تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

قال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أي ليجزيهم الجنّة (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) : أي لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤).

قال : (وَالَّذِينَ سَعَوْا) : أي عملوا (فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) : تفسير الحسن : يظنّون أنّهم يسبقوننا حتّى لا نقدر عليهم فنبعثهم فنعذّبهم كقوله : (وَما كانُوا سابِقِينَ) (٣٩) [العنكبوت : ٣٩].

وتفسير الكلبيّ : (مُعاجِزِينَ) مبطّئين ، أي : يثبّطون الناس عن الإيمان ولا يؤمنون بها.

قال : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) : والرجز : العذاب (أَلِيمٌ) (٥) : أي موجع ، أي : لهم عذاب من عذاب موجع.

قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : يعني المؤمنين (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) : أي يعلمون أنّه هو الحقّ (وَيَهْدِي) : أي ويعلمون أنّ القرآن يهدي (إِلى صِراطِ) : أي إلى طريق (الْعَزِيزِ) : الذي ذلّ له كلّ شيء (الْحَمِيدِ) (٦) : المستحمد إلى خلقه ، أي : استوجب عليهم أن يحمدوه. والطريق إلى الجنّة.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : يقوله بعضهم لبعض (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) : يعنون محمّدا (يُنَبِّئُكُمْ) : أي يخبركم (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٧) : أي إذا متّم وتفرّقت عظامكم وكانت رفاتا إنّكم مبعوثون خلقا جديدا ، إنكارا للبعث.

(أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) : أي جنون. قال الله : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ) : أي في الآخرة (وَالضَّلالِ) : أي في الدنيا (الْبَعِيدِ) (٨) : الذي لا يصيبون منه خيرا في الدنيا ولا في الآخرة. وقال بعضهم : البعيد من الهدى. وقال بعضهم : (الضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي : الشقاء الطويل.

قال الله : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : أي حيثما قام الإنسان فإنّ بين يديه من السماء والأرض مثل ما خلفه منها (١). (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ

__________________

ـ مختلف ، عن عبادة بن الصامت.

(١) كذا في ب وع وفي سح ورقة ١٤١ ، وعبارة الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٥٥ أبلغ وأكثر وضوحا ؛ قال : ـ

٣٤١

الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) : والكسف : القطعة. والكسف مذكّر ؛ والقطعة مؤنّثة ، والمعنى على القطعة. قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) : أي لعبرة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٩) : وهو المقبل إلى الله بالإخلاص له.

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) : يعني النبوّة (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) : أي سبّحي معه (١) (وَالطَّيْرَ) وهو قوله : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) [الأنبياء : ٧٩].

قال : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) : ألانه الله له ، فكان يعمل بلا نار ولا مطرقة بأصابعه الثلاث كهيئة الطين بيده (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) : وهي الدروع (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) : أي لا تعظّم المسمار وتصغّر الحلقة فتنقسم الحلقة ، ولا تعظّم الحلقة وتصغّر المسمار فينكسر المسمار (٢).

وبلغنا أنّ لقمان حضر داود عند أوّل درع عملها ، فجعل يتفكّر فيما يريد بها ولا يدري ما يريد بها. فلم يسأله ؛ حتّى إذا فرغ منها داود قام فلبسها فقال لقمان : الصمت حكمة ، وقليل فاعله.

قال : (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) : (١١) أي لا يغيب عن الله من أعمالهم شيء.

قوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) : أي وسخّرنا لسليمان الريح (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) : ذكر الحسن أنّه كان يغدو من بيت المقدس فيقيل بإصطخر ، فيروح منها فتكون روحته

__________________

ـ «يقول : أما يعلمون أنّهم حيثما كانوا ، فهم يرون بين أيديهم من الأرض والسماء مثل الذي خلفهم ، وأنّهم لا يخرجون منها. فكيف يأمنون أن نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم من السماء عذابا».

(١) قال ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٣٥٣ : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي : سبّحي. وأصله : التأويب في السير ، وهو : أن تسير النهار كلّه وتنزل ليلا ... كأنّه أراد أوّبي النهار كلّه بالتسبيح إلى الليل». وقال الفرّاء ، ج ٢ ص ٣٥٥ : وقرأ بعضهم : (أَوِّبِي مَعَهُ) من آب يؤوب ، أي : «تصرّفي معه». وقال الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٣ ص ٥٧١ مفسّرا هذه القراءة الأخيرة : «أي : ارجعي معه في التسبيح كلما رجع فيه».

(٢) كذا في ب وع ، وفي سح ورقة ١٤١ ، وز ورقة ٢٧٥ : «لا تصغّر المسمار وتعظّم الحلقة فيسلس ، ولا تعظّم المسمار وتصغّر الحلقة فتفصم الحلقة». وقال الفرّاء ، ج ٢ ص ٣٥١ : «لا تجعل مسمار الدرع دقيقا فيقلق ولا غليظا فيفصم الحلق».

٣٤٢

إلى كابل.

وفي تفسير عمرو عن الحسن قال : كان سليمان إذا أراد أن يركب جاءته الريح وجلس على سريره ، وجلس وجوه الناس من أصحابه على منازلهم في الدين عنده من الجنّ والإنس. والجنّ يومئذ ظاهرة للإنس ، رجال أمثال الإنس إلّا أنّهم أدم (١) ، يحجّون جميعا ويعتمرون جميعا ويصلّون جميعا ، والطير ترفرف على رأسه ورؤوسهم ، والشياطين حرسة (٢) ، لا يتركون أحدا يتقدّم بين يديه. وهو قوله : (حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٧) [النمل : ١٧] أي : فهم يدفعون ، أي : لا يتقدّمه منهم أحد. وقال بعضهم : وزعهم ، أي : يردّ أوّلهم على آخرهم ، وهو واحد.

قوله : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) : يعني الصفر (٣) ، سالت له مثل الماء. قال : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) : أي بأمر ربّه ، أي : بالسخرة التي سخّرها الله تعالى له. قال : (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) : أي عن طاعة الله وعبادته (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) (١٢) : أي في الآخرة. ولم يكن يسخّر منهم ويستعمل في هذه الأعمال كلّها ولا يصفّد في الأصفاد ، أي : ولا يسلسل في السلاسل منهم ، إلّا الكفّار. فإذا تابوا وآمنوا حلّهم من تلك الأصفاد.

وقال بعضهم : (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي : جعل معه ملك بيده سوط من عذاب السعير ، فإذا خالف سليمان منهم أحد ضربه الملك بذلك السوط.

قال : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) : والمحاريب في تفسير الحسن المساجد ، وفي تفسير مجاهد : [بنيان دون] (٤) القصور. وفي تفسير الكلبيّ : المساجد والقصور.

__________________

(١) كذا في سح : «أدم» ، وفي ع : «إلّا أنّ بهم أدومة» ، وصوابها : «أدمة». والأدمة في الناس سمرة يشوبها سواد ، وفي الإبل والظباء بياض.

(٢) كذا في ع وسح وز : «حرسة» ، جمع حارس ، ولم أجد هذا الجمع في اللسان ولا في الصحاح ، وورد في بعض المعاجم قياسا لا سماعا ، فكثيرا ما يجمع فاعل على فعلة. وقد ورد في القرآن منه مثل : (بررة) ، (كفرة) ، (فجرة) ؛ ولو أسقطت النقطتان من الهاء في آخر الكلمة ، فكان اللفظ : «حرسه» لكان صوابا.

(٣) الصفر : هو النحاس الجيّد.

(٤) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٥٢٤ ، ومن الدرّ المنثور ، ج ٥ ص ٢٢٨.

٣٤٣

(وَتَماثِيلَ) وهي الصور. وفي تفسير الحسن : إنّها لم تكن يومئذ محرّمة. وتفسير مجاهد : إنّها تماثيل من نحاس.

قال : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) : أي كالحياض (١) في تفسير الحسن. (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) : أي ثابتات في الأرض عظام تنقر من الجبال بأثافيها فلا تحول عن أماكنها.

ذكروا أنّ سليمان أمر ببناء بيت المقدس فقالوا له : زوبعة الشيطان له عين في جزيرة في البحر يردها في كلّ سبعة أيّام يوما. فأتوها فنزحوها ، ثمّ صبّوا فيها خمرا. فجاء لورده ، فلمّا أبصر الخمر قال في كلام له : ما علمت أنّك إذا شربك صاحبك يظهر عليه عدوّه ، في أساجيع له ؛ لا أذوقك اليوم ، فذهب. ثمّ رجع لظمء آخر ، فلمّا رآها كما كانت قال كما قال أوّل مرّة. ثمّ ذهب فلم يشرب ، حتّى جاء لظمء آخر لإحدى وعشرين ليلة ، فقال : ما علمت أنّك لتذهبين الهمّ ، في سجع له ، فشرب منها فسكر. فجاءوا إليه فأروه خاتم السخرة. فانطلق معهم إلى سليمان ، فأمرهم بالبناء فقال زوبعة : دلّوني على بيض الهدهد. فدلّ على عشّه. فانطلق فجاء بالماس الذي يثقب به الياقوت ، فوضعه عليه فقطّ الزجاجة نصفين ، ثمّ انطلق ليأخذه فأزعجوه ، فجاءوا بالماس إلى سليمان ، فجعلوا يستعرضون الجبال العظيمة كأنّما يخطون في نواحيها ، أي : في نواحي الجبال ، في طين.

قال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) : أي إيمانا (٢). قال بعضهم : لّما نزلت لم يزل إنسان منهم قائما يصلّي.

قال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣) : أي أقلّ الناس المؤمن.

قال : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) : أي فلمّا أنزلنا عليه الموت (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) : وهي الأرضة (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) : والمنساة : العصا ، وهي بالحبشيّة (٣).

__________________

(١) أصل الجابية : الحوض الذي يجبى ، أي : يجمع فيه الماء للإبل.

(٢) كذا في ب وع : «إيمانا» ، وفي سح وز : «أي : توحيدا».

(٣) ذكر الطبريّ عن السدّيّ أن أصل الكلمة حبشيّ ، والحقّ أنّ الكلمة عربيّة صريحة مشتقّة من نسأت الغنم أي : سقته. قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٥٦ : «وهي العصا العظيمة التي تكون مع الراعي ، أخذت من نسأت البعير ، زجرته ليزداد سيره». وانظر مجاز أبي عبيدة ، ج ٢ ص ١٤٥ ، تجد تحقيقا وافيا للكلمة ـ

٣٤٤

قال بعضهم : مكث سليمان حولا وهو متّكئ على عصاه ، لا يرى الإنس والجنّ إلّا أنّه حيّ على حاله الأولى لتعظم الآية ، بمنزلة ما أذهب الله من علمهم تلك الأربعين الليلة التي غاب فيها سليمان عن ملكه حيث خلفه ذلك الشيطان في ملكه. فكان موته فجأة وهو متكئ على عصاه حولا لا يعلمون أنّه مات. وذلك أنّ الشياطين كانت تزعم للإنس أنّهم يعلمون الغيب فكانوا يعملون له حولا لا يعلمون أنّه مات.

قوله تعالى : (فَلَمَّا خَرَّ) سليمان (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) للإنس (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (١٤) [في تلك السخرة ، في تلك الأعمال في السلاسل ، تبيّن للإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين] (١) أي : العذاب الذي لهم فيه الهوان.

قوله : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) كانوا باليمن. وفي تفسير الحسن وغيره : هي أرض. وقال الحسن : لقد تبيّن لأهل سبأ كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي : أهل القرية.

ذكروا عن علقمة أنّه سمع ابن عبّاس يقول : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سبأ ، أرض هي أم امرأة أم رجل؟ فقال : بل هو رجل ولد عشرة ، فباليمن منهم ستّة ، وبالشام أربعة. فأمّا اليمانيّون فمذحج وحمير وكندة وأنمار والأزد والأشعريّون. وأمّا الشاميّون فلخم وجذام وعاملة وغسان (٢).

قال : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ، آيَةٌ) ثمّ أخبر بتلك الآية فقال : (جَنَّتانِ) : وتفسير الحسن : أنّ فيها تقديما ، وتقديمها : لقد كان لسبأ في مساكنهم جنّتان ، فوصفهما ، ثمّ قال : (آيَةٌ). قوله : (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) : أي جنّة عن يمين ، وجنّة عن شمال.

__________________

ـ وشواهد عليها.

(١) ما بين المعقوفين زيادة من سح ، ورقة ١٤٤ للإيضاح.

(٢) أخرجه أحمد وعبد بن حميد والطبرانيّ ، وابن أبي حاتم وابن عديّ والحاكم وصحّحه ، عن ابن عبّاس ، كما في الدرّ المنثور ، ج ٥ ص ٢٣١. وأخرجه الطبريّ في تفسيره ، ج ٢٢ ص ٧٧ عن فروة بن مسيك. وقال عنه ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، ج ٣ ص ١٢٦١ : «حديثه في سبأ حديث حسن».

٣٤٥

قال : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) : أي هذه بلدة طيّبة (وَرَبٌّ غَفُورٌ) (١٥) : أي لمن تاب وآمن وعمل.

قوله : (فَأَعْرَضُوا) : عمّا جاءت به الرسل (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) : قال بعضهم : العرم : المسنّاة ، يعني الجسر الذي يحبس به الماء ؛ وكان سدّا قد جعل في موضع من الوادي تجتمع فيه المياه (١). وذكروا أنّه إنّما نقبه دابّة يقال له الخلد ، ليس له عينان وله نابان يحفر بهما الأرض.

وفي تفسير مجاهد : إنّ ذلك السيل الذي أرسله الله عليهم من العرم كان ماء أحمر أتى الله به من حيث شاء. وهو الذي شقّ السد وهدمه ، وحفر بطن الوادي عن الجنّتين (٢) فارتفعتا ، وغار عنهما الماء فيبستا (٣).

وقال بعضهم : إنّهم كان لهم واد يجتمع فيه الماء كلّ عام يسقي جناتهم وأرضيهم ؛ فبعث الله عليهم دابّة يقال لها الجرذ ، فنقبت السدّ ، فسال الماء فغرّق جناتهم وأرضيهم.

قوله : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ) : أي ثمرة (خَمْطٍ) : الخمط : الأراك ، وأكله البرير. (وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (١٦).

قال : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) : أي وهل يعاقب إلّا الكفور. وهو مقرأ أهل الكوفة : أي إنّهم لّما أعرضوا عمّا جاءت به الرسل ابتلاهم الله فغيّر ما بهم ، ثمّ أهلكهم بعد ذلك.

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٤٦ : (سَيْلَ الْعَرِمِ) واحدها عرمة ، وهو بناء مثل المشار يحبس به الماء ببناء فيشرف به على الماء في وسط الأرض ، ويترك فيه سبيل للسفينة ، فتلك العرمات ، واحدتها عرمة ، والمشار بلسان العجم ...».

(٢) كذا جاءت العبارة في ز ، ورقة ٢٧٦ ، وهي أصحّ ، وفي ب وع وسح : «وحفر بطن الوادي عن الجسر».

(٣) «وقوله : (سَيْلَ الْعَرِمِ) كانت مسنّاة كانت تحبس الماء على ثلاثة أبواب منها ، فيسقون من ذلك الماء من الباب الأوّل ، ثمّ الثاني ثمّ الآخر ، فلا ينفد حتّى يثوب الماء من السنة المقبلة ، وكانوا أنعم قوم عيشا. فلمّا أعرضوا وجحدوا الرسل بثق الله عليهم المسنّاة ، فغرقت أرضيهم ودفن بيوتهم الرمل ، ومزّقوا كلّ ممزّق ، حتّى صاروا مثلا عند العرب ، والعرب تقول : تفرّقوا أيادي سبا وأيدي سبا». انظر : معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٣٥٨.

٣٤٦

قال : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) : رجع إلى قصّة ما كانوا فيه من حسن عيشهم قبل أن يهلكهم فقال : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ) أي : كنّا جعلنا بينهم (وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) يعني الشام (قُرىً ظاهِرَةً) : أي متّصلة ينظر بعضها إلى بعض (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) : أي يصبحون في منزل وقرية وماء ويمسون في منزل وقرية وماء ، في تفسير الحسن. وتفسير الكلبيّ : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) يعني المقيل والمبيت.

(سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) : (١٨) كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرّك بعضهم بعضا ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحرّكه ، وكانت المرأة تمشي ومكتلها على رأسها ، وهي تغزل بيدها ، وإنّ مكتلها ليمتلئ من الثمار من غير أن تجنيها (١).

قال : (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) : تفسير الحسن : أنّهم ملّوا النعمة كما ملّت بنو إسرائيل المنّ والسّلوى.

وتفسير الكلبيّ : إنّهم قالوا لرسلهم حين ابتلوا ، أي : حين كذّبوهم : كنّا نأبى عليكم (٢) وأرضنا عامرة خير أرض ، فكيف اليوم وأرضنا خراب.

وبعضهم يقرأها : (رَبَّنا باعِدْ) ، وبعضهم يقرأها : (بعّد) ، وبعضهم : (بعد) قال الله : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) : أي بشركهم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) : [أي : لمن بعدهم] (٣) (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) : أي بدّدنا عظامهم وأوصالهم فأكلهم التراب. (إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي في إهلاك القرية ومن فيها (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) : أي على أمر الله (شَكُورٍ) (١٩) لنعمة الله ، وهو المؤمن.

قوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) : يعني جميع المشركين (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٠) : وذلك أنّه كان يطيف بجسد آدم قبل أن ينفخ فيه الروح ، فلمّا رآه أجوف عرف أنّه لا يتمالك ، ثمّ وسوس بعد لآدم فأكل من الشجرة ، فقال في نفسه : إنّ نسل هذا سيكونون مثله في الضعف فلذلك قال : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٦٢) [الإسراء : ٦٢].

__________________

(١) في ب وع : «من غير أن تجنيه» ، والصواب ما أثبتّه. وفي سح : «وإنّ مكتلها على رأسها فيمتلئ من الثمار وما تعالج منه شيئا».

(٢) كذا في ب وع : «نأبى عليكم» ، وفي سح : «نأتي عليكم» ، وما أثبتّه أصحّ.

(٣) زيادة من سح ، ورقة ١٤٦ ، ومن ز ورقة ٢٧٧.

٣٤٧

وقال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨٢) [سورة ص : ٨٢] وقال : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١٧) [الأعراف : ١٧] ، وأشباه ذلك.

وبعضهم يقول : إنّ إبليس قال : خلقت من نار وخلق آدم من طين ، والنار تأكل الطين ، فلذلك ظنّ أنّه سيضلّ عامّتهم.

وكان الحسن يقرأ هذا الحرف : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) يقول : لقد صدّق عليهم ظنّ إبليس ، فيها تقديم ، ثمّ قال : ظنّ ظنّه ، ولم يقل ذلك بعلم ، يقول : فصدّق ظنّه فيهم. ومجاهد يقرأها : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ). يقول : صدّق إبليس ظنّه فيهم حيث جاء أمرهم على ما ظنّ (١).

قال : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) : كقوله : (فَإِنَّكُمْ) يا بني إبليس (وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) (١٦٢) أي : ليس له عليكم سلطان (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (١٦٣) [الصافات : ١٦١ ـ ١٦٣]. أي : لستم بمضلّي أحد إلّا من هو صال الجحيم. قال : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) : وهذا علم الفعال. (مِمَّنْ هُوَ مِنْها) : أي من الآخرة (فِي شَكٍ) منها. وإنّما جحد المشركون الآخرة ظنّا منهم ، وذلك منهم على الشكّ. قال : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١) : أي حتّى يجازيهم في الآخرة.

قوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) : يعني أوثانهم ، أي : زعمتم أنّهم آلهة (لا يَمْلِكُونَ) : أي لا تملك تلك الآلهة (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) : أي وزن ذرّة (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما) : أي في السماوات والأرض (مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ) : أي لله (مِنْهُمْ) : أي من أوثانهم (مِنْ ظَهِيرٍ) (٢٢) : أي من عوين.

قوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ) : أي عند الله (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) : أي لا يشفع الشافعون ، إلّا للمؤمنين ، أي : تشفع الملائكة والنبيّون ، والمؤمنون ، ليس يعني أنّهم يشفعون للمشركين فلا يشفعون.

__________________

(١) جاء بعض الاضطراب في ب وع ، فأثبتّ ما بدا لي أولى بالصواب من سح. انظر بعض أوجه القراءات في تفسير الطبريّ ، ج ٢٢ ص ٨٧ ، وفي تفسير القرطبيّ ، ج ١٤ ص ٢٩٢ ، وفي معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٣٦٠ ، وانظر ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن ، ص ٣١١.

٣٤٨

[وحديث الحسن بن دينار عن الحسن قال : أهل الكبائر لا شفاعة لهم] (١). قال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] وقال في آية أخرى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٨٦) [الزخرف : ٨٦] أي : شهد بلا إله إلّا الله وهم يعلمون ، أي : وقلوبهم مخلصة بشهادة ألّا إله إلّا الله ، يعلمون أنّها الحقّ ويعملون بما يعلمون (٢) ، وليس الشفاعة لهم من معنى قد وجب عليهم ، فلا ، لا ، إلّا لتخفيف بعض أهوال الموقف. قال : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨) [المدّثّر : ٤٨] من الملائكة والنبيّين ، أي : إنّ المنافقين لا يشفعون لهم ، إنّما يشفعون لمن ارتضى الله لهم ، وهم المؤمنون.

قوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٢٣). قال بعضهم : إنّ أهل السماوات لم يسمعوا الوحي فيما بين عيسى وبين محمّد إلى أن بعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى جميع الأنبياء. فلمّا بعث الله جبريل إلى محمّد بالوحي سمع أهل السماوات الوحي كجرّ السلاسل على الصخور ، فصعق أهل السماوات مخافة أن تقوم الساعة. فلمّا فرغ من الوحي وانحدر جبريل جعل كلّما مرّ بأهل سماء فزّع عن قلوبهم ، أي : جلّي عن قلوبهم (٣). وقالوا : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) فيقولون : الحقّ من عند الحقّ ، يعنون الوحي ، (وَهُوَ الْعَلِيُّ) أي : لا أعلى منه (الْكَبِيرُ) أي : فلا أكبر منه.

ذكروا عن كعب قال : إنّ أقرب الملائكة إلى الله إسرافيل. فإذا أراد الله أمرا أن يوحيه جاء اللوح حتّى يصفق جبهة إسرافيل ، فيرفع رأسه وينظر ، فإذا الأمر مكتوب ، فينادي جبريل ، فيأتيه فيقول : أمرت بكذا ، أمرت بكذا. فلا يهبط جبريل من سماء إلى سماء إلّا فزع أهله مخافة الساعة ، حتّى يقول جبريل : الحقّ من عند الحقّ ، فيهبط على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيوحيه إليه.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : يقول للنبيّ :

__________________

(١) زيادة من سح ، ورقة ١٤٧.

(٢) هذه الجملة الأخيرة : «ويعملون بما يعلمون» زيادة من الشيخ هود بن محكّم ليؤكّد بها مبدأ من مبادئه ، ولينفي كلّ شبهة من شبه الإرجاء التي قد تفهم من عبارة ابن سلّام. وكذلك الجملة التي تأتي بعدها إلى قوله : «لتخفيف بعض أهوال الموقف».

(٣) جاء في معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٣٦١ ما يلي : «وقراءة مجاهد : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ) يجعل الفعل لله ، وأمّا قراءة الحسن فمعناه : حتّى إذا كشف الفزع عن قلوبهم وفرّغت منه».

٣٤٩

قل للمشركين.

ثمّ قال : (قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) : [أي : إنّ الفريقين نحن وأنتم لعلى هدى أو في ضلال مبين] (١) وهي كلمة مقولة عربيّة. هي كقول الرجل لصاحبه : إن أحدنا لصادق ، يعني نفسه ، وكقوله : إنّ أحدنا لكاذب ، يعني صاحبه (٢) ، وكان هذا بمكّة وأمر المسلمين يومئذ ضعيف.

قوله تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٥) : هو كقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (٣٥) [هود : ٣٥] وكقوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤١) [يونس : ٤١].

قوله : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) : أي يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ) : أي يقضي بيننا بالحقّ (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) : أي القاضي (الْعَلِيمُ) (٢٦) فلا أعلم منه.

قوله : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) : أي جعلتموهم شركاء ، يعني أوثانهم ، يقول : أروني ما نفعوكم وأجابوكم به. (كَلَّا) : أي لستم بالذين تأتون بما نفعوكم وأجابوكم به إذ كنتم تدعونهم ، أي : إنّهم لم ينفعوكم ولم يجيبوكم ، ولا ينفعونكم ولا أنفسهم. ثمّ استأنف الكلام فقال : (بَلْ هُوَ اللهُ) : الذي لا شريك له ، ولا ينفع ولا يضرّ إلّا هو.

(الْعَزِيزُ) : الذي ذلّت له الخلائق (الْحَكِيمُ) (٢٧) : الذي أحكم كلّ شيء ، في تفسير الحسن. وقال غيره : (الْحَكِيمُ) في أمره ، وهو واحد. قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) : أي إلى جماعة الإنس وإلى جماعة الجنّ (٣). (بَشِيراً) : أي بالجنّة (وَنَذِيراً) : أي من النار (وَلكِنَ

__________________

(١) زيادة من سح ورقة ١٤٨.

(٢) اقرأ ما قاله أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٤٨ ، إذ يجعل (أو) في هذه الآية بمعنى «واو الموالاة». ثمّ اقرأ ما قاله الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٦٢ ، وكأنّه يردّ على أبي عبيدة في تأويله هذا ، ثمّ يفصّل القول بالأدلّة من كلام العرب ، وصدق.

(٣) اختلف العلماء في معنى عموم رسالة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فمنهم من يرى أنّه بعث للإنس والجنّ أجمعين. وهذا ما ذهب إليه المؤلّف هنا ، وهو قول نسب إلى ابن عبّاس وإلى مجاهد أيضا. ومنهم من يرى أنّه أرسل للناس أجمعين ، أي : عربهم وعجمهم ، أحمرهم وأسودهم ، إلى أن تقوم الساعة كما صحّت بذلك بعض ـ

٣٥٠

أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٨) أنّهم مبعوثون ومجازون.

قال : (وَيَقُولُونَ) : يعني المشركين (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٩) قال الله : (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٣٠). كانوا يسألون النبيّ متى هذا العذاب الذي تعدنا به ، وذلك منهم استهزاء وتكذيب ؛ فهذا جواب لقولهم.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ) : أي لن نصدّق بهذا القرآن (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : يعنون التوراة والإنجيل لأنّ الله أمر المؤمنين أن يصدّقوا بالقرآن وبالتوراة والإنجيل أنّهما من عند الله ولا يعمل بما فيهما إلّا ما وافق القرآن. قال بعضهم : وبلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نزل في القرآن شيء ممّا ذكر في التوراة والإنجيل عمل به ، فإذا نزل في القرآن ما ينسخه تركه.

وقد نزل في القرآن شيء ممّا في التوراة والإنجيل ولم ينسخ في القرآن ، مثل قوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) أي : في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..). إلى آخر الآية [المائدة : ٤٥] فنحن نعمل بها لأنّها لم تنسخ. فجحد مشركو العرب القرآن والتوراة والإنجيل في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).

وقال الحسن : قد كان كتاب موسى حجّة على مشركي العرب فقالوا : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما

__________________

ـ الأحاديث. وليس في هذه الآية من سورة سبأ ما يدلّ على أنّه بعث للجنّ كما بعث للناس كافّة. والآيات التي تشير إلى عموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردت في القرآن بلفظ : «الناس» إلّا آية الفرقان الأولى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) فقد وردت بلفظ النذارة لا بلفظ الرسالة. ويمكن أن يشمل لفظ العالمين عالمي الإنس والجنّ معا. والقول بعموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس بمعنى الإنس دون الجنّ لا يتنافى أبدا مع ما بيّنته آيات سورة الأحقاف [٢٩ ـ ٣٢] من أنّ نفرا من الجنّ صرفهم الله إلى النبيّ عليه‌السلام يستمعون القرآن ، ومع ما فصّلته آيات سورة الجنّ الأولى من استماع نفر من الجنّ للقرآن وقولهم فيه إنّه عجب يهدي إلى الرشد وإيمانهم به ، فهذا حقّ لا ريب فيه.

ويعجبني ما قاله الشيخ جمال الدين القاسميّ في تفسيره ، ج ١٤ ص ٢٦ إذ يقول : «والتحقيق في معنى عموم إرساله وشمول بعثته هو مجيئه بشرع ينطبق على مصالح الناس وحاجاتهم أينما كانوا ، وأيّ زمان وجدوا ، ممّا لم يتّفق في شرع قبله قطّ ، ولهذا ختمت النبوّات بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٥١

أُوتِيَ مُوسى).

قال الله : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) يعنون موسى ومحمّدا ؛ وقال سعيد بن جبير : يعنون موسى وهارون. (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) (٤٨) قال الله : (قُلْ) يا محمّد (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٩) [القصص : ٤٨ ـ ٤٩].

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) : أي المشركون (مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : أي يوم القيامة (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) : وهم السفلة (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) : وهم الرؤساء والقادة في الشرك (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) (٣١).

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) : وهم الأتباع (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ) : على الاستفهام (عَنِ الْهُدى) : أي عن الإيمان (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) (٣٢) : أي مشركين.

(وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : أي بل مكركم بالليل والنهار ، أي : كيدكم وكفركم ، في تفسير الحسن. وتفسير الكلبيّ : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : بل قولكم لنا بالليل والنهار (١) (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) : أي أعدالا ، يعني أوثانهم ، عدلوها بالله فعبدوها من دونه. قال الله : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) : في أنفسهم يوم القيامة (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ) : على الاستفهام (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٣) : أي إنّهم لا يجزون إلّا ما كانوا يعملون.

قوله عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) : أي من نبيّ ينذرهم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) : أي جبابرتها وعظماؤها ، في تفسير بعضهم. والمترفون أهل

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٦٣ : «وقوله : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) المكر ليس للّيل ولا للنهار. إنّما المعنى : بل مكركم بالليل والنهار. وقد يجوز أن نضيف الفعل إلى الليل والنهار ، ويكونا كالفاعلين ، لأنّ العرب تقول : نهارك صائم ، وليلك نائم ، ثمّ نضيف الفعل إلى الليل والنهار ، وهو في المعنى للآدميّين ، كما تقول : نام ليلك ، وعزم الأمر ، إنّما عزمه القوم. فهذا ممّا يعرف معناه ، فتوسّع به العرب».

٣٥٢

السعة والنعمة (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (٣٤) فاتّبعهم على ذلك السفلة فجحدوا كلّهم.

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) : قالوا ذلك للأنبياء والمؤمنين ، أي : يعيّرونهم بالفقر وبقلّة المال (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٥).

قال الله : (قُلْ) : يا محمّد (إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) : أي يوسّع الرزق لمن يشاء (وَيَقْدِرُ) : أي ويقتر عليه الرزق. فأمّا المؤمن فذلك نظر من الله له. قال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٦) : يعني جماعة المشركين لا يعلمون.

قال : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) : يقوله للمشركين (بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) : والزلفى : القربة ، لقولهم للأنبياء والمؤمنين : نحن أكثر أموالا وأولادا منكم.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم (١).

قال : (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ) : في إيمانه (صالِحاً) : [أي : ليس القربة عندنا إلّا لمن آمن وعمل صالحا] (٢). قال : (فَأُولئِكَ) : أي الذين هذه صفتهم (لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) : أي تضعيف الحسنات. كقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] ثمّ أنزل بعد ذلك في المدينة : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١] ثمّ صارت بعد في الأعمال الصالحة كلّها ، الواحدة بسبعمائة.

ذكروا عن الحسن وغيره عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : لأن أعلم أنّه تقبّلت منّي تسبيحة واحدة أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها.

قال بعضهم : بلغني عن سعيد بن جبير أنّه قال : من كتب الله له حسنة دخل الجنّة، و (إِنَّما

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصلة والآداب ، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ... (رقم ٢٥٦٤) وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد ، باب القناعة (رقم ٤١٤٣) ، كلاهما يرويه من حديث أبي هريرة.

(٢) زيادة من سح ورقة ١٥١ ، ومن ز ورقة ٢٧٨.

٣٥٣

يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢٧) [المائدة : ٢٧].

قال تعالى : (بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) : أي في غرفات الجنّة (آمِنُونَ) (٣٧) : أي آمنون من النار ومن الموت ومن الخروج منها ومن الأحزان ومن الأسقام والأمراض.

قال : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) : تفسير الحسن : يظنّون أنّهم يسبقوننا حتّى لا نقدر عليهم فنعذّبهم. وتفسير الكلبيّ : (مُعاجِزِينَ) أي : يثبّطون الناس عن آياتنا ، أي : عن الإيمان بها ، أي : يجحدونها. قال : (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) (٣٨) : أي مدخلون ، في تفسير الكلبيّ. وقال بعضهم : محضرون في العذاب ، وهو واحد.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) : وهي مثل الأولى وقد فسّرناها. (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي في طاعة الله (فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٣٩). ليس يعني أنّه إذا أنفق شيئا أخلف له مثله ، ولكن يقول : الخلف كلّه من الله أكثر ممّا أنفق وأقلّ ، أي : ليس يخلف النفقة ويرزق العباد إلّا الله. وقال بعضهم : يخلفه خيرا في الآخرة ، أي : يعوّضكم منه الجنّة.

وبلغنا عن مجاهد أنّه قال : لا ينفقنّ أحدكم كلّ ما في يده فيتأوّل هذه الآية : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ).

ذكروا عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جدّه أنّه لّما تيب عليه جاء بماله كلّه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدقة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك عليك شطره فهو خير لك (١).

قوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) : يعني المشركين وما عبدوا (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٤٠) : على الاستفهام ، وهو أعلم بذلك منهم (قالُوا) : أي قالت الملائكة (سُبْحانَكَ) : ينزّهون الله عمّا يقول المشركون (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) : أي إنّا لم نكن نواليهم على عبادتهم إيّانا. (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) : أي الشياطين من الجنّ هي التي دعتهم إلى عبادتنا ولم ندعهم إلى عبادتنا ، فهم بطاعتهم الشياطين عابدون لهم. كقوله : (أَلَمْ

__________________

(١) حديث متّفق عليه ، أخرجه الشيخان بلفظ : «أمسك بعض مالك فهو خير لك» ، وانظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ١١٨ من سورة التوبة.

٣٥٤

أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠] ، وكقوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) أي : شيئا ليس فيه روح ، يعني أوثانهم (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (١١٧) [النساء : ١١٧]. قال : (أَكْثَرُهُمْ) : يعني جماعة المشركين (بِهِمْ) : أي بالشياطين (مُؤْمِنُونَ) (٤١) : أي مصدّقون بما وسوسوا إليهم من عبادة من عبدوا فعبدوهم.

قال الله : (فَالْيَوْمَ) : يعني يوم القيامة (لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) : أي الشياطين والكفّار (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي أشركوا (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (٤٢) : وهم جميعا قرناء في النار : الشياطين ومن أضلّوا يلعن بعضهم بعضا ويبرأ بعضهم من بعض.

قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) : أي القرآن (قالُوا ما هذا) : يعنون محمّدا (إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا) : أي القرآن (إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) : أي إلّا كذب افتراه محمّد. قال الله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ) : أي للقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٤٣).

قال الله : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) : أي يقرأونها ، أي : بما هم عليه من الشرك. (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٤٤) : كقوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) [القصص : ٤٦] أي : من نذير من أنفسهم ، يعني قريشا.

قال الحسن : كان موسى حجّة عليهم.

قال : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي من قبل قومك يا محمّد. (وَما بَلَغُوا) : أي وما بلغ هؤلاء (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) : أي عشر ما آتيناهم من الدنيا ، يعني الأمم السالفة. وقال في آية أخرى : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) [التوبة : ٦٩]. [ذكروا عن الحسن قال : (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) قال : ما عملوا معشار ما أمروا به] (١).

قال : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) فأهلكتهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٥) : أي فكيف كان عقابي ؛ على الاستفهام. أي : كان شديدا. يحذّرهم أن ينزل بهم مثل ما نزل بهم.

__________________

(١) زيادة من سح ورقة ١٥٤.

٣٥٥

قال الله : (قُلْ) يا محمّد (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) : أي بلا إله إلّا الله. يقوله للمشركين (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) : يقول أن تقوموا واحدا واحدا أو اثنين اثنين (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ) : أي بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنْ جِنَّةٍ) : أي من جنون (١) (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) : أي من العذاب (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤٦) : يعني عذاب جهنّم. أي : أرسل محمّدا بين يدي عذاب شديد.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّما مثلي ومثل الساعة كهاتين ، فما فضل إحداهما على الأخرى ، فجمع بين أصبعه السّبّابة والوسطى (٢).

قوله : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ) : أي على القرآن (مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) : كقوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٨٦) [سورة ص : ٨٦] وأشباه ذلك. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤٧) : أي شاهد على كلّ شيء.

قوله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) : أي ينزل الوحي (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (٤٨) : أي غيب السماوات والأرض ؛ غيب السماء : ما ينزل منها من المطر وغيره ، وغيب الأرض : ما يخرج منها من النبات وغيره.

قوله : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ) : أي القرآن (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) (٤٩) : قال بعضهم : الباطل إبليس ، أي : وما يخلق إبليس أحدا ولا يبعثه.

قوله : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (٥٠) : أي فأنتم الضالّون وأنا على الهدى. وهو كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٤) [سبأ : ٢٤]. وقد فسّرناه قبل هذا (٣).

قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) : تفسير عمرو عن الحسن : (إِذْ فَزِعُوا) يعني

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٣٦٤ : وقوله : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي : يكفيني منكم أن يقوم الرجل منكم وحده ، أو هو وغيره ، ثمّ تتفكّروا هل جرّبتم على محمّد كذبا ، أو رأيتم به جنونا؟ ففي ذلك ما تتيقّنون أنّه نبيّ».

(٢) انظر التعليق عليه فيما سلف من هذا الجزء ، تفسير الآية الأولى من سورة الأنبياء.

(٣) انظر ما سلف قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٢٤ من هذه السورة.

٣٥٦

النفخة الأولى التي يميت الله بها كفّار هذه الأمّة (فَلا فَوْتَ) أي : لا يفوت أحد منهم دون أن يهلك بالعذاب. (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٥١) : أي النفخة الآخرة. قال الحسن : وأيّ شيء أقرب من أن كانوا في بطن الأرض فإذا هم على ظهرها. وبعضهم يقول : (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي : من تحت أرجلهم.

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) : أي بالقرآن. قال الله : (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) : أي وكيف لهم تناول التوبة. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٥٢) : أي قد فاتهم ذلك.

ذكروا عن أبي إسحاق الهمذانيّ عن رجل من بني تميم عن ابن عبّاس في قوله : (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي : أنّى لهم الردّ وليس بحين الرّدّ. ذكروا عن الحسن قال : أي إذا خرجوا من قبورهم بعد النفخة الآخرة وأخذوا من مكان قريب.

قال : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٥٣) : أي كذّبوا بالبعث ، وهو اليوم عندهم بعيد لأنّهم لا يقرّون به.

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) : وهو تبع للكلام الأوّل : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) يعني الردّ (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي : من الآخرة إلى الدنيا.

وفي تفسير مجاهد : (التَّناوُشُ) التناول. كقوله : وقد كفروا به من قبل ، فكيف لهم بالتوبة ، وليس بالحين الذي تقبل فيه التوبة. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) قال مجاهد : أي من مال أو ولد أو زهرة.

وقال بعضهم : (ما يَشْتَهُونَ) أي : الإيمان ، أي : حيل بينهم وبين الإيمان ، أي : بإقامتهم على الكفر في الدنيا. فلمّا رأوا العذاب آمنوا ، فلم يقبل منهم إيمانهم عند نزول العذاب.

قال : (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) : أي كما لم تقبل من أشياعهم ، أي : ممّن كان على منهاجهم ودينهم : الشرك ، لّما كذّبوا رسلهم جاءهم العذاب ، فآمنوا عند ذلك ، فلم يقبل منهم (١). وهو قوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي : عذابنا (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ

__________________

(١) وقع في تفسير هذه الآية اضطراب ونقص في مخطوطي ب وع فأثبتّ التصحيح والصواب من سح.

٣٥٧

مُشْرِكِينَ) (٨٤). قال الله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي : عذابنا (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) [غافر : ٨٤ ـ ٨٥] أي : مضت في عباده المشركين ، أي : إنّهم إذا كذّبوا المرسلين أهلكهم الله بعذاب الاستئصال.

(إِنَّهُمْ كانُوا) : أي قبل أن يأتيهم العذاب (فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥٤) : أي من الريبة. وذلك أنّ جحودهم بالقيامة وبأنّ العذاب يأتيهم إنّما ذلك ظنّ منهم ، فهم منه في شكّ ، ليس عندهم بذلك علم يقين.

* * *

٣٥٨

تفسير سورة الملائكة (١) وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : حمد نفسه ، وهو أهل الحمد. (فاطِرِ) : أي خالق (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) : أي جعل من شاء منهم لرسالته إلى الأنبياء ، وهو قوله : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥]. قال : (أُولِي أَجْنِحَةٍ) : أي ذوي أجنحة (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) : قال بعضهم : منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة أجنحة.

ذكروا عن كعب أنّه قال : إنّ أقرب الملائكة إلى الله إسرافيل ، وله أربعة أجنحة ، جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، وقد تسرول بالثالث ، والرابع بينه وبين اللوح المحفوظ ؛ فإذا أراد الله أمرا أن يوحيه جاء اللوح المحفوظ حتّى يصفق جبهة إسرافيل ، فيرفع رأسه فينظر ، فإذا الأمر مكتوب ؛ فينادي جبريل ، فيلبّيه ، فيقول : أمرت بكذا ، أمرت بكذا. فلا يهبط جبريل من سماء إلى سماء إلّا فزع أهلها مخافة الساعة ، حتّى يقول جبريل : الحقّ من عند الحقّ ، فيهبط على النبيّ فيوحي إليه. ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : إنّ لله نهرا في الجنّة يغتمس فيه جبريل كلّ يوم ، ثمّ ينتفض ، فما من قطرة تقطر من ريشه إلّا خلق الله منها ملكا (٢).

ذكروا عن مجاهد أنّه قال : يدخل جبريل نهر النور سبعين مرّة كلّ يوم فيغتسل فيه ، ثمّ يخرج فينتفض فتسقط منه سبعون ألف قطرة ، تعود كلّ قطرة ملكا يسبّح الله إلى يوم القيامة.

ذكروا عن عبد الله (٣) بن عمر قال : بلغني أنّ في السماء ملكا قد عظّمه الله وشرّفه ، فيه

__________________

(١) كذا ورد اسم السورة في ب ، وع ، وسح ، وز : «سورة الملائكة» وكذلك جاء في مجاز أبي عبيدة. وجاء في معاني الفرّاء ، وفي تفسير غريب القرآن لابن قتيبة باسم (فاطر) كما هو في مصاحفنا اليوم.

(٢) أخرجه ابن سلّام بهذا السند : «وأخبرني أبو الجارود عن عطيّة العوفيّ عن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...». وفي هذه الأخبار التي ترفع أحيانا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير من الإسرائيليّات. وعالم الملائكة من عوالم الغيب ، فما جاء فيه آية بيّنة أو سنّة صحيحة قبلناه ، وفوّضنا أمر تفاصيله إلى الله ، وما ليس كذلك رفضناه ولا كرامة.

(٣) كذا في ب وج : «عبد الله» ، وفي سح : «عبيد الله».

٣٥٩

ثلاثمائة وستّون عينا ، بعضها مثل الشمس ، وبعضها مثل القمر ، وبعضها مثل الزهرة ، يسبّح الله منذ خلق ، كلّ تسبيحة تخرج من فيه ملكا. قال : وبلغنا أنّ لله ديكا براثنه في الأرض السفلى ، وعنقه مثنية تحت العرش ، إذا بقي الثلث الآخر من الليل خفق بجناحيه ثمّ قال : سبّوح قدّوس ، ربّ الملائكة والرّوح ، فتسمعه الديكة فتصرخ لصراخه ، أو قال لصوته.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أذن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى ، وعلى قرنه العرش ، وبين شحمة أذنه إلى عاتقه خفقان الطير مسيرة سبعمائة سنة يقول سبحانك (١). وبلغنا أنّ اسمه روز فيل.

وذكر بعض أهل العلم أنّ ملكا نصفه من نور ، أو قال : من نار ، ونصفه من ثلج ، يقول : يا مؤلّفا بين الثلج والنار ـ أو قال : النور ـ ألّف بين قلوب عبادك الصالحين.

ذكروا عن عبد الله بن عمرو قال : إنّ الله خلق الملائكة والجنّ والإنس فجزّأهم عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء منهم الملائكة وجزء واحد منهم الجنّ والإنس. وجزّأ الملائكة عشرة أجزاء تسعة منهم الكروبيّون الذين يسبّحون الليل والنهار لا يفترون ، وجزء منهم لرسالاته ولخزائنه ولما شاء من أمره. وجزّأ الجنّ والإنس عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء منهم الجنّ ، والإنس جزء واحد ، فلا يولد من الإنس واحد إلّا وله من الجنّ تسعة. وجزّأ الإنس عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء منهم ياجوج وماجوج وجزء واحد سائر بني آدم.

قوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : تفسير الحسن : يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء (٢). (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

قوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) : أي ما يقسم الله من رحمة ، أي : من الخير والرزق (فَلا مُمْسِكَ لَها) : أي لا أحد يستطيع أن يمسك ما يقسم من رحمة (وَما يُمْسِكْ

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٣ من سورة الأنعام.

(٢) وقال ابن عبّاس وغيره : «هو حسن الصوت». وقال قتادة : «الملاحة في العيون». وبعجبني ما قاله الزمخشريّ في الكشّاف ، ج ٣ ص ٥٩٦ بعد ذكر هذه الأقوال : «والآية مطلقة تتناول كلّ زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة ... وحصافة في العقل ، وجزالة في الرأي ... وذلاقة في اللسان ولباقة في التكلّم ... وما أشبه ذلك ممّا لا يحيط به الوصف».

٣٦٠