تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

دون الله. فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ). فعيسى وعزير ممّن سبقت لهم الحسنى ، وما عبدوا من الحجارة والخشب والجنّ وعبادة بعضهم بعضا وكلّ ما عبدوا حصب جهنّم. ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : الشمس والقمر ثوران عقيران في النار (١).

وقال بعضهم : ألستم تقرأون : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال : أظنّهما يمثلان لمن عبدهما في النار ، يوبّخون بذلك.

وفي كتاب الله عزوجل : إنّ الشمس والقمر يسجدان لله ، وهو قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [الحج : ١٨].

ذكروا عن عبد الله بن عمرو قال : إنّ الشمس تطلع من حيث يطلع الفجر ، وتغرب من حيث يغرب الفجر. فإذا أرادت أن تطلع تقاعست حتّى تضرب بالعمد ، وتقول : يا ربّ إنّي إذا طلعت عبدت دونك ، فتطلع على ولد آدم كلّهم ، فتجري إلى المغرب ، فتسلّم ، ويردّ عليها ، وتسجد فينظر إليها ، ثمّ تستأذن فيؤذن لها حتّى تأتي بالمشرق ، والقمر كذلك ، حتّى يأتي عليها يوم تغرب فيه ، فتسلّم فلا يردّ عليها ، فتسجد فلا ينظر إليها ، ثمّ تستأذن فلا يؤذن لها. فتقول : يا ربّ إنّ المشرق بعيد ولا أبلغه إلّا بجهد ، فتحبس حتّى يأتي القمر ، فيسلّم فلا يردّ عليه ، فيسجد فلا ينظر إليه ، ويستأذن فلا يؤذن له ، ثمّ يقال لهما : ارجعا من حيث جئتما ، فيطلعان من المغرب كالبعيرين المقرونين ، وهو قوله عزوجل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي بالموت (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي : بأمره (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨] وهو طلوع الشمس من المغرب.

قوله عزوجل : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) : يعني جهنّم ، أي : ما دخلوها ،

__________________

(١) في ب : «نوران عفيران» وفيه تصحيف في الكلمتين ، والصواب ما أثبتّه : «ثوران عقيران». أي : معقوران ، وأصل العقر قطع قوائم الفرس أو البعير ، ثمّ اتّسع المعنى فاستعمل للنحر والقتل والإهلاك. وقد أورد صاحب اللسان هذا الحديث من حديث كعب. والحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده عن أنس. وقد ضعّف الحديث لوجود يزيد الرقاشيّ في سنده. وأخرجه البخاريّ عن أبي هريرة في كتاب بدء الخلق ، باب صفة الشمس والقمر بلفظ : «الشمس والقمر مكوّران يوم القيامة». وأخرجه الطحاويّ في مشكل الآثار بلفظ : «الشمس والقمر ثوران مكوّران في النار يوم القيامة».

٨١

أي لامتنعوا بآلهتهم. قال عزوجل : (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) (٩٩) : أي العابدون والمعبودون.

قوله عزوجل : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) : قال الحسن : الزفير : اللهب (١). ترفعهم بلهبها حتّى إذا كانوا بأعلاها ضربوا بمقامع من حديد فهووا إلى أسفلها سبعين خريفا. قال بعضهم : إنّ أهل النار يدعون مالكا فيذرهم مقدار أربعين عاما لا يجيبهم ، ثمّ يقول : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧]. ثمّ يدعون ربّهم فيذرهم مقدار عمر الدنيا مرّتين ثمّ يجيبهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٨] قال : فما نبسوا بعدها بكلمة ، ولا كان إلّا الزفير والشهيق في نار جهنّم ، فشبّه أصواتهم بأصوات الحمير أوّله زفير وآخره شهيق.

قوله عزوجل : (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠). ذكروا عن عبد الله بن مسعود قال : إنّ أهل النار خلود ، جعلوا في توابيت من نار ، ثمّ ستر عليها بمسامير من نار ، ثمّ جعلت التوابيت في توابيت أخرى ، تلك التوابيت في توابيت أخرى ، فلا يرون أنّ أحدا يعذّب في النار غيرهم ، ثمّ تلا هذه الآية : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ). قال الحسن : ذهب الزفير بسمعهم فلا يسمعون معه شيئا.

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) : أي صوتها ، في قول الحسن. وقال ابن عبّاس : حسيسها : حسّها. قال : ولا صوتا. وإنّها تلظّى على أهلها. قوله عزوجل : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) (١٠٢).

قال بعضهم : بلغنا أنّ أهل الجنّة يكون في أحدهم الطعام فيخطر على قلبه طعام آخر ، فيتحوّل في فيه ذلك الطعام الذي اشتهى. وقال في آية أخرى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) (٧١) [الزخرف : ٧١].

قوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) : أي النفخة الآخرة. قال بعضهم : إذا أيقن أهل النار بالخلود ، فعند ذلك يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي من النار (فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا

__________________

(١) كذا وردت الكلمة في ب وع ، وفي سع ورقة ٣٧ ظ : «الزفير اللهب». وهو خطأ ولا شكّ ، والزفير «اغتراق النفس للشدّة» كما عرّفه الجوهريّ في الصحاح ، وهو صوت يخرج من أقصى الحلق. وهو «أوّل صوت الحمار ، وآخره الشهيق». وانظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ١٠٦ من سورة هود (التعليق).

٨٢

ظالِمُونَ) (١٠٧). فيقول الله : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٧ ـ ١٠٨]. فإذا قال ذلك أطبقت عليهم فلم يخرج منهم أحد ، فذلك قوله : (الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ).

قوله : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) : قال الحسن : تتلقّاهم بالبشارة حين يخرجون من قبورهم ، وتقول لهم : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (١٠٣).

قوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) : يعني كطيّ الصحيفة التي فيها الكتاب (١). ذكروا عن الحسن قال : إنّ السماء تطوى من أعلاها كما يطوي الكاتب الصحيفة من أعلاها إذا كتبت.

قوله عزوجل : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) : أي كذلك نعيده.

وقال الكلبيّ : إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يبعث الموتى أعاد الناس كلّهم نطفا [ثمّ علقا ثمّ مضغا] (٢) ثمّ عظاما ثمّ لحما ، ثمّ ينفخ فيه أرواحهم. كذلك كان بدؤهم.

ذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : ينزل الله مطرا كمنيّ الرجال فتنبت به جسمانهم ولحمانهم كما تنبت الأرض من الندى (٣) ، ثمّ تلا هذه الآية : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) (٩) [فاطر : ٩] أي : كذلك البعث. قوله تعالى : (وَعْداً عَلَيْنا) : أي وعدا كائنا ، أي البعث (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (١٠٤) : أي إنّا نحن فاعلون.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) : أي الكتب التوراة والإنجيل والفرقان (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) : أي الكتاب الذي عند الله في السماء ، وهو أمّ الكتاب. هذا تفسير مجاهد (٤). (أَنَ

__________________

(١) هذا هو الصواب الصحيح إن شاء الله ، والكتاب بمعنى : ما كتب. قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢١٣ : «السجلّ : الصحيفة». وكذلك قاله مجاهد في تفسيره ، ص ٢١٤. وقال ابن جرير الطبريّ في تفسيره ج ١٧ ، ص ١٠٠ : «واللام التي في قوله : (للكتاب) بمعنى على». وقال في ص ١٠١ : (كَطَيِّ السِّجِلِ) على ما فيه مكتوب».

(٢) زيادة من سع ورقة ٣٨ و.

(٣) كذا في ع. وفي سع وز : «كما تنبت الأرض من الثرى».

(٤) وقع بعض الاضطراب والفساد في المخطوطة ب وع ، أثبتّ تصحيحه من سع ورقة ٣٨ و.

٨٣

الْأَرْضَ) : يعني أرض الجنّة (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥) : وهم المؤمنون. وقال ابن عبّاس : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) أي زبور داود (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي التوراة. (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) أي : أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (إِنَّ فِي هذا) : أي القرآن (لَبَلاغاً) : أي إلى الجنّة (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) : (١٠٦) أي الذين يصلّون الصلوات الخمس (١).

قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧) : قال بعضهم : من آمن بالله ورسوله تمّت عليه الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن كفر بالله ورسوله عوفي ممّا عذّبت به الأمم السالفة ، وله في الآخرة النار ؛ قال : وإنّ الله أخّر عذاب كفّار هذه الأمّة بالاستئصال إلى النفخة الأولى ، بها يكون هلاكهم.

قوله : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٨) : وكذلك جاءت الرسل قبل محمّد عليه‌السلام ؛ وهو قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥) [الأنبياء : ٢٥] أي لا تعبدوا غيري.

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أي كفروا (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) : قال بعضهم : على مهل. قال الحسن : من كذّب بي فهو عندي سواء ، يعني أنّ جهادهم كلّهم سواء عندي (٢). وهو كقوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] ، أي ليكون حكمك فيهم سواء : الجهاد والقتل لهم أو يؤمنوا. وهؤلاء مشركو العرب. وأمّا أهل الكتاب فإنّه يقاتلهم حتّى يسلموا أو يقرّوا بالجزية. وجميع المشركين ما خلا العرب بتلك المنزلة. وأمّا نصارى العرب فقد فسّرنا أمرهم في غير هذه السورة (٣).

__________________

(١) كذا في ع ، وفي سع : «عن قتادة : (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي عاملين».

(٢) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٤٣ : (آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) إذا أنذرت عدوّك وأعلمته ذلك ونبذت إليه الحرب حتّى تكون أنت وهو على سواء وحذر ، فقد آذنته على سواء». وهذا غاية في الإيضاح مع الإيجاز ، وهو أولى بالتأويل.

(٣) انظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٢٩ من سورة التوبة ، وج ١ ، تفسير الآية ٢٥٦ من سورة البقرة. وانظر في معاملة نصارى العرب ما كتبه أبو عبيد القاسم بن سلّام في كتابه الأموال ، ص ٣٤ ـ ٣٩. وانظر ـ

٨٤

وقال بعضهم : (عَلى سَواءٍ) : على أمر بيّن.

قوله : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) (١٠٩) : يعني به الساعة.

قال : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) (١١٠) : أي ما تسرّون.

قوله : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) : قال الحسن : أي لعلّ ما أنتم فيه من الدنيا ، أي من السعة والرخاء ، وهو منقطع زائل ، فتنة لكم ، أي بليّة لكم (وَمَتاعٌ) : أي تستمتعون به ، يعني المشركين (إِلى حِينٍ) (١١١) : أي إلى يوم القيامة. وقال بعضهم : (إِلى حِينٍ) أي إلى الموت.

قوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) : قال بعضهم : كان النبيّ عليه‌السلام إذا دعا على قومه أن يحكم بينه وبين قومه بالحقّ هلكوا. وقال الحسن : أمره الله أن يدعو أن ينصر أولياءه على أعدائه فنصره الله عليهم.

قوله : (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) : (١١٢) أي على ما تكذبون ، يعني المشركين.

* * *

__________________

ـ أبو يوسف ، كتاب الخراج ، ص ٢٤٩ ـ ٢٥١.

٨٥

تفسير سورة الحجّ

وهي كلّها مدنيّة إلّا أربع آيات مكّيّات (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ) : أي تعرض (٢) (كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢). وهذه النفخة الآخرة.

ذكروا عن الحسن قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسير له ، قد فرّق بين اصحاب له السير ، إذ نزلت الآية. فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها صوته فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) حتى انتهى إلى قولة : (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).

فلمّا سمعوا صوت نبيّهم اعصو صبوا به (٣) ، فتلاها عليهم ، ثمّ قال : هل تدرون أيّ يوم ذلكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : ذلكم يوم يقول الله لآدم : يا آدم قم ابعث بعث النار. قال : ربّ ، وما بعث النار؟ قال : من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إنسانا إلى النار ، وواحد إلى الجنّة. فلمّا سمعوا ما قال نبيّهم أبلسوا (٤) حتّى ما يجلى أحدهم عن واضحة (٥). فلمّا رأى ما بهم قال :

__________________

(١) في بعض المخطوطات وفي ز ورقة ٢١٩ إشارة إلى هذه الآيات المكّيّات ، وهي من قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) إلى قوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) الآيات : ٥٢ ـ ٥٥.

(٢) كذا في المخطوطات وفي سع وفي ز : «(تذهل) أي : تعرض». وأصحّ منه وأحسن تأويلا ما قاله أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٤٤ : «أي : تسلو وتنسى». وما أكّده ابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ، ص ٢٩٠ إذ قال : «تسلو عن ولدها وتتركه».

(٣) اعصو صبوا ، أي : اشتدّوا إليه وتجمّعوا حوله. وانظر اللسان : (عصب).

(٤) أبلسوا : سكتوا من كثرة الحيرة وشدّة الحزن. ومن معاني الإبلاس : اليأس.

(٥) كذا في ب وع ، وفي سع وفي ز : «ما يجلى أحدهم بواضحة». وفي بعض التفاسير : «حتّى ما أوضحوا بضاحكة» ومعنى العبارات : حتّى ما يبيّن ولا يكشف عن سنّ ضاحكة ، وهي كناية عن الوجوم وعدم التبسّم أو الضحك يقال : «فلان ضحوك السّنّ». وفي الدعاء : «أضحك الله سنّك». انظر اللسان : ـ

٨٦

اعملوا وأبشروا [فو الذي نفسي بيده] (١) ما أنتم في الناس إلّا كالرقمة في ذراع الدّابّة ، أو كالشامة في جنب البعير ، وإنّكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلّا كثّرتاه : يأجوج ومأجوج ومن هلك [يعني من كفر] من بني إبليس (٢) ، وتكمل العدّة من المنافقين. فهنالك يهرم الكبير ويشيب الصغير (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ..). إلى آخر الآية (٣).

قال بعضهم : وبلغني أن الكبير يحطّ يوم القيامة إلى ثلاث وثلاثين [سنة ، ويرفع الصغير إلى ثلاث وثلاثين سنة] (٤).

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) : يعني المشرك ، يلحد في الله ، فيجعل معه آلهة بغير علم أتاه من الله. (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) (٣) : أي اجترأ بالمعصية على الله ، والشياطين هي التي أمرتهم بعبادة الأوثان.

قوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) : تولّى إبليس أي : اتّبعه (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) : تفسير الكلبيّ : الله يضلّه (٥). (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٤) : والسعير اسم من أسماء جهنّم.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) : أي في شكّ (مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) : وهذا خلق آدم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) : أي نسل آدم (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ

__________________

ـ (وضح) و (ضحك).

(١) زيادة من ز ، ورقة ٢١٩.

(٢) في ب وع : «من بني إسرائيل» وهو خطأ ، صوابه ما أثبتّه : «من بني إبليس». والتصحيح من سع ٣٨ ظ ، ومن ز ورقة ٢١٩ ، ومن تفسيري الطبريّ والقرطبيّ.

(٣) حديث صحيح أخرجه البخاريّ مختصرا في كتاب التفسير ، سورة الحجّ ، عن أبي سعيد الخدريّ ، وأخرجه أحمد والترمذيّ والنسائيّ وابن جرير وغيرهم من طرق مختلفة عن عمران بن حصين ، وأنس ، وابن عبّاس ، بألفاظ متقاربة.

(٤) زيادة من سع ، ورقة ٣٨ ظ.

(٥) هذا وجه من وجوه التأويل ، وللفرّاء وجه آخر لعلّه أقرب إلى الصواب. قال في المعاني ، ج ٢ ص ٢١٥ : «وقوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ) الهاء للشيطان المريد في (عليه) وفي (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) ومعناه : قضي عليه أنّه يضلّ من اتّبعه». وهو ما ذهب إليه أيضا الطبريّ في تفسيره ، ج ١٧ ص ١١٦ حيث قال : «وتأويل الكلام : قضي على الشيطان أنّه يضلّ أتباعه ، ولا يهديهم إلى الحقّ».

٨٧

وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) : يعني بغير مخلّقة : السقط. وقال مجاهد : هما السقط جميعا ؛ مخلّق وغير مخلّق. (ونقرّ في الارحام ما نشآء ...) إلى التّمام. ذكروا عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله : إنّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه نطفة أربعين يوما ، ثمّ يكون علقة أربعين يوما ، ثمّ يكون مضغة أربعين يوما ، ثمّ يؤمر الملك ، أو قال : يأتي الملك ، فيؤمر أن يكتب أربعا : رزقه وعمله وأثره (١) ، وشقيّا أو سعيدا. ذكروا عن أبي ذرّ أنّ المنيّ إذا مكث في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الربّ تبارك وتعالى في راحته ، فيقول : يا ربّ ، عبدك ، أذكر أم أنثى؟ ، فيقضي الله فيه ما هو قاض ، أشقيّ أم سعيد؟ ، فيكتب ما هو لاق بين عينيه ، ثمّ قرأ أبو ذرّ من فاتحة سورة التغابن خمس آيات.

قوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) : أي بدوّ خلقكم (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ) : أي أرحام النساء (ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي الوقت الذي يولد فيه (٢) (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) : يعني الاحتلام (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) : يعني الهرم (٣). وفيها إضمار ، أي : يتوفّى من قبل أن يردّ إلى أرذل العمر ، ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) : أي يصير بمنزلة الصبيّ الذي لا يعقل.

قوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) : أي غبراء متهشّمة ميّتة يابسة. (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) : وفيها تقديم ، أي : ربت بالنبات وانتفخت ، واهتزّت بالنبات : إذا أنبتت.

قال : (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥) : أي حسن. وكلّ ما ينبت في الأرض فالواحد منه زوج. وحسن ذلك النبات أنّها تنبت ألوانا من صفرة وحمرة وخضرة وغير ذلك من الألوان.

قال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) : والحقّ اسم من أسماء الله. (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦) : أي أنّ الذي أخرج من هذه الأرض الهامدة الميّتة ما أخرج من النبات قادر على أن يحيي الموتى.

__________________

(١) كذا في ب وع وفي سع وز : «وأثره» وفي صحيح البخاري «وأجله». وانظر تخريج الحديث فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ١٠٥ من سورة هود.

(٢) كذا في سع ، وفي ز : «إلى منتهى الولادة» ، وفي ب وع : «أي الوقت الذي يوقّته».

(٣) كذا في المخطوطات. وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٤٥ : (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) مجازه أن يذهب العقل ويخرف». وهذا أقرب إلى الصواب وأحسن تأويلا.

٨٨

قال عزوجل : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) : أي لا شكّ فيها (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧).

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي المشرك يلحد في الله ، فيجعل معه الآلهة يعبدها بغير علم أتاه من الله (وَلا هُدىً) أتاه منه. (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ:) (٨) أي قضى بعبادة الأوثان.

(ثانِيَ عِطْفِهِ) : أي ثاني رقبته (١). تفسير مجاهد ، يقول : هو معرض عن الله وعن رسوله ودينه. (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) : أي القتل (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) (٩) : أي عذاب جهنّم ، أي : يحترق بالنار. وقال الكلبيّ : إنّها نزلت في النضر بن الحارث فقتل ، أحسبه قال : يوم بدر.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠).

قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) : أي على شكّ (٢) (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) : [يقول : رضي به] (٣). (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) : هذا المنافق إذا رأى في الإسلام رخاء وطمأنينة طابت نفسه لما يصيبه من ذلك الرخاء ، وقال : أنا منكم ومعكم ، وإذا رأى في الإسلام شدّة أو بليّة لم يصبر على بليّتها ، ولم يرج عاقبتها ، (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي كافرا. قال الله : (خَسِرَ الدُّنْيا) : أي ذهبت عنه وزالت (وَالْآخِرَةَ) : أي وخسر الآخرة فلم يكن له فيها نصيب (٤). قال الله : (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١١).

__________________

(١) قال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٤٥ : «يقال : جاءني فلان ثاني عطفه ، أي : يتبختر من التكبّر.

قال الشماخ :

نبّئت أنّ ربيعا أن رعى إبلي

يهدي إليّ خناه ثاني الجيد

(٢) وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ، ص ٤٦ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) : كلّ شاكّ في شيء فهو على حرف لا يثبت ولا يدوم. وتقول : إنّما أنت لي على حرف ، أي لا أثق بك».

(٣) زيادة من ز ورقة ٢٢٠ ومن سع ورقة ٣٩ و.

(٤) جاء في سع ورقة ٣٩ وما يلي : «وقال قتادة : يقول : إن أصاب خصبا ورفاهة في العيش وما يشتهي اطمأنّ إليه وقال : أنا على حقّ ، وأنا أعرف الذي أنا عليه ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي : ترك ما كان عليه من الحقّ وأنكر معرفته ...».

٨٩

قوله : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) : يعني الوثن (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ). (١٢)

قال : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) : يعني الوثن ، ينفق عليه وهو كلّ عليه. يقول الله : (لَبِئْسَ الْمَوْلى) : أي الوليّ.

(وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (١٣) : أي الصاحب ، يعني الوثن.

قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (١٤) قد فسّرناه قبل هذا الموضع (١).

قوله : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) (١٥) : يعني المنافق. أي : إنّه يئس من أن ينصر الله محمّدا عليه‌السلام ، أي : لا يصدّق بما وعد الله رسوله من نصره في الدنيا والآخرة ، ونصره في الآخرة الجنّة.

قال عزوجل : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) أي بحبل إلى السماء أي سماء البيت أي سقف البيت ، أي : فليعلّق حبلا من سقف البيت فليختنق حتّى يموت. يعني بقوله عزوجل : (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) فليختنق. قال : فلينظر هل يذهبنّ ذلك غيظه ، أي : إنّ ذلك لا يذهب غيظه.

وقال مجاهد : (أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) أي أن لن يرزقه الله (٢).

قال : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) : أي القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ) : أي الحلال والحرام والفرائض

__________________

(١) انظر مثلا وصف الجنّة فيما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ٣٥ من سورة الرعد.

(٢) هذا أولى بالتأويل وأحقّ بالصواب. وهذا ما ذهب إليه أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٤٦. قال : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) مجازه : أن لن يرزقه الله وأن لن يعطيه الله. قال : وقف علينا سائل من بني بكر على حلقة في المسجد الجامع فقال : من ينصرني نصره الله. أي من يعطيني أعطاه الله. ويقال : نصر المطر أرض كذا. أي جادها وأحياها.

وقال الراعي :

أبوك الذي أجدى عليّ بنصره

فأنصت عنّي بعده كلّ قائل

أي بعطيّته».

٩٠

والأحكام (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) (١٦).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) : أي اليهود تهوّدوا (وَالصَّابِئِينَ) : هم قوم كانوا يعبدون الملائكة ، ويقرأون الزبور (وَالنَّصارى) : أي تنصّروا. وإنّما يقال لهم : نصارى لأنّهم ؛ كانوا بقرية يقال لها ناصرة. (وَالْمَجُوسَ) : وهم عبدة الشمس والقمر والنار (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) : أي عبدة الأوثان (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي فيما اختلفوا فيه في الدنيا ، فيدخل المؤمنين الجنّة ، ويدخل جميع هؤلاء النار ، على ما أعدّ لكلّ قوم ، وقد ذكرنا ذلك في سورة الحجر في قوله تعالى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤) [الحجر : ٤٤].

قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١٧) : أي شاهد على كلّ شيء ، وشاهد كلّ شيء.

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) : يعني أنّ جميع من في السماوات يسجدون له ، وبعض أهل الأرض ، يعني الذين يسجدون له. وكان الحسن لا يعدّ السجود إلّا من المسلمين ، ولا يعدّ ذلك من المشركين. وقال مجاهد : يسجد المؤمن طائعا ويسجد كلّ كافر كارها (١). (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ) كلّها (وَالْجِبالُ) كلّها (وَالشَّجَرُ) كلّها (وَالدَّوَابُ) كلّها. ثمّ رجع إلى صفة الإنسان فاستثنى فيه فقال:

(وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) : يعني المؤمنين (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) : يعني من لم يؤمن. قال الله عزوجل : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) فيدخله النار (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) فيدخله الجنّة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (١٨).

قوله : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) : قال بعضهم : اختصم المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نبيّنا قبل نبيّكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن خير منكم. وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلّها ، ونبيّنا خاتم النبيّين ، ونحن أولى بالله منكم ، فأفلج (٢) الله أهل الإسلام فقال : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ..). إلى آخر الآية ، وقال : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

__________________

(١) انظر ما سلف ، ج ٢ ، تفسير الآية ١٥ من سورة الرعد.

(٢) يقال : فلج الرجل على خصمه يفلج ، ظفر وانتصر ، والفلج : الظفر والفوز. وفي المثل : «من يأت الحكم وحده يفلج». وأفلجه الله عليه : غلّبه عليه وأظفره. انظر اللسان : (فلج).

٩١

يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ..). إلى آخر الآية.

ذكروا عن الحسن في قوله : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) قال : أهل الكتاب خصم والمؤمنون خصم ؛ اختصموا ، يعني جماعتهم ، كلّ مؤمن وكافر إلى يوم القيامة قد اختصموا في الله وإن لم يلتقوا في الدنيا قطّ لاختلاف الملّتين. أمّا المؤمن فوحّد الله وعمل بفرائضه فأخبر الله بثوابه ، وأمّا الكافر فألحد في الله وعبد غيره ، فأخبر الله بعقابه.

وقال بعضهم : نزلت في ثلاثة من المؤمنين وثلاثة من المشركين الذين تبارزوا يوم بدر. فأمّا الثلاثة من المؤمنين فعبيدة بن الحارث ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم. وأمّا الثلاثة من المشركين فعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة.

قوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ). وقال في آية أخرى : (سَرابِيلُهُمْ) أي : قمصهم من (قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠] قال الحسن : القطران الذي يطلى به الإبل. وقال مجاهد من صفر. قال الحسن : وهي من نار.

قوله : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) (١٩) : وهو الحارّ الشديد الحرّ. (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) (٢٠) : أي ويحرق به الجلود. وقال الحسن : أي يقطع به. وقال مجاهد : يذاب به. وقال الكلبيّ : ينضج به. وهو كلّه نحو واحد. قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) [النساء : ٥٦] وقال : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (١٨١) [آل عمران : ١٨١].

قوله تعالى : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) (٢١) : أي من نار. يقمع رأسه بالمقمعة فتخرق رأسه فيصبّ فيه الحميم حتّى يبلغ جوفه (١). ذكر أنّ أبا العوّام سادن بيت المقدس قرأ هذه الآية : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠) [المدّثّر : ٣٠] فقال [للقوم : ما تقولون؟] (٢) تسعة عشر ملكا أو تسعة عشر ألف ملك. فقالوا : الله أعلم. فقال : هم تسعة عشر ملكا ، بيد كلّ ملك مرزبة من حديد لها شعبتان ، فيضرب بها الضربة فيهوى بها سبعين ألف عام في النار (٣).

__________________

(١) كذا في ب وفي سع ورقة ٣٩ ظ ، وفي ع : «حتّى يغلي حتّى يبلغ جوفه».

(٢) زيادة من سع ، ورقة ٣٩ ظ.

(٣) كذا في ب وع ، وفي سع : «فيهوي بها سبعون ألفا» ، أي من أهل النار.

٩٢

قوله : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) : قال الحسن : ترفعهم بلهبها فإذا كانوا في أعلاها قمعتهم الملائكة بمقامع من حديد من نار ، فيهوون فيها سبعين خريفا. قال الله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢).

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) : ذكروا عن سعيد بن المسيّب أنّه قال : ليس أحد من أهل الجنّة إلّا وفي يده ثلاثة أسورة : سوار من ذهب ، وسوار من فضّة ، وسوار من لؤلؤ ؛ وهو قوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) وقال في آية أخرى : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان : ٢١].

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الرجل من أهل الجنّة إذا بدا سواره يغلب ضوءه على ضوء الشمس (١).

قوله : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) (٢٣) : وقال في آية أخرى : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) [الكهف : ٣١].

قوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) : أي إلى لا إله إلّا الله ، في تفسير الكلبيّ. وقال الحسن : إلى الإيمان في الدنيا ، وهو واحد. قال : (وَهُدُوا) : أي في الدنيا (إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٢٤) : وهو الله. وهو كقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٢) أي إلى الجنّة (صِراطِ اللهِ) [الشورى : ٥٢ ـ ٥٣] أي طريق الله الذي هدى به عباده المؤمنين إلى الجنّة.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي الهدى ، يعني المشركين (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : أي ويصدّون عن المسجد الحرام (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) : أي قبلة ونسكا. وقوله : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ) : أي الساكن فيه (وَالْبادِ). قال بعضهم : العاكف فيه أهل مكّة ، والبادي من يقصده ، أي ينتابه من الناس للحجّ والعمرة ، وهما سواء في حرمه ومناسكه وحقوقه.

قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) : أي بشرك (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥).

__________________

(١) انظر تخريجه فيما سلف ج ٢ ، تفسير الآية ٣١ من سورة الكهف.

٩٣

قال بعضهم : من لجأ إلى حرم الله ليعبد فيه غير الله عذّبه الله. تفسير الكلبيّ : الإلحاد : الميل عن عبادة الله إلى الشرك (١).

قوله : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) : ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : موضع البيت [ربوة بيضاء حولها] (٢) حجارة موسومة حولها حرجة (٣) من سمر نابت. فهو قوله : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ) أي : أعلمناه (مكان البيت).

قوله : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) : أي من عبادة الأوثان وقول الزور والمعاصي. ذكروا أنّ عائشة قالت : كسوة البيت على الأمراء ، ولكن طيّبوا البيت فإنّ ذلك من تطهيره.

قوله : (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢٦) : (لِلطَّائِفِينَ) يعني أهل الطواف ، (وَالْقائِمِينَ) يعني أهل مكّة ، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) يعني أهل الصلاة يصلّون إليه.

وقوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) (٤) ذكروا أنّ إبراهيم نادى : يا أيّها الناس ، إنّ لله بيتا فحجّوه ، فأسمع ما بين الخافقين أو المشرقين ، فأقبل الناس يقولون : لبّيك لبّيك ؛ وبلغنا أنّه أجابه يومئذ من كان حاجّا إلى يوم القيامة.

ذكروا عن ابن عبّاس أنّه قال : قام إبراهيم عند البيت فأذّن في الناس بالحجّ ، فسمعه أهل المشرق والمغرب.

وذكروا عن ابن عبّاس قال : إنّ إبراهيم وإسماعيل بنيا البيت. فلمّا أقبل أذّن في الناس بالحجّ ، فجعل لا يمرّ بأحد إلّا قال : يا أيّها الناس بني لكم بيت فحجّوه ، فجعل لا يسمعه حجر ولا

__________________

(١) وقال أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٤٨ : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) مجازه ومن يرد فيه إلحادا. والباء من حروف الزوائد ، وهو الزيغ والجور والعدل عن الحقّ ...».

(٢) زيادة من سع ، ورقة ٣٩ ظ.

(٣) حرجة ، بفتح الراء والجيم : موضع شجر ملتفّ كالغيضة. وقيل : هو مجتمع الشجر من السّمر والطّلح والسّلم والسّدر وغير ذلك من الشجر.

(٤) الحج ، بفتح الحاء وكسرها لغتان فصيحتان قرأ بهما القّراء. قال ابن خالويه في الحجّة ص ٨٨ : «الحجّة لمن كسر أنّه أراد الاسم ، والحجّة لمن فتح أنّه أراد المصدر ، ومعناهما في اللغة القصد».

٩٤

شجر إلّا أجابه : لبّيك اللهمّ لبّيك.

وذكروا عن ابن عبّاس قال : لّما أمر إبراهيم أن يؤذّن في الناس بالحجّ خفضت الجبال رءوسها ، ورفعت له القرى ، فأذّن في الناس بالحجّ.

قوله : (يَأْتُوكَ رِجالاً) : أي مشاة (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) : قال بعضهم : أو يأتوك على كلّ ضامر ، أي الإبل. قال بعضهم : أي لا تبلغه المطيّ حتّى تضمر.

قوله : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٢٧) : أي من كلّ فجّ بعيد (١). قال بعضهم : (عميق) ما بين تهامة والعراق ، ويؤتى من أبعد من ذلك.

قوله : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) : قال مجاهد : الأجر في الآخرة ، والتجارة في الدنيا. وذلك أنّهم كانوا يتبايعون في الموسم ، فكانت لهم في ذلك منفعة. وقال في آية أخرى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٩٨] أي التجارة في الموسم.

قوله : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) : وهي عشر ذي الحجّة ، آخرها يوم النحر. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) : أي يسمّي إذا ذبح أو نحر. والأضحى ثلاثة أيّام : يوم النحر ويومان بعده. ويوم النحر أفضلها.

وقال بعضهم : هذا بمكّة ؛ الأضحى ثلاثة أيّام ، سعة لمن لم يجد البدن في يوم النحر ، فوسّع لهم ، فجعل الأضحى ثمّ ثلاثة أيّام. فأمّا بغير مكّة ، فالأضحى يوم النحر ، وهو يوم واحد لا غير (٢).

قوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (٢٨) : قال مجاهد : الضيف الفقير. وقال بعضهم : الفقير الذي به زمانة.

وذكروا عن جعفر بن محمّد عن أبيه (٣) قال : أطعم البائس الفقير ثلثا ، والقانع والمعترّ ثلثا ،

__________________

(١) الفجّ هو المسلك والناحية ، وجمعه : فجاج.

(٢) هذه الفقرة غير واردة في سع ولا في ز ، ولعلّها من زيادات الشيخ هود الهوّاريّ. وقد جاءت العبارة في ب وع هكذا : «فالأضحى يوم وحد» ، والصواب ما أثبتّه إن شاء الله.

(٣) هو أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ولد سنة ٨٠ ـ

٩٥

وأهلي ثلثا.

وذكروا عن عبد الله بن مسعود أنّه بعث بهديه مع علقمة ، فأمره أن يأكل هو وأصحابه ثلثا ، وأن يبعث إلى أهل عتبة بن مسعود ثلثا ، وأن يطعم المساكين ثلثا.

وذكروا عن سعيد بن المسيّب قال : ليس لصاحب البدنة إلّا ربعها ، وذكروا عن الحسن أنّه قال : لا يطعم من الضحيّة إلّا ربعها (١).

ذكروا عن ابن عمر أنّه كان يقول : فكلوا منها وأطعموا منها ، وأطعموا منها وكلوا منها سواء ؛ لا بأس أن يطعم منها قبل أن يأكل.

ذكروا عن الحسن قال : هذه مقدّمة مؤخّرة : فكلوا منها وأطعموا منها ، وأطعموا منها فكلوا ؛ لا بأس أن يطعم قبل أن يأكل [وإن شاء لم يأكل] (٢). ذكروا عن عائشة ، ابنة سعد بن مالك ، أنّ أباها كان يأكل من بدنته قبل أن يطعم. ذكروا عن جابر بن عبد الله أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر من كلّ بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر ، فطبخت. فأكل هو وعليّ من لحمها وحسوا من مرقها.

قوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩) : قال بعضهم : التّفث : حلق الرأس. وقال عطاء : التفث : حلق الشعر وقطع الأظفار. وقال مجاهد : التفث : حلق الرأس وقصّ الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط وحلق العانة ، ورمي الجمار. ذكر بعضهم قال : التفث : دلك الشعث ودلك القشف (٣).

وفي تفسير عمرو عن الحسن : [إزالة] (٤) قشف الإحرام ، برميهم الجمار يوم النحر ، فقد حلّ لهم كلّ شيء غير النساء والطيب.

__________________

ـ للهجرة وتوفّي بالمدينة سنة ١٤٨ ه‍.

(١) كذا في ع ، وفي سع ورقة ٤٠ و : «لا يطعم من الأضحية أقلّ من الربع».

(٢) زيادة من سع ، ورقة ٤٠ و.

(٣) في المخطوطات وفي سع تصحيف وفساد في الكلمات ؛ ففي بعضها : «ذا الشعب» ، و «التقشف». والصواب ما أثبته إن شاء الله. وهو «دلك الشعث ، ودلك القشف». والقشف : «قذر الجلد» كما جاء في اللسان. فيكون المعنى : إزالة ذلك بالدّلك. انظر اللسان : (تفث) و (قشف).

(٤) زيادة من تفسير القرطبيّ ، لا بدّ منها ليتّضح المعنى.

٩٦

ذكروا عن ابن عمر أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول : من رمى الجمار يوم النحر فقد حلّ له كلّ شيء إلّا النساء والطيب.

قوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) : قال بعضهم : أيّام عظّمها الله ، تحلو فيها الأشعار ، ويوفى فيها بالنذر ، وتذبح فيها الذبائح.

ذكروا أنّ مجاهد قال : نذر الحج والهدي ، وما نذر الإنسان على نفسه من شيء يكون في الحج.

قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩) : قال بعضهم : أعتقه الله من الجبابرة. وقال بعضهم : كم من جبّار مترف قد صال (١) إليه يريد أن يهدمه ، فحال الله بينه وبينه.

ذكر الحسن بن مسلم قال : قلت لمجاهد : لم سمّي البيت العتيق؟ قال : لم يرده أحد بسوء إلّا هلك. قال الحسن : البيت العتيق أوّل بيت وضع للناس.

قال بعضهم في قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قال : هو الطواف الواجب.

ذكروا عن عطاء أنّه كان لا يرى بأسا أن يطاف الطواف الواجب بالليل.

وقال مجاهد : هو طواف يوم النحر. قال مجاهد : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أصحابه فأفاضوا نهارا يوم النحر ، وأفاض هو ليلا لحال نساء كنّ معه. فما أفاض منّا أحد حتّى كان النفر الآخر (٢).

قوله : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) : قال مجاهد : الحرمات : مكّة والحجّ والعمرة ، وما ينهى الله عنه من معاصيه كلّها.

قوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) : في سورة المائدة ، أي : من : (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] وقد فسّرنا ذلك في سورة المائدة (٣).

قوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) : يقول : اجتنبوا الأوثان فإنّها رجس.

__________________

(١) في ع : «طال» وفي ز : «صار» ، وفي سع ورقة ٤٠ ظ : «صال». ولكلّ كلمة وجه ، ولكن ما أثبتّه أنسب وأبلغ.

(٢) أي : بعد أيّام التشريق الثلاثة. وهو الإفاضة من منى.

(٣) انظر ما سلف ، ج ١ ، تفسير الآية ٣ من سورة المائدة.

٩٧

(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (٣٠) : الكذب على الله ، يعني الشرك (١).

قال : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) : أي مخلصين لله ، وقال بعضهم : حجّاجا لله مخلصين (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ).

قوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) : أي سقط من السماء ، أي : من البعد من الله (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (٣١) : أي في مكان بعيد.

قال الحسن : شبّه الله أعمال المشركين بالشيء يخرّ من السماء فتخطّفه الطير فلا يصل إلى الأرض ، أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، أي بعيد ، فيذهب فلا يوجد له أصل ، ولا يرى له أثر. يعني أنّه ليس (٢) لأعمال المشركين عند الله قرار لهم به عنده خير في الآخرة.

قوله : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٣٢) : تفسير مجاهد : استعظام البدن واستسمانها واستحسانها.

ذكروا أنّ رجلا سأل ابن عمر عن أعظم الشعائر فقال : أو في شكّ أنت منها؟ ، هذا أعظم الشعائر ، يعني البيت. وتفسير الحسن (شَعائِرَ اللهِ) يعني دين الله كلّه.

قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : ذكر عطاء عن ابن عبّاس قال : الأجل المسمّى إلى أن تقلّد وتشعر ، وهي البدن ينتفع بظهرها ويستعان بها.

(ثُمَّ مَحِلُّها) : أي إذا قلّدت وأشعرت (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣). وقال مجاهد أيضا : هي البدن ينتفع بها حتّى تقلّد. ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال : اركبها ، قال : إنها بدنة ، قال : اركبها ، قال : إنّها بدنة ، قال : اركبها ويحك (٣). ذكر عطاء قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) ليسا شيئا واحدا. وقد روى ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٧ ص ١٥٤ بسند. «عن أيمن بن خريم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام خطيبا فقال : أيّها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ، مرّتين ، ثمّ قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).

(٢) كذا وردت هذه الجملة في كلّ من ب ، وع ، وز ورقة ٢٢٢ وسع : «ليست لأعمال المشركين» والصحيح ما أثبتّه : «ليس».

(٣) حديث صحيح متّفق عليه. أخرجه البخاريّ في كتاب الحجّ ، باب ركوب البدن ، عن أبي هريرة وعن أنس. وفيه : «اركبها ويلك أو ويحك». وأخرجه مسلم في كتاب الحجّ أيضا ، باب جواز ركوب البدنة ـ

٩٨

يحمل على بدنته العقب.

ذكروا أنّ جابر بن عبد الله سئل عن ركوب البدنة فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : اركبها بالمعروف حتّى تجد ظهرا (١). ذكروا عن هشام بن عروة عن أبيه قال : البدنة إن احتاج سائقها فإنّه يركبها غير فادح ، ويشرب من فضل فصيلها.

ذكروا عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشعر بدنته من جانب السنام الأيمن ، ثمّ سلت عنها الدم ، ثمّ قلّدها نعلين (٢).

ذكروا عن ابن عمر أنّه أشعر الهدي من جانب السنام الأيسر ، إلّا القلوصين الصعبين فإنّه كان يطعنهما بالحربة ، هذا من الأيمن وهذا من الأيسر.

قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ذكروا عن عطاء قال : كلّ هدي دخل الحرم ثمّ عطب فقد بلغ محلّه إلّا هدي المتعة فإنّه لا بدّ أن يهرق دما يوم النحر. وروى بعضهم عن عطاء قال : إلّا هدي المتعة وهدي المحصر بالحجّ.

ذكروا عن عائشة أنّها قالت : إذا عطب الهدي فكلوه ، ولا تدعوه للكلاب والسباع ؛ فإن كان واجبا فاهدوا مكانه هديا آخر ، وإن لم يكن واجبا فإن شئتم فاهدوا ، وإن شئتم فلا تهدوا.

ذكروا عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث بالبدن مع رجل ، وأمره فيها بأمره. فلمّا قفّى (٣) رجع فقال : ما أصنع بما أزحف (٤) منها؟ قال : انحرها واصبغ أخفافها في دمها ، ثمّ

__________________

ـ المهداة لمن احتاج إليها ، (رقم ١٣٢٢ ـ ١٣٢٣) عن أبي هريرة وعن أنس.

(١) حديث صحيح أخرجه مسلم في نفس الباب (رقم ١٣٢٤) من طريقين عن جابر ، وفي أحدهما : «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتّى تجد ظهرا».

(٢) رواه مسلم في كتاب الحجّ ، باب تقليد الهدي لإشعاره عند الإحرام عن ابن عبّاس (رقم ١٢٤٣) والإشعار هو جرح البدنة المهداة حتّى يعلم أنّ تلك البدنة هدي ، فإذا ضلّت ردّت ولا تمسّ بسوء وإذا اختلطت بالإبل تميّزت فردّت. وأخرجه أبو داود في كتاب المناسك ، باب في الإشعار ، عن ابن عبّاس (رقم ١٧٥٢).

(٣) في ب : «أقفى» ، وفي سع ورقة. ٤١ و : «قفا» والصحيح ما أثبتّه من اللسان : «قفى» أي ذهب موليا.

(٤) أزحف البعير وزحف : إذا أعيا ووقف من الكلال.

٩٩

اضرب به صفحتها ؛ وربما قال : اليمنى ، وربما لم يقل ، ثمّ لا تأكل منها أنت ولا رفقتك ، وخلّ بينها وبين الناس يأكلونها (١). وهذا في التطوّع.

وذكر ذلك غير واحد عن ابن عبّاس إلّا أنّ بعض رواة ابن عبّاس قال في البدنة التطوّع إذا أصيبت : ينحرها ويجعل أخفافها في دمها ولا يأكل منها. وذكر مجاهد عن ابن عبّاس قال : إذا أكلت من التطوّع فأبدل (٢).

قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) : أي حجّا وذبحا (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) : وقد فسّرناه في الآية الأولى (٣).

قوله : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) : يقوله للمشركين. قوله : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٣٤) : تفسير الحسن أنّ المخبتين هم الخاشعون. والخشوع : المخافة الثابتة في القلب. وقال بعضهم : المخبتون المطمئنّون بالإيمان ، كقوله : (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) [الحج : ٥٤] أي خافت قلوبهم ، أي : فتطمئنّ قلوبهم. وقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ) [الرعد : ٢٨].

قوله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) : أي خافت قلوبهم. (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) : أي المفروضة ، وهي الصلوات الخمس يحافظون على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣٥) : أي الزكاة المفروضة.

قوله : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) : أي أجر في نحرها

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه أبو داود في كتاب المناسك من طريقين ، باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ (رقم ١٧٦٢). وأخرجه مسلم في الحجّ ، باب ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق ، عن ابن عبّاس (رقم ١٣٢٥ و ١٣٢٦) ولفظه : «إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتا ، فانحرها ثمّ اغمس نعلها في دمها ، ثمّ اضرب به صفحتها ، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك». وانظر ترجمة ذؤيب ، والد قبيصة ، في الاستيعاب لابن عبد البرّ ، ج ٢ ص ٤٦٤ ، وكان ذؤيب هذا صاحب بدن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يبعث معه الهدي.

(٢) كذا في ب وع ، وفي سع ورقة ٤١ ونسب هذا القول إلى عمر بن الخطّاب.

(٣) انظر ما سلف قريبا في هذا الجزء ، تفسير الآية ٢٨ من هذه السورة.

١٠٠