تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

بعد النظر.

قوله : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) : أي ثواب ما عملوا ، [يجزيهم به الجنّة] (١) (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : فأهل الجنّة أبدا في مزيد.

ذكروا عن كعب قال : وجدت في التوراة أنّ بيوتي في الأرض المساجد ، فمن توضّأ في بيته ثمّ زارني في بيتي أكرمته ، وحقّ على المزور أن يكرم زائره. ووجدت في القرآن : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

قال : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٨) : [تفسير بعضهم يقول : لا أحد يحاسبهم بما أعطاهم الله] (٢).

ذكروا عن أسماء بنت يزيد بن السّكن الأنصاريّة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إذا جمع الله الناس يوم القيامة : الأوّلين والآخرين جاء مناد فينادي : سيعلم الجمع من أولى بالكرم ، أين الذين (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)؟ فيقومون ـ وهم قليل ـ إلى الجنّة بغير حساب. ثمّ ينادي المنادي بصوت له رفيع يسمع الخلائق كلّهم : سيعلم الجمع من أولى بالكرم؟ أين الذين (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (١٦)

[السجدة : ١٦]؟ فيقومون وهم أكثر من الصنف الأوّل إلى الجنّة. ثمّ يرجع المنادي فينادي : سيعلم الجمع اليوم من أولى بالكرم ، أين الحامدون الله في السرّاء والضرّاء الذين يحمدون الله على كلّ حال ، فيقومون وهم أكثر من الصنف الأوّل إلى الجنّة ، فيحاسب من بقي من الناس (٣).

قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) : وهذا مثل المنافق. والقيعة القاع ، وهو

__________________

ـ وقيل : الزرقة : خضرة في سواد العين. انظر اللسان : (زرق).

(١) زيادة من سع لإتمام المعنى.

(٢) زيادة من سع ، ورقة ٥٤ و.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم بسند عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد النهشليّة الأنصاريّة ، وأخرجه البيهقيّ في شعب الإيمان عن عقبة بن عامر بألفاظ مختلفة.

١٦١

القرقر. (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) : أي العطشان (ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) : يقول :

إنّ المنافق أقرّ بالله ربّا ، وبمحمد نبيّا ، وبما جاء به حقّا ، ولم يعمل لله شيئا بما أقرّ له به ، واعتمد على الإقرار دون الوفاء بالأعمال ، حتّى إذا صار إلى الآخرة لم يجد ثواب عمله إذ لم يكمل لله فرائضه ، وحسب أنّ الله يثيبه على الإقرار دون الوفاء بالأعمال ؛ فكان مثله مثل العطشان الذي رأى السراب فظنّ أنّه ماء ، حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا. وهو كقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٨) [إبراهيم : ١٨]. والعطشان مثل المنافق ، والسراب مثل إقراره يحسب أنّه أغنى عنه شيئا ، حتّى يأتيه الموت ، فإذا جاءه الموت لم يجد إقراره أغنى عنه شيئا إلّا كما ينفع السّراب العطشان (١).

قوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) : أي ثواب عمله السيّء وهو النار. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩).

ثمّ ضرب الله مثل المشرك فقال : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) : فهذا مثل آخر للكافر المشرك ، أي : مثل قلب المشرك في بحر لجّيّ [أي : عميق قعير أي : غمر] (٢) (يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) : ثمّ وصف ذلك الموج فقال : موج (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) : أي ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب وظلمة الليل ، فكذلك قلب المشرك مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم. قال : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) : أي من شدّة الظلمة (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠).

فهذه ثلاثة أمثال مثلها الله في هذه السورة : مثل المؤمن ، ومثل المنافق ، ومثل المشرك ، بيّنة واضحة معقولة. قال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٤٣) [العنكبوت : ٤٣].

__________________

(١) تفسير هذه الآية للشيخ هود الهوّاريّ ولا شكّ. وقد خالف فيه تفسير ابن سلّام الذي جعل الآيتين هذه والتي تليها تعني الكافر مطلقا ، بينما فصل الشيخ هود فجعل الأولى للمنافق والثانية للمشرك. انظر سع ورقة ٥٤ ظ.

(٢) زيادة من سع ورقة ٥٤ ظ ؛ والقول لقتادة.

١٦٢

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) : أي بأجنحتها (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) : قال مجاهد : الصلاة للإنسان ، يعني المؤمن ، والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه. (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٤١).

قوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٤٢) : أي البعث.

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) : أي ينشئ سحابا (١). (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ:) أي يجمع بعضه إلى بعض (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) : [أي : بعضه على بعض] (٢) (فَتَرَى الْوَدْقَ) : أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) : أي من خلال السحاب.

قال : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) : أي ينزل من تلك الجبال التي هي من برد ، والتي هي في السماء (فَيُصِيبُ بِهِ) : أي بذلك البرد (مَنْ يَشاءُ) فيهلك الزرع. كقوله : (رِيحٍ فِيها صِرٌّ) أي : برد (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) [آل عمران : ١١٧].

وما أصاب العباد من مصيبة فبذنوبهم ، وما يعفو الله عنه أكثر. كقوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٠) [الشورى : ٣٠]. ذكروا أنّ رجلا قال لابن عبّاس : بتنا الليلة نمطر الضفادع. قال ابن عبّاس : صدقت ، إنّ في السماء بحارا.

قوله : (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) : أي يصرف ذلك البرد عمّن يشاء. (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) : أي ضوء برقه (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣).

ذكروا عن عروة بن الزبير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا رأى أحدكم البرق أو الودق فليسبحنّ الله ولينعت (٣).

__________________

(١) كذا في المخطوطات وفي سع وفي ز : «ينشئ السحاب» وأصل الإزجاء هو الدفع والسوق برفق. قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٦٧ : (يُزْجِي سَحاباً) أي : يسوق ، وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٥٦ : «وقوله : (يُزْجِي سَحاباً) يسوقه حيث يريد ، والعرب تقول : نحن نزجي المطيّ أي : نسوقه. اللهمّ إلّا إن أراد المؤلّف الإشارة إلى قوله تعالى في سورة الرعد : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) الآية : ١٢.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٥٤ ظ.

(٣) كذا ورد هذا الحديث مرسلا بلفظ : «فليسبحنّ الله وليبعث» في ب وع ، وبلفظ : «فلا يشر إليه ولينعت» في سع ورقة ٥٤ ظ. وفي الدرّ المنثور للسيوطيّ ، ج ٤ ص ٥٠ مايلي : «وأخرج الشافعيّ عن عروة بن الزبير ـ

١٦٣

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اطلبوا إجابة الدعاء عند ثلاثة مواضع : عند إقامة الصلاة ، وعند نزول الغيث ، وعند التقاء الجيوش (١).

قوله : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) : هو أخذ كلّ واحد منهما من صاحبه كقوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [فاطر : ١٣] قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (٤٤) : أي لذوي الأبصار ، وهم المؤمنون الذين أبصروا الهدى. قوله : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) : ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كلّ شيء خلق من ماء (٢).

قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) : أي الحيّة ونحوها (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) : أي ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك. وإنّما قال : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي) على كذا ، ومنهم من يمشي على كذا ، خلق الله كثير. قال : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨) [النحل : ٨]. قال : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٦).

قوله : (وَيَقُولُونَ) : يعني المنافقين (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) : أي من بعد أن يقولوا (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) : أي لأنّهم تولوا عن العمل بما أقرّوا لله وللرسول به. قوله : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) : (٤٨) أي عن الإجابة إلى حكم الله وحكم رسوله وكتابه ، يعني المنافقين الذين يقرّون ولا يعملون.

قال : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (٤٩) : قال مجاهد : مذعنين سراعا.

ذكروا عن الحسن قال : كان الرجل منهم يكون بينه وبين الرجل من المؤمنين خصومة ، فيدعوه إلى النبيّ عليه‌السلام ، فإن علم أنّ الحقّ له جاء معه إلى النبيّ عليه‌السلام ، وإن علم أنّه

__________________

ـ رضي الله عنه قال : إذا رأى أحدكم البرق أو الودق فلا يشير إليه وليصف ولينعت».

(١) أخرجه ابن سلّام هكذا : «وحدّثني إبراهيم عن عبد العزيز بن عمر عن مكحول قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...». وأخرجه البيهقيّ في المعرفة كذلك عن مكحول مرسلا.

(٢) أخرجه ابن سلّام بسند هكذا : «وحدّثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ...». ولم أجده فيما بين يديّ من كتب الحديث.

١٦٤

عليه لم يجئ معه إلى النبيّ ، فأنزل الله : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ).

قال : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : على الاستفهام ، أي : في قلوبهم مرض النفاق وكفر النفاق (أَمِ ارْتابُوا) : فشكّوا في الله وفي رسوله ، على الاستفهام ، أي : قد فعلوا. (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) : والحيف الجور ، أي : قد خافوا ذلك. (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥٠) : أي ظلم النفاق (١).

عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من دعي إلى حكم من حكّام المسلمين فلم يجب فهو ظالم لا حقّ له (٢).

قوله : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) : فهذا قول المؤمنين ، وذلك القول الأوّل قول المنافقين. قال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥١).

قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيكمل فرضه فيما تعبّده به من القول والعمل (وَيَخْشَ اللهَ) : أي فيما مضى من ذنوبه (وَيَتَّقْهِ) : أي فيما بقي (فَأُولئِكَ) : أي الذين هذه صفتهم (هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢) : أي الناجون من النار إلى الجنّة.

قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : يعني المنافقين (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) : أي إلى الجهاد معه ، أي : أقسموا ولم يستثنوا ، وفيهم الضعيف والمريض ، ومن يوضع عنه الخروج ممّن له العذر.

قال الله : (قُلْ لا تُقْسِمُوا) : أي لا تحلفوا. ثمّ استأنف الكلام فقال : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) :

__________________

(١) ورد تفسير هذه الآية في ب وع مضطربا مع بعض التكرار فأثبتّ تصحيحه من سع ورقة ٥٥ وو من ز ورقة ٢٣٥. وجاء في ب وع في تفسير قوله : (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) ما يلي : «أي : لم يخافوا أن يحيف الله عليهم ورسوله ، وإنّما خافوا عدلهما عليهم».

(٢) كذا ورد هذا الحديث في ب وع ، وفي سع ورقة ٥٥ و ، جاء في أوّله : «من كان بينه وبين آخر خصومة فدعاه إلى حكم ...». ورواه السيوطيّ في الدرّ المنثور ، ج ٥ ص ٥٤ بلفظ : «من كان بينه وبين أخيه شيء فدعاه ...». وذكره ابن كثير في تفسيره ، ج ٥ ص ١١٦ وقال عنه : «وهذا حديث غريب وهو مرسل».

١٦٥

أي خير. وهذا إضمار ، أي : طاعة معروفة خير ممّا تضمرون من النفاق. (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٥٣).

قوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) : أي في كلّ ما تعبّدكم به فأكملوه ، وأوفوا به أجمع. ثمّ قال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أي عن الوفاء بما أقرّوا لك به (١) (فَإِنَّما عَلَيْهِ:) يعني الرسول (ما حُمِّلَ) : أي من البلاغ (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) : أي من طاعته في جميع ما كلّفكم منها.

ذكروا أنّ يزيد بن سلمة (٢) قام للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت إذا كان علينا أمراء ، أخذونا بالحقّ ومنعوناه ، كيف نصنع؟ فأخذ الأشعث بثوبه فأجلسه ، [ثمّ قام فعاد أيضا ، فأخذ الأشعث بثوبه] (٣) فقال : لا أزال أسأله حتّى يجيبني أو تغيب الشمس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم (٤).

قوله : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) : وإن تطيعوه ، يعني النبيّ عليه‌السلام (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥٤) : كقوله : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [الأنعام : ١٠٧] أي : تحفظ عليهم أعمالهم حتّى تجازيهم بها.

قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) كذا في ب وع ، ويبدو أنّ هذا سهو من ناسخ ، والأصحّ أن تكون العبارة هكذا : «عمّا أقررتم له به» ، ففي سع ورقة ٥٥ ظ وفي ز : «فإن أعرضتم عنها» على تقدير : فإن تتولّوا. وهذا ما ذهب إليه جمهور المفسّرين. انظر معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٢٥٨ ، فقد بيّن المعنى أحسن بيان ، وفصّل فيه القول بما لا مزيد عليه. وانظر كذلك تفسير الطبريّ ، ج ١٨ ص ١٥٨.

(٢) كذا في المخطوطات «يزيد بن سلمة» ، وفي صحيح مسلم «سلمة بن يزيد». وقد ذكر ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، ج ٢ ص ٦٤٤ اختلاف الرواة في اسمه هل هو سلمة بن يزيد أو يزيد بن سلمة ، وأورد اسمه في موضعين : في باب سلمة ، وفي باب يزيد. وهو يزيد بن سلمة بن مشجعة ، كوفيّ ، روى عنه علقمة بن قيس.

(٣) زيادة من سع ورقة ٥٥ ظ.

(٤) الحديث صحيح. أخرجه مسلم والترمذيّ ؛ أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق ، عن وائل الحضرميّ (رقم ١٨٤٦).

١٦٦

كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأنبياء والمؤمنين (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) : أي لينصرنّهم بالإسلام حتّى يظهرهم على الدّين كلّه فيكونوا الحكّام على أهل الأديان.

[ذكروا عن ميمون بن مهران الجزريّ أنّ عمر بن عبد العزيز قال : الله أجلّ وأعظم من أن يتّخذ في الأرض خليفة واحدا ، والله يقول : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) ، ولكنّي أثقلكم حملا] (١).

قال : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) : كقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) ، فارس والروم ، (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [الأنفال : ٢٦].

قال : (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) : (٥٥) يقول : من أقام على كفره بعد هذا الذي أنزلت فأولئك هم الفاسقون ، أي : فسق الشرك.

قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) : أي الصلوات الخمس. وإقامتها أن يحافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها. (وَآتُوا الزَّكاةَ) : يعني الزكاة المفروضة (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) : أي فيما أمركم ودعاكم إليه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٥٦) : أي فإنّكم ترحمون إذا فعلتم ذلك (٢).

قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ) : أي لا تحسبنّهم يسبقوننا حتّى لا نقدر عليهم فنحاسبهم ، وحسابهم أن يكون مأواهم النار (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٥٧) : أي المرجع والمأوى ، أي : المنزل.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) : وهو

__________________

(١) زيادة من سع ورقة ٥٥ ظ.

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٦٩ : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) : واجبة من الله».

١٦٧

نصف النهار عند القائلة (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ) : أي حرج وهو الإثم (بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٨) : وهنّ الساعات التي يخلو فيهنّ الرجل بأهله لحاجته منها.

فأمّا قوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فهم المملوكون : الرجال والنساء الذين يخدمون الرجل في بيته ، ومن كان من الأطفال المملوكين الذين لم يبلغوا الحلم.

قال : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) يعني الأطفال الذين يحسنون الوصف إذا رأوا شيئا ، وكذلك من كان مثلهم من المملوكين ، إلّا الصغار الذين لا يحسنون الوصف إذا رأوا شيئا من الأحرار والمملوكين ، فلا ينبغي لهؤلاء الكبار والذين يحسنون الوصف أن يدخلوا في هذه الثلاث ساعات إلّا بإذن ، إلّا أن لا يكون للرجل إلى أهله حاجة (١). ولا ينبغي له إذا كانت له إلى أهله حاجة أن يطأ أهله ومعه في البيت من هؤلاء أحد. فلذلك لا يدخلون في هذه الثلاث ساعات إلّا بإذن.

قال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ) أي : حرج (بَعْدَهُنَّ) أي : بعد هذه الثلاث ساعات ، أن يدخلوا بغير إذن. (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي : يدخلون بغير إذن ، (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

ذكروا عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : دخلت على ابن عبّاس فأراني وصيفة له خماسية فقال : ما تدخل عليّ هذه في هذه الثلاث ساعات إلّا بإذن. ذكروا عن الحسن عن رجل قال له : إنّا قوم تجّار ، نسافر هذه الأسفار ، وتكون مع أحدنا الجواري ، ويكون معه خباء ، وهنّ معه في الخباء ، فهل يطأ واحدة منهنّ وهنّ معه في الخباء (٢) فغضب ، وقال : لا.

قوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : يعني من احتلم. (كَذلِكَ) : أي هكذا (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ)

__________________

(١) وردت هذه العبارة فاسدة وناقصة في ب وع ، فأثبتّ التصحيح من سع وز.

(٢) كذا في ع وب ، وفي سع ورقة ٥٥ ظ : «إنّا قوم تجّار نسافر ونشتري الجواري فننزل في الخباء فيكنّ جميعا أفيغشى الرجل منّا جارية من جواريه في الخباء وهنّ فيه؟ ...».

١٦٨

بخلقه (حَكِيمٌ) (٥٩) في أمره.

قوله : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) : أي التي قعدت عن المحيض والولد (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) : أي اللاتي لا يردن نكاحا ، قد كبرن عن ذلك (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) : أي غير متزيّنة ولا متشوّفة. [قال قتادة : رخّص للتي لا تحيض ولا تحدّث نفسها بالأزواج أن تضع جلبابها] (١) وأمّا التي قعدت عن المحيض ولم تبلغ هذا الحدّ فلا. والجلباب الرداء الذي يكون فوق الثياب ، وإن كان كساء أو ساجا (٢) أو ما كان من ثوب.

قال : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) يعني اللاتي لا يرجون نكاحا عن ترك الجلباب (خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (٦٠)

قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) : قال الكلبيّ : إنّ أهل المدينة قبل أن يسلموا كانوا يعتزلون الأعمى والأعرج والمريض ولا يواكلونهم. وكانت الأنصار فيهم تنزّه وتكرّم ، فقالوا : إنّ الأعمى لا يبصر طيّب الطعام ، والأعرج لا يستطيع الزحام عند الطعام ، والمريض لا يأكل كما يأكل الصحيح ، فاعزلوا لهم طعامهم على ناحية ، وكانوا يرون أنّ عليهم في مواكلتهم جناحا. وكان الأعمى والأعرج والمريض يقولون : لعلّنا نؤذيهم إذا أكلنا معهم ، فاعتزلوا مواكلتهم ، فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي : ليس عليكم حرج في ذلك ولا على الذين تأثّموا من أمرهم ، ليس عليهم في ذلك حرج.

وبعضهم يقول : كان قوم من أصحاب النبيّ عليه‌السلام يغزون ويخلفون على منازلهم من يحفظها ، فكانوا يتأثّمون أن يأكلوا منها شيئا. فرخّص لهم أن يأكلوا منها. وقال بعضهم : كانوا يخلفون عليها الأعمى والأعرج والمريض والزّمنى الذين لا يخرجون في الغزو فرخّص لهم أن يأكلوا منها.

__________________

(١) زيادة من ز ورقة ٢٣٦ ، وقد سقطت في ب وع وسع أيضا ، ولا بد من إثباتها حتّى يكون لشرح معنى الجلباب الآتي معنى.

(٢) الساج هو الطيلسان الكثيف. انظر اللسان : (سوج).

١٦٩

وقال بعضهم : منعت البيوت زمانا ؛ كان الرجل لا يتضيّف (١) أحدا ولا يأكل في بيت أحد تأثّما من ذلك (٢).

[قال يحيى : بلغني أنّ] (٣) ذلك كان حين نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [النساء : ٢٩] فكان أوّل من رخّص الله له الأعمى والأعرج والمريض ، ثمّ رخّص الله لعامّة المؤمنين ؛ فقال :

(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) فلا بأس أن يأكلوا من بيوت هؤلاء بغير إذن.

قوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) قال بعضهم : هم الذين خلّفوا على تلك المنازل وجعلت مفاتحها بأيديهم. وقال بعضهم : هم المملوكون الذين هم خزنة على بيوت مواليهم. قال الحسن : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) أي : خزائنه ، أي : ممّا كنتم عليه أمناء.

قوله : (أَوْ صَدِيقِكُمْ) [قال قتادة : فلو أكلت من بيت صديقك عن غير مؤامرته لكان الله قد أحلّ لك ذلك] (٤).

ذكروا عن الحسن أنّه سئل عن الرجل يدخل بيت أخيه ، يعني صديقه ، فيخرج صاحب البيت ، فيرى صديقه الشيء من الطعام في البيت ، أيأكله بغير إذنه؟ فقال : كل من طعام أخيك.

قال الحسن [بن دينار] : كنّا في بيت قتادة (٥) ونحن جماعة فأتينا ببسر ، فتناول رجل من القوم

__________________

(١) يقال : أضفت الرجل وضيّفته إذا أنزلته بك ضيفا وقريته. وضفت الرجل ضيافة إذا نزلت عليه ضيفا. وكذلك تضيّفته.

(٢) انظر في أسباب نزول الآية روايات عدّدها الواحديّ في أسباب النزول ، ص ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(٣) زيادة من سع ورقة ٥٦ وحتّى ينسب كلّ قول إلى صاحبه.

(٤) زيادة من سع ورقة ٥٦ و.

(٥) في ب وع : جاءت الرواية هكذا : «قال الحسن كنّا عند رجل من الصحابة في بيته» ، وهو خطأ محض ، فإنّ قتادة ، وهو الذي يكنّى أبا الخطاب ، لم يكن صحابيّا ، فأثبتّ التصحيح من سع كما وردت في ورقة ٥٦ و.

١٧٠

بسرات فأمسكهنّ ، ثمّ قال : يا أبا الخطّاب ، إنّي قد أخذت من هذا البسر. فقال : هو لك حلال وإن لم تذكره لي ، لأنك مؤاخيّ.

قال بعضهم (١) : لم يذكر الله في هذه الآية بيوت الابن ، فرأيت أنّ النبيّ عليه‌السلام إنّما قال للابن : أنت ومالك لأبيك (٢) من هذه الآية ؛ لأنّه قال : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ ، أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) ، ولم يقل : أو بيوت أبنائكم. ثمّ ذكر ما بعد ذلك من القرابة حتّى ذكر الصديق ولم يذكر الابن.

قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) : قال بعضهم : كان بنو كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أنّ محرما عليه أن يأكل وحده في الجاهليّة ، حتّى إنّ الرجل ليسوق الذّود الحفّل (٣) وهو جائع فلا يأكل أو يشرب حتّى يجد من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل الله هذه الآية.

قوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١) : أي لكي تعقلوا. أي : إن دخل على قوم سلّم عليهم ، وإن كان رجل واحد سلّم عليه. قوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : على إخوانكم ، أي : يسلّم بعضكم على بعض. وإذا دخل الرجل بيته سلّم عليهم. [وقال قتادة : إذا دخلت فسلم على أهلك فهم أحقّ من سلّمت عليه ، فإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل : سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإنّه كان يؤمر بذلك. حدّثنا أنّ الملائكة تردّ عليه] (٤).

__________________

وهذا نموذج من الاضطراب والخلط في الروايات ، كما تكرّرت في ب وع.

(١) هو يحيى بن سلّام كما ورد ذكر اسمه في ز وفي سع. وهذا دليل على تفقّهه في الدين وقوّة استنباطه ونفاذه إلى أسرار القرآن.

(٢) حديث صحيح أخرجه ابن ماجه في سننه في كتاب التجارات ، باب ما للرجل من مال ولده (رقم ٢٢٩١) عن جابر بن عبد الله ، وفي الباب حديث آخر (رقم ٢٢٩٠) ترويه عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإنّ أولادكم من كسبكم».

(٣) الذّوذ هي الإبل ما بين الثلاث إلى العشر. والحفّل منها : الممتلئة ضروعها لبنا.

(٤) ما بين المعقوفين زيادة من سع ورقة ٥٦ ولتمام الفائدة.

١٧١

وإذا دخل الرجل المسجد قال : بسم الله ، سلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اللهمّ اغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب رحمتك. فإن كان مسجدا كثير الأهل سلّم عليهم ، يسمع نفسه ، وإن كان قليل الأهل سلّم عليهم ، يسمعهم التسليم ، وإن لم يكن فيه أحد قال : السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السّلام علينا من ربّنا.

وإذا دخل بيتا غير مسكون ممّا قال الله : (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) وهي الفنادق ينزلها الرجل المسافر ويجعل فيها متاعه ، فإذا دخل البيت قال : السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السّلام علينا من ربّنا.

خالد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يسلّم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثبر.

وقال أيضا : يسلّم الصغير على الكبير ، والمارّ على القاعد ، والقليل على الكثير (١).

[قال يحيى : يعني] (٢) ويسلّم راكب الدابّة على راكب البعير ، ويسلّم الفارس على صاحب الحمار والبغل.

وقال بعضهم : إذا سلّم رجل على القوم فردّ رجل منهم أجزأ عنهم ، وإذا كانوا ناسا فسلّم رجل منهم على المجلس أجزأ عنهم (٣).

وكان الحسن يقول : كان النساء يسلّمن على الرجال ، ولا يسلّم الرجال على النساء. وكان ابن عمر يسلّم على النساء ، وغير واحد من السلف أنّهم كانوا يسلّمون على النساء.

__________________

(١) وردت ألفاظ هذين الحديثين بتقديم وتأخير في ب وع ، غير مرفوعين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصواب أنّهما صحيحان متّفق عليهما ، أخرجهما البخاريّ في كتاب الأدب ، أخرج الأوّل منهما في باب تسليم الراكب على الماشي ، وأخرج الثاني في باب تسليم القليل على الكثير ، وأخرجهما مسلم في كتاب السّلام ، باب يسلّم الراكب على الماشي ، والقليل على الكثير (رقم ٢١٦٠) وكلا الحديثين من رواية أبي هريرة عندهما.

(٢) زيادة من سع ورقة ٥٦ ظ.

(٣) وردت هذه الجمل ناقصة في ب وع ، فأثبتّها من سع ورقة ٥٦ ظ حيث جاءت حديثا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه زيد بن أسلم مرسلا ، ولم أجده مرفوعا فيما بين يديّ من كتب الحديث.

١٧٢

قال بعضهم : إذا كان النساء على الطريق فلقيهنّ الرجل جلس النساء ويسلّم الرجل ، وإن كانت فيهم امرأة فدخلت ردّت السّلام على الرجال من بينهنّ ، وكان ردّها السّلام عمّن بقي منهنّ (١). ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بغلمان فسلّم عليهم (٢).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : السّلام اسم من أسماء الله (٣).

ذكروا عن ابن مسعود قال : السّلام اسم من أسماء الله ، وضعه الله في الأرض ، فأفشوه بينكم ، فإنّ المرء إذا مرّ بالقوم ، فسلّم عليهم ، فردّوا عليه كانت له عليهم فضيلة ودرجة بأنّه ذكرهم السّلام ، فإن لم يردّوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم وأطيب ، وهم الملائكة عليهم‌السلام (٤).

ذكروا أنّ رجلا كان يمشي مع أبي هريرة قال : فمررنا بقوم فسلّمنا عليهم ، قال : فلا أدري أشغلهم الحديث أو ما منعهم أن يردّوا السّلام ، فقال أبو هريرة : سلام ربّي والملائكة أحبّ إليّ.

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : للمسلم على المسلم من المعروف ستّ خصال : يسلّم عليه إذا لقيه ، ويشمّته إذا عطس ، ويجيبه إذا دعاه ، ويعوده إذا مرض ، وينصح له إذا غاب أو شهد ، ويشهد جنازته إذا مات (٥).

قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) : أي الجمعة والعيدين والاستسقاء ، وكل شيء تكون فيه الخطبة (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى

__________________

(١) هذه الفقرة غير واردة في سع ولا في ز ، وهي ممّا انفردت بروايتها ب وع على ما فيها من غموض ، فكيف تجلس النساء على الطريق ويسلّم الرجل؟.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب السّلام ، باب استحباب السّلام على الصبيان عن أنس بن مالك (رقم ٢١٦٨) وكذلك فعل ثابت البنانيّ اتّباعا لفعل أنس ، وفعله أنس اقتداء بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) انظر تخريجه فيما سلف ج ١ ، تفسير الآية ١٦ من سورة المائدة (التعليق).

(٤) أخرجه البيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن مسعود ، وأوّل الحديث الذي نسب إلى ابن مسعود هنا موقوفا هو حديث صحيح ، رواه البزار والبيهقيّ مرفوعا ، كما رواه البخاريّ في الأدب المفرد.

(٥) أخرجه النسائيّ في كتاب الجنائز عن أبي هريرة بتقديم وتأخير في ترتيب الخصال الستّ ، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز أيضا ، باب ما جاء في عيادة المريض ، (رقم ١٤٣٣) عن عليّ ، وأخرجه مسلم في كتاب السّلام ، باب من حقّ المسلم للمسلم ردّ السّلام ، عن أبي هريرة.

١٧٣

يَسْتَأْذِنُوهُ) : أي يستأذنوا الرسول عليه‌السلام. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي مصدّقين بالله ورسوله ، عاملين بجميع فرائضه ، غير منافقين ولا منتقصين لشيء من فرائض الله التي فرضها عليهم.

(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) : يريد الغائط والبول (١) ، ولكنّ الله كنّى عن ذلك (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) : وقد أوجب الله على النبيّ والإمام بعده أن يأذن لهم ، ولكنّ الله أراد بذلك إكرام النبيّ عليه‌السلام وإعظام منزلته. فإذا كانت لرجل حاجة قام حيال الإمام ، وأمسك بأنفه وأشار بيده.

قال : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : (٦٢) قال بعضهم : إنّها نسخت الآية في براءة : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٤٣) [التوبة : ٢٣]. وهي عنده في الجهاد ، وإنّ المنافقين كانوا يستأذنونه في المقام عن الغزو بالعلل الكاذبة ، فرخّص الله للمؤمنين أن يستأذنوه إذا كان لهم عذر. وبعضهم يقول : (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أمر طاعة.

قوله : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) : أي لا تقولوا : يا محمّد ، ولكن قولوا : يا رسول الله ، ويا نبيّ الله ، في لين وتواضع وتودّد.

أمرهم الله أن يعظّموا الرسول ، ويعظّموا حرمته ولا يستخفّوا بحقه (٢) ، وأمرهم أن يجيبوه لما دعاهم إليه من الجهاد والدين.

قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) : أي فرارا من الجهاد في سبيل الله ، يعني المنافقين ، يلوذ بعضهم ببعض استتارا من النبيّ عليه‌السلام حتّى يذهبوا.

قال : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) : أي عن أمر الله ، يعني المنافقين (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) : أي بليّة (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : (٦٣) أي وجيع. أي : أن يستخرج الله ما في قلوبهم من النفاق حتّى يظهروه ويتباينوا به ، فيصيبهم بذلك العذاب الأليم ، أي : القتل. هو كقوله : (لَئِنْ

__________________

(١) الصحيح أنّها الحاجات أيّا كانت ، فقد تعرض لهم حاجات من أمور دنياهم يستأذنون الرسول لقضائها.

(٢) كذا في ب ، وفي ع : «ولا يستخفّوا به».

١٧٤

لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) وكلّ هؤلاء منافقون ، لئن لم ينتهوا ويكفّوا عن إظهار نفاقهم وإرجافهم (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) يا محمّد (ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها) أي : في المدينة (إِلَّا قَلِيلاً) (٦٠) ثمّ قال : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (٦١) قال : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) [الأحزاب : ٦٠ ـ ٦٢] أي : من قبلك يا محمّد من الأنبياء ، يقول : هكذا كانت سنّة الله في منافقي أمّتك : القتل إن لم ينتهوا ويكفّوا ؛ فانتهوا وكفّوا ، فكفّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتالهم (١).

قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) : أي من النفاق ، يعني المنافقين (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) : يقول للنبيّ : ويوم يرجعون إليه ، أي : يوم القيامة (فَيُنَبِّئُهُمْ) : أي فيخبرهم (بِما عَمِلُوا) : أي من النفاق والكفر (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤) : أي فلا أعلم منه سبحانه.

* * *

__________________

(١) هذه الفقرة كلّها غير واردة في سع ولا في ز ، فهي من زيادات الشيخ هود الهواريّ ولا شكّ.

١٧٥

تفسير سورة الفرقان وهي مكّيّة كلّها

قوله : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (تَبارَكَ) : وهو من باب البركة (١) كقوله : (تعالى) أي : ارتفع. قوله : (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) : أي القرآن. وفرقانه حلاله وحرامه ، وفرائضه وأحكامه.

(عَلى عَبْدِهِ) : يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) : (١) أي ينذرهم النار وعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة إن لم يؤمنوا.

قال : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢).

ذكر بعضهم قال : كلّ شيء بقدر حتّى هذه ، ووضع طرف أصبعه السبّابة على طرف لسانه ثمّ وضعها على ظفر إبهامه اليسرى.

قوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) : أي من دون الله (آلِهَةً) : يعني الأوثان (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) : أي لا يصنعون شيئا ، أي : إنّهم يصنعونها بأيديهم. ذكر بعضهم في قوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (٩٥) يعني أصنامهم التي عملوها بأيديهم (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٩٦) [الصافّات : ٩٥ ـ ٩٦] أي : بأيديكم. قوله : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ) : يعني الأوثان (ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً) : أي لا يميتون أحدا ولا يحيون أحدا (وَلا نُشُوراً) : (٣) أي ولا بعثا ، لا يملكون شيئا من ذلك.

قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا) : يعنون القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) : أي كذب (افْتَراهُ) : يعنون محمّدا عليه‌السلام (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) : أي اليهود في تفسير مجاهد. وقال

__________________

(١) في ز ، ورقة ٢٣٧ ما يلي : «ومعنى البركة عند أهل اللغة الكثرة في كلّ ذي خير». والقول لابن أبي زمنين. وهو مرويّ أيضا عن ابن عبّاس ، وانظر مختلف معاني الكلمة في اللسان : (برك) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٦٢ : «وهو من البركة ، وهو في العربيّة كقولك : تقدّس ربّنا. والبركة والتقدّس : العظمة ، وهما بعد سواء».

١٧٦

الحسن : يعنون عبد ابن الحضرميّ. وقال الكلبيّ : عبد ابن الحضرميّ ، وعدّاس غلام عتبة.

قال الله : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) : (٤) أي أتوا شركا وكذبا. والظلم ههنا الشرك ، والزور الكذب.

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أي كذب الأوّلين وباطلهم ؛ أي : أحاديث الأولين (اكْتَتَبَها) : يعنون محمّدا عليه‌السلام اكتتب أساطير الأولين من عبد (١) ابن الحضرميّ. وقال الكلبيّ من عبد ابن الحضرميّ وعدّاس غلام عتبة بن ربيعة. (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥) : والأصيل العشيّ.

قال الله : (قُلْ أَنْزَلَهُ) : أي القرآن (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٦).

قوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ) [فيما يدعى أنّه رسول] (٢) (يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا) : أي هلّا (أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) : (٧) أي فيصدقه بمقالته. (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) فإنّه فقير (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) وبعض الكوفيّين يقرأها : (نأكل منها). (وَقالَ الظَّالِمُونَ) : أي المشركين يعنيهم (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٨).

قال الكلبيّ : بلغني أنّ أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة في رهط من قريش قاموا من المسجد إلى دار في أصل الصفا ، فيها نبيّ الله يصلّي ، فاستمعوا. فلمّا فرغ نبيّ الله من صلاته قال أبو سفيان : يا أبا الوليد ، لعتبة ، أنا شدك الله ، هل تعرف شيئا ممّا يقول؟ فقال عتبة : اللهمّ إنّي أعرف بعضا وأنكر بعضا. [فقال أبو جهل : فأنت يا أبا سفيان ، هل تعرف شيئا ممّا يقول؟ فقال : اللهمّ نعم ، فقال أبو سفيان لأبي جهل : يا أبا الحكم ، هل تعرف ممّا يقول شيئا] (٣)

__________________

(١) في المخطوطات : «عند» والصواب ما أثبتّه إن شاء الله ؛ لأنّه كان «مولى» أي : عبدا «لابن الحضرمي» كما ذكرته بعض كتب التفسير.

(٢) زيادة من سع ٥٨ ظ ، ومن ز ورقة ٢٣٨.

(٣) زيادة من سع ٥٨ ظ لا بدّ من إثباتها حتّى يستقيم المعنى بمشاركتهم كلّهم في السؤال والجواب ، وقد سقط ما بين المعقوفين كلّه من ب وع.

١٧٧

فقال أبو جهل : لا والذي جعلها بنية ، يعني الكعبة ، ما أعرف ما يقول قليلا ولا كثيرا ، و (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً).

قوله : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) : يعني قولهم : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ـ آخَرُونَ) وقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) ، وقولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) وقولهم : ساحر وشاعر وكاهن ومجنون ، و (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ ، نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها). قال الله : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ).

قال : (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٩) : أي مخرجا من الأمثال التي ضربوا لك ، في تفسير مجاهد (١).

قوله : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : فإنّما قالوا هم : جنّة واحدة (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) (١٠) : أي في الدنيا إن شاء ، وهذا على مقرأ من قرأها ولم يرفعها ، ومن قرأها بالرفع : (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي : في الآخرة.

قال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي بالقيامة (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) : والسعير اسم من أسماء جهنّم.

قوله : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : [قيل] (٢) : مسيرة خمسمائة سنة (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) : أي عليهم (وَزَفِيراً) (١٢) : أي صوتها.

قوله : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها) : أي في النار (مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) : ذكروا عن عبد الله بن عمر أنّه كان يقول : إن جهنّم لتضيق على الكافر كضيق الزّجّ على الرمح ، وقوله : (مُقَرَّنِينَ) ، أي : هو وشيطانه الذي كان يدعوه إلى الضلالة في سلسلة واحدة ، يلعن كلّ منهما صاحبه ، ويتبرّأ كلّ واحد منهما من صاحبه.

__________________

(١) زيادة من ز ورقة ٢٣٨ ، وقد جاء في تفسير مجاهد ص ٤٤٧ : «يقول : لا يستطيعون مخرجا يخرجهم من الأمثال التي ضربوا لك».

(٢) زيادة يقتضيها سياق المعنى ، فإنّه لم يرد في ذلك نصّ قطعيّ.

١٧٨

قوله : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) (١٣) : أي ويلا وهلاكا. (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) : ويلا وهلاكا واحدا (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤) : [أي : ويلا كثيرا وهلاكا طويلا] (١).

ثمّ قال على الاستفهام : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) : أي إنّ جنّة الخلد خير من ذلك (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً) : أي بقدر أعمالهم (وَمَصِيراً) (١٥) : أي يصيرون إليها وتكون لهم منزلا ومثوى.

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) : أي لا يموتون ولا يخرجون منها (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) (١٦) : أي سأل المؤمنون الله الجنّة فأعطاهم إيّاها. وقال بعضهم : سألت الملائكة الله للمؤمنين الجنّة ، وسؤالهم ذلك كان في سورة حم المؤمن إذ قالوا : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ..). إلى آخر الآية [غافر : ٨].

قوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ): وهذا على الاستفهام ، وقد علم أنّهم لم يضلّوهم ، يقوله للملائكة في تفسير الحسن. وقال مجاهد : يقوله للملائكة وعيسى وعزير. ونظير قول الحسن في هذه الآية : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٤١) [سبأ : ٤٠ ـ ٤١] أي : الشياطين من الجنّ. (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) (١٧).

(قالُوا) : قالت الملائكة في تفسير الحسن. وقال مجاهد : قالت الملائكة وعيسى وعزير : (سُبْحانَكَ) : ينزّهون الله عن ذلك (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) : أي لم نكن نواليهم على عبادتهم إيّانا. وبعضهم يقرأها : (أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) يعبدوننا من دونك).

(وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) في عيشهم في الدنيا بغير عذاب (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) :

__________________

(١) زيادة من سع ورقة ٥٩ و. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٧١ : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) أي هلكة ، وهو مصدر ، ثبر الرجل ، أي : هلك. قال [ابن الزبعري] :

إذ أجاري الشيطان في سنن الغ

يّ ومن مال ميله مثبور».

١٧٩

أي حتّى تركوا الذكر لّما جاءهم في الدنيا (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (١٨) : أي فاسدين فساد الشرك. وقال مجاهد : هالكين.

قال الله لهم في الآخرة : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) : قال الحسن : يقول للمشركين : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) أي : إنّهم آلهة.

وفي تفسير مجاهد قال : يكذّبون المشركين بقولهم ، إذ جعلوهم آلهة ، فانتفوا من ذلك ونزّهوا الله عنه. وبعضهم يقرأها : (بما يقولون) يعني قول الملائكة في قول الحسن ، وفي قول مجاهد : الملائكة وعيسى وعزير.

قال : (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) : قال الحسن : فما يستطيع الذين عبدوهم لهم (صَرْفاً) ، أي : أن يصرفوا عنهم العذاب ، (وَلا نَصْراً) أي : ولا ينصرونهم.

قوله : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) : أي ومن يشرك منكم وينافق (نُذِقْهُ) : أي نعذّبه (عَذاباً كَبِيراً) (١٩) كقوله : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) (٢٤) [الغاشية : ٢٣ ـ ٢٤].

قوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) : [أي : إلّا إنّهم كانوا يأكلون الطعام] (١) ، كقوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الأنبياء : ٨] أي : ولكن جعلناهم جسدا يأكلون الطعام قال (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) فهذا جواب للمشركين حيث قالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ).

قوله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠).

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ويل للمالك من المملوك ، وويل للمملوك من المالك ، وويل للغنيّ من الفقير ، وويل للفقير من الغنيّ ، وويل للعالم من الجاهل ، وويل للجاهل من العالم ، وويل للشديد من الضعيف ، وويل للضعيف من الشديد) (٢).

__________________

(١) زيادة من سع ٥٩ و. وقال الفرّاء في المعاني ج ٢ ص ٢٦٤ : (لَيَأْكُلُونَ) صلة لاسم متروك اكتفى بمن المرسلين منه ، كقولك في الكلام : ما بعثت إليك من الناس إلّا من إنّه ليطيعك».

(٢) أورد ابن سلّام هذا الحديث مرسلا هكذا : «أبو الأشهب عن الحسن والمبارك عن الحسن قال : قال رسول ـ

١٨٠