تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٤

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٠

١
٢

الجزء الرابع

ويبدأ بتفسير سورة ص

٣
٤

تفسير سورة ص وهي مكّيّة كلّها (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (ص) : قال بعضهم : يعني صادق ، كقوله : (كهيعص) (١) [مريم : ١] أي كاف ، هاد ، عالم ، صادق. (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١) : أي الذكر فيه ، والذكر : البيان.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) (٢) : وهذا قسم ، أي : (والقرءان ذي الذّكر بل الذين كفروا في عزّة وشقاق) أي في تعزّز وفراق للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به. وقال بعضهم : (وشقاق) أي : اختلاف.

قال : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي من قبل قومك يا محمّد (مِنْ قَرْنٍ) : أي من أمّة (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣) : أي فكذّبوا رسلهم فجاءهم العذاب ، فنادوا بالتوبة وبأن قالوا : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (١٤) [الأنبياء : ١٤] وفرّوا من قريتهم.

وهو كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (٨٤) قال الله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٤] أي : عذابنا ، وكقوله : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) أي مشركة (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) (١٢) أي يفرّون (لا تَرْكُضُوا) يقول : لا تفرّوا (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) (١٣) أي : من دنياكم (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (١٤) [الأنبياء : ١١ ـ ١٤].

قال : (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي : ليس حين فرار ، ولا حين تقبل التوبة [فيه] (٢).

__________________

(١) يبتدئ من هذه السورة الربع الأخير من تفسير القرآن الكريم المنسوب للشيخ هود بن محكّم الهواري. وأنا أحقّقه في هذه الأوراق الأولى من مخطوطة واحدة ، هي مخطوطة ع ، لأنّ مخطوطة ق لا تبتدئ في هذا الربع إلّا من قوله تعالى في سورة الزمر ، الآية ٥٠ : (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ). وأقابل هاتين المخطوطتين بمصوّرة مخطوطة ابن أبي زمنين ، وفيها مختصر تفسير ابن سلّام.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٢٩١.

٥

ذكروا عن أبي إسحاق الهمداني عن رجل من بني تميم قال : سألت ابن عبّاس عن قوله : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) قال : الحين ليس بنزو ولا فرار (١).

قال : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) : رجع الكلام إلى قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أخبر كيف أهلكهم. قال : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لينذر من النار ومن عذاب [الله في] (٢) الدنيا.

(وَقالَ الْكافِرُونَ) : أي الجاحدون (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) (٤) : يعنون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) : على الاستفهام منهم ، أي قد فعل حين دعاهم إلى عبادة الله وحده. (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥) : أي عجب ، وعجيب ، وعجاب ، كلّه واحد (٣).

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) : أي على عبادتها (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) (٦). وذلك أنّ رهطا من أشراف قريش مشوا إلى أبي طالب فقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا وسيّدنا في أنفسنا ، وقد رأيت ما فعلت هذه السّفّه ، يعنون المؤمنين ، وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فأرسل أبو طالب إلى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاءه ، فقال : هؤلاء قومك وذوو أسنانهم وأشرافهم يسألونك السّواء (٤) ، فلا تمل على قومك كلّ الميل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وماذا يسألونني؟ فقالوا له : ارفضنا من ذكرك ، وارفض آلهتنا وندعك وإلهك ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتعطونني أنتم كلمة واحدة تدين لكم بها العرب ، وتملكون بها العرب والعجم؟ فقال أبو جهل : لله أبوك ، نعم ، وعشر أمثالها. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا : لا إله إلّا الله (٥). فنفروا منها ،

__________________

(١) جاءت العبارة في ع هكذا غير واضحة : «الحين ليس نورا ولا فرار» ، وفي زاد المسير لابن الجوزي جاءت العبارة هكذا : «ليس حين يروه فرار» ، وفي كلتيهما خطأ وفساد. وأثبتّ ما جاء في تفسير القرطبيّ وفي تفسير الطبريّ : «ليس بحين نزو ولا فرار». ولست مطمئنّا للكلمة «نزو» وإن قيل : إنّ معناها : «نوع من العدو» ، ومن معانيها أيضا الوثب.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٢٩١.

(٣) وزاد الفرّاء في معاني القرآن ، ج ٢ ، ص ٣٩٩ : (عجّاب) وقال : «... كلّ نعت نعتّ به اسما ذكرا أو أنثى أتاك على فعال مشدّدا ومخفّفا فهو صواب».

(٤) في ع : «يسألونك السؤال» وهو خطأ ، صوابه ما أثبتّه : «السّواء» ، أي : العدل والنّصف.

(٥) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير ، ج ٢٣ ، ص ١٢٥ عن ابن عبّاس كما أخرجه الترمذيّ والبيهقيّ في ـ

٦

وقاموا وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ).

(ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) : تفسير الكلبيّ : النصرانيّة (١). وقال الحسن : يقولون ما كان عندنا من هذا من علم ، إنّ هذا لشيء خرج في زماننا هذا ، يعنون بالملّة الآخرة : في آخر زماننا. وقال مجاهد : (الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) [ملّة] (٢) قريش. (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (٧) : أي كذب اختلقه محمّد. (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) : يعنون القرآن ، وهو على الاستفهام ، (مِنْ بَيْنِنا) : أي لم ينزل عليه ، إنّما هو اختلاق اختلقه محمّد فافتعله.

قال الله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) : أي من القرآن الذي جئتهم به. (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (٨) : أي لم يأتهم عذابي بعد. كقوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) من الشرك (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) [الكهف : ٥٥] أي بالعذاب. وقد أخّر عذاب كفّار آخر هذه الأمّة الدائنين بدين أبي جهل وأصحابه إلى النفخة الأولى ، بها يكون هلاكهم. وقد أهلك أوائلهم أبا جهل وأصحابه بالسيف يوم بدر.

قال : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٩) : أي فيعطوا النبوّة من شاءوا ويمنعوها من شاءوا ، أي : ليس ذلك عندهم.

قال : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) : على الاستفهام ، أي : ليس لهم من ملكها وما بينهما شيء. قال : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) (١٠) : أي : في طريق السماء ، في تفسير مجاهد ، وبعضهم يقول : في أبواب السماء إن كانوا يقدرون على ذلك ، أي : لا يقدرون على ذلك (٣).

__________________

ـ الدلائل ، وانظر : الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ٢٩٥ ، والواحدي ، أسباب النزول ، ص ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(١) وهو قول نسب أيضا إلى قتادة ومجاهد كما في الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ٢٩٩.

(٢) زيادة من تفسير مجاهد ، ص ٥٤٧.

(٣) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٧٧ ـ ١٧٨ : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) تقول العرب للرجل الفاضل في الدين : قد ارتقى فلان في الأسباب ؛ والسبب الحبل أيضا ، والسبب أيضا ما تسبّبت له من رحم أو يد أو دين. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ سبب ونسب يوم القيامة منقطع إلّا سببي ونسبي». والمسلم إذا تقرّب إلى رجل ليس بينهما نسب قال : إنّ الإسلام أقوى سبب وأقرب نسب».

٧

قوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) : أي جند هنالك ، وهي كلمة عربيّة : (ما هنالك) ، [وما صلة زائدة] (١). (مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (١١) : أي تحازبوا على الله ورسوله يحاربون محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهزمهم يوم بدر. كقوله : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) [القمر : ٤٤ ـ ٤٥] أي : يوم بدر. [يخبر بأن محمّدا عليه‌السلام سيهزمهم يوم بدر] (٢). نزل هذا بمكّة قبل أن يهاجر النبيّ عليه‌السلام إلى المدينة.

قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) (١٢) : قال بعضهم : كان إذا غضب على أحد أوتد أربعة أوتاد على يديه ورجليه.

قال : (وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) : يعني قوم شعيب. والأيكة الغيضة. وقد فسّرنا أمرهم في سورة الشعراء (٣). (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) (١٣) : يعني به كفّار من ذكر ، تحزّبوا على أنبيائهم.

(إِنْ كُلٌّ) : يعني من أهلك ممّن مضى من الأمم السالفة (إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) (١٤) : يعني عقوبته إيّاهم بالعذاب.

قال : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) : يعني كفّار آخر هذه الأمّة (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) : يعني النفخة الأولى بها يكون هلاكهم (ما لَها مِنْ فَواقٍ) (١٥) : أي رجوع إلى الدنيا ، أي : ما لها من انقطاع ، أي : دون أن تكون. وقال مجاهد : ما لها من رجوع. وقال الحسن : من رجعة. وقال الكلبيّ : ما لها من نظرة ، أي : من تأخير (٤).

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦) : وذلك منهم استهزاء

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٢٩٢.

(٢) زيادة من ز ، ورقة ٢٩٢.

(٣) انظر ما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ١٧٦ وما بعدها من سورة الشعراء.

(٤) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٤٠٠ : «وقوله : (ما لَها مِنْ فَواقٍ) من راحة ولا إفاقة. وأصله من الإفاقة في الرضاع إذا ارتضعت البهم أمّها ثمّ تركتها حتّى تنزل شيئا من اللبن ، فتلك الإفاقة والفواق بغير همز. وجاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «العيادة قدر فواق ناقة». وقرأها الحسن وأهل المدينة وعاصم بن أبي النجود (فواق) بالفتح وهي لغة جيّدة عالية ...».

٨

وتكذيب ، لا يقرّون بيوم الحساب ، ولا بأنّ العذاب يأتيهم في الدنيا.

تفسير الحسن ومجاهد : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي : عجّل لنا عذابنا. وقال الحسن : هو قوله : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٩) [العنكبوت : ٢٩] ، وكقولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢) [الأنفال : ٣٢].

وتفسير الكلبيّ : قالوا ذلك حين ذكر الله في كتابه : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ... وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) [الحاقّة : ١٩ و ٢٥]. والقطّ : الصحيفة التي فيها الكتاب (١) ، أي عجّل لنا كتابنا الذي يقول محمّد حتّى نعلم أبيميننا نأخذ كتابنا أم بشمالنا ، أي : إنكارا لذلك واستهزاء.

قال الله : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) : أي ذا القوّة في أمر الله في تفسير بعضهم. وقال الحسن : ذا قوّة في العبادة. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١٧) : أي مسبّح ، في تفسير مجاهد. وقال الكلبيّ : راجع منيب ، أي : راجع تائب.

قال : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (١٨) : أي حين تشرق الشمس. ذكروا عن أيّوب بن صفوان أنّ ابن عبّاس دخل على أمّ هانئ ، فأخبرته أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها ، فصلّى في بيتها ثمان ركعات بعد ما ارتفع النهار. فخرج ابن عبّاس من عندها وهو يقول : لقد قرأت ما بين اللوحين فما عرفت صلاة الضحى إلّا الساعة : (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) وكنت أقول : أي صلاة صلاة الإشراق ، ثمّ قال : هذه صلاة الإشراق.

وذكروا عن زيد بن أرقم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مسجد قباء ، فرآهم يصلّون حين إشراق الشمس ، فقال : إن الأوّابين كانوا يصلّون إذا رمضت الفصال (٢). قال الحسن : كان والله قد سخّر مع داوود جميع ما خلق الله من الجبال يسبّحن معه ، وكان يفقه تسبيحها وتسمعه جميع جبال الدنيا. (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) : أي تحشر بالغداة والعشيّ يسبّحن معه. كقوله : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٧٩) [الأنبياء : ٧٩]. وقوله : (محشورة) أي : مجموعة

__________________

(١) كذا في ع وهو صحيح ، قال الفرّاء : «القطّ : الصحيفة المكتوبة» ، وهو واحد. يقال : كتب كتبا وكتابا وكتابة.

(٢) حديث صحيح أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب صلاة الأوّابين حين ترمض الفصال. (رقم ٧٤٨) ، وأخرجه البغويّ في شرح السنّة ، ج ٤ ص ٤٥ ، باب وقت صلاة الضحى بلفظ : صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال من الضحى.

٩

(كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (١٩) : أي مطيع.

قوله : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ) : أي أعطيناه (الْحِكْمَةَ) : أي النبوّة (وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠) : أي الفهم في القضاء وفصل الخطاب. قال الحسن : العدل في القضاء.

ذكر حميد الأعرج أنّ ابن عبّاس ، قال : (وفصل الخطاب) البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه.

ذكروا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المدّعى عليه أولى باليمين إذا لم تكن بيّنة (١).

ذكروا عن عطاء بن السايب عن أبي يحيى عن ابن عبّاس أنّ رجلين اختصما إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلف المدّعي البيّنة ، فلم تكن له بيّنة ، فاستحلف المدّعى عليه بالله الذي لا إله إلّا هو ما عليه حقّ. فنزل عليه جبريل عليه‌السلام وقال : يردّ على الرجل ماله وكفّارته شهادته ، أو قال : معرفته أن لا إله إلّا الله. وبعضهم يقول : فصل الخطاب : أمّا بعد.

ثمّ استأنف وقال : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) : أي خبر الخصم ، أي : إنّك لم تعلمه حتّى أعلمتك. (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢١) : أي المسجد. (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) : أي ولا تجر (وَاهْدِنا) : أي وأرشدنا (إِلى سَواءِ الصِّراطِ) (٢٢) : أي إلى قصد

__________________

(١) لم أجده بهذا اللفظ وبهذا السند. وأخرج الدارقطنيّ في كتاب الأقضية والأحكام بسند «عن عليّ رضي الله عنه قال : المدّعى عليه أولى باليمين ، فإن نكل أحلف صاحب الحقّ وأخذ». ولكنّه لم يرفعه. وقد ضعّف الحديث. وفي حديث آخر مرسل : «عن سالم بن غيلان التجيبي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من كانت له طلبة عند أحد فعليه البيّنة والمطلوب أولى باليمين ، فإن نكل حلف الطالب وأخذ». وروى الدارقطنيّ في الكتاب نفسه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المدّعي أولى بالبيّنة. والحديث الصحيح المحفوظ في الباب ما رواه أبو عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر. انظر مسند الربيع بن حبيب ، كتاب الأحكام (رقم ٥٩٢) وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية ، باب اليمين على المدّعى عليه عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى باليمين على المدّعى عليه. (رقم ١٧١١).

١٠

الحقّ. وقال بعضهم : (إِلى سَواءِ الصِّراطِ) ، أي : إلى عدل القضاء.

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) : أي امرأة (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) : [أي انزل عنها لي وضمّها إليّ] (١) (وَعَزَّنِي) : أي وغلبني وقهرني.

وهي تقرأ على وجه آخر : (وعازني) (فِي الْخِطابِ) (٢٣) : وتفسير ذلك بعد هذا الموضع. (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) : أي ابتليناه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً) : والركوع هاهنا هو السجود (وَأَنابَ) (٢٤) : أي وأقبل إلى الله بالتوبة والدعاء.

وتفسير الحسن أنّ داوود جمع عبّاد بني إسرائيل فقال : أيّكم كان يمتنع من الشيطان يوما لو وكله الله إلى نفسه؟ فقالوا : لا أحد إلّا أنبياء الله. قال : فكأنّه خطر في الوهم شيء.

قال : فبينما هو في المحراب في يوم صلاته ، والحرس حوله والجنود ، فبينما هو يصلّي ، إذا هو بطير حسن قد وقع في شرفة من شرفات المحراب. قال بعضهم : حمامة من ذهب ، وبعضهم يقول : طير جؤجؤه من ذهب ، وجناحاه ديباج ، ورأسه ياقوتة حمراء ، فأعجبه. وكان له بنيّ يحبّه. فلمّا أعجبه حسنه وقع في نفسه أن يأخذه فيعطيه ابنه.

قال الحسن : فانصرف إليه فجعل يطير من شرفة إلى شرفة ولا يؤيسه (٢) من نفسه حتّى ظهر فوق المحراب. وخلف المحراب حائط (٣) تغتسل فيه النساء الحيّض إذا طهرن ، لا يشرف على ذلك الحائط إلّا من صعد على المحراب ، والمحراب لا يصعده أحد من الناس.

فصعد داوود خلف ذلك الطير ففاجأته امرأة جاره ، لم يعرفها ، تغتسل. فرآها فجأة ، ثمّ غض بصره عنها ، فأعجبته. فأتى بابها فسأل عنها وعن زوجها ؛ فقالوا : إنّ زوجها في أجناد

__________________

(١) زيادة من ز ، ورقة ٢٩٣.

(٢) وردت الكلمة غير واضحة في ع وز ، فأثبتّ صحّتها من نهاية الأرب للنويري ، ج ١٤ ص ٦١ ـ ٦٢ حيث وردت هكذا : «من غير أن تؤيسه من نفسها» ، و «لم تؤيسه من نفسها». والضمير في كلتا العبارتين راجع إلى الحمامة.

(٣) من معاني الحائط : البستان من النخيل إذا كان محاطا بالحائط ، وهو الجدار ، وجمعه حوائط.

١١

داوود. فلم يلبث إلّا قليلا حتّى بعثه عامله بريدا إلى داوود. وأتى داوود بكتبه. ثمّ انطلق إلى أهله ، فأخبر أنّ نبيّ الله داوود أتى إلى بابه فسأل عنه وعن أهله. فلم يصل الرجل إلى أهله حتّى رجع إلى داوود ، مخافة أن يكون حدث في أهله من الله أمر. فأتى داوود وقد فرغ من كتبه ، وكتب إلى عامل ذلك الجند أن يجعله على مقدّمة القوم. فأراد أن يقتل الرجل شهيدا ويتزوّج امرأته حلالا. إلّا أنّ النية كانت مدخولة. فجعله على مقدّمة القوم فقتل الرجل شهيدا.

قال : فبينما داوود في محرابه والحرس حوله إذ تسوّر عليه المحراب ملكان في صورة آدميّين ففزع ، فقالا : (لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا) أي : وأرشدنا (إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي : إلى قصد الطريق. قال : قصّا قضيّتكما. فقال أحدهما : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي : ضمّها إليّ (وعزّني في الخطاب) أي : وقهرني في الخصومة (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ..). إلى قوله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي وعلم داوود أنّما ابتليناه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً) أي ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلّا للصلاة المكتوبة يقيمها ، أو لحاجة لا بدّ منها ، أو لطعام يتبلّغ به. فأتاه ملك من عند الله فقال : يا داوود ، ارفع رأسك فقد غفر الله لك. فعلم أنّ الله قد غفر له. ثمّ أراد أن يعرف كيف غفر الله مثل ذلك الذنب ، فقال : يا ربّ ، كيف تغفر لي وقد قتلته ، يعني بالنية. فقال له ربّه : أستوهبه نفسه فيهبها لي فأغفرها لك. فقال : أي ربّ ، قد علمت أنّك قد غفرت لي.

قال الله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) : أي لقربى في المنزلة (وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥) : أي حسن مرجع.

قال الكلبيّ : إنّ داوود قال : ربّ اتّخذت إبراهيم خليلا ، وكلّمت موسى تكليما ، فوددت أنّك أعطيتني من ذلك ما أعطيتهم. قال الله : إنّي ابتليتهما بما لم أبتلك به. قال : فإن شئت أبتليك بما ابتليتهما وأعطيك مثل ما أعطيتهما. قال : ربّ ، نعم. قال : اعمل عملك حتّى يتبيّن بلاؤك. فمكث ما شاء الله بذلك ؛ يصوم النهار ويقوم الليل. فكان على ذلك.

فبينما هو في المحراب ذات يوم ، والزبور بين يديه ، إذ جاء طائر فوقع قريبا منه. فتناوله داوود ، فطار إلى الكوى ، فقام ليأخذه ، قال بعضهم : فوقع في مضجعه فقام ليأخذه ، فوقع الطير إلى البستان ، فأشرف داوود فنظر ، فإذا هو بامرأة تغتسل في البستان. فعجب من حسنها. فأبصرت

١٢

ظلّه فنقضت شعرها فغطّاها. فزاده ذلك عجبا بها. ثمّ أرسل غلاما له فقال : اتّبع هذه المرأة فاعلم من هي ، أو ابنة من هي ، وهل لها زوج. فاتّبعها الغلام حتّى عرفها فرجع فقال : هي ابنة فلان ، وزوجها فلان ، وكان يومئذ مع ابن أخت داوود في بعث. فكتب داوود إلى ابن أخته : أن ابعث فلانا [واجعله بين يدي التابوت] (١) فلا يرجع حتّى يفتح المدينة أو يقتل. فبعثه فقتل. فلمّا انقضت عدّة المرأة أرسل إليها فتزوّجها ، وهي أمّ سليمان بن داوود.

فلمّا علم الله ما وقع في عبده (٢) أحبّ أن يستنقذه ، فأرسل إليه ملكين ، فأتياه في المحراب ، والحرس حول المحراب ، وهم ثلاثة وثلاثون ألفا. فرأى داوود الرجلين قد تسوّروا المحراب ، ففزع منهما وقال : لقد ضعف سلطاني حتّى إنّ الناس تسوّروا محرابي. فقال أحدهما : (لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ ..). إلى قوله : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ). تفسير هذا المقرإ عند الكلبيّ : إن دعا دعوة يكون أكثر نداء منّي ، وإن بطش بطشه يكون أشدّ بطشا منّي. فقال له داوود : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ..). إلى : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ). فنظر أحدهما لصاحبه فضحكا ، وعلما أنّ داوود لم يفطن ، فرجعا من حيث أقبلا.

قال الله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ..). إلى آخر الآية. فسجد داوود أربعين يوما وأربعين ليلة لا يأكل ولا يشرب ، ولا يرفع رأسه ، ولا يقوم ، ولا يفتر من الدعاء. فتاب الله عليه. قال الله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ). وقد فسّرناه قبل هذا الموضع (٣).

__________________

(١) وردت الجملة مضطربة فاسدة في ع ، فصحّحتها بهذه الزيادة من نهاية الأرب للنويري ، ج ١٤ ص ٦١.

(٢) وردت العبارة في ع هكذا : «فلمّا علم ذلك ما وقع في عبده» ، وهي عبارة فاسدة صحّحتها قدر الإمكان ، ولست مطمئنّا إليها ، فعلم الله تعالى قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء.

(٣) ما ذكره القصّاص وأورده بعض المفسّرين في كتبهم كالثعلبيّ ، ومؤلّفنا هذا أحيانا من غير تنبيه على فساده ، إنّما هو من قبيل الإسرائيليّات ، وننزّه مقام الأنبياء أن ينسب إليهم مثل هذا. وقد بيّن المحقّقون من المفسّرين كذب هذه القصص ودحضوا أباطيلها بحجج دامغة لا تبقي مجالا للشكّ في أنّ هذه القصص من وضع الكائدين للإسلام ، ورواية الساذجين من المفسّرين. وواجبنا أن نقف عند حدود النصّ القرآنيّ لا نتعدّاه ، والسنّة الصحيحة التي ثبتت عن الصادق الأمين ، لا نزيد عليها ، في مثل هذه المواضيع. أمّا تفاصيلها فنكل الأمر فيها إلى الله سبحانه وتعالى. انظر مثلا : الزمخشري ، الكشّاف ، ج ٤ ص ٨١ ، والفخر ـ

١٣

قوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : [يعني فيستزلّك الهوى عن طاعة الله في الحكم ، وذلك من غير كفر] (١) (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦) : أي أعرضوا عن يوم الحساب ، لم يؤمنوا به.

قوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) : أي ما خلقناهما إلّا للبعث والحساب والجنّة والنار. وذلك أنّ المشركين قالوا : إنّ الله خلق هذه الأشياء لغير بعث ، كقوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (٢٩) [الأنعام : ٢٩] فقال الله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١١٥) [المؤمنون : ١١٥].

قال الله : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي أنّهم لا يبعثون ، وأنّ الله خلق هذه الأشياء باطلا.

قال : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨) : أي كالمشركين في الآخرة. أي : لا نفعل.

قوله : (كِتابٌ) : أي هذا كتاب ، يعني القرآن (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩) : أي أولو العقول ، وهم المؤمنون.

قوله : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٣٠) : والأوّاب : المسبّح (٢)

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) (٣١) : يعني الخيل [السراع] (٣). والصّافن في تفسير مجاهد : الفرس حين يرفع إحدى رجليه حتّى تكون على طرف الحافر (٤) ، أى بسنبكه.

__________________

ـ الرازي ، التفسير الكبير ، ج ٢٦ ص ١٨٩ ، ففيهما وفي غيرهما ما يكفي للردّ على هذه المفتريات من الإسرائيليّات.

(١) زيادة من ز ، ورقة ٢٩٣.

(٢) كذا في ع ، والصواب ما قاله أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ١٧٩ : «الأوّاب الرّجّاع ، وهو التّوّاب ، مخرجها من آب إلى أهله ، أي : رجع ...».

(٣) زيادة من ز ، ورقة ٢٩٣.

(٤) نسب هذا الشرح اللغويّ إلى الحسن في ع ، والصحيح أنّه لمجاهد كما جاء في ز ، وفي تفسير مجاهد ، ـ

١٤

(الْجِيادُ) : الواحد منها جواد ، وجماعتها جياد. وكان ابن مسعود يقرأها : صوافن ، أي : معقولة يدها اليمنى قائمة على ثلاث قوائم ، وهو قوله : صوافن. قال الحسن : عرضت على سليمان فجعلت تجري بين يديه فلا يستبين منها قليلا ولا كثيرا من سرعتها ، وجعل يقول : اللهمّ اغضض بصري إليّ ، وجعل يقول : ردّوها عليّ ، أي : ليستبين منها شيئا (١).

قوله : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) : أي حبّ المال ، يعني الخيل ، وهي في قراءة عبد الله بن مسعود : (حبّ الخيل) (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ) : أي غابت ، يعني الشمس (بِالْحِجابِ) (٣٢) ففاتته صلاة العصر. ذكروا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة الوسطى فقال : هي صلاة العصر(٢).

ذكروا عن عبيدة السلمانيّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم الأحزاب : ما لهم ، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا ، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتّى غابت الشمس (٣). قال الحسن : فقال سليمان ذلك. قال : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (٣٣) : فضرب أعناقها وعراقيبها ، وإنّما هو شيء قبله عن الله (٤). قال بعضهم : فذهبت ولم يبق من أصلها شيء. وقال بعضهم : مسح أعناقها ووجوهها بثوبه ، وقالوا : هو أعرف بالله من أن يضرب أعناقها وعراقيبها.

__________________

ـ ص ٥٤٩.

(١) كذا وردت هاتان الجملتان في ع ، ويبدو فيهما تكرار واضطراب. وفي ع تقديم وتأخير في تفسير بعض الآي هنا جعلت كلّ شيء في مكانه حسبما جاءت في المصحف بدون حذف.

(٢) انظر ما سلف في هذا التفسير ، ج ١ ، تفسير الآية ٢٣٨ من سورة البقرة.

(٣) حديث صحيح متّفق عليه ؛ أخرجه البخاريّ في كتاب التفسير عن عبيدة عن عليّ ، باختلاف يسير في اللفظ. وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، (رقم ٦٢٧) عن عليّ ، وعن عبد الله بن مسعود (رقم ٦٢٨) بلفظ : «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا». وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب في وقت صلاة العصر (رقم ٤٠٩) عن عليّ.

(٤) هذا هو القول الراجح في تفسير مسح السوق والأعناق في الآية. وقد ورد لفظ مسح بمعنى قطع وضرب في الشعر. انظر : مجاز أبي عبيدة ، ج ٢ ص ١٨٣ ، وانظر : اللسان (مسح).

١٥

قال بعضهم : كانت ألف فرس فضرب أعناق تسعمائة وعراقيبها فترك مائة. فالخيل اليوم من نسولها. روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (١).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) : أي ابتلينا سليمان (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (٣٤) : يعني الشيطان الذي خلفه في ملكه تلك الأربعين ليلة. قال بعضهم : كان اسمه صخرا. وقال بعضهم : كان اسمه آصف ، اسم وافق اسم الذي عنده علم من الكتاب ، كان يحسن الاسم الأكبر.

وتفسير قوله (جَسَداً) عند الحسن أنّ الشيطان لما أخذ خاتم سليمان صعد على كرسيّه ، وهو سرير المملكة لا يأكل ولا يشرب ، ولا يأمر ولا ينهى. وهو قول الله (جَسَداً) كقول الرجل للرجل : ما أنت إلّا جسد. وأذهب الله ذلك من أذهان الناس ، أي أصابتهم غفلة ، فلا يرون إلّا أنّ سليمان في مكانه ، يرون أنّه يصلّي بهم ، ويجمع ويقضي بينهم ، ولا يرى الناس إلّا أنّه على منزلته الأولى فيما بينه وبينهم. فأذهب الله ذلك من أذهانهم كما أذهب من أذهانهم موته سنة ، وهو متّكئ على عصاه ، لا يرون إلّا أنّه يصلّي بهم ويجهّز عذابهم (٢) ويحكم بينهم. وهي في قراءة ابن مسعود : ولقد كانوا يعملون له حولا. قال الكلبيّ : إنّ سليمان أصاب ذنبا فأراد الله أن يجعل عقوبته في الدنيا. قال الحسن : كان قارب بعض نسائه في المحيض. قال الكلبيّ : كانت له امرأة من أكرم نسائه عليه وأحبّهنّ إليه ، فقالت : إنّ بين أبي وبين رجل خصومة ، فزيّنت حجّة أبيها. فلمّا جاءا يختصمان جعل يحبّ أن تكون الحجّة لختنه (٣). فابتلاه الله بما كان من أمر الشيطان الذي خلفه ، وذهب ملك سليمان.

__________________

(١) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب الجهاد ، باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، عن عبد الله بن عمر وعن عروة بن أبي الجعد. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير ، (رقم ١٨٧١) باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، و (رقم ١٨٧٢) عن جرير بن عبد الله. وأخرجه مالك في الموطّأ في كتاب الجهاد ، ما جاء في الخيل والمسابقة بينها والنفقة في الغزو عن عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الجهاد ، باب ارتباط الخيل في سبيل الله عن عروة البارقي (رقم ٢٧٨٦) وعن عبد الله بن عمر (رقم ٢٧٨٧) وعن أبي هريرة من حديث أطول (رقم ٢٧٨٨).

(٢) كذا وردت هذه الجملة في ع : «ويجهز عذابهم» ولست مطمئنّا إليها.

(٣) وردت هذه الجمل من قول الكلبيّ فاسدة في ع ، فأثبتّ تصحيحها من ز ورقة ٢٩٤.

١٦

وذلك أنّه كان إذا أراد أن يدخل الخلاء دفع خاتمه إلى امرأة من نسائه كان يثق بها ، فدفعه إليها يوما ثمّ دخل الخلاء. فجاءها ذلك الشيطان في صورة سليمان ، فأخذ الخاتم منها. فلمّا خرج سليمان من الخلاء طلب الخاتم منها فقالت : قد أعطيتكه. فقال : أنشدك بالله أن تخونيني. وذهب الخبيث فقعد على كرسيّ سليمان ، وألقى عليه شبهه وهيئته. فخرج سليمان فإذا هو بالشيطان قاعد على كرسيّه. فذهب في الأرض وذهب ملكه. وجعل يستطعم إذا أصابه الجهد ويقول : أنا سليمان بن داوود ، فيكذّبونه ويستخفّون به ويطردونه ، حتّى كاد أن يموت من الجوع.

وقال مجاهد : كان يقول : لو عرفتموني لأطعمتموني ، أنا سليمان ، ويكذّبونه.

قال الكلبيّ : فلمّا انقضت المدّة ، ونزلت الرحمة عليه من الله ، ألقى الله في أنفاس الناس استنكار الشيطان. فمشوا إلى آصف ، أحد الثلاثة خزّان بيت المقدس ، فقالوا : يا آصف ، إنّا أنكرنا قضاء الملك وعمله ، فلا ندري أنكرت مثل الذي أنكرنا أم لا؟ قال : نعم ، ولكن سوف أدخل على نسائه ، فإن كنّ أنكرن مثل الذي أنكرنا فذلك أمر عامّ في الناس ، فاصبروا حتّى يكشف الله عنكم ، فإن لم ينكرن منه مثل الذي أنكرنا فهو أمر خصصنا به ، فادعوا الله لملككم بالصلاح. فانطلق آصف فدخل على نساء سليمان ، فسألهنّ عنه ، فقلن : إن كان هذا سليمان فقد هلكنا وهلكتم ، وقال مجاهد : فأنكرته أمّ سليمان.

قال الكلبيّ : فخرج آصف إلى الناس فأخبرهم ، فدعوا الله ربّهم أن يكشف عنهم. فلمّا رأى الشيطان الذي فيه الناس من الغفلة كتبوا سحرا كثيرا على لسان آصف ، ثمّ دفنوه في مصلّى سليمان وبيت خزائنه وتحت كرسيّه ، ثمّ أضربوا عنه. وفشا الاستنكار من الناس للشيطان ، وانقضت أيّامه ، ونزلت الرحمة من الله لسليمان. فعمد الشيطان إلى الخاتم فألقاه في البحر ؛ فأخذه حوت من حيتان البحر.

وكان سليمان يؤاجر نفسه من أصحاب السفن بنقل السمك من السفن إلى البرّ على سمكتين كلّ يوم. فأخذ في حقّه يوما سمكتين ، فباع إحداهما برغيفين ؛ وأمّا الأخرى فشقّ بطنها وجعل يغسلها ، فإذا هو بالخاتم ، فأخذه ، فالتفت إليه الملّاحون فعرفوه ، فأقبلوا إليه ، فسجدوا له. وكذلك تحيّة من كان قبلكم ، كانت تحيّتهم السجود ، وجعل الله تحيّة هذه الأمّة السّلام ، وهي تحيّة أهل الجنّة.

١٧

قال الكلبيّ : فقال سليمان : فما آخذكم الآن على السجود ، ولا ألومكم على ما تفعلون ؛ وذلك الفعل هو أنّه كان إذا أصابه الجوع استطعم فقال : أنا سليمان بن داوود ، لو عرفتموني لأطعمتموني ، أنا سليمان ، فيكذّبونه ويستخفّون به.

وقال مجاهد : إنّ سليمان قال لآصف ، الشيطان الذي خلفه ، وكان يقول : كان اسمه آصف ، كيف تفتنون الناس؟ قال : أرني خاتمك أخبرك. فلمّا أعطاه خاتمه نبذه في البحر ، فساح سليمان وذهب ملكه ، وقعد الشيطان على كرسيّه ، ومنع أن يقرب نساء سليمان.

قال الكلبيّ : فأقبل سليمان إلى ملكه فعرفه الناس واستبشروا به ، وأخبرهم أنّه إنّما فعله به الشيطان ، فاستغفر سليمان ربّه (١).

قوله : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥). فسخّر الله له الريح والشياطين ، وسخّر له الشيطان الذي فعل به الفعل ، واسم الشيطان صخر. فأخذه سليمان فجعله في تخت من رخام ، ثمّ أطبق عليه ، وسدّ عليه بالنحاس ، ثمّ ألقاه في جوف البحر (٢). فمكث سليمان في ملكه راضيا مطمئنّا حتّى قبضه الله إليه.

قوله : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ، فزاده الله ملكا إلى ملكه الذي ورثه من داوود ، فسخّر له الريح والشياطين. قال الله : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٣٨).

ذكروا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بينا أنا البارحة في مصلّاي إذ عرض عليّ الشيطان ، فأخذته بحلقه فخنقته ، حتّى إنّي لأجد برد لسانه على ظهر كفي ، ولو لا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا تنظرون إليه (٣).

__________________

(١) نفس ما قلناه فيما روى من الإسرائيليّات حول النبيّ داوود عليه‌السلام نقوله حول ما ورد منها في قصّة سليمان عليه وعلى نبيّنا السّلام ، انظر ما سلف قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٢٥ من هذه السورة (التعليق).

(٢) كذا في ع ، وفي ز ورقة ٢٩٤ : «في عرض البحر».

(٣) حديث متّفق عليه ، أخرجه البخاريّ في كتاب الصلاة ، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد ، وفي كتاب ـ

١٨

قوله : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) ذكروا عن الحسن قال : الرخاء التي ليست بالعاصف التي تؤذيه ، ولا بالبطيئة التي تقصر به عن حاجته ، رخاء بين ذلك. قوله : (حَيْثُ أَصابَ) أي : حيث أراد ، وهي بلسان هجر. وهو تفسير مجاهد. غير أنّه قال : حيث شاء. وتفسير الحسن : أنّ سليمان إذا أراد أن يركب جاءت الريح فوضع سرير مملكته عليها ، ووضع الكراسي والمجالس على سريره ، وجلس وجوه أصحابه على منازلهم في الدين عنده من الجنّ والإنس ، والجنّ يومئذ ظاهرة للإنس ، رجال أمثال الإنس إلّا أنّهم أدم ، يحجّون ويصلّون جميعا ويعتمرون جميعا ، والطيور ترفرف على رأسه ورءوسهم ، والشياطين حرسة لا يتركون أحدا يتقدّم بين يديه ، وهو قوله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (١٧) [النمل : ١٧] على كلّ صنف منهم وزعة يردّ أوّلهم على آخرهم.

قوله : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أي : يغوصون في البحر ويستخرجون له اللؤلؤ. (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي : في السلاسل ، ولم يكن يسخّر منهم ويستعمل في هذه الأشياء ولا يصفّد في السلاسل إلّا الكفّار منهم ، فإذا تابوا وآمنوا حلّهم من تلك الأصفاد. هذا تفسير الحسن.

قوله : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٩) : [تفسير بعضهم : (فَامْنُنْ) أي : فأعط من شئت أو أمسك عمّن شئت] (١) (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : لا حساب عليك في ذلك. وتفسير مجاهد : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : بغير حرج.

قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) : أي لقربة في المنزلة. (وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠) : أي وحسن مرجع ، أي : الجنّة.

قوله (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (٤١) أي ببلاء وشرّ. قال بعضهم : النصب : الضرّ في الجسد ، والعذاب : ذهاب ماله. وتفسير الحسن

__________________

ـ التفسير ، سورة ص ، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوّذ منه ، وجواز العمل القليل في الصلاة ، عن أبي هريرة (رقم ٥٤١) وعن أبي الدرداء (رقم ٥٤٢). وانظر : السيوطي ، الدر المنثور ، ج ٥ ص ٣١٣.

(١) زيادة من ز ، ورقة ٢٩٤.

١٩

بنصب وعذاب في جسده ؛ وقد فسّرنا قصّته وقصّة امرأته في سورة الأنبياء وكيف ذهب ماله (١).

فأوحى الله إليه أن (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) (٤٢) : (٢) فركض برجله ركضة وهو لا يستطيع القيام ، فإذا عين فاغتسل منها فأذهب الله ظاهر دائه ، ثمّ مشى على رجليه أربعين ذراعا ، ثمّ قيل له : اركض برجلك أيضا ، فركض ركضة أخرى فإذا عين فشرب منها فأذهب الله عنه باطن دائه.

وقال الكلبيّ : وكساه الله ثيابا جديدة حسانا. وجلس على شاطئ نهر ، فجاءت امرأته بطعام قد أصابته ، فنظرت فإذا الغار ليس فيه أحد ؛ فلم تشكّ أنّ السبع قد أكله. فجعلت تستحيي من الرجل وهي ما تعرفه ، فقالت : يا عبد الله ، أرأيت الذي كان في هذا الغار أين هو؟ قال : أنا هو. قالت : يا عبد الله ، لا تسخر منّي ، فقد كان أمره بخير. فقال : أنا صاحبك ، ولم تصدّقه.

فقال : إن لم تصدّقيني فاذهبي إلى بيتك ذلك ، فإنّ الله قد أقامه لك ، وردّ عليك ولدك ، وقد كانوا ثلاثة عشر ، وزاد الله له ثلاثة عشر أخرى ، وأخرج له حيوانه كلّها ، وزاده مثلها معها ، حتّى صار ملك دمشق بعد.

قال الحسن : فردّ الله عليه أهله وولده وأمواله من البقر والغنم والحيوان وكلّ شيء ملكه بعينه ، ثمّ أبقاه الله فيها حتّى وهب له من نسولها أمثالها. وهو قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) فوفّاهم آجالهم. قال بعضهم : مثل السبعين الذين كانوا مع موسى فقال لهم الله : موتوا ثمّ أحياهم ومثل (الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [البقرة : ٢٤٣] فاستوفوا بقيّة آجالهم. وقال الحسن : إنّ الله أحيى أولاد أيّوب بأعيانهم ، وإنّ الله أبقاه فيهم حتّى أعطاه الله من نسولهم. وإنّ إبليس يأتيه يومئذ عيانا ، قال : يا أيّوب ، اذبح لي سخلة من غنمك. قال : لا ، ولا كفّا من تراب.

ذكروا عن أبي عثمان النهديّ قال : سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : لا يبلغ العبد الكفر بالله والإشراك به حتّى يصلّي لغير الله ، أو يدعو غير الله ، أو يذبح لغير الله.

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ٣ ، تفسير الآية ٨٣ من سورة الأنبياء.

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ج ٢ ص ١٨٥ : (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ) : وضوء غسول ، وهو ما اغتسلت به من الماء (وَشَرابٌ) أي : وتشرب منه. والموضع الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلا».

٢٠