تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

والصدقة منها ، تتقرّبون إلى الله.

قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ) : ذكروا عن الحسن قال : مخلصين لله ؛ فهي على هذا المقرأ [غير] (١) مثقلة على هذا التفسير. وكان مقرأ الحسن ـ فيما ذكروا عنه ـ : (صوافي) ، أي صافية لله تعالى. ذكروا عن مجاهد قال : (صوافّ) : معقّلة قياما.

ذكروا عن ابن عمر أنّه كان ينحرها وهي قائمة ، تصفّ بين أيديها بالقيود ؛ ويتلو هذه الآية : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ). وهي على هذا التفسير [غير] (٢) مخفّفة : صوافّ ، أي مصفوفة بالحبال ، معقولة يدها اليمنى ، وهي قائمة على ثلاث ، كذلك ينحرها من نحرها في دار المنحر بمنى.

وهي قراءة ابن مسعود : (صوافن) (٣). يعني مثل قوله تعالى : (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (٣١) [سورة ص : ٣١] ؛ يعني الفرس إذا صفن ، أي رفع إحدى رجليه فقام على طرف الحافر.

ذكروا عن عمرو بن دينار قال : رأيت عبد الله بن الزبير على برذون له أشعر أوجرها الحربة (٤) وهي قائمة. قال : ورأيت ابن عمر ينحر البدن وهي باركة ، ورجل يعينه.

ذكروا عن عائشة بنت سعد [بن مالك] (٥) أنّ أباها كان ينحرها وهي باركة.

__________________

(١) سقطت هذه الكلمة في ب وع وسع. فأثبتّها ليصحّ معنى الإخلاص ، فإنّها جمع صواف.

(٢) وسقطت هذه الكلمة أيضا من المخطوطات ، والصواب إثباتها. انظر معاني الفرّاء ، ج ٢ ص ٢٢٦ ، وابن جنّي ، المحتسب ، ج ٢ ص ٨١ ـ ٨٢. واللسان : (صفف).

(٣) نسبت هذه القراءة أيضا إلى ابن عبّاس وابن عمرو وآخرين. وفي مخطوطة ز ، أوضح ابن أبي زمنين في ورقة ٢٢٢ هذه القراءات فقال : «من قرأ (صوآفّ) مشدّدة فالمعنى صفّت قوائمها ، والنصب فيها على الحال ، ولا تنوّن ؛ لأنّها لا تنصرف. ومن قرأ (صوافن) فالصافن الذي يقوم على ثلاث ، يقال : صفن الفرس ، إذا رفع إحدى رجليه فقام على طرف الحافر ، والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه ، فهو الصافن ، والجمع صوافن. وقرئت (صوافي) بالياء والفتح بغير تنوين. وتفسيره خوالص ، أي خالصة لله لا يشرك بالله جلّ وعزّ في التسمية على نحرها أحد. وقد ذكر يحيى هذه القراءات ولم يلخّصها هذا التلخيص».

(٤) أي طعنها بها ، والضمير راجع إلى البدن.

(٥) زيادة من سع ورقة ٤١ و ، ولعلّها بنت أبي سعيد الخدريّ فإنّ اسمه سعد بن مالك بن سنان.

١٠١

ذكروا عن جابر بن عبد الله أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحر من بدنه بيده ثلاثا وستّين ، ثمّ أعطى عليّا الحربة فنحر ما بقي.

ذكروا عن ابن عمر أنّه كان إذا أراد أن ينحرها استقبل بها القبلة ونزع عنها جلالها ؛ لكي لا تخضب بالدم ، وكان يحبّ أن يلي نحرها بنفسه.

قوله : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) : أي إذا نحرت فسقطت جنوبها على الأرض من قيام أو بروك.

ذكروا عن القاسم بن محمّد (١) أنّه كان إذا أراد أن ينحرها يصفّ بين أيديها وهي قائمة ، ويمسك رجل بخطامها ورجل بذنبها ، ثمّ يطعنها بالحربة ، ثمّ يجبذانها حتّى يصرعاها ، وكان يكره أن تعرقب.

قوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) : قال بعضهم : القانع : القاعد في بيته لا يسأل الناس ، والمعترّ الذي يتعرّض لك يسألك ؛ ولكلّ عليك حقّ. وقال مجاهد : القانع : السائل الذي يقنع بما أعطى ، والمعترّ : القاعد في بيته لم يشعر بما اعتراه (٢). وقد فسّرنا إطعامهم في الآية الأولى (٣).

قوله : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٦) : أي لكي تشكروا.

قوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) : وقد كان المشركون يذبحون لأصنامهم ، ثمّ ينضحون دماءها حول البيت.

قال : (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) : يعني من آمن بالله. (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ:) أي الأنعام (لِتُكَبِّرُوا اللهَ) : أي لتعظّموا الله (عَلى ما هَداكُمْ) وقال في الآية الأخرى :

__________________

(١) هو أبو محمّد أو أبو عبد الرحمن القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق المدنيّ. قال عنه يحيى بن سعيد : ما أدركنا بالمدينة أحدا نفضّله على القاسم. قيل : توفّي سنة إحدى أو اثنتين ومائة ، وقيل : بعد ذلك.

(٢) في ع : «لم يشعر باعتراه». وفي سع ورقة ٤١ ظ : «لم يشعر به اعتراه» ؛ وصواب العبارة ما أثبتّه : «لم يشعر بما اعتراه» ، أي لا يعلم حاله وما ينتابه من فقر.

(٣) انظر ما مضى قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٢٨ من هذه السورة.

١٠٢

(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [الحج : ٢٨] أي إذا ذبحوا. والسنّة إذا ذبح أو نحر أن يقول : باسم الله وبالله والله أكبر.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يضحّي بكبشين أملحين أقرنين عظيمين ، يذبحهما بيده ، ويطأ على صفاحهما ، ويسمّي ويكبّر (١). ذكروا عن الحسن أنّه كان إذا ذبح الضحيّة قال : بسم الله والله أكبر ، اللهمّ منك وإليك.

قال : (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٣٧) : أي بالجنة.

قوله : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) : قال الحسن يدافع عنهم فيعصمهم من الشيطان في دينهم. قال بعضهم : والله ما ضيّع الله رجلا قطّ حفظ له دينه.

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) (٣٨) : ذكروا عن الحسن في قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) [الأحزاب : ٧٢ ـ ٧٣] قال : والله إنّ اللذين ظلماها ، والله إنّ اللذين خاناها المنافق والمشرك (٢). وهي خيانة دون خيانة.

قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) : أي ظلمهم المشركون فأخرجوهم من ديارهم ، أي : من مكّة في تفسير الحسن (٣). على هذا خرجوا من مكّة إلى المدينة مهاجرين. وكانوا يمنعون من الخروج إلى المدينة ، فأدركهم المشركون ، فأذن للمؤمنين بقتالهم فقاتلوهم.

__________________

(١) روى ابن سلّام في سع ورقة ٤١ ظ خبرا هذا نصّه : «عن أنس بن مالك قال : أهدى للنبيّ عليه‌السلام كبشان أملحان أقرنان فضحّى بهما فذبحهما بيده فوضع رجله اليمنى على كتف الكبش اليمنى ثمّ قال : بسم الله والله أكبر ، منك ولك عنّي وعن أمّتي».

(٢) جاءت العبارة في ب وع هكذا : «ظلما أنفسهما ... خاناهما المنافق والمشرك». وأثبتّ ما جاء في سع ورقة ٤١ ظ : «ظلماها ... خاناها» ، حتّى يعود الضمير إلى الأمانة. وهذا أحسن تأويلا وأصحّ تعبيرا.

(٣) كذا في ب وع ، وفي سع ورقة ٤٢ و : «في تفسير مجاهد». وبالمقارنة مع ما أورده الطبريّ في تفسيره ج ١٧ ص ١٧٣ وما جاء في تفسير مجاهد ص ٤٢٦ تبيّن أنّ الجملة الأولى من هذه الفقرة للحسن والأخيرة لمجاهد.

١٠٣

[قال بعضهم] (١) : وكان من كان يومئذ بمكّة من المسلمين قد وضع عنهم القتال. فهو قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي أذن لهم بالقتال بعدما أخرجهم المشركون وشرّدوا حتّى لحق طوائف منهم بالحبشة.

قال الله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٣٩) (٢).

قوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) : يقول : لّما قال المسلمون : لا إله إلّا الله أنكرها المشركون وضاق بها إبليس وجنوده.

قال الحسن : والله ما سفكوا لهم من دم ، ولا أخذوا لهم من مال ، ولا قطعوا لهم من رحم ، وإنّما أخرجوهم لأنّهم قالوا : ربّنا الله. كقوله : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٨) [البروج : ٨].

قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) : أي يدفع عن المؤمنين بدينهم ، ويدفع عن الكافرين بالمؤمنين. وقال بعضهم : يبتلي المؤمن بالكافر ، ويعافي الكافر بالمؤمن (٣).

قوله : (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) : قال مجاهد : صوامع الرهبان ، وقال بعضهم : الصوامع للصابئين ، قوله : (وَبِيَعٌ) : أي وكنائس النصارى ، (وَصَلَواتٌ) : أي صلوات اليهود ، أي : كنائسهم. (وَمَساجِدُ) : يعني مساجد المسلمين (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) : يعني في المساجد.

قوله : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) : أي ولينصرنّ الله من ينصر دينه ، يعني النصر في الدنيا ، والحجّة في الآخرة. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٤٠) : أي قويّ في سلطانه ، عزيز في نقمته.

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها ؛ لأنّ هذه الفقرة من رواية يحيى بن سلّام لكلام قتادة ، كما جاء في سع ورقة ٤٢ و.

(٢) سقطت هذه الجملة من كلّ المخطوطات ، ومن سع أيض ا. وكأنّ الناسخ الأوّل لم يثبتها سهوا فتبعه من جاء بعده. وجاء في ز ورقة ٢٢٣ قول لقتادة في تفسير هذه الآية آخره : «وقيل : إنّها أوّل آية نزلت في القتال». وانظر تفسير الطبريّ ، ج ١٧ ص ١٧٣.

(٣) انظر اختلاف المفسّرين في هذه الآية ، في تأويل دفع الله الناس ، وفي معنى الصوامع والبيع والصلوات في تفسير الطبريّ ، ج ١٧ ص ١٧٤ ـ ١٧٨. وقد رجّح الطبريّ أخيرا ما جاء في هذا التفسير تقريبا.

١٠٤

قوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) : يعني أصحاب النبيّ عليه‌السلام.

(أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ) : أي بعبادة الله (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) : أي عن عبادة الأوثان (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٤١) : أي إليه تصير الأمور. كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠) [مريم : ٤٠].

قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) : يعني الذين بعث الله إليهم شعيبا. قال : (وَكُذِّبَ مُوسى) : أي كذّبه فرعون وقومه (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) والذين كفروا يعني جميع هؤلاء لم أهلكهم عند تكذيبهم رسلهم ، حتّى جاء الوقت الذي أردت أن أهلكهم فيه. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) : أي بالعذاب حين جاء الوقت (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٤) : أي عقابي ، أي كان شديدا. يحذّر بذلك المشركين.

قوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) : أي فكم من قرية (أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) : يعني أهلكنا أهلها. (فَهِيَ خاوِيَةٌ) : أي فالقرية خاوية ليس فيها أحد ، قد هلك أهلها ، فهي خاوية (عَلى عُرُوشِها) : أي على بنيانها. وبعضهم يقول : العروش السقوف ، صار أعلاها أسفلها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) : أي باد أهلها فعطّلت (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥) : أي مبنيّ معطّل. [معطوف] (١) على قوله : (مُعَطَّلَةٍ). وقال الكلبيّ : المشيد الحصين(٢).

قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : يعني المشركين (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) : أي لو ساروا وتفكّروا لعاينوا ما نزل بإخوانهم من الكفّار فيتوبون لو

__________________

(١) زيادة لا بدّ منها للإيضاح.

(٢) كذا قال الكلبيّ. وما ذكره أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٥٣ أوفى شرحا وأدقّ تعبيرا. قال : «(وقصر مّشيد) مجازه مجاز مفعول من «شدت تشيد» أي : زيّنته بالشّيد ، وهو الجصّ والجيّار والملاط. الجيّار الصاروج ، وهو الكلس. وقال عديّ بن زيد العبادي :

شاده مرمرا وجلّله كل

سا فلطّير في ذراه وكور

وهو الكلس. وقال :

حيّة الماء بين الطّيّ والشّيد

وانظر اللسان : (شيد) فقد أورد فيه ابن منظور تحقيقا لغويّا مفيدا.

١٠٥

كانت لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها. (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) : أي إنّما أتوا من قبل قلوبهم. ولو أنّ رجلا كان أعمى بعد أن يكون مؤمنا لم يضرّه شيء وكان قلبه بصيرا.

وقال بعضهم : إنّما هذه الأبصار التي في الرؤوس جعلها الله منفعة وبلغة ، وأمّا البصر النافع فهو في القلب. وذكر لنا أنّها نزلت في عبد الله بن زائدة (١).

ذكروا عن مجاهد قال : لكلّ عين ـ يعني نفسا ـ أربعة عيون : عينان في رأسه لدنياه ، وعينان في قلبه لآخرته. فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه لم يضرّه عماه شيئا. وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه لم ينفعه [بصره] (٢) شيئا إذا عميت عينا قلبه. قال الله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) : وذلك منهم استهزاء وتكذيب ، أي فإنه لا يكون. (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) : قال الحسن : يعني هلاكهم بالساعة قبل عذاب الآخرة.

قال : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) : (٤٧) أي إنّ يوما من أيّام الآخرة كألف سنة من أيّام الدنيا.

قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) : أي وكم من قرية (أَمْلَيْتُ لَها) : إلى الوقت الذي أخذتها فيه (وَهِيَ ظالِمَةٌ) : أي وهي مشركة ، يعني أهلها (ثُمَّ أَخَذْتُها) : أي بالعذاب (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) : (٤٨) أي وإلى الله المصير في الآخرة.

قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) : أي لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : (٥٠) أي الجنّة.

__________________

(١) في ب وع جاء الاسم هكذا : «عبد الله بن سعيد» ، وفي سع ورقة ٤٢ و : «عبد الله بن زيد» وكلاهما خطأ ؛ والصواب ما أثبتّه إن شاء الله. فقد جاء في الدرّ المنثور ، ج ٤ ص ٣٦٥ مايلي : «عبد الله بن زائدة ، يعني ابن أمّ مكتوم». والقول لقتادة. وأنا أستبعد نزول الآية في الصحابيّ الجليل ابن أمّ مكتوم الذي شهد الله له بالخشية في سورة عبس [الآية : ٩] ، والآية هنا في معرض الذمّ ، اللهمّ إلّا قوله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) ، والله أعلم.

(٢) زيادة يقتضيها سياق الكلام. والعبارة : «إذا عميت عينا قلبه» تكرار لا لزوم له ورد في ب وع دون سع.

١٠٦

قوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) : أي كذّبوا بآياتنا ، (مُعاجِزِينَ) أي : يظنون أنّهم يعجزوننا فيسبقوننا في الأرض حتّى لا نقدر عليهم فنعذّبهم ، هذا تفسير الحسن. وتفسير مجاهد : (معاجزين) أي : مبطئين عن الإيمان (١). (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) : والجحيم : اسم من أسماء جهنّم.

قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) : أي إذا قرأ ، في تفسير بعضهم. وقال مجاهد : إذا قال. وقال الكلبيّ : إذا حدّث نفسه.

وقال بعضهم : كان النبيّ قائما في المسجد الحرام يصلّي وهو يقرأ سورة النجم ؛ فلمّا أتى على هذه الآيات : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) [النجم : ١٩ ـ ٢٠] ألقى الشيطان على لسانه : إنّهن من الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى. فأعجب ذلك المشركين ؛ فقرأ السورة حتّى ختمها ، فسجد وسجد أهل مكّة ؛ المؤمنون والمشركون ، والجنّ والإنس ؛ فأنزل الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى).

قال الله : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) : يعني المشركين. قال : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) : يعني المشركين (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٣) : أي لفي فراق بعيد ، أي إلى يوم القيامة ، يعني فراقهم عن الحقّ (٢).

__________________

(١) كذا في ب وع وسع. وفي ز ورقة ٢٢٣ : «مبطّئين للناس عن الإيمان». وفي تفسير مجاهد ، ص ٤٢٧ : «يقول : يبطّئون الناس عن اتّباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

(٢) روى ابن سلّام في مخطوطة سع ورقة ٤٢ وو ما بعدها حديث الغرانيق هذا بسند واه عن أبي العالية الرياحي ، وعن قتادة ، وعن الكلبيّ. وهي روايات كلّها مرسلة ، وأورد الطبريّ كذلك في تفسيره روايات مماثلة عن محمّد بن كعب القرظيّ ، ومحمّد بن قيس ، وعن سعيد بن جبير وغيرهم ؛ ممّا يدلّ دلالة واضحة على أنّ الحديث موضوع ، لا أصل له ، ولا يعتدّ به ، ولا يجب التصديق به ؛ لأنّه يقدح في عصمة الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد نقد المحقّقون من علماء التفسير قديما وحديثا قصّة الغرانيق هذه وبيّنوا علل ضعفها ، وأثبتوا وضعها ، ممّا لا يدع مجالا للشكّ في أنّها من كيد الدسّاسين أو من روايات الجهلة المغفّلين ، ولا يوهمنّك كثرة الرواة لها في كتب التفسير فإنّ أغلبهم نقلة لما قال غيرهم بدون نقد أو تمحيص. وممّن جمع هذه الردود المتينة وأوضحها بجلاء العلّامة محمّد جمال الدين القاسميّ في تفسيره محاسن التأويل ، ـ

١٠٧

قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : يعني المؤمنين (أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) : أي القرآن (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) : أي فيصدّقوا به (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) : أي فتطمئنّ له قلوبهم ، في قول الكلبيّ. وقال الحسن : فتخشع له قلوبهم. قوله : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٤) : أي الجنّة.

قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) : أي في شكّ من القرآن (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) : أي فجأة. قال الحسن : يعني الذين تقوم عليهم الساعة الدائنين بدين أبي جهل وأصحابه.

قوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (٥٥) : أي يوم بدر ، قبل قيام الساعة. وقال بعضهم : (يَوْمٍ عَقِيمٍ) أي يوم لا غد له ، أي يهلكون فيه. وقال الحسن : (عَقِيمٍ) أي شديد.

قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) : أي يوم القيامة ؛ (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي : بين المؤمنين والكافرين.

قال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٥٧) : أي من الهوان.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا) : أي بعد الهجرة (أَوْ ماتُوا) : على فرشهم بعد الهجرة (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) : أي الجنّة (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) : في الجنّة (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) (٥٩).

قوله : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) : يعني مشركي العرب ، إنّهم عوقبوا فقتلهم الله بجحودهم النبيّ عليه‌السلام ، وبظلمهم إيّاه وأصحابه ، وبغيهم عليهم. قال : (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٦٠) : النصر في الدنيا : الظهور على المشركين ، والحجّة عليهم في الآخرة ؛ هو كقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٥١) [غافر : ٥١] أي يوم القيامة.

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) : وهو أخذ

__________________

ـ ج ١٢ ص ٣٨ ـ ٥٧. فاقرأها هناك يتبيّن لك وجه الحقّ والصواب إن شاء الله.

١٠٨

كلّ واحد منهما من صاحبه (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) : والحقّ اسم من أسماء الله. قوله : (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) : قال الحسن : الأوثان. وقال بعضهم : إبليس (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ) : أي الرفيع فلا أعلى منه ولا أرفع. (الْكَبِيرُ) (٦٢) : أي لا شيء أكبر منه.

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) : يعني نباتها ، ليس يعني من ليلتها ، ولكن إذا أنبتت. (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) : أي بخلقه فيما رزقهم. (خَبِيرٌ) (٦٣) : بأعمالهم.

قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ) : أي عن خلقه (الْحَمِيدُ) (٦٤) : أي المستحمد إلى خلقه ، استحمد إليهم ، أي استوجب عليهم أن يحمدوه.

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) : كقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] ، (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) : أي لئلّا تقع على الأرض (إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٦٥).

قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) : أي من نطفة (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) : يعني البعث. وهو كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨] ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) (٦٦) : يعني الكافر.

قوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) : أي حجّا وذبحا ، في تفسير بعضهم (١). قوله : (هُمْ ناسِكُوهُ) : قال مجاهد : يعني إهراق الدماء ، [دماء الهدي] (٢) وقال بعضهم : يعني النسك.

قوله : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) : أي لا يحوّلنّك المشركون عن هذا الدين الذي أنت عليه ، يقوله للنبيّ عليه‌السلام. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) : أي إلى الإخلاص له. قوله : (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٣٠ : «وقوله : (مَنْسَكاً) ، و (منسكا) قد قرئ بهما جميعا. والمنسك لأهل الحجاز ، والمنسك لبني أسد. والمنسك في كلام العرب : الموضع الذي تعتاده وتألفه. ويقال : إنّ لفلان منسكا يعتاده ، في خير كان أو غيره. والمناسك بذلك سمّيت ـ والله أعلم ـ لترداد الناس عليها بالحجّ والعمرة.

(٢) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٤٢٨.

١٠٩

مُسْتَقِيمٍ) (٦٧) : أي على دين مستقيم ، وهو الإسلام ، يستقيم بك حتّى يهجم (١) بك على الجنّة.

قوله : (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٦٩) : يقوله للمشركين ، يعني ما اختلف فيه المؤمنون والكافرون ، فيكون حكمه فيهم أن يدخل المؤمنين الجنّة ، ويدخل الكافرين النار.

قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : أي قد علمت أنّ الله يعلم ما في السماء والأرض. (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : (٧٠) [أي : هيّن حين كتبه] (٢).

قوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) : أي حجّة بعبادتهم (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) : أي إنّ الأوثان ما خلقت مع الله شيئا ، ولا رزقت شيئا (وَما لِلظَّالِمِينَ) : أي المشركين (مِنْ نَصِيرٍ) (٧١).

قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) : أي القرآن (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) : أي يكادون يقعون بهم ، أي : بأنبيائهم فيقتلونهم ، في تفسير الحسن. قال : وهو كقوله : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) [غافر : ٥] أي ليقتلوه. وقال مجاهد : يعني كفّار قريش.

قوله : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) : يعني بشرّ من قتل أنبيائهم (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٢) : أي النار.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) : يعني المشركين (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : يعني الأوثان (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) : أي أنّ الذباب يقع على تلك الأوثان ، فينقر أعينها ووجوهها ، فيسلبها ما أخذ من وجوهها وأعينها. وقال بعضهم : إنّهم كانوا يطلونها بخلوق. قال الله : (ضَعُفَ الطَّالِبُ) : يعني الوثن (وَالْمَطْلُوبُ) (٧٣) : أي الذباب.

__________________

(١) كذا في ب وع ، وفي سع ورقة ٤٣ و : «حتّى يهجم بك» ولست مطمئنّا للكلمة ، وإن كان المعنى واضحا.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٢٢٤.

١١٠

قوله : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : أي ما عظّموا الله حقّ عظمته بأن عبدوا الأوثان من دونه التي إن سلبها الذباب الضعيف شيئا لم تستطع أن تمتنع منه. (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٧٤) : أي بقوّته وعزّته ذلّ من دونه.

قوله : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) : أي يختار من الملائكة رسلا (١) (وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٧٥).

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : أي من أمر الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) : أي من أمر الدنيا [إذا كانا في الآخرة] (٢) (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) : (٧٦) أي يوم القيامة.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) : يعني الصلاة المكتوبة (٣) (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) : أي لا تعبدوا غيره (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) : أي في وجهتكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : (٧٧) : أي لكي تفلحوا.

قوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) : وهو مثل قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آ ل عمران : ١٠٢]. وهما منسوختان ؛ نسختهما الآية التي في التغابن : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦].

قوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) : أي هو اصطفاكم. ويقال : هو اختاركم لدينه ، وهو واحد.

قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) : أي من ضيق.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : خير دينكم أيسره (٤). وقال [قتادة] (٥) : إنّ كتاب الله قد

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ج ٢ ص ٢٣٠ : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) اصطفى منهم جبريل وميكائيل وملك الموت وأشباههم. ويصطفي من الناس الأنبياء».

(٢) زيادة من ز ورقة ٢٢٤ ، ومن سع ورقة ٤٣ و.

(٣) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٣١ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) : كان الناس يسجدون بلا ركوع ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع قبل السجود».

(٤) أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه البخاريّ في الأدب ، والطبرانيّ عن محجن بن الأدرع الأسلميّ. ورواه الطبرانيّ أيضا من طريق عمران بن حصين.

(٥) زيادة لا بدّ من إثباتها كما جاءت في سع ورقة ٤٣. حتّى لا يتوهّم القارئ أنّ ما يلي من تمام الحديث.

١١١

جاءكم بذلك وربّ الكعبة : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥].

ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده ما اجتمع أمران في الإسلام إلّا كان أحبّهما إلى الله أيسرهما (١).

ذكروا عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : ما عرض لرسول الله أمران إلّا أخذ بأيسرهما ما لم يكن إثما ، وكان أبعد الناس من المآثم.

قوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) : أي الله هو سمّاكم المسلمين (٢) (مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل هذا القرآن ، أي في الكتب الأولى وفي الذكر. (وَفِي هذا) : القرآن.

قوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أي بأنّه قد بلغ (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي على الأمم بأنّ الرسل قد بلّغت قومها.

ذكروا أنّ كعبا قال : إنّ الله أعطى هذه الأمّة ثلاثا لم يعطهنّ قبلهم إلّا نبيّا مرسلا ؛ كان يبعث النبيّ فيقول : أنت شاهدي على أمّتك ، وإنّ الله جعلكم شهداء على الناس. ويبعث النبيّ فيقول : ادعني أستجب لك. وقال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠]. ويبعث النبيّ فيقول : ليس عليك في الدين من حرج ، وقال الله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

قوله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) : إنّهما فريضتان واجبتان ؛ أمّا الصلاة فالصلوات الخمس يقيمونها على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها. وأمّا الزكاة فقد فسّرناها في أحاديث الزكاة على ما سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها (٣).

__________________

(١) أخرجه يحيى بن سلّام هكذا : «أبو أميّة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...». ولم أجده بهذا اللفظ فيما بين يديّ من المصادر.

(٢) هذا هو ما ذهب إليه جمهور المفسّرين. وقد ذهب آخرون إلى أنّ الضمير (هو) يعود على (إبراهيم) ونزع بقوله تعالى من سورة البقرة [آية : ١٢٨] : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ). وقد ردّ الطبريّ على هذا الرأي الأخير ، واحتجّ لما ذهب إليه الجمهور بحجّة قويّة. انظر تفسير الطبريّ ، ج ١٧ ص ٢٠٨.

(٣) لعلّه يشير إلى كتابه «الجامع» الذي هو كتاب في الحديث لم نعرف عنه إلّا عنوانه ، ولم يتحدّث عنه من ترجموا لابن سلّام ، ولعلّهم لم يطّلعوا عليه.

١١٢

قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) : أي بدين الله ، فهو اعتصامكم بالله في قول الحسن. وقال الكلبيّ : بتوحيد الله وبفرائضه ، وهو واحد.

قوله : (هُوَ مَوْلاكُمْ) : أي وليّكم (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨) : وعدهم النصر على أعدائهم من المشركين.

* * *

١١٣

تفسير سورة المؤمنون (١) وهي مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) : (١) أي قد سعد المؤمنون ، والسعداء أهل الجنّة.

ذكروا أنّ كعبا قال : [لم يخلق الله بيده إلّا ثلاثة ؛ خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الجنّة بيده] (٢) ثمّ قال لها : تكلّمي ، فقالت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ). وذكر بعضهم أنّ الله خلق الجنّة فجعل لبنة من ذهب ، ولبنة من فضّة ، وملاطها ـ يعني أرضها (٣) ـ مسكا. ثمّ جعل فيها ما جعل ، ثمّ نظر إليها ثمّ قال : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ، ثمّ أغلق بابها ، فليس يعلم ما فيها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، فالذي تجد من برد السحر وطيبه فهو ما يخرج من خلل الباب.

قوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (٢) : والخشوع هو الخوف الثابت في القلب. وذكر لنا أنّ أحدهم كان يرفع بصره إلى السماء فلمّا نزلت هذه الآية غضّوا أبصارهم ، فكان أحدهم ينظر إلى موضع سجوده.

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (٣) : واللغو هو الباطل ، ويقال : الكذب ، وهو واحد.

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (٤) : أي يؤدون الزكاة المفروضة.

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) : (٥) أي من الزنا (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ:) أي إن شاء تزوّج واحدة ، وإن شاء اثنتين ، وإن شاء ثلاثا ، وإن شاء أربعا ، ولا يحلّ له ما فوق ذلك.

قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) : أي يطأ بملك يمينه كم شاء. قال (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ

__________________

(١) في ب وع : «سورة قد أفلح» ، وفي سع وز : «سورة المؤمنين» وأثبت ما جاء في مصاحفنا المطبوعة على الرسم العثمانيّ.

(٢) زيادة من سع ورقة ٤٤ ظ.

(٣) هذا الشرح للملاط غير وارد في سع ، ويبدو أنّه من زيادات بعض النسّاخ. والصحيح أنّ الملاط هو الطين الذي يجعل بين اللبن ، أو يملط ، أي يطلى ، به الحائط.

١١٤

مَلُومِينَ) (٦) : أي في أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، لا لوم عليهم في ذلك ، أي لا إثم عليهم في ذلك.

قوله : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) : أي وراء أزواجه أو ما ملكت يمينه (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) (٧) : أي الزناة ، تعدّوا الحلال إلى الحرام.

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) (٨) : أي يؤدّون الأمانة ويوفون بالعهد.

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩) : أي يحافظون على الصلوات الخمس ، على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها.

قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) (١٠) : أي إنّه ليس من أحد إلّا وقد أعدّ الله له منزلا وأهلا في الجنّة ، فإن أطاع الله صار إلى ما أعدّ الله له ، وإن عصاه صرف ذلك المنزل عنه إلى غيره ، فأعطاه الله المؤمن مع ما أعدّ الله للمؤمنين ، فورث المؤمن تلك المنازل والأزواج ، وهو قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ).

قوله : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١) : والفردوس اسم من أسماء الجنّة ، في تفسير الحسن. قال بعضهم : وبلغنا أنّها بالروميّة (١).

ذكر بعضهم [عن أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (٢) قال : هي ربوة الجنّة وأوسطها وأفضلها (٣). وقال بعضهم : الفردوس جبل في الجنّة تتفجّر منه أنهار الجنّة.

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ج ٢ ص ٢٣١ : «وقوله (الفردوس) قال الكلبيّ : هو البستان بلغة الروم. قال الفرّاء : وهو عربيّ أيضا. العرب تسمّى البستان الفردوس». وانظر الجواليقي : المعرّب ص ٢٨٨ ـ ٢٩٩ ففيه تفصيل واف في أصل الكلمة ومعانيها.

(٢) زيادة لا بدّ منها ؛ لأنّ ما يلي حديث أورده ابن سلّام بسند كما جاء في سع ورقة ٤٤ ظ.

(٣) حديث صحيح أخرجه الطبرانيّ عن سمرة بلفظ : «الفردوس ربوة الجنّة وأوسطها وأفضلها». وأخرجه ابن جرير الطبريّ أيضا عن سمرة بن جندب. وشرح به حديث أنس بن مالك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للرّبيّع ابنة النضر : «يا أمّ حارثة ، إنّها جنان ، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى». انظر تفسير الطبري ، ج ١٦ ص ٣٨ ، وانظر صحيح البخاري ، كتاب الرقائق ، باب صفة الجنّة والنّار.

١١٥

قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١٢) : والسلالة : النطفة تسلّ من الرجل ، وكان بدء ذلك من طين. خلق الله آدم من طين ، ثمّ جعل نسله بعد من ماء مهين ، أي ماء ضعيف ، يعني النطفة.

قوله : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (١٣) : أي في الرحم.

قوله : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) : [يكون في بطن أمّه نطفة أربعين ليلة ، ثمّ يكون علقة أربعين ليلة ، ثمّ يكون مضغة أربعين ليلة] (١).

قال : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) : وبعضهم يقرأها (عظما) يعني جماعة العظام. (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) : وبعضهم يقرأها : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً). وهي مثل الأولى. قال : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) : قال بعضهم : أنشأ عليه الشعر. وقال الحسن : الروح. وقال بعضهم : ذكرا أو أنثى. وقال الكلبيّ : الروح ، وهو في بطن أمّه.

قال : (فَتَبارَكَ اللهُ) : هو من باب البركة كقوله : (فَتَعالَى اللهُ) [الأعراف : ١٩٠](أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) : (١٤) أي أنّ العباد قد يعملون ما يشبهون بخلق الله (٢) ، ولا يستطيعون أن ينفخوا فيه الروح.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله : من أظلم ممّن يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذبابا أو ذرّة أو بعوضة (٣). ذكروا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله (٤).

__________________

(١) زيادة من ز ورقة ٢٢٥ ، ومن سع ورقة ٤٥ و.

(٢) كذا في ب وع ، وفي ز ورقة ٢٢٥ وسع ورقة ٤٥ و : «إنّ العباد قد يخلقون ويشبهون بخلق الله ...».

(٣) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاري في كتاب اللباس ، باب نقض الصور ، وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة ، باب تحريم تصوير صورة الحيوان ... (رقم ٢١١١) كلاهما يرويه عن أبي هريرة. ولفظه عند مسلم : «قال الله عزوجل : ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي ، فليخلقوا ذرّة ، أو ليخلقوا حبّة ، أو ليخلقوا شعيرة».

(٤) أخرجه أحمد والشيخان والنسائيّ وغيرهم عن عائشة ، أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة ، باب تحريم تصوير صورة الحيوان ، (رقم ٢١٠٧) ولفظه : يا عائشة ، أشدّ الناس عذابا عند الله يوم القيامة الذين ـ

١١٦

ذكروا أنّ عمر بن الخطاب قال : وافقني ربّي ، أو وافقت ربّي في أربع : قلت : يا رسول الله ، لو اتّخذنا من مقام إبراهيم مصلّى ، فأنزل الله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥]. ولمّا نزلت هذه الآية : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) قلت : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده لقد ختمها الله بما قلت (١). [وقلت : يا رسول الله ، لو حجبت نساءك ، فإنّه يدخل عليهنّ الصالح وغيره ، فأنزل الله آية الحجاب. وكان بين نبيّ الله وبين نسائه شيء ، فقلت : لتنتهنّ أو ليبدلنّه الله أزواجا خيرا منكنّ ، فأنزل الله : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ)] [التحريم : ٥].

قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) : أي بعدما ينفخ فيه الروح (لَمَيِّتُونَ) (١٥) : أي إذا جاء أجلكم. قال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١٦).

قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) : أي سبع سماوات ، طبقة طبقة ، بعضها فوق بعض ، كقوله : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) (١٥) [نوح : ١٥] أي : طبقا طبقا ، بعضها فوق بعض. قوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) (١٧) : أي إذ ننزل عليهم ما يحييهم ويصلحهم من هذا المطر.

قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) [الفرقان : ٥٠]. ذكروا أنّ عليّا قال : إنّ هذا الرزق يتنزّل من السماء كقطر المطر إلى كلّ نفس بما كتب الله لها. وبلغنا عن ابن مسعود أنّه قال : كلّ النخل ينبت في مستنقع الماء الأوّل إلّا العجوة فإنّها من الجنّة.

قال : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) : قال الكلبيّ : يعني الأنهار والعيون والركيّ (٢) ، يعني الآبار. قال تعالى : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) : أي على أن نذهب بذلك الماء (لَقادِرُونَ.) (١٨) قوله : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) : أي فجعلنا لكم بذلك الماء (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ) : أي في

__________________

ـ يضاهون بخلق الله».

(١) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن صالح أبي الخليل أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده إنّها ختمت بالذي تكلّمت يا عمر» ، كما ورد في الدرّ المنثور ، ج ٥ ص ٦.

(٢) الركيّ ، جمع ركيّة ، وهي «البئر تحفر» كما في اللسان ، وتجمع أيضا على ركايا.

١١٧

تلك الجنّات (فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (١٩).

قوله : (وَشَجَرَةً) : أي وأنبتنا لكم بذلك الماء شجرة (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) : وهي الزيتونة. والطور : الجبل ، وسيناء : الحسن ، كقوله : (وَطُورِ سِينِينَ) (٢) [التين : ٢] الجبل الحسن. وبعضهم يقول : (سَيْناءَ) : المبارك ، أي الجبل المبارك (١) ، يعني جبل بيت المقدس.

قوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) : [قال مجاهد : تثمر بالدهن] (٢) (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) (٢٠) : أي هو دهن يدهن به ، وهو صبغ يصبغ به الآكلون. [أي : يأتدمون به] (٣). ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الزيت من شجرة مباركة فائتدموا به وادهنوا به (٤).

قوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) : أي لآية (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) : يعني اللبن. (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) : أي في ألبانها وظهورها ، وكلّ ما ينتفع به منها. قوله : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) : (٢١) يعني لحومها.

قوله : (وَعَلَيْها) : أي وعلى الإبل (وَعَلَى الْفُلْكِ) : أي السفن (تُحْمَلُونَ) (٢٢). وقد يقال : إنّها سفن البرّ. وقال في آية أخرى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (٤١) أي

__________________

(١) أورد ابن جرير الطبريّ في تفسيره ج ١٨ ص ١٤ هذين التأويلين لكلمة سيناء بأنّها الحسن والمبارك ، فلم يرتضهما ، وردّ على ذلك بما يلي : «والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنّ سيناء اسم أضيف إلى الطور ، يعرف به. كما قيل : جبلا طئّ ، فأضيفا إلى طئّ. ولو كان القول في ذلك كما قال من قال : معناه : جبل مبارك ، أو كما قال من قال : معناه : حسن ، لكان الطور منوّنا ، وكان قوله : (سَيْناءَ) من نعته ، على أن سيناء بمعنى مبارك وحسن غير معروف في كلام العرب ، فيجعل ذلك من نعت الجبل ، ولكنّ القول في ذلك إن شاء الله ، كما قال ابن عبّاس ، من أنّه جبل عرف بذلك ، وأنّه الجبل الذي نودي منه موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو مع ذلك مبارك ، لا أنّ معنى سيناء معنى مبارك».

(٢) زيادة من ز ورقة ٢٢٦ ، ومن تفسير مجاهد.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٢٢٦. وفي اللسان : «صبغ اللقمة يصبغها صبغا ، دهنها وغمسها ... وكل ما غمس فقد صبغ».

(٤) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأطعمة ، باب الزيت (رقم ٣٣١٩) «عن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتدموا بالزيت وادّهنوا به فإنّه من شجرة مباركة». وأخرجه الترمذيّ في كتاب الأطعمة ، باب ما جاء في أكل الزيت ، ولفظه : «كلوا الزيت وادّهنوا به فإنّه من شجرة مباركة».

١١٨

الموقر ، (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) (٤٢) [سورة يس : ٤١ ـ ٤٢] يعني الإبل. عدلت بالسفن. وقال في آية أخرى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) (١٢) [الزخرف : ١٢].

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) : يقوله بعضهم لبعض : ، (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) : أي بالرسالة ، وما له عليكم من فضل.

قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) : ولو أنزل ملائكة لامنّا بهم. (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) (٢٤) : أي أنّ رجلا ادّعى النبوّة.

(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) : أي جنون (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (٢٥) : قال بعضهم : حتّى يموت ، وقال بعضهم : حتّى يستبين جنونه (١).

(قالَ) : أي نوح : (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) (٢٦) : وقال في آية أخرى : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١٠) [القمر : ١٠].

قال : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها) : أي فاحمل فيها (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) : وقد فسّرنا ذلك في سورة هود (٢).

قوله : (وَأَهْلَكَ) : أي واحمل فيها أهلك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) : أي ابنه الذي غرق. والقول : الغضب. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي [ولا تراجعني في الذين ظلموا] (٣) (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٢٧).

قوله : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) : وكان معه امرأته ، وثلاثة بنين له : سام وحام ويافث ، ونساؤهم ، فجميع من كان في السفينة ثمانية. (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٨) : أي المشركين. وقال في آية أخرى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤١) [هود : ٤١]. قال بعضهم : قد بيّن الله لكم ما تقولون إذا

__________________

(١) كذا في ب وسع ورقة ٤٥ ظ. وفي ع : «حتّى يشتهر جنونه».

(٢) انظر ما سلف ج ٢ ، تفسير الآيات ٢٥ ـ ٤٩ من سورة هود.

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٢٢٦ ، ومن سع ، ورقة ٤٦ و.

١١٩

ركبتم في البرّ ، وما تقولون إذا ركبتم في البحر ؛ إذا ركبتم في البرّ قلتم : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) (١٤) [الزخرف : ١٣ ـ ١٤] وإذا ركبتم في البحر قلتم : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (٢٩). قال مجاهد : [يقول الربّ عزوجل] (١) لنوح عليه‌السلام حين نزل من السفينة. وقال بعضهم : سمعت الناس إذا نزلوا منزلا قالوا هذا القول.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي من أمر قوم نوح وغرقهم (لَآياتٍ) لمن بعدهم. قال : (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) (٣٠) : أي بالدين ، يعني ما أرسل به الرسل من عبادته ، وهو تفسير الحسن.

قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي من بعد الهالكين من قوم نوح. (قَرْناً آخَرِينَ) (٣١) : يعني عادا. (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) : يعني هودا (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٣٢) : أي الله ، أي : فاتّقوا الله.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا :) أي وسّعنا عليهم في الرّزق (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) : أي فيما يدعوكم إليه (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (٣٤) : أي لعجزة.

(أَيَعِدُكُمْ) يقوله بعضهم لبعض على الاستفهام (أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (٣٥) : أي مبعوثون ، أي : قد وعدكم ذلك ، تكذّبون بالبعث. (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) (٣٦) : [أي : تباعد البعث في أنفس القوم] (٢) أي : لا تبعثون ، يقوله بعضهم لبعض. (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) : أي نموت ونولد (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٣٧).

__________________

(١) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٤٣٠. وقد جاءت العبارة في ب وع مضطربة فأثبتّ صحّتها من سع ورقة ٤٥ ظ. وفيه : «قال : منزلا مباركا لنوح حين نزل من السفينة. قال يحيى : وسمعت الناس إذا نزلوا ...».

(٢) زيادة من سع ورقة ٤٦ و.

١٢٠