تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

أربعون ، فقد أخلف موسى الوعد.

وكانوا استعاروا حليّا لهم ؛ كان نساء بني إسرائيل استعاروه من نساء آل فرعون ليوم الزينة ، يعني يوم العيد الذي واعدهم موسى. وكان الله أمر موسى أن يسري بهم ليلا ، فكره القوم أن يردّوا العواري على آل فرعون ، فيفطن بهم آل فرعون. فأسروا من الليل والعواري معهم. فقال لهم السامريّ ـ بعدما مضى عشرون يوما وعشرون ليلة في غيبة موسى ، في تفسير الكلبيّ ، وقال بعضهم : بعدما مضت الثلاثون ـ : إنّما ابتليتم بهذا الحليّ فهاتوه ، وألقى ما معه من الحليّ ، وألقى القوم ما معهم. وهو قوله : (فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) أي : ما معه كما ألقينا ما معنا. فصاغه عجلا. ثمّ ألقى في فيه التراب الذي كان أخذه من تحت حافر فرس جبريل.

وقال بعضهم : قد كان الله وقّت لموسى ثلاثين ليلة وأتمّها بعشر. فلمّا مضت الثلاثون قال السامريّ : إنّما أصابكم الذي أصابكم عقوبة بالحليّ الذي معكم. فهاتوه (١). وكان حليّا استعاروه من آل فرعون ، فساروا وهي معهم فقذفوها إليه ، فصوّروها صورة بقرة. وكان قد صرّ في عمامته قبضة من أثر فرس جبريل يوم جاز بنو إسرائيل البحر فقذفها فيه. (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) ، أي : جعل يخور خوار البقرة ، (فقال) عدوّ الله : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ). وكان السامريّ من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة : ولكنّه نافق بعدما قطع البحر مع موسى.

قال الله : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) : أي كخوار البقرة. وقال مجاهد : له خوار ، حفيف الريح فيه.

(فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) (٨٨) : أي فنسي موسى. يقول : إنّما طلب هذا ولكنّه نسيه ، خالف في الطريق طريقا آخر (٢).

__________________

(١) في ب وع : «فهلمّوه». وهو صحيح في العربيّة ، وفي ز ، ورقة ٢٠٩ : «فهاتوه» ، وهو أصحّ وأوضح ، وفي سع ورقة ٢٨ و : «فهابوه». وهو خطأ وفيه تصحيف.

(٢) كذا وردت العبارة في ع ، وفي سع ورقة ٢٨ و : «ولكن نسيه وخالفه في طريق آخر» ، وفي معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ١٩٠ : «(فنسي) يعني أنّ موسى نسي ، أخطأ الطريق فأبطأ عنهم فاتّخذوا العجل فعيّرهم الله». وانظر اختلاف المفسّرين في قوله تعالى : (فَنَسِيَ) في تفسير الطبري ، ج ١٦ ص ٢٠٠ ـ ٢٠١.

٤١

قال الله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل أن يرجع إليهم موسى حين اتّخذوا العجل : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) : أي بالعجل (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ) : أي لا نزول (عاكِفِينَ) : أي نعبده (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (٩١).

(قالَ) موسى لهارون لمّا رجع ورأى أنّهم اتّخذوا العجل : (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) وقد قال في آية أخرى : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) [الأعراف : ١٥٠]. (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤) : أي ولم تنتظر أمري ، يعني الميعاد برجوعه ، ولقد تركتهم وجئت ، وقد استخلفتك فيهم. يقول : لو اتّبعتك وتركتهم لخشيت أن تقول لي هذا القول. ثمّ أقبل موسى على السامريّ ف (قالَ) له (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) (٩٥) : أي ما حاجتك؟ (١) (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ:) يعني بني إسرائيل (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) : أي ألقيتها في العجل ، أي حين صاغه ، وكان صائغا. فخار العجل ، وهي في قراءة ابن مسعود : (من أثر الفرس) ؛ كان أخذها من أثر فرس جبريل ، فصرّها في عمامته يوم قطع البحر فكانت معه.

ذكر ابن عبّاس أنّ هارون أتى على السامريّ وهو يصنع. فقال : ما تصنع؟ قال : أصنع ما يضرّ ولا ينفع (٢). فقال هارون : اللهمّ اعطه ما سألك على ما في نفسه. فلمّا صنعه قال : اللهمّ إنّي أسألك أن يخور ، فخار العجل ، وذلك لدعوة هارون (٣).

قوله عزوجل : (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (٩٦) : أي وكذلك زيّنت لي نفسي ، أي وقع في نفسي إذا ألقيتها في العجل خار.

__________________

(١) كذا في المخطوطتين وع : «ما حاجتك» ، وفي سع ورقة ٢٨ و : «ما حجّتك؟» ، وهو أصحّ. وفي تفسير الطبريّ ، ج ١٦ ص ٢٠٤ : «ما أمرك؟» «وما شأنك؟» «وما لك؟». وهي أنسب.

(٢) كذا في ب وفي سع ، وفي تفسير مجاهد : «ما يضر ولا ينفع». وفي ع : «ما لا يضرّ ولا ينفع». وفي تفسير القرطبي : «ما ينفع ولا يضرّ».

(٣) في تفسير مجاهد جاءت العبارة أكثر وضوحا : «فلمّا قفّى هارون قال السامريّ : اللهمّ إنّي أسألك أن يخور ، فخار ، فكان إذا خار سجدوا ، وإذا خار رفعوا رؤوسهم ، وإنّما خار لدعوة هارون».

٤٢

(قالَ) له موسى : (فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) : أي حياة الدنيا ، أي : لا تماسّ الناس ولا يماسّونك ، فهذه عقوبتك في الدنيا ومن كان على دينك إلى يوم القيامة. والسامرة صنف من اليهود ؛ وبقايا السامرة حتّى الآن بأرض الشام يقولون : لا مساس.

قال : (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) : يعني يوم القيامة (لَنْ تُخْلَفَهُ) : أي توافيه فيجزيك الله فيه بأسوأ عملك. وقال بعضهم : (لَنْ تُخْلَفَهُ) أي : لن تغيب عنه.

(وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) : أي صرت عليه عاكفا ، أي : عابدا (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٩٧).

قال بعضهم : [لنبردنّه ثمّ لننسفنّه في اليمّ نسفا] (١) وقال الكلبيّ : ذبحه موسى ، ثمّ أحرقه بالنار ، ثمّ ذراه في البحر. وهذا في قول من قال : إنّه تحوّل لحما ودما. وقوله : (لَنَنْسِفَنَّهُ) هو حين ذراه في البحر.

قوله : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨) : أي ملأ كلّ شيء علما ، أي لا يكون شيء إلّا بعلم الله.

قوله عزوجل : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) : أي من أخبار ما قد مضى. (وَقَدْ آتَيْناكَ) : أي أعطيناك (مِنْ لَدُنَّا) : أي من عندنا (ذِكْراً) (٩٩) : يعني القرآن ؛ (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) : أي عن القرآن ولم يؤمن به (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) (١٠٠) : قال مجاهد : إثما. (خالِدِينَ فِيهِ) : قال الحسن : في ثواب ذلك الوزر ، وهو النار. (وَساءَ لَهُمْ) : أي وبئس لهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) (١٠١) : أي ما يحملون على ظهورهم من الوزر. وهو قوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٣١) [الأنعام : ٣١].

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (٢) : إذا كان يوم القيامة بعث الله مع كلّ امرئ عمله ؛ بعث مع

__________________

(١) زيادة من سع ورقة ٢٨ و. وهذا على قراءة من قرأها : «لنحرقنّه» بفتح النون وضمّ الراء مخفّفة. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٩١ : (لَنُحَرِّقَنَّهُ) لنبردنه بالحديدة بردا. من حرقت أحرق وأحرق ، لغتان ...». وقال : «حدّثني حبّان بن عليّ عن الكلبيّ عن أبي صالح أنّ عليّ بن أبي طالب قال : (لَنُحَرِّقَنَّهُ) لنبردنّه».

(٢) أخرجه يحيى بن سلّام في سع ورقة ٢٨ ظ بالسند التالي : يحيى عن صاحب له عن إسماعيل بن رافع عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ...».

٤٣

المؤمن عمله في أحسن صورة رآها قطّ ، أحسنه حسنا ، وأجمله جمالا ، وأطيبه ريحا. لا يرى شيئا يخافه ، ولا شيئا يروعه إلّا قال : لا تخف وأبشر بالذي يسرّك ، لا والله ما أنت الذي يراد ، ولا أنت الذي يعنى. فإذا قال له ذلك مرارا قال له : من أنت ، أصلحك الله؟ والله ما رأيت أحسن منك وجها ، ولا أطيب منك ريحا ، ولا أحسن منك لفظا. فيقول له : أتعجب من حسني؟ فيقول : نعم. فيقول : إنّي والله عملك. إنّ عملك والله كان حسنا ، إنّك كنت تحملني في الدنيا على ثقلي. وإنّي والله لأحملنّك اليوم ، فيحمله. وإنّها التي يقول : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦١) [الزمر : ٦١].

قال : ويبعث مع الكافر عمله في أقبح صورة رآها قطّ ، أقبحه قبحا ، وأنتنه ريحا ، وأسوأه منظرا. لا يرى شيئا يخافه ولا يروعه إلّا قال له : يا خبيث ، أبشر بالذي يسوءك. أنت والله الذي يراد ، والذي يعنى. فإذا قال له ذلك مرارا قال له : أعوذ بالله منك ، والله ما رأيت أحدا أسوأ منك لفظا ، ولا أقبح منك وجها ، ولا أنتن منك ريحا. فيقول له : أتعجب منّي؟ فيقول : نعم ، فيقول : أنا والله عملك الخبيث ، إنّ عملك والله كان قبيحا. إنّك كنت تركبني في الدنيا ، وإنّي والله لأركبنّك اليوم. وإنّها التي يقول الله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٣١) [الأنعام : ٣١].

قوله عزوجل : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) : والصور قرن ينفخ فيه صاحب الصور ، فينطلق كلّ روح إلى جسده. قال تعالى : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) : أي المشركين ، وهذا حشر إلى النار (يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) (١٠٢) : أي مسودّة وجوههم كالحة. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ:) أي يسارّ بعضهم بعضا (إِنْ لَبِثْتُمْ) : أي في الدنيا (إِلَّا عَشْراً) (١٠٣) : أي يقلّلون لبثهم في الدنيا ، تصاغرت الدنيا عندهم.

قال الله عزوجل : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) : وقال الله عزوجل في آية أخرى : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) (٦٣) [طه : ٦٣]. قال بعضهم : كانوا أكثر عددا وأموالا. وقال بعضهم : (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي : أعدلهم طريقة. (إِنْ لَبِثْتُمْ :) أي ما لبثتم (إِلَّا يَوْماً). (١٠٤) وهي مواطن. قالوا : إلّا عشرا وإلّا يوما و (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [المؤمنون : ١١٣]. وقال عزوجل : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦)

٤٤

[النازعات : ٤٦] وقال عزوجل : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف : ٣٥] وقال عزوجل : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم : ٥٥] وذلك لتصاغر الدنيا عندهم ، وقلّتها في طول الآخرة.

قوله عزوجل : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) : قال المشركون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمّد ، كيف هذه الجبال في ذلك اليوم الذي تذكر؟ فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ).

(فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) (١٠٥) : أي من أصولها (فَيَذَرُها) : أي فيذر الأرض (قاعاً صَفْصَفاً) (١٠٦) : القاع الذي لا أثر عليه (١) وهي القرقرة. والصفصف الذي ليس عليه نبات ، كلّها مستوية في تفسير مجاهد.

(لا تَرى فِيها عِوَجاً) : قال مجاهد : انخفاضا (وَلا أَمْتاً) (١٠٧) : ولا ارتفاعا. وقال الحسن : فصار غمار البحور ورؤوس الجبال سواء. وقال ابن عبّاس : العوج : الوادي. (وَلا أَمْتاً) قال بعضهم : الأمت : الحدب (٢).

قوله : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) : أي يوم تكون الأرض والجبال كذلك ، (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) أي صاحب الصور ، فيسرعون إليه حين يخرجون من قبورهم إلى بيت المقدس. وقال عبد الله بن مسعود : يقوم ملك بين السماء والأرض بالصور فينفخ فيه. قال بعضهم : من الصخرة من بيت المقدس. قوله عزوجل : (لا عِوَجَ لَهُ) : أي لا معدل عنه. لا يتعوّجون ، أي عن إجابته يمينا ولا شمالا.

قوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) : أي سكنت. كقوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [النبأ : ٣٨].

قال عزوجل : (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) : (١٠٨) قال الحسن : وطء الأقدام ، وفي قراءة أبيّ بن كعب : لا ينطقون إلّا همسا.

__________________

(١) كذا في ز : «لا أثر عليه» ، وفي ب وع وسع : «لا ثرى عليه» ، وأصل القاع : مستنقع الماء. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٩ : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) أي مستويا أملس».

(٢) وقال أبو عبيدة ، وهو أدقّ تعبيرا وأكثر فائدة : (وَلا أَمْتاً) مجازه : لا ربى ولا وطئا ، أي : لا ارتفاع ولا هبوط. يقال : مدّ حبله حتّى ما ترك فيه أمتا ، أي استرخاء ، وملأ سقاءه حتّى ما ترك فيه أمتا ، أي انثناء».

٤٥

قوله عزوجل : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١٠٩) : أي التوحيد والعمل بالفرائض. وهو كقوله عزوجل : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٣٨) [سورة النبأ : ٣٨] أي التوحيد. والكفّار ليست لهم شفاعة ، لا يشفع لهم ، كقوله عزوجل : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨].

قوله عزوجل : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : أي من أمر الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) : أي من أمر الدنيا إذا صاروا في الآخرة. (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١١٠) : أي ويعلم ما لا يحيطون به علما. وهو تبع للكلام الأوّل ، أي : ويعلم ما لا يحيطون به علما ، أي : ما لا يعلمون (١).

قوله عزوجل : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) : أي وذلّت الوجوه للحيّ القيّوم. وتفسير القيّوم : القائم على كلّ نفس بما كسبت حتّى يجزيها بعملها.

قوله عزوجل : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١) : أي من مشرك ومن منافق ، أي : خاب من حمل شركا ، وخاب من حمل نفاقا. وهو ظلم دون ظلم وظلم فوق ظلم.

قوله عزوجل : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (١١٢) : أي لا يجزى بالعمل الصالح في الآخرة إلّا المؤمن ، ويجزى به الكافر في الدنيا. (فَلا يَخافُ ظُلْماً) أي يزاد عليه في سيّئاته في تفسير الحسن. وقال بعضهم : (فَلا يَخافُ ظُلْماً) أي أن يحمل عليه من ذنب غيره. (وَلا هَضْماً) أي ولا ينقص من حسناته.

قوله عزوجل : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ) : أي من يعمل كذا فله كذا ، فذكره في هذه السورة ، ثمّ في سورة أخرى. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣) : أي القرآن. وهي تقرأ بالياء والتاء. فمن قرأها بالياء فهو يقول : أو يحدث لهم القرآن ذكرا ، أي : جدّا وورعا. ومن قرأها بالتاء فهو يقول : أو تحدث لهم يا محمّد ذكرا (٢).

__________________

(١) كذا في المخطوطتين ب وع وفي سع ٢٩ و. وهو تكرار لا فائدة منه تذكر.

(٢) وقد أورد بعض المفسّرين وجها آخر للذكر. قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٩٣ : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) : شرفا. وهو مثل قول الله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] أي شرف ، ويقال : عذابا ، أي يتذكّرون حلول العذاب الذي وعدوه.

٤٦

قوله : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) : تعالى من باب العلوّ ، أي : ارتفع الله الملك الحقّ ، والحقّ اسم من أسماء الله. (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) : أي بيانه. وقال الحسن : (وَحْيُهُ) أي فرائضه وحدوده وأحكامه ، وحلاله وحرامه. وكان النبيّ عليه‌السلام إذا نزل عليه الوحي جعل يقرأه ويذيب فيه نفسه مخافة أن ينساه. فأنزل الله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١٧) [القيامة : ١٦ ـ ١٧] أي : نحن نحفظه عليك فلا تنسى. قال الله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦ ـ ٧] وهو قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) [البقرة : ١٠٦] أي ينسيها نبيّه عليه‌السلام ، قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (١٨) [القيامة : ١٨]. أي فرائضه وحدوده والعمل به. وقال مجاهد : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي : لا تتله على أحد حتّى نتمّه لك. قال عزوجل : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤).

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ) : يعني ما أمر به ألّا يأكل من الشجرة. (فَنَسِيَ) : يعني : فترك العهد ، يقول : فترك ما أمر به. (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) : أي صبرا (١).

قال عزوجل : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) (١١٦) أن يسجد (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٧) : أي إنّكما إن عصيتما الله أخرجكما من الجنّة ، فتشقى ، أي في الدنيا ، بالكدح فيها. وقال بعضهم : (فَتَشْقى) أي تأكل من عمل يديك وعرق جبينك.

(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها) : أي في الجنّة (وَلا تَعْرى) (١١٨) : كانا كسيا الظفر

(وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها) أي لا تعطش فيها (وَلا تَضْحى) (١١٩) : أي لا تصيبك الشمس (٢) ، أي : ما لم تعص.

__________________

(١) هذا وجه من وجوه تأويل العزم ، وهو الصبر. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٩٢ : «صريمة ولا حزما فيما فعل». وقال الطبريّ في تفسيره ، ج ١٦ ص ٢٢٢ : «يكون تأويله : ولم نجد له عزم قلب على الوفاء لله بعهده ، ولا على حفظ ما عهد إليه».

(٢) قال ابن أبي زمنين في ز ورقة ٢١٠ : «يقال ضحي يضحى إذا برز إلى الضحاء ، وهو حرّ الشمس». وفي اللسان : «ضحا الرجل وضحي يضحى ضحوا وضحيا. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٩٤ : (لا تَضْحى) : لا تصيبك شمس مؤذية».

٤٧

قال عزوجل : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) (١٢٠) : أي إنّك إن أكلت من الشجرة خلدت في الجنّة ، وهو كقوله عزوجل : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢٠) [الأعراف : ٢٠] يقول : إذا أكلتما من الشجرة تحوّلتما ملكين من ملائكة الله ، أو كنتما من الخالدين الذين لا يموتون. ذكر بعضهم قال : إنّ في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام ما يقطعها. قيل : أي شجرة هي؟ قال : شجرة الخلد.

قوله عزوجل : (فَأَكَلا مِنْها) : فبدأت حوّاء قبل آدم في تفسير الكلبيّ.

(فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) ذكر الحسن عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان آدم رجلا طوالا كأنّه نخلة سحوق ، جعد الرأس. فلمّا وقع به ما وقع بدت له عورته ، وكان لا يراها قبل ذلك. فانطلق هاربا في الجنّة ، فأخذت شجرة من شجر الجنّة برأسه ، فقال لها : أرسليني. فقالت : لست بمرسلتك. فناداه ربّه : يا آدم ، أمنّي تهرب؟ فقال : ربّ إنّي أستحييك (١).

قوله عزوجل : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) : أي وجعلا يخصفان ، أي يرقّعان من ورق الجنّة كهيئة الثوب.

قال عزوجل : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) : (١٢١) يعني المعصية ، ولم يبلغ بالمعصية الضلال (٢).

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) : وهو قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧] و (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣) [الأعراف : ٢٣]. قال عزوجل : (فَتابَ عَلَيْهِ) : أي من ذلك الذنب (وَهَدى) (١٢٢) : أي مات على الهدى.

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) وقد فسّرناه في سورة البقرة (٣). (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) : [أي رسلي وكتبي] (٤) (فَلا يَضِلُّ) : أي في الدنيا

__________________

(١) انظر تخريجه فيما سلف ج ٢ ، تفسير الآية ٢٠ من سورة الأعراف.

(٢) كذا في ب وع ، وسع ورقة ٣٠ ظ. وفي ز ورقة ٢١١ : «ولم يبلغ بمعصيته الكفر».

(٣) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٣٦ من سورة البقرة.

(٤) زيادة من ز ، ورقة ٢١١.

٤٨

وَلا يَشْقى) : (١٢٣) أي في الآخرة (١).

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) : أي فلم يتّبع هداي ولم يؤمن (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً :) أي عذاب القبر (٢). وذكروا عن ابن مسعود قال : (مَعِيشَةً ضَنْكاً) : عذاب القبر. قال : يلتئم على صاحبه حتّى تختلف أضلاعه (٣). ذكروا أنّ الرجل المؤمن إذا وضع في قبره ، فانصرف عنه الناس ، أتاه صاحب القبر الذي وكّل به ، فأتاه من قبل جانبه الأيمن ، فقالت له الزكاة التي كان يعطي : لا تفزعه من قبلي اليوم ، ثمّ أتاه من قبل رأسه فقال له القرآن الذي كان يقرأ : لا تفزعه من قبلي اليوم. ثمّ جاءه من قبل رجليه فقالت الصلاة التي كان يصلّي : لا تفزعه من قبلي اليوم. ثمّ جاءه من جانبه الأيسر ، فأيقظه إيقاظك الرجل الذي لا تحبّ أن تفزعه فقال له : من ربّك؟ فقال : الله وحده لا شريك له. ثمّ قال له : من نبيّك؟ قال : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فما دينك؟ قال : الإسلام ، [قال :] وعلى ذلك حييت ، وعلى ذلك متّ؟ قال : نعم ، وعلى ذلك تبعث؟ قال : نعم. قال : صدقت. قال : فيفتح له في جنب قبره ، فيريه منزله من الجنّة وما أعدّ الله له من الكرامات ، فيشرق وجهه ، وتفرح نفسه ، ثمّ يقال له : نم نوم العروس الذي لا يوقظه إلّا أعزّ أهله عليه. ويؤتى بالكافر فلا يجد شيئا يحول دونه : لا صلاة ولا قراءة ولا زكاة ، فيوقظه إيقاظك الرجل الذي تحبّ أن تفزعه ، فيقول له : من ربّك؟ فيقول : أنت. فيقول : من نبيّك؟ فيقول : أنت. فيقول : وما كان دينك؟ فيقول : أنت. فيقول : صدقت ، لو كان لك إله تعبده لا هتديت له اليوم ، فيفتح له في جنب قبره فيريه منزله من النار وما أعدّ الله له من العذاب ، ويضربه ضربة يتناصل منها كلّ عظم من مفصله ، فيسمعه الخلق إلّا الثقلين : الإنس والجنّ ، ثمّ يقذف به في مقلى ينفخه نافخان لا يميل إلى هذا إلّا ردّه إلى هذا ، ولا

__________________

(١) روى مجاهد في تفسيره ص ٤٠٤ أثرا عن ابن عبّاس في قوله عزوجل : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) «يقول : من قرأ القرآن واتّبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه سوء الحساب ، وذلك بأنّ الله عزوجل يقول : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى). فاللهمّ اهدنا صراطك المستقيم ، وانفعنا بكتابك الكريم ، وقنا سوء حسابك. آمين.

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) مجازه معيشة ضيّقة. والضنك توصف به الأنثى والمذكّر بغير الهاء ، وكلّ عيش أو منزل أو مكان ضيّق فهو ضنك».

(٣) روي هذا الأثر في سع بسند عن أبي سعيد الخدريّ. ورواه مجاهد في تفسيره ، ص ٤٠٤ حديثا بسند صحيح يرفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث أبي هريرة ، ولفظه : «المعيشة الضنك عذاب القبر». وانظر ما سلف ج ٢ ، تفسير الآية ١٠١ من سورة التوبة.

٤٩

يميل إلى هذا إلّا ردّه إلى هذا حتّى ينفخ في الصور النفخة الأولى فيقال له : اخمد ؛ فيخمد حتّى ينفخ في الصور النفخة الثانية ؛ فيبعث مع الخلق ، فيقضى له كما يقضى لهم ، لا راحة له إلّا ما بين النفختين.

قوله عزوجل : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (١٢٤) : أي عن حجّته. كقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) [المؤمنون : ١١٧] أي لا حجّة لديه.

(قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) : أي عن حجّتي (وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (١٢٥) : أي عالما بي حتّى في الدنيا ، وإنّما علمه ذلك عند نفسه في الدنيا كان يحاجّ في الدنيا [جاحدا لما جاء من الله] (١). وقال بعضهم : أعمى عن الحقّ ، أي : في الدنيا. قال الله عزوجل : (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا) : أي لأنّه أتتك آياتنا في الدنيا (فَنَسِيتَها) : أي فتركتها ولم تؤمن بها (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) : (١٢٦) أي تترك في النار. وقال بعضهم : نسي من الخير ، أي ترك من الخير ولم ينس من الشرّ ، أي ولم يترك من الشرّ.

قال عزوجل : (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) : أي من أشرك ، أي أسرف على نفسه بالشرك (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ) : من عذاب الدنيا (وَأَبْقى) (١٢٧) : أي لا ينقطع أبدا.

قوله عزوجل : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) : قال الحسن : أي قد بيّنّا لهم ، مقرأه على النون (٢) ، كيف أهلكنا القرون الأولى ، يحذّرهم ويخوّفهم العذاب إن لم يؤمنوا. قال عزوجل : (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) : أي تمشي هذه الأمّة في مساكن من مضى. أي : يمشون عليها وإن لم تكن الديار قائمة ولكن المواضع ، كقوله عزوجل : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) (١٠٠) [هود : ١٠٠] أي منها قائم تراه ، ومنها حصيد لا تراه.

قال عزوجل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (١٢٨) : أي لأهل العقول ، وبعضهم يقول : لأهل الورع ، وهم المؤمنون.

__________________

(١) زيادة من ز ورقة ٢١٢.

(٢) جاء في سع ورقة ٣١ ظ : (أَفَلَمْ يَهْدِ) بالياء وكذلك جاءت في ب وسع ، وهي عندنا قراءة ورش عن نافع. وقرأ الحسن بالنون : (أفلم نهد).

٥٠

قوله عزوجل : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) : قال الحسن : ألّا يعذب هذه الأمّة بعذاب الاستئصال إلّا بالساعة ، يعني النفخة الأولى (لَكانَ لِزاماً) : أي أخذا بالعذاب ، أي : يلزمون عقوبة كفرهم [فأهلكوا جميعا لجحودهم ما جاء به النبيّ عليه‌السلام] (١) وفي الآخرة (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (١٢٩) : أي الساعة. وهذا من مقاديم الكلام. يقول : ولو لا كلمة سبقت من رّبّك وأجل مسمّى لكان لزاما.

قوله عزوجل : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) : من قولهم : إنّك ساحر ، وإنّك شاعر ، وإنّك مجنون ، وإنّك كاهن ، وإنّك كاذب (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) : يعني صلاة الصبح (وَقَبْلَ غُرُوبِها) : أي الظهر والعصر (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) : يعني المغرب والعشاء (فَسَبِّحْ). وقال بعضهم : (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) أي : ساعات الليل (٢) (وَأَطْرافَ النَّهارِ) : قال الحسن : يعني التطوّع. وذكروا عن الحسن في قوله عزوجل : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) ما بين صلاة الصبح وصلاة العصر (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) [هود : ١١٤] أي المغرب والعشاء.

قوله عزوجل : (لَعَلَّكَ تَرْضى) (١٣٠) : أي ثواب عملك في الآخرة.

وقال الحسن : (لَعَلَّكَ تَرْضى) أي فإنّك سترضى ثواب عملك. وهي تقرأ على وجه آخر : (لَعَلَّكَ تَرْضى) أي : ترضى في الآخرة بثواب عملك. أي : يرضيك الله بالثواب.

قوله عزوجل : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) : [أصنافا منهم] (٣) يعني الأغنياء. (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي زينة الحياة الدنيا. أمره الله أن يزهد في الدنيا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) : أي لنبتليهم فيه ، لنختبرهم فيه.

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٢١٢. وفي سع ورقة ٣١ ظ : «أي : إذا لأهلكناهم بجحودهم جميعا».

(٢) وهو الصواب. قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٣٣ : (وَمِنْ ـ آناءِ اللَّيْلِ) أي : ساعات الليل ، واحدها إني تقديره حسي والجميع أحساء. وقال المتنخل الهذليّ وهو أبو أثيلة :

حلو ومرّ كعطف القدح مرّته

في كل إني قضاة الليل ينتعل

والبيت من قصيدته التي يرثي بها أثيلة ابنه ومطلعها :

ما بال عينك تبكي دمعها خضل

كما وهى سرب الأخرات منبزل

انظر السكري ، شرح أشعار الهذليّين ، ج ٣ ص ١٢٨٠ ـ ١٢٨٥.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٢١٢.

٥١

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : خصلتان من كانتا فيه كتبه الله صابرا وشاكرا ، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا ؛ من نظر إلى من فوقه في الدين ودونه في الدنيا فاقتدى بهما كتبه الله صابرا وشاكرا. ومن نظر إلى من فوقه في الدنيا ودونه في الدين فاقتدى بهما لم يكتبه الله صابرا ولا شاكرا (١). ذكر الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير الرزق الكفاف ، اللهمّ اجعل رزق آل محمّد كفافا (٢). قوله عزوجل : (وَرِزْقُ رَبِّكَ) : أي في الجنّة (خَيْرٌ) : من الدنيا (وَأَبْقى) (١٣١) : أي لا نفاد له. قال بعضهم : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) ممّا متّع به هؤلاء من زهرة الحياة الدنيا.

قوله عزوجل : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) : وأهله في هذا الموضع أمّته (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) : أي لا نسألك على ما أعطيناك من النبوّة رزقا. وتفسير الحسن في ذلك التي في والذاريات : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) [الذاريات : ٥٧] أي : أن يرزقوا أنفسهم. قال بعضهم : فإن كانت هذه عند الحسن مثلها فهو لا نسألك رزقا ، أي أنت ترزق نفسك. وهذا أعجب إليّ.

(نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (١٣٢) : أي لأهل التقوى ، والعاقبة الجنّة. كقوله عزوجل : (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٥) [الزخرف : ٣٥].

قوله عزوجل : (وَقالُوا لَوْ لا) : أي هلّا (يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : قال الله عزوجل : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (١٣٣) : أي في التوراة والإنجيل. كقوله عزوجل : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧].

قوله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) : أي من قبل القرآن (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) : أي هلّا أرسلت إلينا رسولا (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ

__________________

(١) انظر ما مضى ج ٢ ، تفسير الآية ٨٨ من سورة الحجر.

(٢) هما حديثان. أخرج الأوّل منهما أحمد في الزهد عن زياد بن جبير مرسلا ، ولفظه : «خير الرزق الكفاف». ورواهما ابن سلّام في سع ورقة ٣١ ظ عن الحسن مرسلين متّصلين. والصواب أنّهما حديثان. فقد أخرج الحديث الثاني الترمذيّ وابن ماجه ومسلم ؛ أخرجه مسلم في كتاب الزكاة ، باب الكفاف والقناعة ، عن أبي هريرة (رقم ١٠٥٤) ، ولفظه : «اللهمّ اجعل رزق آل محمّد قوتا» ، وفي لفظ له آخر : «كفافا» ، كما في كتاب الزهد والرقائق. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد ، باب القناعة ، عن أبي هريرة (رقم ٤١٣٩) ولفظه : «اللهمّ ارزق آل محمّد قوتا». وفي اللسان : «القوت ما يمسك الرمق من الرزق». وقيل : «هو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام» كما عرّفه الجوهريّ في الصحاح.

٥٢

وَنَخْزى) : في العذاب.

قال الله عزوجل للنبيّ عليه‌السلام : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) : أي نحن وأنتم. كان المشركون يتربّصون بالنبيّ عليه‌السلام الموت ، وكان النبيّ عليه‌السلام يتربّص بهم أن يأتيهم العذاب.

قال الله عزوجل : (فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ) : أي الطريق السويّ ، أي العدل المستقيم إلى الجنّة ، وهو الإسلام (وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥) : أي فستعلمون أنّ النبيّ عليه‌السلام والمؤمنين كانوا على الصراط السويّ وهو طريق الجنّة ، وأنّهم ماتوا على الهدى.

* * *

٥٣

تفسير سورة الأنبياء وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) : أي إنّ ذلك قريب. ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّما مثلي ومثل الساعة كهاتين (١) وجمع بين أصبعيه الوسطى والتي يقول لها الناس : السبّابة.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : حين بعث إليّ بعث إلى صاحب الصور فأهوى به إلى فيه ، وقدّم رجلا وأخّر أخرى ، ينظر متى يؤمر فينفخ ، ألا فاتقوا النفخة الأولى (٢).

قوله عزوجل : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (١) : يعني المشركين في غفلة عن الآخرة ، معرضون عن القرآن.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) : أي كلّما نزل من القرآن شيء أعرضوا عنه. قال عزوجل : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) : (٢) أي يسمعونه بآذانهم ولا تقبله عقولهم.

قال بعضهم : لّما نزلت هذه الآية قال أناس من أهل الضلالة : زعم صاحبكم أنّ الساعة قد اقتربت ؛ فتناهوا قليلا ؛ قال : ليس يعني عن شركهم ، ثمّ قال أناس من أهل الضلالة : يزعم هذا الرجل أنّه قد أتى أمر الله؟ فتناهوا قليلا ثمّ عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء ، فلمّا نزل : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] ، فأنزل الله في سورة هود : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) قال الله عزوجل : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] يعني العذاب.

__________________

(١) حديث صحيح رواه أحمد والشيخان وغيرهم عن أنس بن مالك وعن سهل بن سعد وعن جابر بن عبد الله. أخرجه البخاريّ مثلا في كتاب الرقاق ، باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين». وأخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب قرب الساعة ، (رقم ٢٩٥٠ و ٢٩٥١). ولفظه عند مسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، وفي رواية له : «بعثت أنا والساعة هكذا».

(٢) أخرجه أحمد في مسنده بألفاظ مشابهة عن أبي سعيد الخدريّ ، وفيه : «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه؟ ...».

٥٤

قوله عزوجل : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) : أي غافلة قلوبهم عنه.

قوله عزوجل : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي الذين أشركوا ، أسرّوا ذلك فيما بينهم ، يقوله بعضهم لبعض (١). (هَلْ هذا) : يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) : يعنون القرآن ، أي : أفتصدّقون به؟ (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣) : أنّه سحر.

قال الله عزوجل للنبيّ عليه‌السلام : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) : يعني السّرّ (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٤) : أي لا أسمع منه ولا أعلم منه.

ثمّ قال عزوجل : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) : أي كذب أحلام (بَلِ افْتَراهُ) محمّد (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) : أي محمّد شاعر (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٥) : أي كما أرسل موسى وعيسى فيما يزعم محمّد.

قال الله عزوجل : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) (٦) : أي إنّ القوم إذا كذّبوا رسلهم وسألوه الآية فجاءتهم الآية ثمّ لم يؤمنوا بها أهلكهم الله ؛ أفهم يؤمنون إن جاءتهم الآية؟ أي : لا يؤمنون إن جاءتهم الآية.

قال عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) : وهم أهل الكتاب ، عن ذلك. وهم أهل التوراة والإنجيل في تفسير بعضهم ، يعني من امن منهم ؛ عبد الله بن سلام وأصحابه المؤمنين (٢). قوله عزوجل : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧) : وهم لا يعلمون. وهي كلمة عربيّة معقولة (٣). يقول : إن كنت لا تصدّق فاسأل. وهو يعلم أنّه قد كذب.

قوله عزوجل : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) : يعني النبيّين. ولكن

__________________

(١) انظر إعراب هذه الجملة : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في مجاز أبي عبيدة ، ج ٢ ص ٣٤. وقال أبو عبيدة : (وَأَسَرُّوا) من حروف الأضداد ، أي أظهروا».

(٢) وقيل : أهل الذكر هم أهل القرآن. وقد روي عن جابر الجعفيّ أنّه قال : لّما نزلت الآية قال الإمام عليّ : «نحن أهل الذكر».

(٣) كذا في ب وع : «معقولة» ، ويبدو أنّ في الكلمة تصحيفا ، ولعلّها «مقولة». وسقطت الكلمة من سع.

٥٥

جعلناهم جسدا يأكلون الطعام. وقد قال المشركون : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧].

قوله عزوجل : (وَما كانُوا خالِدِينَ) (٨) : أي ما كانوا يخلدون في الدنيا لا يموتون.

قوله عزوجل : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) : كانت الرسل تحذّر قومها عذاب الله في الدنيا وعذابه في الآخرة إن لم يؤمنوا ، فلمّا لم يؤمنوا صدق الله رسله الوعد فأنزل العذاب على قومهم.

قال : (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) : يعني النبيّ والمؤمنين (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) : (٩) يعني المشركين.

قوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً) : أي القرآن (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) : أي فيه شرفكم ، يعني قريشا ، أي لمن آمن به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠) يقوله للمشركين.

قوله عزوجل : (وَكَمْ قَصَمْنا) : أي أهلكنا (مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) : أي مشركة ، يعني أهلها. (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) : أي وخلقنا بعدها (قَوْماً آخَرِينَ) (١١).

قال عزوجل : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) : أي عذابنا ، يعني قبل أن يهلكوا ، رجع إلى قصّة من أهلك (إِذا هُمْ مِنْها) : أي من القرية (يَرْكُضُونَ) (١٢) : أي يفرّون من العذاب حين جاءهم.

يقول الله عزوجل : (لا تَرْكُضُوا) : أي لا تفرّوا (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) : يعني نعيمهم الذي كانوا فيه (وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) (١٣) : أي من دنياكم شيئا. أي لا تقدرون على ذلك ولا يكون ذلك ، يقال لهم هذا استهزاء بهم (١). (قالُوا يا وَيْلَنا :) وهذا حين جاءهم العذاب (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (١٤).

قال الله عزوجل : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) : [يعني قولهم : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)] (٢) ، (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) (١٥) : يعني قد هلكوا (٣).

__________________

(١) وقع اضطراب في هذه الجمل الأخيرة في ب وع ، فأثبتّ صحّتها من ز ورقة ٢١٣.

(٢) زيادة من سع ورقة ٣٢ ظ.

(٣) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٣٦ : «والحصيد : مجازه مجاز المستأصل ، وهو يوصف بلفظ الواحد والاثنين والجميع من الذكر والأنثى سواء ، كأنّه أجري مجرى المصدر الذي يوصف به الذكر والأنثى ـ

٥٦

قوله عزوجل : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١٦) : أي إنّما خلقناهما للبعث والحساب والجنّة والنار.

قوله عزوجل : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (١٧) : واللهو المرأة بلسان اليمن فيما قال الحسن (١). وذلك أنّ المشركين قالوا : إنّ الملائكة بنات الله. وقد قال في سورة الأنعام : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١].

قال عزوجل : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) : بالحقّ ، أي بالقرآن على باطلهم ، أي شركهم (فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) : أي ذاهب. قال تعالى : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) : أي العذاب (مِمَّا تَصِفُونَ) (١٨) : أي ممّا تكذبون. لقولهم : إنّ الملائكة بنات الله.

قال تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) : يعني الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩) (٢) : أي ولا يعيون. (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠). ذكروا عن ابن عبّاس في تفسيرها قال : انظر إلى بصرك هل يؤودك؟ (٣) ، أي : هل يثقل عليك؟ ، وانظر إلى سمعك هل يؤودك؟ ، وانظر إلى نفسك (٤) هل يؤودك؟ ، فكذلك الملائكة.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ ؛ ليس فيها موضع شبر إلّا

__________________

ـ والاثنان والجميع منه على لفظه. وفي آية أخرى : (كانَتا رَتْقاً) مثله».

(١) وفي معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٢٠٠ ما يلي : «حدّثني حنان عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال : الولد بلغة حضرموت. وقوله : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) جاء في التفسير : ما كنّا فاعلين. و (إن) قد تكون في معنى (ما) كقوله : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) وقد تكون (إن) التي في مذهب جزاء ، فيكون : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) ولكنّا لا نفعل. وهو أشبه الوجهين بمذهب العربيّة ، والله أعلم».

(٢) (لا يَسْتَحْسِرُونَ) أي : لا يفترون ولا يعيون ولا يملّون. ويقال : حسرت البعير». هذا ما جاء في مجاز أبي عبيدة ، ج ٢ ص ٣٦.

(٣) في ب وع : «يؤذيك» ، وهو خطأ ولا شكّ ، صوابه ما أثبتّه.

(٤) في ب وع. وفي سع ورقة ٣٢ ظ : «وانظر إلى نفسك هل تؤودك». والصواب ما أثبتّه : «إلى نفسك هل يؤودك» وهو أنسب وأبلغ.

٥٧

وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد (١).

ذكروا عن عطاء قال : ليس في السماوات موضع شبر إلّا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد.

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) (٢١) : أي هم يحيون الموتى ، على الاستفهام ، أي : قد اتّخذوا آلهة لا ينشرون ، أي لا يحيون الموتى. قال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا لَوْ كانَ فِيهِما) أي في السماوات والأرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) أي غير الله (لَفَسَدَتا) أي لهلكتا (٢). (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢) : ينزّه نفسه عمّا يقولون ، (عمّا يصفون) أي : عمّا يكذبون.

قوله عزوجل : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) : أي لا يسأل عمّا يفعل بعباده ، وهم يسألون عن أعمالهم.

قوله عزوجل : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) : وهذا وأشباهه استفهام على معرفة. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) : أي بيّنتكم ، في تفسير مجاهد. وقال الحسن : حجّتكم على ما تقولون : إنّ الله أمركم أن تتّخذوا من دونه آلهة ، أي ليس عندكم بذلك بيّنة ولا حجّة.

قوله عزوجل : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) : يعني القرآن ، يعني ما فيه من الحلال والحرام (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) : من أخبار الأمم السالفة وأعمالهم ، يعني من أهلك الله من الأمم ومن نجّى من المؤمنين ، ليس فيه اتّخاذ آلهة دون الله. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٤) : يعني بقوله : (أَكْثَرُهُمْ) يعني جماعتهم ، وقوله عزوجل : (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي عن القرآن.

قال عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥) : أي لا تعبدوا غيري ، بذلك أرسل الرسل جميعا.

__________________

(١) أخرجه يحيى بن سلّام من طرق عن محمّد بن المنكدر وعن قتادة مرسلا. وانظر ما سلف ج ٢ ، تفسير آخر آية من سورة الأعراف.

(٢) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٠٠ : «(إلّا) في هذا الموضع بمنزلة سوى ، كأنّك قلت : لو كان فيهما آلهة سوى الله أو غير الله لفسد أهلهما» (يعني أهل السماء والأرض).

٥٨

قوله عزوجل : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) : قال بعضهم : قالت اليهود : إنّ الله تبارك وتعالى صاهر الجنّ فكانت من بينهم الملائكة.

قال الله عزوجل : (سُبْحانَهُ) ينزّه نفسه عمّا يقولون (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢٦) يعني الملائكة ، هم كرام على الله (١). (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) فيقولون شيئا لم يقبلوه عن الله (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) : أي من أمر الدنيا إذا كانت الآخرة. [وقال بعضهم : يعني يعلم ما كان قبل خلق الملائكة وما كان بعد خلقهم] (٢). (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) : أي لمن رضي عنه (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢٨) : أي خائفون.

قوله : عزوجل : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢٩) : نزلت هذه الآية في إبليس خاصّة ، دعا إلى عبادة نفسه.

وقال الحسن : ومن يقل ذلك منهم ، إن قالوه ، ولا يقوله أحد منهم. وكان يقول : إنّ إبليس لم يكن منهم.

قوله عزوجل : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : هذا على الخبر في تفسير الحسن (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) : أي كانتا ملتزقتين إحداهما على الأخرى في قول الحسن ، فوضع الأرض ورفع السماء.

وقال الكلبيّ : إنّ السماء كانت رتقا لا ينزل منها ماء ففتقها الله بالماء وفتق الأرض بالنبات (٣). وقال بعضهم : كانتا جميعا ففصل الله بينهما بهذا الهواء فجعله بينهنّ.

وقال مجاهد : كنّ مطبقات ففتقهنّ ، أحسبه قال : بالمطر. وقال مجاهد : ولم تكن السماء والأرض متماسّتين.

__________________

(١) وقيل المعنى : أكرمهم الله بعبادته ، كما رواه الطبريّ في تفسيره ، ج ١٧ ص ١٦ عن قتادة.

(٢) زيادة من ز ورقة ٢١٤ ، والقول للسّدّيّ.

(٣) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٣٧ : (كانَتا رَتْقاً) مجازه مجاز المصدر الذي يوصف بلفظه الواحد والاثنان والجميع من المذكّر والمؤنّث سواء. ومعنى الرتق الذي ليس فيه ثقب ، ثمّ فتق الله السماء بالمطر ، وفتق الأرض بالشجر».

٥٩

قوله عزوجل : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (٣٠) : يعني المشركين. وكلّ شيء حيّ فإنّما خلق من الماء.

ذكروا عن أبي هريرة قال : أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، إذا رأيتك طابت نفسي ، وقرّت عيني ، فأنبئني عن كلّ شيء ، فقال : كلّ شيء حيّ خلق من الماء. فقلت : أنبئني بعمل إذا قمت به دخلت الجنّة. قال : أفش السّلام ، وأطب الكلام ، وصل الأرحام ، وقم بالليل والناس نيام ، تدخل الجنّة بسلام (١).

قوله عزوجل : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) : يعني الجبال (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) : أي لئلّا تحرك بهم. (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً) : أي أعلاما طرقا (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣١) : أي لكي يهتدوا.

قوله عزوجل : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) : [على من تحتها] (٢) محفوظا من كلّ شيطان رجيم ؛ كقوله : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (١٧) [الحجر : ١٧] وإنّما كانت ههنا (مّحفوظا) لأنّه قال عزوجل : (سَقْفاً مَحْفُوظاً) ، فوقع الحفظ فيها على السقف. وفي الآية الأخرى على السماء. قال بعضهم : سقف محفوظ ، وموج مكفوف.

قوله عزوجل : (وَهُمْ عَنْ آياتِها) : أي الشمس والقمر والنجوم.

(مُعْرِضُونَ) (٣٢) : لا يتفكّرون فيما يرون فيها فيعرفون أنّ لهم معادا فيؤمنوا. وقد قال عزوجل في آية أخرى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١) [يونس : ١٠١].

قوله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣).

__________________

(١) أخرجه ابن سلّام من طريق همام عن قتادة عن أبي هريرة ، وأخرجه أحمد وابن حبّان والحاكم ، وأخرجه ابن ماجه من طريق آخر عن عبد الله بن سلّام في كتاب إقامة الصلاة والسنّة فيها ، باب ما جاء في قيام الليل (رقم ١٣٣٤) ولفظه : «يا أيّها الناس ، أفشوا السّلام ، وأطعموا الطعام ، وصلّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنّة بسلام». وانظر الألباني ، سلسلة الأحاديث الصحيحة : (رقم ٥٦٩ ، و ٥٧١).

(٢) زيادة من سع ورقة ٣٣ و.

٦٠