تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

كذبوا على الله ، وبالذين آذوا الله. فأمّا الذين كذّبوا الله فالذين كذّبوا رسله وكتبه ، وأمّا الذين كذبوا على الله فالذين زعموا أنّ له ولدا ، وأمّا الذين آذوا الله فالمصوّرون.

قوله : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) : (٧٠) يعني الذين يصلونها. وقال بعضهم : أشدّ عذابا.

قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) : (٧١) يعني قسما كائنا (١).

ذكروا عن ابن مسعود أنّه قال في تفسيرها : الصراط على جهنّم مثل حدّ السيف ، والملائكة معهم كلاليب من حديد ، كلّما وقع رجل منهم اختطفوه. قال : فيمرّ الصنف الأوّل كالبرق ، والثاني كالريح ، والثالث كأجود الخيل ، والرابع كأجود البهائم. والملائكة يقولون : اللهمّ سلّم سلّم.

ذكر مجاهد عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الآية وعنده نافع بن الأزرق وإيّاس بن مضرّب (٢) فقال نافع بن الأزرق : أمّا الكفّار فيردونها ، وأمّا المؤمنون فلا يردونها. فقال ابن عبّاس : أمّا أنا وإيّاس (٣) فإنّا سنردها ، وانظر هل نخرج منها أو لا؟.

ذكروا عن الحسن أنّه قال : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) أي إلّا داخلها ، فيجعلها الله بردا وسلاما على المؤمنين ، كما جعلها على إبراهيم.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية ؛ فقالت حفصة : بلى.

__________________

ـ من النار : القطعة منها.

(١) كذا في المخطوطتين وفي سع : «قسما كائنا». وفي تفسير الطبريّ ج ١٦ ص ١٠٨ : (كانَ عَلى رَبِّكَ) يا محمّد إيراد هموها قضاء (مقضيّا) قد قضى ذلك وأوجبه في أمّ الكتاب».

(٢) كذا في سع ورقة ٢٤ و : «إيّاس بن مضرّب» ، وفي ع وردت الكلمة مصحّفة هكذا : «أنس بن مصر» ، وفي ب جاء الاسم غير واضح ، ولم أجد فيما بين يديّ من المصادر اسم إيّاس بن مضرّب ، اللهمّ إلّا أن يكون إيّاس بن مضارب العجلي الذي كان على الشرطة أيّام فتنة ابن الزبير ، وقتل بالكوفة سنة ستّ وستّين للهجرة. انظر أخباره في تاريخ الطبريّ ، ج ٦ ص ١٠ ـ ٢٠.

(٣) كذا في سع وفي ب : «أمّا أنا وإيّاس» وفي ع : «أمّا أنا وإيّاك» ، وهو خطأ صوابه : «أمّا أنا وأنت». وفي تفسير الطبري ج ١٦ ص ١١١ : «أمّا أنا وأنت يا أبا راشد». وهي كنية نافع بن الأزرق.

٢١

فانتهرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : أليس يقول الله : (وَإِنْ مِنْكُمْ ، إِلَّا وارِدُها) فقال النبيّ عليه‌السلام : أوليس قد قال : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) (١). ذكر بعضهم قال : يضرب الصراط على جهنّم كحدّ السيف ، دحض (٢) مزلّة ، فيمرّون عليه كالبرق وكالريح ، وكانقضاض الطير ، وكجواد الخيل ، وكجواد الرجال والملائكة [بجنبي الصراط معهم خطاطيف] (٣) كشوك السعدان ، فناج سالم ، ومخدوش ناج ، ومكدوس (٤) في النار ، والملائكة يقولون : ربّ سلّم سلّم.

ذكروا عن ابن مسعود أنّه قال : يضرب الصراط على جهنّم ، فيمرّ الناس على قدر أعمالهم : أوّلهم كلمع البرق ، وكمرّ الريح ، وكمرّ الطير ، ثمّ كأسرع البهائم ، ثمّ يمرّ الرجل سعيا ، ثمّ يمرّ الرجل مشيا ، وتزلّ قدم وتستمسك أخرى. قال عبد الله بن مسعود : حتّى يكون آخرهم رجل يتلبّط على بطنه ، فيقول : يا ربّ ، لم أبطأت بي؟ فيقول : لم أبطئ بك ، وإنّما أبطأ بك عملك. وقال بعضهم : بلغنا أنّ الصراط ثلاث عواقب (٥).

قوله : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) : (٧٢) أي جاثين على ركبهم. وقال بعضهم : جماعة جماعة.

قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) : نحن وأنتم (خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) (٧٣) : المقام : المسكن ، والنديّ : المجمع. وقال بعضهم

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده بهذا اللفظ ، وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أصحاب الشجرة ، أهل بيعة الرضوان ، رضي الله عنهم ، (رقم ٢٤٩٦) عن أمّ مبشّر ، وهي امرأة زيد بن حارثة «أنّها سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عند حفصة ...». وأخرجه ابن جرير الطبريّ أيضا عن جابر عن أمّ مبشّر. ولفظه في تفسيره ج ١٦ ص ١١٢ : «إنّي لأرجو ألّا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية».

(٢) يقال : مكان دحض ، ومدحض ، أي : موضع تزلق فيه الرّجل. واللفظ عند الطبريّ : «مدحضة مزلّة».

(٣) زيادة من سع ورقة ٢٤ و.

(٤) كذا في ع : «مكدوس» ، وفي سع : «مكردس» وقد ورد اللفظان في بعض روايات الحديث. ومعنى الأولى : مدفوع ؛ وفي اللسان : تكدّس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط. ومعنى مكردس : الموثق الملقى في النار. وأكثر ألفاظ هذا الأثر وردت في حديث رواه مسلم في صحيحه : «قيل : يا رسول الله ، وما الجسر؟ قال : دحض مزلّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك».

(٥) كذا في ع وب : «ثلاث عواقب» ، ولم ترد الجملة في سع. وإذا كانت الكلمة جمعا لعقبة ، فإنّ كتب اللغة لم تذكر هذا الجمع ، ولست مطمئنّا لصحّة الكلمة فلعلّ فيها تصحيفا.

٢٢

النديّ : المجلس.

وقال مجاهد : يقوله المشركون ، مشركو قريش لهؤلاء ، أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال بعضهم : رأوا أصحاب نبيّ الله في عيشهم خشونة.

قال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (٧٤) : أي أحسن منهم. والأثاث : المال ؛ وقال بعضهم : المتاع. (ورءيا) : من قرأها مهموزة فيقول : منظرا. وقال بعضهم : (أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) أي : أحسن أثاثا وأحسن مرأى ومنظرا. (ورءيا) : وصورا. ومن قرأها بغير همزة فيقول : (وريّا) من قبل الرواء ؛ وإنّما يعيش الناس بالمطر ، به تنبت زروعهم وتعيش ماشيتهم.

قوله : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ) : أي هذا الذي يموت على ضلالته (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) : [هذا دعاء] (١) أي : مدّ له الرّحمن مدّا. أمر الله النبيّ عليه‌السلام أن يدعو بهذا. وقال مجاهد : فيدعه الرحمن في طغيانه.

قال تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ) : في الدنيا قبل عذاب الآخرة (وَإِمَّا السَّاعَةَ) : وإمّا عذابه في الآخرة ، وهو العذاب الأكبر. ولم يبعث الله نبيّا إلّا وهو يحذّر أمّته عذاب الله في الدنيا وعذابه في الآخرة إن لم يؤمنوا. قال تعالى : (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) (٧٥) : أي في النصرة والمنعة. أي : ليس لهم أحد يمنعهم من عذاب الله.

قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) : أي إيمانا (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ:) قال الحسن : الفرائض.

وقال ابن عبّاس : الصلوات الخمس وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر.

وقال عليّ بن أبي طالب : الباقيات الصالحات : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر.

ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال لأصحابه يوما : خذوا جنتكم [قالوا : يا رسول الله ، أمن عدوّ حضر؟ قال : خذوا جنّتكم] (٢) من النار. قالوا : يا رسول الله ، وما جنّتنا؟ قال : سبحان الله

__________________

(١) زيادة من سع ورقة ٢٤ ظ.

(٢) سقط ما بين المعقوفين في ب وع ، فأثبتّه من سع.

٢٣

والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، فإنّهنّ يأتين يوم القيامة مقدّمات ومجنّبات ومعقّبات ، وهنّ الباقيات الصالحات (١). قوله تعالى : (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) : أي أجرا في الآخرة (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (٧٦) : أي خير عاقبة من أعمال الكفّار.

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) (٧٧) : أي في الآخرة. قال الله تعالى : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) : على الاستفهام ، فعلم ما فيه؟ أي : لم يطّلع على الغيب. قال تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٧٨) : أي لم يفعل. وسنفسّره في آخر هذه الآية.

ذكروا عن مسروق ، عن خبّاب بن الأرتّ قال : كنت قينا (٢) في الجاهليّة ، فعملت للعاص بن وائل ، حتّى اجتمعت لي عنده دراهم ، فأتيته أتقاضاه. فقال : والله لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد. فقلت : والله لا أكفر بمحمّد حتّى تموت ثمّ تبعث. قال : وإنّي لمبعوث؟ قلت : نعم. قال : فسيكون لي ثمّ مال وولد فأقضيك. فأتيت النبيّ عليه‌السلام ، فأخبرته ، فأنزل الله هذه الآية ... إلى قوله : (وَيَأْتِينا فَرْداً). وقال بعضهم : ذكر لنا أنّ رجلا من أصحاب النبيّ عليه‌السلام أتى رجلا من المشركين يتقاضاه دينا له ، فقال : أليس يزعم صاحبكم أنّ في الجنّة حريرا وذهبا؟ قال : بلى. قال : فميعادكم الجنّة ، فو الله لا أو من بكتابكم الذي جئتم به ، ولأوتينّ مالا وولدا. قال الله عزوجل : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً). ذكروا عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : خمس صلوات كتبهنّ الله على عباده ، من جاء بهنّ تامّات فإنّ له عند الله عهدا أن يدخله الجنّة ، ومن لم يأت بهنّ تامّات فليس له عند الله عهد ، إن تاب غفر له ، وإن لم يتب عذّبه (٣). وقال بعضهم : (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) : بعمل صالح.

قوله عزوجل : (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) (٧٩) : هو كقوله عزوجل : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٣٠) [النبأ : ٣٠].

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه النسائيّ والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة ؛ والجنة ، بضمّ الجيم : كلّ ما واراك وسترك ، وهي الوقاية. وفي الحديث الصحيح : «الصيام جنّة من النار كجنّة أحدكم من القتال».

(٢) القين هو الحدّاد ، وكلّ عامل في الحديد يسمّى قينا عند العرب ، وجمعه قيون.

(٣) حديث صحيح ، أخرجه الربيع بن حبيب في كتاب الصلاة ، رقم ١٨٩. وقد أورده الشيخ هود الهوّاريّ بهذه الألفاظ في ب وع. وجاء في سع ورقة ٢٤ ط : «ومن لم يأت بهنّ تامّات فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له». وانظر ما سلف ج ١ ، تفسير الآية ٨٠ من سورة البقرة.

٢٤

قوله عزوجل : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) (٨٠) : قال مجاهد : نرثه ماله وولده ، وهو العاص بن وائل.

قوله عزوجل : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (٨١) كقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) (٧٤) [سورة يس : ٧٤]. وإنّما يرجون منفعة أوثانهم في الدنيا ، لا يقرّون بالآخرة.

قال الله : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ) : أي في الآخرة (بِعِبادَتِهِمْ) : في الدنيا (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (٨٢) : أي في النار. وقال بعضهم : قرناء يلعن بعضهم بعضا ، ويتبرّأ بعضهم من بعض. وبلغنا أنّه يقرن هو وشيطانه في سلسلة واحدة.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (٨٣) : أي تزعجهم إزعاجا في معاصي الله (١).

قوله عزوجل : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) وهذا وعيد (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) : (٨٤) أي الأنفاس ، يعني الأجل. ذكروا عن سعيد بن جبير قال : أجل العبد مكتوب في أوّل الصحيفة ، ثمّ يكتب أسفل من ذلك : مضى يوم كذا ، ومضى يوم كذا حتّى يأتي على أجله.

قوله عزوجل : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) (٨٥) : أي على الإبل. ذكروا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله عزوجل : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) يا رسول الله ، هل يكون الوفد (٢) إلّا الركب. فقال : والذي نفسي بيده إنّهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة ، ولها رحائل الذهب ، كلّ خطوة منها مدّ البصر.

قوله عزوجل : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (٨٦) : أي عطاشا. قال الحسن : والله عطاشا. وقال بعضهم : يساقون إليها وهم ظماء ، وقد تقطّعت أعناقهم من العطش.

__________________

(١) هذا قول ابن عبّاس ، أي : تغريهم على المعاصي. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١١ : (تَؤُزُّهُمْ ، أَزًّا) أي تهيّجهم وتغويهم».

(٢) كذا في ع : «الوفد ... والركب» ، وفي سع ورقة ٢٥ و : «الوافد والراكب» ، وكلاهما صحيح إلّا أنّ هذا جاء مفردا وذاك جمعا.

٢٥

قوله عزوجل : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٨٧) : وقد فسّرنا العهد في الآية الأولى (١).

قوله عزوجل : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) : (٨٩) قال مجاهد : شيئا عظيما. (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٩١) : أي بأن دعوا للرحمن ولدا. ذكروا أنّ كعبا قال : غضبت الملائكة ، وأسعرت جهنّم حين قالوا ما قالوا.

قال عزوجل : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣). ثمّ قال عزوجل : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥) ، كقوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ٩٤].

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٩٦) : أي في قلوب المؤمنين. ذكروا أنّ كعبا كان يقول : إنّما تأتي المحبّة من السماء. إنّ الله إذا أحبّ عبدا قذف حبّه في قلوب الملائكة ، وقذفته الملائكة في قلوب الناس. وإذا أبغض عبدا فمثل ذلك ، لا يملكه بعضهم لبعض. ذكروا عن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ العبد ليلتمس مرضاة الله فلا يزال كذلك ، فيقول الله لجبريل : إنّ عبدي فلانا يلتمس أن يرضيني ، وإنّ رحمتي عليه. قال : فيقول جبريل : رحمة الله على فلان ، وتقوله حملة العرش ، ويقوله الذين حولهم ، حتّى يقوله أهل السماوات السبع ، ثمّ يهبط به إلى الأرض. قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك : وهي الآية التي أنزل الله عليكم : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ

__________________

(١) انظر ما سلف قريبا في الصفحة الماضية في قوله تعالى : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً). وقد أورد ابن سلّام في تفسير هذه الآية : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) خمسة أحاديث في شفاعة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمّته يوم القيامة رويت عن أبي هريرة وأنس بن مالك ، وهي موجودة في سع ورقة ٢٥ و ، ولكنّها غير واردة في ب ولا في ع. وكأنّي بالشيخ هود الهوّاريّ حذفها قصدا ، ولعلّها لم تصحّ عنده ، والله أعلم. من هذه الأحاديث ما رواه ابن سلّام بالسند التالي : «حدّثني درست (هكذا ضبطت) عن يزيد الرقاشيّ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أزال أشفع فأشفع حتّى أقول : ربّ شفّعني فيمن قال : لا إله إلّا الله فيقول : يا محمّد ، إنّها ليست لك ولكنّها لي».

٢٦

وُدًّا). وإنّ العبد ليلتمس سخط الله ، فلا يزال كذلك فيقول الله عزوجل : إنّ عبدي فلانا يلتمس أن يسخطني ، وإنّ غضبي عليه ، فيقول جبريل : غضب الله على فلان ، وتقوله حملة العرش ، ويقوله الذين حولهم ، ويقوله أهل السماوات السبع حتّى يهبط به إلى الأرض (١).

ذكر بعضهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله إذا أحبّ عبدا دعا جبريل فيقول : إنّي أحبّ فلانا فأحبّه. قال : فينادي جبريل في أهل السماء : إنّ الله يحبّ فلانا فأحبّوه. قال : ثمّ يوضع له القبول في الأرض (٢) ، يقول : المودّة.

قوله عزوجل : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) : أي بلسان محمّد عليه‌السلام. قال الحسن : لو لا أنّ الله يسّره بلسان محمّد عليه‌السلام ما كانوا ليعرفوه ولا ليفقهوه. قوله عزوجل : (لِتُبَشِّرَ بِهِ) : أي بالقرآن (الْمُتَّقِينَ) : أي يبشّرهم بالجنّة (وَتُنْذِرَ بِهِ) : أي بالقرآن النار (قَوْماً لُدًّا) (٩٧) : أي جدلا بالباطل وذوي لدد وخصومة. وقال مجاهد : (قَوْماً لُدًّا) أي : لا يستقيمون.

قوله عزوجل : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) : أي قبل قومك يا محمّد (مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨) : أي صوتا. وهو على الاستفهام. أي : إنّك لا ترى منهم أحدا ولا تسمع منهم صوتا (٣).

* * *

__________________

(١) أخرجه ابن سلّام في تفسيره كما جاء في ورقة ٢٥ ومن سع بالسند التالي : «حدّثني خداش بن ميمون بن عجلان عن محمّد بن عبّاد عن ثوبان ...».

(٢) حديث صحيح أخرجه الربيع بن حبيب في مسنده في الأبواب الأولى : باب في الحبّ (رقم ٢٧). وأخرجه البخاريّ في كتاب الأدب ، باب المقت من الله. وأخرجه مسلم في كتاب البّر والصلة والآداب ، باب إذا أحبّ الله عبدا حبّبه إلى عباده (رقم ٢٦٣٧) ، كلّهم يرويه عن أبي هريرة.

(٣) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٤ : «الرّكز : الصوت الخفيّ والحركة ، كركز الكتيبة».

٢٧

تفسير سورة طه وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : قوله عزوجل : (طه) (١) : قال الحسن : (طه) أي : يا رجل ، وهي بالنبطيّة. ثمّ قال : ايطه ، ايطه (١).

قوله عزوجل : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٢) : قال مجاهد : (لِتَشْقى) أي : في الصلاة ؛ وهو قوله عزوجل : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزّمّل : ٢٠]. وكانوا يعلّقون الحبال بصدورهم في الصلاة. وذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى حبلا ممدودا بين ساريتين في المسجد فقال : ما هذا؟ فقالوا : فلانة ابنة فلان تصلّي ، فإذا غلبت تعلّقت به. فقال : لتصلّ ما نشطت ، أو عقلت ، فإذا غلبت فلتنم (٢). وكان الحسن يقول : إنّ المشركين قالوا للنبيّ عليه‌السلام إنّه شقي بهذا القرآن فأنزل الله هذه الآية.

قوله عزوجل : (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٣) : [يقول : وإنّما أنزله الله تبارك وتعالى تذكرة لمن يخشى الله] (٣). وأمّا الكافر فلم يقبل التذكرة.

قوله : (تَنْزِيلاً) : أي القرآن أنزله الله تنزيلا. قال عزوجل : (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ

__________________

(١) كذا وردت هذه الكلمة في ب وع ، وجاءت في سع ورقة ٢٥ ظ منسوبة إلى الضحّاك بن مزاحم. أمّا ما يتعلّق بمعناها فإنّ أبا عبيدة يردّ على من زعم أنّها بمعنى يا رجل. قال في المجاز ، ج ٢ ص ١٥ : «(طه) ساكن لأنّه جرى مجرى فواتح سائر السور اللواتي مجازهنّ مجاز حروف التهجّي ، ومجاز موضعه في المعنى كمجاز ابتداء فواتح سائر السور. قال أبو طفيلة الحرمازي ، فزعم أنّ (طه) : يا رجل. ولا ينبغي أن يكون اسما ؛ لأنّه ساكن ، ولو كان اسما لدخله الإعراب». انظر بعض أوجه قراءة هذه الكلمة ومعانيها في معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ١٧٤ ، وفي تفسير القرطبيّ ، ج ١١ ص ١٦٥ ـ ١٦٨.

(٢) أخرجه ابن سلّام في سع ورقة ٢٥ ظ بالسند التالي : «حدّثني خداش عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...» والحديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في أبواب التهجّد ، باب ما يكره من التشديد في العبادة. وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب أمر من نعس في صلاته ... (رقم ٧٨٤). كلاهما يرويه عن أنس. وقيل : إنّ الحبل كان لزينب بنت جحش. وانظر : ابن حجر ، فتح الباري ، ج ٣ ص ٣٦.

(٣) زيادة من سع ورقة ٢٥ ظ.

٢٨

وَالسَّماواتِ الْعُلى) (٤) : يعني نفسه.

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) : قال : استوى أمره في بريّته فعلاهم فليس يخلو منه مكان (١).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بينكم وبين السماء مسيرة خمسمائة عام ، حتّى عدّ سبع سماوات هكذا. قال : وبين السماء السابعة وبين العرش كما بين سماءين. وغلظ هذه الأرض مسيرة خمسمائة عام ، وبينها وبين الأرض الثانية مسيرة خمسمائة عام. حتّى عدّ سبع أرضين هكذا. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أذن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه الأرض ، وبين شحمة أذنيه إلى عاتقه خفقان الطير مسيرة سبعمائة عام يقول : سبحانك حيث كنت وأنت بكلّ مكان. وبلغنا أنّ اسمه زروفيل (٢).

قوله عزوجل : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) (٦) : كان بعضهم يقول : إنّ الماء الذي تحت الأرض مستقرّ على ثرى ، فهو يعلم ما تحت ذلك الثرى الذي يستقرّ عليه الماء ، والثرى كلّ شيء مبتلّ.

قوله عزوجل : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٧) : قال بعضهم : السرّ ما حدّثت به نفسك ، وأخفى منه ما لم تحدث به نفسك ممّا هو كائن.

قوله عزوجل : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : (٨) ذكر بعضهم قال : لله تسعة وتسعون اسما ، مائة غير واحد ، من أحصاها دخل الجنّة ، أي من المتّقين.

قوله عزوجل : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (٩) : أي قد أتاك حديث موسى (إِذْ رَأى ناراً) : أي عند نفسه ، وإنّما كانت نورا. (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) : أي رأيت نارا (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ). وقال في آية أخرى : (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي : خبر الطريق (أَوْ

__________________

(١) لم يرد هذا التأويل في سع ، ولعلّه من زيادة الشيخ هود التي انفردت به ب وع. وقد ورد هذا التأويل في مسند الربيع بن حبيب ج ٣ ص ٤٨ ـ ٤٩ ، منسوبا إلى ابن عمر : «إنّ الله أجلّ من أن يوصف بصفات المخلوقين ، هذا كلام اليهود أعداء الله ، إنّما يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) أي استوى أمره وقدرته فوق بريّته».

(٢) انظر تخريجه فيما سلف ج ١ ، تفسير الآية ٣ من سورة الأنعام.

٢٩

آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٧) [النمل : ٧] وكان شاتيا. وقال في هذه الآية : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (١٠) : أي هداة يهدونني الطريق ، في تفسير الحسن.

وقال بعضهم : وكان يمشي على غير طريق ، وكان يمشي متوكّلا على ربّه متوجّها بغير علم.

قوله عزوجل : (فَلَمَّا أَتاها) : قال أي النار التي ظنّ أنّها نار (نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) بعضهم : كانتا من جلد حمار ميّت ، فخلعهما (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٢) : والمقدّس : المبارك ، قال بعضهم : قدّس مرّتين ، أي : بورك مرّتين ، واسمه : طوى. وقال الحسن : طوي بالبركة مرّتين.

قوله تعالى : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) : أي لرسالتي ولكلامي (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) (١٣) إليك (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١٤) : ذكروا أنّ رسول الله قال : من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها ، لا كفّارة لها غير ذلك (١) [قال قتادة] (٢) وإنّ الله يقول : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).

وقال مجاهد : إذا صلّى العبد ذكر الله.

قوله عزوجل : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) : ذكروا عن ابن عبّاس قال : أكاد أخفيها من نفسي. ذكروا أنّها في قراءة أبيّ : «أكاد أخفيها من نفسي».

قال بعضهم : قضى الله لا تأتيكم إلّا بغتة. وقال بعضهم : (أَكادُ أُخْفِيها) أي : لا أجعل عليها أدلّة ولا أعلاما. وكلّ شيء أكاد فهو لم يفعله. وقد جعل الله عليها أدلّة وأعلاما.

__________________

(١) حديث صحيح أخرجه البخاريّ ومسلم وأحمد والترمذيّ والنسائيّ. أخرجه البخاريّ في كتاب الصلاة ، باب من نسي صلاة فليصلّ إذا ذكرها ولا يعيد إلّا تلك الصلاة. وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها ، عن أبي هريرة (رقم ٦٨٠) بلفظ : «من نسي الصلاة فليصلّها إذا ذكرها ، فإنّ الله قال : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي). وعن قتادة عن أنس بن مالك (رقم ٦٨٤) بلفظ : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها ، لا كفّارة لها إلّا ذلك. قال قتادة : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي).

(٢) زيادة من سع ورقة ٢٦ و. كما وردت في بعض الروايات.

٣٠

قوله عزوجل : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) : أي بما تعمل.

قوله تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) : أي عن الإيمان بالساعة (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها :) أي من لا يصدّق بها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) : يعني شهوته (فَتَرْدى) (١٦) : أي في النار. والتردّي التباعد من الله. وقال بعضهم : (فتردى) أي : فتهلك.

قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (١٧) : يسأله عن العصا التي في يده اليمنى ، وهو أعلم بها. قال موسى :

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) : قال بعضهم : يهشّ بها على غنمه ورق الشجر ، [أي يخبط بها ورق الشجر لغنمه] (١). (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) : (١٨) أي حوائج أخرى. بلغنا أنّ من تلك الحوائج الأخرى الأخرى أنّه كان يستظلّ بها.

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (٢٠) : أي تزحف على بطنها مسرعة. وقال بعضهم : فإذا هي حيّة أشعر ذكر.

قوله عزوجل : (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) : (٢١) يعني هيئتها الأولى ، أي عصا كما كانت.

قوله تعالى : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) : قال مجاهد : أمره أن يدخل يده تحت عضده (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : أي من غير برص. قال الحسن : أخرجها والله كأنّها مصباح (٢).

قوله : (آيَةً أُخْرى) (٢٢) : أي اليد بعد العصا. قال : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) : (٢٣) أي العصا واليد. وهو قوله : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) (٢٠) [النازعات : ٢٠] أي : اليد والعصا. وهو قوله : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) [الزخرف : ٤٨] وكانت اليد أكبر من العصا

__________________

(١) زيادة من سع ورقة ٢٦ وللإيضاح. وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ١٧٧ : «أضرب بها الشجر اليابس ليسقط ورقة فترعاه غنمه». وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٧ : «أي أختبط بها فأضرب بها الأغصان ليسقط ورقها على غنمي فتأكله». قال :

أهشّ بالعصا على أغنامي

من ناعم الأراك والبشام

(٢) وقال أبو عبيدة في المجاز : «أي تخرج نقيّة شديدة البياض من غير برص ، والسوء : كلّ داء معضل من جذام أو برص ، أو غير ذلك».

٣١

قوله عزوجل : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (٢٤) : أي كفر (١). (قالَ) موسى : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (٢٥) : أي وسّع لي صدري ، دعا أن يشرح له صدره بالإيمان. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي) (٢٨) : ففعل الله ذلك به.

وكانت العقدة التي في لسانه أنّه تناول لحية فرعون ، وهو صغير ، فهمّ بقتله ، وقال : هذا عدوّ لي. فقالت له امرأته : إنّ هذا صغير لا يعقل ، فإن أردت أن تعلم ذلك فادع بتمرة وجمرة فاعرضهما عليه. فأتي بتمرة وجمرة فعرضهما عليه ؛ فتناول الجمرة فألقاها في فيه ، فمنها كانت العقدة التي في لسانه. قال الحسن : إنّما قالت ذلك ترد على موسى عقوبته (٢).

قوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً) : أي عوينا (مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) : (٣١) قال الحسن : قوّتي ، وقال بعضهم : ظهري.

(وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي). (٣٢) وكان الحسن يقرأها بالرفع : (وأشركه). وهي تقرأ أيضا بالنصب : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي). دعا موسى ربّه أن يشركه في أمره. قوله : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) (٣٣) : أي نصلّي لك كثيرا (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) (٣٥) : في سابق علمك (٣).

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (٣٦) : فاستجاب الله له.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) (٣٧) : فذكّره النعمة الأولى ، يعني قوله :

__________________

(١) كذا في ب وع. وفي سع «(طغى ا) أي : كفر». والصواب أنّ الطغيان هو مجاوزة الحدّ في العلوّ والعتوّ والاستكبار.

(٢) أورد بعض المفسّرين القدامى ، ومنهم ابن جرير الطبريّ هذا التفسير للعقدة التي كانت في لسان موسى عليه‌السلام. ولم يثبت في الموضوع خبر صحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد نسب هذا التفسير إلى بعض التابعين. ويبدو لي ـ والله أعلم ـ أنّه من قبيل الإسرائيليّات ، وأولى ما فسّرت به العقدة ما ذكره أبو عبيدة في المجاز ، ج ١٢ ص ١٨ حيث قال : «مجاز العقدة في اللسان كلّ ما لم ينطلق بحرف أو كانت منه مسكة من تمتمة أو فأقأة». وقال الفرّاء : «كانت في لسانه رتّة». وانظر عيوب اللسان وما جاء فيها في الصفحات الأولى من كتاب الجاحظ : (البيان والتبيين).

(٣) كذا في ب ، وفي ع : «في سائر عملنا». ويبدو أنّ صوابه هكذا : (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) في سائر عملنا ، (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) في سابق علمك». والعبارة غير واردة في سع.

٣٢

(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) (٣٨) : وإنّما هو شيء قذف به في قلبها ألهمته ، وليس بوحي نبوّة. (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) : أي اجعليه في التابوت (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) : أي فألقيه في البحر.

فألقى التابوت في البحر.

(فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ) : أي البحر (بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) : يعني فرعون (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) : قال بعضهم : ألقى الله عليه محبّة منه ، قال : فأحبّوه حين رأوه.

قوله عزوجل : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩) : أي بأمري. وقال بعضهم : [ولتغذّى علي عيني : أي بعيني] (١).

قوله : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) : أي على من يضمّه.

قال الكلبيّ : فقالوا : نعم ، فجاءت بأمّه فقبل ثديها. وقال في سورة طسم القصص : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) فكان كلّما جيء به إلى امرأة لم يقبل ثديها. (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) [القصص : ١٢ ـ ١٣].

وقال في هذه الآية : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً) : يعني القبطيّ الذي كان قتله خطأ ، ولم يكن يحلّ له ضربه ولا قتله. (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ :) أي من الخوف. وقال الحسن : أي من النفس التي قتلت فلم يصل إليك القوم ، فغفرنا لك ذلك الذنب. (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) : أي وابتليناك ابتلاء.

وقال الكلبيّ : هو البلاء في أثر البلاء. وقال بعضهم : ومحّصناك تمحيصا. وهو واحد.

قوله عزوجل : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) : أي عشرين سنة. أقام عشرا آخر الأجلين ، ثمّ أقام بعد ذلك عشرا. (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) (٤٠) : أي على موعد يا موسى ، في تفسير مجاهد.

قوله عزوجل : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) : (٤١) أي اخترتك لنفسي ولرسالتي. والاجتباء والاختيار والاصطفاء واحد.

__________________

(١) زيادة من سع ورقة ٢٦ ظ.

٣٣

قوله عزوجل : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) (٤٢) : قال مجاهد : أي ولا تضعفا في ذكري. وقال الحسن : في الدعاء إليّ والتبليغ عنّي رسالتي.

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (٤٣) : أي كفر (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) : قال بعضهم : كنّياه. [فكنّياه] (١) بأبي مصعب. (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤) : قال بعضهم الألف ههنا صلة ، يقول : لعلّه يتذكّر ويخشى.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) : أي أن يعجل علينا بالعقوبة (أَوْ أَنْ يَطْغى) (٤٥) فيقتلنا.

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٤٦) : أي فإنّه ليس بالذي يصل إلى قتلكما حتّى تبلّغا عنّي الرسالة.

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) : وكان بنو إسرائيل عند القبط بمنزلة أهل الجزية فينا.

قوله : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) قال الحسن العصا واليد (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٤٧). ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا كتب إلى المشركين كتب : (السّلام على من اتّبع الهدى) (٢).

قوله عزوجل : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٤٨) : أي كذّب بآيات الله وتولّى عن طاعة الله. (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) : قال الحسن : صلاحه وقوّته الذي يقوم به ويعيش به. (ثُمَّ هَدى) : (٥٠) يقول : ثمّ هداه له حتّى أخذه.

__________________

(١) في ب وع : «كنياه بالمصحف» وهو تصحيف سخيف صوابه ما أثبتّه. فقد ذكر المفسّرون أنّ لفرعون أربع كنى : أبو مصعب ، وأبو الوليد ، وأبو مرّة ، وأبو العبّاس. انظر ابن الجوزي ، زاد المسير ، ج ٥ ص ٢٨٨. وما بين المعقوفين زيادة لتستقيم العبارة ، ويتّضح المعنى.

(٢) انظر أمثلة من ذلك في تاريخ الطبريّ ، ص ٧٥٢ وص ٦٥٤. وقد كتب عليه‌السلام إلى مسيلمة الكذّاب : «السّلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد ف (إنّ الارض لله يورثها من يّشآء من عباده والعاقبة للمتّقين)». انظر سيرة ابن هشام ج ٤ ص ٦٠١.

٣٤

وقال مجاهد : سوّى خلق كلّ دابّة ثمّ هداها لما يصلحها وعلّمها إيّاه. وقال الكلبي : اعطاه شكلة من نحوة. أعطى الرجل المرأة ، والجمل الناقة ، والذكر والأنثى ، ثم هدى ، أي عرّفه كيف يأتيها. ذكروا عن الحسن أنّه قرأ : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل : ٨٨] ثمّ قال : ألم تر إلى كلّ دابّة كيف تتّقي عن نفسها؟.

قوله عزوجل : (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى). (٥١) إنّ موسى دعا فرعون إلى الإيمان بالبعث فقال له فرعون : فما بال القرون الأولى قد هلكت فلم تبعث؟.

(قالَ) موسى : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (٥٢) : أي لا يضلّه فيذهب ، ولا ينسى ما فيه. وقال بعضهم : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) أي : أعمال القرون الأولى (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي) ذلك الكتاب (ولا ينسى) أي علم أعمالها وآجالها. ذكروا أنّ فرعون قال : يا هامان ، إنّ موسى يعرض عليّ أنّ لي ملكي في حياتي ، ولي الجنّة إذا متّ. فقال له هامان : بينما أنت إله تعبد إذ صرت عبدا يعبد!. فردّه عن رأيه.

قوله عزوجل : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) : وهو مثل قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) (١٩) [نوح : ١٩] وفراشا. قوله : (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً :) أي وجعل لكم فيها طرقا.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) (٥٣) : أي مختلفة في لونه وطعمه. وكلّ ما ينبت في الأرض فالواحد منه زوج.

قال : فالذي ينبت هذه الأزواج الشتّى قادر على أن يبعثكم بعد الموت.

قوله تعالى : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) : أي من ذلك النبات (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (٥٤) : أي لأولي العقول ، في تفسير الحسن. وقال بعضهم : لأولي الورع (١).

قوله : (مِنْها) : أي من الأرض (خَلَقْناكُمْ) : يعني خلق آدم (وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها

__________________

(١) كذا في ب وع ، وفي سع ورقة ٢٧ و. والقول لقتادة. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٢٠ مايلي. (لِأُولِي النُّهى) مجازه لذوي الحجى. واحدتها نهية ، أي أحلام وعقول ، وانتهي إلى عقول أمرهم ونهيهم. ومجاز قولهم : لذي حجى أي لذي عقل ولبّ».

٣٥

نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٥٥).

ذكروا عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ خلق أحدكم ليجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ، ثمّ يكون علقة أربعين يوما ، ثمّ يكون مضغة أربعين يوما ، ثمّ يؤمر الملك أن يكتب أربعا : رزقه وعمله وأثره وشقيّا أو سعيدا. والذي لا إله إلّا هو إنّ العبد ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبين الجنّة إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.

وقال بعضهم : إنّه يؤخذ من تربة الأرض التي يموت فيها فيخلط بخلقه ، أو فتذرى على خلقه ؛ وهو قوله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى).

قوله : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها) : أي التسع الآيات التي قال عنها في سورة بني إسرائيل : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء : ١٠١] وهي يده وعصاه والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) [الأعراف : ١٣٠]. وبعضهم يحقّق أنّ السنين ونقصا من الثمرات آية واحدة ، وطريقا في البحر يبسا تمام التسع الآيات. قوله عزوجل : (فَكَذَّبَ وَأَبى) (٥٦) أي فكذّب بها كلّها وأبى أن يؤمن.

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) (٥٨) : قال مجاهد : مكانا منصفا بينهم. وقال بعضهم : مكانا عدلا (٢).

(قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) : أي يوم واعدوه فيه. وقال الحسن : يوم عيد كان لهم ، يجتمعون فيه ضحى. قال : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٥٩) : قال بعضهم : أي نهارا.

قوله تعالى : (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ) : يعني ما جمع من سحرة. (ثُمَّ أَتى) (٦٠) :

__________________

(١) حديث متّفق عليه مضى تخريجه فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ١٠٥ من سورة هود.

(٢) وقال أبو عبيدة في المجاز : (مَكاناً سُوىً) يضمّ أوّله ويكسر ، وهو منقوص يجري مجرى عدى وعدى والمعنى النصف ، والوسط فيما بين القريتين.

٣٦

ثمّ جاء. (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) : قال الحسن : فيستأصلكم بعذاب (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) (٦١).

قوله عزوجل : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) (٦٢) : قالت السحرة عند ذلك : إن كان هذا الرجل ساحرا فسنغلبه ، وإن كان من السماء ، كما زعم ، فإنّ له الأمر.

قوله تعالى : (قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) (٦٣) : قال بعضهم : كانت طريقتهم المثلى يومئذ [أنّ] (١) بني إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا وأموالا ، فقال فرعون : إنّما يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهما. وقال الحسن : ويذهبا بعيشكم الأمثل : يعني بني إسرائيل. وكان بنو إسرائيل في القبط بمنزلة أهل الجزية فينا يأخذون منهم الخراج ويستعبدونهم.

قوله عزوجل : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) : [يعني سحركم ، يقوله بعضهم لبعض] (٢) (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) : أي تعالوا جميعا (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) (٦٤) : قال بعضهم : من ظهر ، وقال الكلبيّ : من غلب ؛ وهو واحد.

قوله : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (٦٦) : أي أنّها حيّات تسعى.

قوله : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) (٦٨) : أي الظاهر (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) : أي عصاك (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) : أي تسترط حبالهم وعصيّهم ، تلقّفهم بفيها. (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) : (٦٩) أي حيث كان. وقال بعضهم : حيث جاء.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) : فرعون يقول لهم على الاستفهام ، أيأ صدّقتموه قبل أن آذن لكم في تصديقه؟. أي قد فعلتم.

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها ؛ في ع وفي سع ورقة ٢٧ و : «كانت طريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل ...».

(٢) زيادة من سع.

٣٧

(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) : أي اليد اليمنى والرجل اليسرى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) : أي على جذوع النخل (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٧١) : أي أنا أو موسى.

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا) : أي ولا على الذي فطرنا أي خلقنا (١). (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٧٣) : أي خير ممّا تدعونا إليه ، وخير منك يا فرعون.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كانوا أوّل النهار سحرة وآخره شهداء (٢).

قوله : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) : أي مشركا (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) (٧٥) : قد فسّرنا الدّرجات في الجنّة في غير هذا الموضع (٣).

قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) : قد فسّرناه في سورة مريم (٤) (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : وقد فسّرنا الأنهار أيضا. (خالِدِينَ فِيها) : لا يموتون فيها ولا يخرجون منها. (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ

__________________

(١) ذكر المؤلّف أحد وجهي التفسير في قوله تعالى : (وَالَّذِي فَطَرَنا) واعتبر الواو حرف عطف. ولم يشر إلى الوجه الآخر من الإعراب وهو جعل الواو واو قسم ، كأنّ السحرة أقسموا بالله الذي فطرهم إنّهم لن يؤثروا فرعون على ما جاءهم من البيّنات. وهو وجه من التأويل ذكره مفسّرون كثير ، وله حظّ من النظر كبير ، فتأمّل. انظر معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ١٨٧ ، وتفسير الطبريّ ، ج ١٦ ص ١٨٩ ، وتفسير ابن كثير ، ج ٤ ص ٥٢٩.

(٢) كذا جاء في ب ، وفي ع هذا الحديث مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاء في سع ورقة ٢٧ ظ منسوبا إلى قتادة. ولم أجده فيما بين يديّ من مصادر التفسير والحديث حتّى أتحقّق من سنده. وأكاد أجزم أنّه ليس حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد نسبه ابن جرير الطبريّ إلى ابن عبّاس مرّة ، وإلى عبيد بن عمير مرّة ، وإلى قتادة وإلى مجاهد أيضا. انظر تفسر الطبريّ ج ١٣ ص ٣٦ (طبعة دار المعارف). وانظر الدر المنثور ، ج ٣ ص ١٠٧.

(٣) انظر ما سلف قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٦٢ من سورة مريم.

(٤) انظر في هذا الجزء تفسير الآية ٦١ من سورة مريم.

٣٨

تَزَكَّى) (٧٦) : أي من آمن. وقال بعضهم : من عمل صالحا.

قوله : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) : أي ليلا (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً). قال الحسن : أتاه جبريل على فرس فأمره ، فضرب البحر بعصاه ، فصار طريقا يبسا. قال بعضهم : بلغنا أنّه صار اثني عشر طريقا ، لكلّ سبط طريق.

قوله عزوجل : (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) : (٧٧) أي لا تخاف أن يدركك فرعون من بعدك ، ولا تخشى الغرق أمامك.

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) : وكان جميع جنوده أربعين ألفا (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٧٨) : فغرقوا. (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٧٩) : أي وما هداهم.

قوله عزوجل : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) : أي من فرعون وقومه (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) : أي أيمن الجبل. والطور الجبل. يعنى : مواعدته لموسى.

قوله عزوجل : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) (٨٠) : قال بعضهم : المنّ كان ينزل عليهم في محلّتهم (١) مثل العسل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. والسلوى هو هذا الطير الذي يقال له : السّمانى.

قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) : قال بعضهم : كانوا لا يأخذون منه لغد ؛ لأنّه كان يفسد عندهم ولا يبقى ، إلّا يوم الجمعة فإنّهم كانوا يأخذون ليوم الجمعة وليوم السبت ؛ لأنّهم كانوا يتفرّغون في يوم السبت للعبادة ولا يعملون شيئا (٢).

ذكروا عن ابن عبّاس قال : لو لا بنو إسرائيل ما خنز لحم ولا أنتن طعام ؛ إنّهم لّما أمروا أن يأخذوا ليومهم ادّخروا من يومهم لغدهم. ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا بنو إسرائيل ما خنز لحم ، ولو لا حوّاء ما خانت أنثى زوجها (٣).

__________________

(١) المحلّة : منزل القوم ، من حلّ يحلّ بالمكان إذا نزل فيه.

(٢) وقع اضطراب وفساد في العبارة بمخطوطتي ب وع فأثبتّ التصحيح من بعض كتب التفسير.

(٣) حديث صحيح متّفق عليه. أخرجه أحمد وأخرجه البخاريّ ومسلم. أخرجه مسلم في كتاب الرضاع ، باب لو لا حوّاء لم تخن أنثى زوجها الدهر. (رقم ١٤٧٠) ولفظه : «لو لا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ، ولم يخنز ـ

٣٩

قوله عزوجل : (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) : قال بعضهم : فيجب عليكم غضبي.

وهي تقرأ على وجه آخر : (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي : فينزل عليكم غضبي. (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) (٨١) : أي في النار.

قوله عزوجل : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) : أي من الشرك (وَآمَنَ) : أي أخلص الإيمان لله. (وَعَمِلَ صالِحاً) : أي في إيمانه (ثُمَّ اهْتَدى) (٨٢) : ثمّ مضى بالعمل الصالح على إيمانه حتّى يموت عليه. وقال بعضهم : (ثُمَّ اهْتَدى) ثمّ عرف الثواب.

قوله عزوجل : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) : (٨٤) أي هم أولاء ينتظرونني من بعدي بالذي آتيهم به ، وليس يعني أنّهم يتبعونه. وقال بعضهم : يعني السبعين الذين اختارهم موسى ليذهبوا معه للميعاد.

قال عزوجل : (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) : أي ابتلينا قومك من بعدك (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) : (٨٥) يقول : إنّ السامريّ قد أضلّهم (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) : أي حزينا مهموما على ما صنع قومه من بعده. وقال الحسن : شديد الغضب.

(قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) : أي في الآخرة على التمسّك بدينه. (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) : قال مجاهد : الوعد (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) : وهو مثل الحرف الأوّل (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) (٨٦).

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) : أي بطاقتنا (١) (وَلكِنَّا حُمِّلْنا) : وهي تقرأ أيضا خفيفة (حملنا) (٢) (أَوْزاراً) : أي آثاما. وقال مجاهد : أثقالا ، وهو واحد. والثقل الإثم (مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) : يعني قوم فرعون. (فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) (٨٧).

وذلك أنّ موسى كان واعدهم أربعين ليلة ، فعدّوا عشرين يوما وعشرين ليلة فقالوا : هذه

__________________

ـ اللحم ، ولو لا حوّاء لم تخن أنثى زوجها الدهر» ، كلّهم يرويه عن أبي هريرة.

(١) وقال مجاهد في تفسيره ص ٣٩٩ : «أي : بأمر نملكه».

(٢) قال الداني في كتاب التيسير ص ١٥٣ : «الحرميّان وابن عامر وحفص : (حملنا) بضمّ الحاء وكسر الميم المشدّدة ، والباقون بفتحها مع التخفيف».

٤٠