سليمان عنها حتّى لا يتزوّجها. فأتاه فقال له : إنّه لم تلد قطّ جنّيّة من إنسيّ إلّا كان رجلها رجل حمار ، فوقع ذلك في نفس سليمان. وكان رجل من الجنّ يحبّ كل ما وافق سليمان ، فقال : يا نبيّ الله ، أنا أعمل لك شيئا ترى ذلك منها ، فعمل الصرح.

(فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) فرأى سليمان قدميها قدمي إنسان ، ورأى على ساقها شعرا كثيرا فساءه ذلك. فقال الجنّيّ الذي يحبّ كلّ ما وافق سليمان : أنا أعمل لك ما يذهب ذلك الشعر الذي ساءك ، فعمل له النورة (٢) والحمّام. وكان أوّل من عمل النورة والحمّام ، وتزوّجها سليمان في قول بعضهم. (قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) : أي أضررت نفسي. وبعضهم يقول : نقصت نفسي ، يعني بما كنت عليه من الكفر. (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤).

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) : أي أخوهم في النسب وليس بأخيهم في الدين. (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) (٤٥). قال بعضهم : يقول : إذا القوم بين مصدّق ومكذّب ، أي : مصدّق بالحقّ ، ونازل عنده ، ومكذّب بالحقّ وتاركه ، في ذلك

__________________

(١) هي الأرض التي بها ماء يخاض فيه لا جتيازها تسمّى : مخاضة ومخاض.

(٢) النورة : هناء يتّخذ من حجر محرق يدقّ فيوضع على البشرة ويطلى به الموضع الذي يراد إزالة الشعر منه.

٢٢٦

كانت خصومة القوم.

(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) : والسيّئة العذاب ، لقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧٠) [الأعراف : ٧٠] أي : المرسلين. والحسنة : الرحمة. (لَوْ لا) : أي هلّا (تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) : أي من شرككم (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٤٦) : أي لكي ترحموا.

(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) قالوا : ما أصابنا من سوء فهو من قبلك ومن قبل من معك في تفسير بعضهم ، وقال الحسن : قد كانوا أصابهم جوع فقالوا : لشؤمك ولشؤم الذين معك أصابنا هذا ، وهي الطيرة ، (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) : أي عملكم عند الله (١).

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (٤٧) : أي تبتلون ، أي : تختبرون بطاعة الله ومعصيته في تفسير بعضهم. وقال الحسن : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي : عن دينكم ، أي : تصرفون عن دينكم الذي أمركم الله به ، يعني الإسلام.

قوله : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (٤٨) [قال بعضهم : تسعة رهط من قوم صالح] (٢). (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ) : أي تحالفوا بالله. أي : يقوله بعضهم لبعض : (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) : قال الحسن : أهله : أمّته الذين على دينه. وقال بعضهم : تواثقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه. وقال بعضهم : ذكر لنا أنّهم بينما هم معانيق (٣) إلى صالح ليفتكوا به إذ بعث الله عليهم صخرة فاهمدتهم (٤). قوله : (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) : أي لرهطه (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٤٩).

قال الله : (وَمَكَرُوا مَكْراً) : أي الذي أرادوا بصالح (وَمَكَرْنا مَكْراً) : أي رماهم الله

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع : ب وع وسع وسح : «عملكم عند الله». وفي تفسير الطبريّ ، ج ١٩ ص ١٧١ : «علمكم عند الله». ونسب هذا القول فيه إلى قتادة. وقال أبو عبيدة في المجاز في تفسير الآية : ١٣١ من سورة الأعراف : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) : «ومجاز (طائِرُهُمْ) أي : حظّهم ونصيبهم».

(٢) زيادة من سع ٦٨ ظ ، ومن ز ورقة ٢٥٠.

(٣) معانيق جمع معنق. من أعنق إذا سارع وأسرع.

(٤) أي : تركتهم هامدين ، أي : أهلكتهم فماتوا.

٢٢٧

بالصخرة فأهمدتهم.

قال : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٠). قال : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) : أي بالصخرة (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥١) : أي دمّرنا قومهم بعدهم بالصيحة. قال (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ) : يعني بالحجر (خاوِيَةً) : أي ليس فيها أحد (بِما ظَلَمُوا) : أي بما أشركوا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥٢). قال : (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي صالحا والذين آمنوا معه. (وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٣).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذّبين ، يعني أصحاب الحجر ، إلّا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، أن يصيبكم ما أصابهم. أي : لا يصيبكم مثل ما أصابهم (١).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ في غزوة تبوك بوادي ثمود على فرس شقراء فقال : اسرعوا السير فإنّكم بواد ملعون (٢).

قوله : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٥٤) أنّه فاحشة. (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٥٥) : وقد فسّرنا أمرهم في غير هذا الموضع (٣).

قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) : أي قاله بعضهم لبعض (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (٥٦) : أي عن الفاحشة في تفسير الحسن. وقال مجاهد : من أدبار الرجال وأدبار النساء ، ويتطهّرون أي : يتنزّهون.

قال الله : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٥٧) : أي غبرت ، أي : بقيت في عذاب الله. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) : وهي الحجارة التي رمي بها أهل السفر

__________________

(١) حديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه أحمد والبخاريّ ومسلم. أخرجه البخاريّ في كتاب الصلاة ، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب ، وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق ، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلّا أن تكونوا باكين (رقم ٢٩٨٠).

(٢) رواه أبو الأشهب عن أبي نضرة كما في تفسير القرطبيّ ، ج ٢٠ ص ٤٨.

(٣) انظر ما مضى في هذا الجزء ، تفسير الآيات ١٦٠ ـ ١٧٥ من سورة الشعراء.

٢٢٨

منهم ومن كان خارجا من المدينة ، وخسف بهم ، وهي في تفسير بعضهم : ثلاث مدائن. وهو قوله : (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) [التوبة : ٧٠] وتأويل المؤتفكات : المنقلبات. ائتفكت بأهلها ، أي : انقلبت بهم فصار عاليها سافلها. قال : (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨) : أي بئس مطر المنذرين ، يعنيهم ، أي : أنذرهم لوط فلم ينتذروا.

قوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) : أي الذين اختار ، يعني الأنبياء والمؤمنين. قوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥٩) (١) : على الاستفهام ، أي : إنّ الله خير من أوثانهم التي يعبدون من دون الله.

قوله : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ) : أي بذلك الماء (حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) : أي ذات حسن ، أي : حسنة. قال الحسن : الحدائق : النخل. وقال الكلبيّ : الحديقة : الحائط من الشجر والنخل (٢).

(ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) : أي إنّ الله أنبتها. يقول : أم من خلق هذا خير ، وهو تبع للكلام ، لقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ). وهو على الاستفهام. يقول : أم من خلق هذا أم أوثانهم. أي : إنّ الله خير منهم.

قال : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) : أي ليس معه إله. وهذا استفهام على إنكار. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (٦٠) : أي يعدلون بالله ، فيعبدون الأوثان من دونه ، يعدلونهم بالله.

قوله : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) : أي الجبال (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) : أي لا يبغي أحدهما على الآخر ، لا يبغي المالح على العذب ، ولا العذب على المالح. وقال بعضهم : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) [الفرقان : ٥٣] ، أي : حاجزا من الأرض ، أي : بين البحرين المالحين : بحر فارس والروم.

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٩٥ : (أَمَّا يُشْرِكُونَ) مجازه أم ما تشركون ، أي : أم الذي تشركون به ، فأدغمت الميم في الميم فثقّلت. و (ما) قد يوضع في موضع (من) و (الذي). وكذلك هي في آية أخرى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] ومن بناها (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) ومن طحاها».

(٢) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٩٧ : «وإنّما يقال حديقة لكلّ بستان عليه حائط. فما لم يكن عليه حائط لم يقل له : حديقة».

٢٢٩

وقال مجاهد : حاجزا لا يرى. وقال الكلبيّ : البرزخ : [الحلق] (١) الذي بينهما. يعني بحر فارس والروم.

وقال الحسن يقول : أم من خلق هذا خير أم أوثانهم. وهذا تبع لقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ). وهو على الاستفهام ، أي : إنّ الله خير من أوثانهم.

قال : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) : أي ليس معه إله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٦١).

قوله : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) : المضطرّ : المكروب والمظلوم والمريض. (وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) : أي خلفا بعد خلف. وهو على الاستفهام ، يقول : أم من يفعل هذا خير أم أوثانهم. وهذا تبع لقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : إنّ الله خير من أوثانهم. قال : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) : على الاستفهام ، أي : ليس معه إله. (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٦٢) : أي أقلّهم المتذكّر ، يعني : أقلّهم من يؤمن.

قوله : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : [أي : من شدائد البرّ والبحر] (٢) (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً) : أي ملقحات للسحاب (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) : أي بين يدي المطر. وهو على الاستفهام. يقول : أم من يفعل هذا خير أم أوثانهم. وهذا تبع لقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : إنّ الله خير من أوثانهم. قال : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) : على الاستفهام. أي : ليس معه إله. (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٣) : ينزّه نفسه عمّا يشركون به.

قوله : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) يعني البعث (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : وهو على الاستفهام ، يقول أم من يفعل هذا خير أم أوثانهم ؛ وهذا تبع لقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) ، أي : إنّ الله خير من أوثانهم. قال الله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) : على الاستفهام ، أي : ليس معه إله. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) : يقول للنبيّ عليه‌السلام أن يقول للمشركين : هاتوا برهانكم ، أي : حجّتكم في تفسير الحسن. وفي تفسير بعضهم : بيّنتكم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦٤) : أي هذه الأوثان خلقت شيئا أو صنعت شيئا من هذا.

__________________

(١) زيادة من سع ورقة ٦٩ و ، ومن سح ورقة ٣٣.

(٢) زيادة من سع ومن سح.

٢٣٠

قوله : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) : الغيب ههنا القيامة. أي : لا يعلم مجيئها إلّا الله (وَما يَشْعُرُونَ) : أي وما يشعر جميع الخلق (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٦٥) : متى يموتون ومتى يبعثون (١).

قوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) : أي علموا في الآخرة أنّ الأمر كما قال الله ، فآمنوا حين لم ينفعهم علمهم ولا إيمانهم.

وقال الحسن : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) على الاستفهام ، أي : تبعا للاستفهام الأوّل ، أي : لم يبلغ علمهم في الآخرة ، أي : لو بلغ علمهم أنّ الآخرة كائنة لآمنوا بها في الدنيا كما آمن بها المؤمنون. وقال بعضهم : إنّ علمهم بذلك لم يبلغ في الدنيا ؛ يسفّههم بذلك.

وقال مجاهد : معناه عندي : (أم أدرك) أي : لم يدرك ؛ وهو مجامع (٢) للقول الأوّل الذي ذكرنا قبله.

قال : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) : أي من الآخرة (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٦٦) : أي عموا عن الآخرة. وقال الكلبيّ : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي : لا يدرون ما الحساب فيها وما العذاب.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) : على الاستفهام (٣) (أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) (٦٧) : أي لمبعوثون. كقوله : (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) (٦٦) [مريم : ٦٦] أي : لا نبعث. وهذا على الاستفهام ، استفهام منهم على إنكار.

قوله : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) : أي فلم نبعث. فهذا قول مشركي العرب ، أي : قد وعدت آباؤنا من قبل بالبعث كما وعدنا محمّد ، فلم نرها بعثت. يعني من كان من العرب على عهد موسى. وقد كان موسى يومئذ حجّة على العرب ، وهو قوله : (قالُوا لَوْ لا) أي : هلّا (أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) يعنون محمّدا. يقولون : هلّا أعطي محمّد مثل ما أعطي موسى من

__________________

(١) كذا في المخطوطات : «متى ... ومتى» وفي ع : «أين يموتون ومتى يبعثون».

(٢) كذا في ب وع : «مجامع» أي : شبيه. ولم ترد هذه الكلمة في سع ولا في سح. وانظر تفسير الطبريّ ، ج ٢٠ ص ٦.

(٣) هذا على قراءة من قرأها : (أيذا). باختلاس الياء ، وهي قراءة عاصم وغيره ، وقد قرأها نافع (إذا) على الخبر لا على الاستفهام.

٢٣١

قبل. قال الله : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) (٤٨) [القصص : ٤٨] يعنون موسى ومحمّدا. أي : كفروا بهم جميعا. وقال بعضهم : يعنون موسى وهارون. قوله : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٦٨) : أي كذب الأوّلين وباطلهم.

قال الله للنبيّ عليه‌السلام : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٦٩) : أي المشركين. كان عاقبتهم أن دمّر الله عليهم ثمّ صيّرهم إلى النار ، أي : فاحذروا أن ينزل بكم من عذاب الله ما نزل بهم ، يعني المشركين.

قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) : أي إن لم يؤمنوا. كقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨](وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (٧٠) : أي لا يضيق عليك أمرك ممّا يمكرون بك وبدينك فإنّ الله سينصرك عليهم ويذلّهم لك.

قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) : الذي تعدنا به من عذاب الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٧١).

قال الله للنبيّ عليه‌السلام : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) : أي اقترب لكم ، في تفسير مجاهد. وقال بعضهم : اقترب منكم ، أي : دنا منكم (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (٧٢) : قال الحسن : بعض الذي تستعجلون من عذاب الله. يعني قيام الساعة التي يهلك الله بها آخر كفّار هذه الأمّة.

قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) : فبفضل الله خلق الكافر ، وبفضله يتقلّب في الدنيا ، يأكل ويشرب (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٧٣) : أي من لا يؤمن ؛ ومنهم من يشكر ، وهو المؤمن. قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) من عداوة رسول الله والمؤمنين (وَما يُعْلِنُونَ) (٧٤) : أي من الكفر.

قوله : (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٧٥) : تفسير الحسن : الغائبة : القيامة (١).

__________________

(١) كذا في المخطوطات الأربع : ب وع وسع وسح : «الغائبة : القيامة». ولا أرى وجها لتخصيص القيامة هنا ـ

٢٣٢

قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) : يعني الذين أدركوا النبيّ عليه‌السلام (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٧٦) : يعني ما اختلف فيه أوائلهم ، وما حرّفوا من كتاب الله ، وما كتبوا بأيديهم ، ثمّ قالوا : هذا من عند الله.

قوله : (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧) : أي هدى يهتدون به إلى الجنّة.

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) : أي بين المؤمنين والكافرين في الآخرة ، فيدخل المؤمنين الجنّة ويدخل الكافرين النار. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٧٨) : أي لا أعزّ منه ولا أعلم منه.

قوله : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (٧٩) : أي البيّن.

قوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) : يعني الكفّار الذين يلقون الله بكفرهم ، إنّما مثلهم فيما تدعوهم إليه مثل الأموات الذين لا يسمعون. قال : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (٨٠) : يعنيهم. وهي تقرأ على وجه آخر : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) يقول : إنّ الأصم لا يسمع الدعاء إذا ولّى مدبرا. وهذا مثل الكافر ، أي : لا يسمع الهدى إذا ولّى مدبرا ، أي : مدبرا عن الهدى جاحدا له ، أي : مثل الأصم الذي لا يسمع. وكان الحسن يقرأ هذا الحرف : (ولا يسمع الصّمّ الدّعاء إذا ولّوا مدبرين).

قوله : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) : يعني الذين يموتون على كفرهم (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) : أي من أراد الله أن يؤمن منهم (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٨١) : وهذا سمع القبول (١). وأمّا الكافر فتسمع أذناه ولا يقبله قلبه.

قوله : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) : أي حقّ القول عليهم ، والقول : الغضب.

(أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) : [وفي بعض القراءة : تحدّثهم] (٢) (أَنَ

__________________

ـ دون سائر المغيّبات. فالغائبة تشمل كلّ سرّ مكتوم أو أمر خفيّ يغيب عن الأبصار أو الأفهام في سماء أو أرض. وحمل اللفظ على العموم أصحّ معنى وأحسن تأويلا.

(١) كذا في ب وع : «سمع القبول» ، وفي سع وسح : «سمع القلوب».

(٢) زيادة من سح ، ورقة ٣٨ ، ومن ز ورقة ٢٥١.

٢٣٣

النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) (٨٢).

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه كان يقول : إنّها دابّة ذات زغب وريش لها أربع قوائم تخرج من بعض أودية تهامة.

ذكروا عن ابن عمرو أنّه قال : تخرج الدابّة من مكّة من صخرة بشعب أجياد. قال : فإذا خرجت الدابّة فزع الناس إلى الصلاة ؛ فتأتي الرجل وهو يصلّي فتقول له : طوّل ما أنت مطوّل ، فو الله لأخطمنّك (١). قال : فيومئذ يعرف المنافق من المؤمن. قال عبد الله بن عمرو : لو أشاء أن أضع قدمي على مكانها الذي تخرج منه لفعلت. ذكر الحسن أنّ موسى عليه‌السلام سأل ربّه أن يريه الدابّة ، دابّة الأرض ، فخرجت إليه ثلاثة أيّام ولياليها لا يرى أطرافها ، أو لا يرى واحدا من طرفيها ، فرأى منظرا كريها ، فقال : ربّ ردّها ، فرجعت.

ذكروا عن أبي الطفيل (٢) قال : كنّا جلوسا عند حذيفة فذكروا الدابّة فقال حذيفة : إنّها تخرج ثلاث خرجات : مرّة في بطن الوادي ، ثمّ تكمن. ثمّ تخرج في بعض القرى حتّى تذكر ، ويهريق فيها الأمراء الدماء. فبينما الناس على أعظم المساجد وأفضلها وأشرفها ، يعني المسجد الحرام ، إذ ترفع الأرض ويهرب الناس ، وتبقى عصابة من المؤمنين يقولون : لن ينجينا من أمر الله شيء ، فتخرج فتجلو وجه المؤمن ، وتخطم وجه الكافر ، لا يدركها طالب ، ولا ينجو منها هارب. قالوا : وما الناس يومئذ يا حذيفة؟ قال : جيران في الرّباع ، شركاء في الأموال ، أصحاب في الأسفار.

ذكروا عن عبد الله بن عمرو قال : يبيت الناس يسيرون إلى جمع وتبيت الدابّة تسري إليهم فيصبحون قد جعلتهم بين رأسها وذنبها ، فما تمرّ بمؤمن إلّا تمسحه ، ولا بكافر ولا منافق إلّا تخطمه ، وإنّ التوبة اليوم (٣) لمفتوحة.

__________________

(١) خطمه ، أي : ضرب خطمه ، وهو مقدم الأنف ؛ والمخاطم : الأنوف.

(٢) هو أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني ، ولد عام أحد ، فأدرك من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانية أعوام. وروي عنه أنّه قال : «ما بقي على وجه الأرض عين تطرف ممّن رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيري» ، ولذلك يعدّ آخر من مات ممّن رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان متشيّعا. وقد ذكره ابن قتيبة في أسماء الغالية من الرافضة. انظر ترجمته في الاستيعاب لابن عبد البر ، ج ٤ ص ١٦٩٦ ، وفي المعارف لابن قتيبة ، ص ٦٢٤.

(٣) كذا في ب وع : «وإنّ التوبة اليوم لمفتوحة». أي : يومئذ ، ولم ترد كلمة «اليوم» في سع ولا في سح.

٢٣٤

ذكروا عن عبد الله بن عمرو قال : لا تقوم الساعة حتّى يجتمع أهل البيت على الإناء الواحد يعرفون مؤمنيهم من كافريهم. قال : تخرج دابّة الأرض فتمسح كلّ إنسان على مسجده (١) ؛ فأمّا المؤمن فتكون نكتة بيضاء فتفشو في وجهه حتّى يبيضّ لها وجهه ، وأمّا الكافر فتكون نكتة سوداء حتّى يسودّ وجهه ؛ حتّى إنّهم ليتبايعون في أسواقهم فيقول هذا : كيف تبيع هذا يا مؤمن ، ويقول هذا : كيف تأخذ هذا يا كافر. فما يردّ بعضهم على بعض.

قوله : (تُكَلِّمُهُمْ ، أَنَّ النَّاسَ) أي : المشركين (كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) وبعضهم يقرأها : (تكلمهم) أي : تجرحهم (٢). وبعضهم يقول : تسمهم.

قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) : يعني كفّار كلّ أمّة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٨٣) : لهم وزعة تردّ أولاهم على أخراهم.

قال : (حَتَّى إِذا جاؤُ) : أي حتّى إذا قدم بهم على الله (قالَ) الله : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) : أي بحجّتي (٣) (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) : أي بأنّ ما عبدتم من دوني ما خلقوا معي شيئا ولا رزقوا معي شيئا ، وإنّ عبادتكم إيّاهم لم تكن بإحاطة علم علمتموه ، إنّما كان ذلك منكم على الظنّ. (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨٤) : يستفهمهم بذلك وهو أعلم بذلك منهم ؛ أي : يحتجّ عليهم.

قال : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ) : أي الغضب (عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) : أي بما أشركوا (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) (٨٥).

قوله : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) : أي منيرا (٤) (إِنَ

__________________

(١) المسجد ، بفتح الجيم ، جبهة الرجل حيث يصيبه أثر السجود.

(٢) هذا الشرح لكلمة : (تُكَلِّمُهُمْ) ممّا انفردت به ب وع. وفي سع ٧٠ و : «تكلمهم ، أي : تسمهم». وما ورد في ب وع أصحّ ، وكأنّ الفرّاء لم يستسغ هذه القراءة حين قال في المعاني ، ج ٢ ص ٣٠٠ : «واجتمع القرّاء على تشديد (تُكَلِّمُهُمْ) ، وهو من الكلام. وحدّثني بعض المحدّثين أنّه قال : (تُكَلِّمُهُمْ) و (تُكَلِّمُهُمْ).

(٣) كذا في ب وع : «أي بحجّتي». وهو تأويل انفردت به ب وع. والحقّ أنّ آيات الله أعمّ من حجّته ، وإن كان له وحده الحجّة البالغة.

(٤) وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٩٦ : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) مجازه مجاز ما كان العمل والفعل فيه لغيره ؛ أي : ـ

٢٣٥

فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٨٦).

قوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) : والصور قرن. وقال مجاهد : كهيئة البوق (١).

(فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ). وهذه النفخة الأولى. وقال الحسن في قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) : استثنى الله طوائف من أهل السماء يموتون بين النفختين.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) يعني الشهداء ، فإنّهم قالوا : ما أحسن هذا الصوت كأنّه الأذان في الدنيا ، فلم يفزعوا ولم يموتوا (٢).

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ، وأوّل من تنشقّ عنه الأرض ، فأجد موسى متعلّقا بالعرش ، فلا أدري أصعق فيمن صعق ، أم أجزته الصعقة الأولى. وذكروا عن الحسن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فأجد موسى متعلّقا بالعرش فلا أدري أحوسب بالصعقة الأولى ، أم خرج قبلي (٣).

قوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٨٧) : يعني صاغرين. يعني النفخة الآخرة.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بين النفختين أربعون ؛ الأولى يميت الله بها كلّ حيّ ، والأخرى يحيي الله كلّ ميّت (٤).

ذكروا عن عكرمة قال : النفخة الأولى من الدنيا والأخرى من الآخرة. ذكروا عن عبد الله بن عمرو أنّه قال : النافخان في السماء الثانية ، رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ، ورأس

__________________

ـ يبصر فيه ؛ ألا ترى أنّ البصر إنّما هو في النهار والنهار لا يبصر ، كما أنّ النوم في الليل ولا ينام الليل؟ فإذا نيم فيه قالوا : ليله قائم ونهاره صائم. قال جرير :

لقدّ لمتنا يا أمّ غيلان في السرى

ونمت وما ليل المطيّ بنائم».

(١) في ب وع : «كقرن البوق» ، وهو خطأ ، وأثبتّ التصحيح من سع ورقة ٧٠ و ، ومن سح.

(٢) أخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٠ ص ١٩ وفي ص ٢٠ من طريقين عن أبي هريرة. ولفظه : «هم الشهداء». وليس فيه بقيّة الحديث.

(٣) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٥٥ من سورة الإسراء.

(٤) انظر تخريجه فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٣٨ من سورة الحجر.

٢٣٦

أحدهما بالمغرب ورجلاه بالمشرق.

ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : يقوم ملك بين السماء والأرض بالصور فينفخ فيه. وذكر بعضهم أنّ المنادي ، وهو صاحب الصور ، ينادي من الصخرة من بيت المقدس.

قوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) : أي ساكنة (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) : وتكون الجبال كالعهن ، أي : كالصوف المنفوش ، وتكون كثيبا مهيلا ، وتبسّ بسّا كما يبسّ السويق ، وتكون سرابا ، ثمّ تكون هباء منبثّا ؛ فذلك حين تذهب من أصولها فلا يرى منها شيء ، فتصير الأرض كلّها مستوية. قوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) : أي أحكم كلّ شيء (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٨٨) (١).

قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) : أي بالإيمان ، وهو شهادة لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، وأنّ ما جاء به حقّ من الله ، وعمل صالحا وعمل جميع الفرائض (٢). (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) : أي فله منها خير ، وهو الجنّة. وفي الآية تقديم ، أي : فله منها خير.

قال : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (٨٩). قال الحسن : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقوم الساعة على رجل يشهد ألّا إله إلّا الله ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر (٣). ذكروا عن عبد الله بن عمرو قال : تنفخ النفخة الأولى وما يعبد الله يومئذ في الأرض.

قوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) : أي ألقوا في النار على وجوههم. ذكروا عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مات لا يشرك بالله شيئا وعمل بفرائض الله دخل الجنّة ، ومن مات يشرك بالله دخل النار (٤). قوله : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ

__________________

(١) قال الأخفش في معاني القرآن ، ج ١ ص ٤٢٢ : «... و (صُنْعَ اللهِ) و (كتاب الله) إنّما هو من صنغ الله ذلك صنعا. فهذا تفسير كلّ شيء في القرآن من نحو هذا ، وهو كثير».

(٢) هذا تعريف الحسنة في مذهب الشيخ هود الهوّاريّ ، لا يحيد عن تعريف الإيمان بما شرحه. أمّا ابن سلام فاكتفى بقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) ؛ بلا اله إلّا الله مخلصا». كما جاء في سع ورقة ٧٠ ظ.

(٣) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب ذهاب الإيمان آخر الزمان (رقم ١٤٨) عن أنس ؛ ولفظه : «لا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله».

(٤) انظر ما سلف ج ١ ، تفسير الآية ٤٨ من سورة النساء ؛ فقد مضى التعليق عليه هناك.

٢٣٧

تَعْمَلُونَ) (٩٠) : أي في الدنيا ، يقال لهم ذلك في الآخرة.

قوله : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) : يعني مكّة (الَّذِي حَرَّمَها) : أي إنّما أمرت أن أعبد ربّها الذي حرّمها (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩١) : أي وأمرت أن أتلو القرآن (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٩٢) : أي لا أستطيع أن أكرهكم عليه ، أي : ليس عليّ إلّا أن أنذركم.

قوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) : أي في الآخرة على ما قال في الدنيا ، أي : من وعده ووعيده. وقال مجاهد : على ما يرون من الآيات في السماء والأرض والرزق.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣) : وهي تقرأ على وجهين : على التاء والياء ؛ فمن قرأها بالياء يقول : وما ربّك ، يا محمّد ، بغافل عمّا يعملون ، يعني جميع الناس. ومن قرأها بالتاء : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) يقوله لهم.

* * *

٢٣٨

تفسير سورة القصص وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) : (٢) قد فسّرناه في طسم الشعراء.

قوله : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣) : أي لقوم يصدّقون.

قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) : أي بغى في الأرض (١) ، [يعني أرض مصر] (٢) (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) : أي فرقا. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) : أي فيذبّح طائفة ويعذّب طائفة ويستعبد طائفة ، يعني بني إسرائيل الذين كانوا بمصر في يد فرعون. والطائفة التي كان يذبّح : الأبناء ، والطائفة التي كان يستحيي : النساء ، فلا يقتلهنّ. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٤) : أي في الأرض بشركه وعمله السوء.

قوله : (وَنُرِيدُ) : أي كان يفعل هذا فرعون يومئذ ونحن نريد (أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) : يعني بني إسرائيل (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) : أي يقتدى بهم ، أي : أئمّة في الدين (٣). (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٥) : أي يرثون الأرض بعد فرعون وقومه ؛ ففعل الله ذلك بهم. قال : (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) : وهو تبع للكلام الأوّل : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) قال : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ) : أي من بني إسرائيل (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٦). وذلك أنّه قيل لفرعون إنّه يولد في هذا العام غلام يسلبك ملكك ؛ فتتبّع أبناءهم يقتلهم ويستحيي نساءهم فلا يقتلهنّ حذرا ممّا قيل له (٤).

قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) : وحي إلهام ، أي : قذف في قلبها ، وليس بوحي نبوّة. (أَنْ

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٩٧ : «أي عظم وشرف وغلب عليها وطغى».

(٢) زيادة من سع ورقة ٧٢ ظ ، ومن سح ورقة ٤٤. والقول للسدّيّ.

(٣) كذا في ب وع : «أئمّة في الدين» ، وفي سع وسح وز : (وَنَجْعَلَهُمْ ، أَئِمَّةً) أي ولاة الأمر». وروى عن ابن عبّاس في تأويل هذه الكلمة : (أَئِمَّةً) أي : «قادة يقتدى بهم في الخير».

(٤) زيادة من سع ، ورقة ٧٢ ظ ، ومن ز ورقة ٢٥٣.

٢٣٩

أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) الطلب (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) : أي البحر (وَلا تَخافِي) : أي الضيعة (وَلا تَحْزَنِي) أن يقتل (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧) : فجعلته في تابوت ، ثمّ قذفته في البحر.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) قال بعضهم : لا أعلم ، إلّا أنّه بلغني أنّ الغسّالات على النيل التقطته. قال : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) : أي ليكون لهم عدوّا في دينهم وحزنا ، أي : ليحزنهم به. قال : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) (٨) : أي مشركين.

قوله : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) : تقوله لفرعون ، تعني بذلك موسى ؛ ألقيت عليه رحمتها حين أبصرته. (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً). قال الله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩) : أي أنّ هلاكهم على يده وفي زمانه.

قوله : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) : أي من كلّ شيء إلّا من ذكر موسى ، أي : لا تذكر غيره. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) : أي لتبيّن لهم أنّه ابنها من شدّة وجدها (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) : أي بالإيمان (لِتَكُونَ) : أي لكي تكون (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠).

قوله : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) : أي قالت أمّ موسى لأخت موسى : (قُصِّيهِ) أي : قصّي أثره. قال الله : (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) : أي عن ناحية من بعيد (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١١) أنّها أخته. ثمّ جعلت تنظر إليه وكأنّها لا تريده. وقال مجاهد : (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي : من بعيد.

قوله : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) : جعل لا يؤتى بامرأة إلّا لم يأخذ ثديها حتّى ردّه الله إلى أمّه. (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ) : أي ألا أدلّكم (عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) : أي يضمّونه (١) لكم فيرضعونه (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (١٢).

قال الله : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ

__________________

(١) في ب وع : «يضمنونه» ، وفي الكلمة تصحيف. وأثبتّ التصحيح من سع وسح ومن ز ومن مجاز أبي عبيدة : «يضمّونه».

٢٤٠