تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي

تفسير كتاب الله العزيز - ج ٣

المؤلف:

هود بن محكم الهوّاري الأوراسي


المحقق: بالحاج بن سعيد الشريفي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البصائر للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ...). وقال : (تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) [البقرة : ٢٢١].

هذا كله فيمن تأوّل الآية على أنّ النكاح الذي ذكر هو نكاح التزويج.

وقال الآخرون ممّن تأوّل الآية على أنّ هذا نكاح الوطء لا نكاح التزويج ، قال : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أي لا يفعل هذا الفعل إلّا زان ، أي من أهل التوحيد ، أو مشرك من أهل الكتاب ، وحرّم ذلك ، أي ذلك الفعل على المؤمنين. أي أنّه لم يفعلوه. وهذا حقيقة التأويل. وهذا ما يشدّ (١) الآيتين اللتين قبل هذه.

قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) : أي الذين يقذفون المحصنات بالزنا. والمحصنات الحرائر المسلمات ، وكذلك الرجل الحرّ المسلم إذا قذف ؛ وإن لم يأت ذكره في الكتاب ، فالذكر والأنثى في هذا سواء. (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) : يجيئون جميعا يشهدون عليها بالزنا.

(فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) : أي يجلدون بالسوط ضربا بين الضربين لا توضع عنه ثيابه ، ولا يرفع الجلّاد يده حتّى يرى بياض إبطه. ويجلد في ثيابه التي قذف فيها ، [إلّا أن يكون] (٢) الثوب فروا أو قباء محشوّا أو جبّة محشوّة.

وليس على قاذف المملوك ، ولا المكاتب ، ولا أمّ الولد ، ولا المدبّر (٣) ، ولا الذّمّيّ ، ولا الذمّيّة حدّ. وكذلك المملوك إذا قذف الحرّ لا حدّ عليه ، كما لا حدّ على من قذفه. فإن قذف اليهوديّ أو النصرانيّ المسلم جلد ثمانين.

ولا يجلد الوالد إذا قذف ولده ، ويجلد الولد إذا قذف والده. ولا يجلد المملوكون إذا قذف بعضهم بعضا.

وإذا أقيم على الرجل أو المرأة الحدّ على الزنا ، ثمّ افترى عليه أحد بعد ذلك فلا حدّ عليه.

وإذا جلد القاذف ثمّ عاد لقذفه الذي كان قذفه فلا حدّ عليه إلّا حدّ القذف الأوّل.

__________________

(١) في ب وع : «يشدّد» ، والمعنى واحد ، أي : يؤيّد ويؤكّد.

(٢) زيادة من سع ورقة ٥٠ و ، وقد جاءت العبارة مضطربة فاسدة في ع وب.

(٣) المدبّر : هو العبد المملوك الذي يعتق عن دبر ؛ يوصي سيّده ويقول : هو حرّ بعد موتي ، فيعتق العبد بعد موت سيّده.

١٤١

ذكر عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال : لو افترى أبو بكرة على المغيرة بن شعبة مائة مرّة لم يكن عليه إلّا الحدّ الأوّل (١).

قوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤) : أي العاصون ، وليس بفسق الشرك ، ولكن فسق النفاق. وهي كبيرة من الكبائر الموبقات.

ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قذف المحصنات من الكبائر (٢).

قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥).

قال الحسن وسعيد بن المسيّب : توبته فيما بينه وبين الله تنفعه ، ولا شهادة له ، أي إنّهما رجعا إلى أوّل الآية : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً).

ذكر سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطّاب قال للذين شهدوا على المغيرة بن شعبة حين جلدهم : من رجع منكم عن شهادته أجزنا شهادته ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني أنّ رجوعهم عن الشهادة هي توبتهم. وقال بعضهم : يقوم على رءوس الناس فيكذّب نفسه.

__________________

(١) هو أبو بكرة الثقفي الطائفيّ ، واسمه نفيع بن الحارث. وإنّما لقّب بذلك لأنّه تدلّى في حصار الطائف ببكرة فارّا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأسلم على يديه. ولّما أخبره أنّه عبد أعتقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فكان أبو بكرة يقول : أنا مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأمّه سميّة ، فهو أخو زياد بن أبيه لأمّه. كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم. سكن البصرة زمن الأمويّين. وكان له معهم مواقف تشهد بقوّة إيمانه وصلابة دينه. وقصّته في قذف المغيرة بن شعبة وجلد عمر إيّاه وأخاه نفيعا وشبل بن معبد قصّة مشهورة. فقد شهد الثلاثة على المغيرة ونكل زياد بن أبيه فجلد عمر الثلاثة حدّ القذف ، ولم يقم الحدّ على المغيرة. ثمّ إنّ عمر استتابهم فتاب الاثنان ، وثبت أبو بكرة على شهادته ، وأبى أن يتوب. انظر ترجمته ونبذة عن حياته وأخباره في الاستيعاب ، لابن عبد البرّ ، ج ٤ ص ١٦١٤ ، وسير أعلام النبلاء للذهبيّ ، ج ٣ ص ٥ ـ ٨. وانظر محمّد رواس قلعه جي ، موسوعة فقه عمر ، ص ٥٥٢ ـ ٥٥٣. وانظر ابن حجر ، فتح الباري ، ج ٥ ص ٢٥٦.

(٢) أخرجه يحيى بن سلّام هكذا : «وحدّثني أبو أميّة عن يحيى بن كثير أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ...». ولم أعثر عليه بهذا اللفظ. ولكنّ قذف المحصنات ورد في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة في كتاب المحاربين من أهل الكفر والرقّة ، باب رمي المحصنات ، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب بيان الكبائر وأكبرها ، وأوّله : «اجتنبوا السبع الموبقات ...» ، وفي آخره : «وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».

١٤٢

وذكر عكرمة عن ابن عبّاس قال : لم تقبل لأبي بكرة شهادة ؛ لأنّه لم يرجع عن شهادته ؛ ولو رجع عن شهادته لقبلت شهادته. وبقول ابن عبّاس في هذا نأخذ ، وعليه نعتمد. وهو قول أبي عبيدة والعامّة من فقهائنا. قال أبو عبيدة : شهادة كلّ من أقيم عليه الحدّ جائزة إذا تاب وأصلح (١).

قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٧). (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) : أي عن المرأة ، والعذاب : الحدّ ، يعني الرجم إن كان دخل بها ، أو أحصنت قبله ، والجلد إن لم تكن محصنة (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ) : أي زوجها (مِنَ الصَّادِقِينَ) (٩) : أي في قذفه إيّاها. [وذلك إذا ارتفعا إلى الإمام ، وإن لم يرتفعا إلى الإمام فهي امرأته] (٢).

وإن ارتفعا إلى الإمام فثبت على قذفها قال أربع مرّات عند الإمام : أشهد بالله إنّي لصادق ، أشهد بالله إنّي لصادق ، أشهد بالله إنّي لصادق ، أشهد بالله إنّي لصادق ، ثمّ يقول الخامسة : إنّ لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين. وتقول هي أربع مرّات : أشهد بالله إنّه لكاذب ، أشهد بالله إنّه لكاذب ، أشهد بالله إنّه لكاذب ، أشهد بالله إنّه لكاذب ، تعني زوجها ، ثمّ تقول الخامسة : إنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثمّ يفرّق بينهما فلا يجتمعان أبدا. فإن أكذب نفسه قبل أن يفرغا من الملاعنة جلد حدّ القذف ، ثمانين ، وهي امرأته.

وإن لاعنها في إنكار ولدها ألحق الولد بها إذا لم تكن حبلى قبل أن يلاعنها ولم يعرف أنّه دخل بها ، وهي عصبته ، وعصبتها بعدها (٣). فإن أكذب نفسه وقد بقي من الملاعنة شيء في ذلك قولان : أحدهما أنّه يجلد حدّ القاذف ويفرّق بينهما ولا يجتمعان أبدا ، وهو قول أبي عبيدة والعامّة

__________________

(١) نسب مثل هذا القول في سع ورقة ٥٠ وإلى الحسن ، لكن جاء في آخرة : «إذا تاب غير القاذف».

(٢) زيادة من سع ورقة ٥٠ و.

(٣) أي : وعصبة أمّه يعصبون الولد الملحق بالأمّ بعدها إذا لم يكن ذو سهم من النسب. وانظر مزيدا من التفصيل في أجوبة ابن خلفون ، ص ٢٨ ـ ٢٩.

١٤٣

من فقهائنا. وقال ابن عبد العزيز (١) : يجلد حدّ القاذف وهي امرأته ، وعامّة الناس كلّهم على هذا القول ، والولد ولده في قولهم جميعا. وإن أكذب نفسه بعد اللعان جلد ولا سبيل له عليها في قولهم جميعا. وقال بعضهم : ويلحق الولد بها. وقال بعضهم : بل يردّ إليه ولده ، وهو قول العامّة.

ولا يلاعن الرجل امرأته الأمة ولا اليهوديّة ولا النصرانيّة. وإن أنكر الرجل ولده من اليهوديّة أو النصرانيّة لزمه الولد. وإن أنكر ولده من الأمة بعدما أقرّ به مرّة واحدة لزمه الولد. وإذا قذف الرجل امرأته الحرّة قبل أن يدخل بها ثمّ ارتفعا إلى السلطان تلاعنا.

وإذا طلّق الرجل امرأته الحرّة مرّة واحدة أو اثنتين ، ثمّ قذفها ، تلاعنا ما كانت في العدّة ، إن ارتفعا إلى السلطان ، وهذا قول ابن عمر.

وقال ابن عبّاس : لا يلاعنها ؛ لأنّها ليست بامرأته حتّى يشهد على مراجعتها. قال : ألا ترى أنّه لا يدخل عليها إلّا بإذن؟.

وقول ابن عمر أعدل ؛ لأنّها امرأته ما كانت في العدّة ؛ ألا ترى أنّه إن مات ورثته ، وإن ماتت ورثها؟ ألا ترى أنّه إن أردفها طلاقا في العدّة وقع عليها؟ وكذلك إن آلى منها أو ظاهر منها؟ فكذلك أيضا إذا قذفها لا عنها. كلّ هذه الأحكام لا تلزم الرجل في غير امرأته (٢).

قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) : قال بعضهم في قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٥٨) [يونس : ٥٨] قال : فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن.

وقال بعضهم : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) يعني ولو لا منّ الله (عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) رحمته ههنا : نعمته ، أي : لأهلك الكاذب من المتلاعنين.

__________________

(١) هو من علماء القرن الثاني الهجري ومن تلاميذ أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة. وأبي نوح صالح بن نوح الدهّان. واسمه : عبد الله بن عبد العزيز البصري. كان فقيها مفتيا من فقهاء الإباضيّة الأوائل واشتهر بميله إلى القياس في آرائه الفقهيّة.

(٢) نسبة القولين إلى ابن عمر وابن عبّاس وترجيح قول ابن عبّاس وتعليل هذا الترجيح ، كل هذا غير موجود في سع ولا في ز ، وهو من رواية الشيخ هود وزيادته ، وهذا يدلّ على فقه الرجل وسعة علمه.

١٤٤

(وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ) : على من تاب من ذنبه (حَكِيمٌ) (١٠) : أي في أمره ؛ إذ جعل للمتلاعنين متابا ومرجعا.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) : أي جماعة منكم (١).

قال بعضهم : هذا كان في شأن عائشة وما أذيع عليها أنّها كانت مع رسول الله في سفر ، فأخذ الناس في الرحيل ، فانقطعت قلادة لها ، فطلبتها في المنزل ومضى الناس. وقد كان صفوان بن المعطّل تخلّف عن المنزل قبل ذلك. ثمّ أقبل فوجد الناس قد ارتحلوا ، وهو على بعيره. فإذا هو بعائشة ، فجاءها ببعيره وولّاها ظهره حتّى ركبت. ثمّ قاد بها ، فجاء بها وقد نزل الناس. فتكلّم بذلك قوم واتّهموها.

بلغنا أنّ عبد الله بن أبيّ بن سلول وحسّان بن ثابت ومسطحا وحمنة بنت جحش هم الذين تكلّموا في ذلك ، ثمّ شاع ذلك في الناس. فزعموا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لّما أنزل الله عذرها جلد كلّ واحد منهم الحدّ. وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) يعني هؤلاء.

ثمّ قال تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) : يعني عائشة وصفوان ، يعني ما قيل فيهما (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي من الذين قالوا ما قالوا (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي ما اقترف من الذنب على قدر ما أشاع.

(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ) : أي الذي بدأ به (٢) (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١) : قال بعضهم : هو مسطح ، فذهب بصره وهو العذاب العظيم. وقال بعضهم : هو عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق ، (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، أي : جهنّم ، فلا أعظم من ذلك.

قوله : (لَوْ لا) : أي هلّا (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) : أي

__________________

(١) حديث الإفك هذا حديث مشهور ، وفيه من المواعظ والعبر ما يستطيع كلّ قارئ أن يستفيد منه حسب مستواه وإدراكه. اقرأه بتفصيل في كتب السيرة والحديث. انظر مثلا سيرة ابن هشام ، ج ٣ ص ٢٩٧ ـ ٣٠٧ ، ومغازي الواقديّ ، ج ٢ ص ٤٢٦ ـ ٤٤٠ ، وتفسير الطبريّ ، ج ١٨ ص ٨٦ ـ ٩٥ ، وفتح الباري ج ٨ ، ص ٤٥٢ ـ ٤٨٩.

(٢) وقال أبو عبيدة في المجاز : «(تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي : تحمّل معظمه ، وهو مصدر الكبير من الأشياء ، والأمور وفرّقوا بينه وبين مصدر الكبير السنّ فضمّوا هذا فقالوا : هو كبر قومه ...».

١٤٥

بإخوانهم خيرا كما كانوا يظنّون بأنفسهم. أي : لو كانوا مكان صفوان ما كان منهم إلّا خير. أي : فليظنّ المسلم بأخيه ما يظنّ بنفسه. فهذا عظة وأدب للمؤمنين قائمان إلى يوم القيامة ، إن اتّعظوا بعظة الله ، وتأدّبوا بأدب الله الذي أمرهم به ، وتقدّم إليهم فيه (١).

قال : (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) (١٢) : أي كذب بيّن. أي : هلّا ظنّوا بأنفسهم خيرا ، وهلّا قالوا : هذا إفك مبين ، أي : ما خاض فيه القوم.

ثمّ قال : (لَوْ لا) : أي هلّا (جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) : أي إن كانوا صادقين ، وليسوا بصادقين. (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ). (١٣) قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) : فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن.

(لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٤) في الدنيا والآخرة. والإفاضة فيه ما كان يلقى الرجل أخاه (٢) فيقول : أما بلغك من أمر عائشة وصفوان؟.

قوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) : أي يرويه بعضكم عن بعض (٣) (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (١٥).

ذكروا عن الحسن أنّه قال : القذف قذفان : أحدهما أن تقول : إنّ فلانة زانية ، فهذا فيه الحدّ. والآخر أن تقول : قال الناس : إنّ فلانة زانية ، فليس في هذا حدّ (٤). قوله : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا) : [أي لا ينبغي لنا] (٥) (أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (١٦) : أي كذب عظيم. وإذا عظّم الله شيئا فهو عظيم.

__________________

(١) هذه الجمل الأخيرة في النصيحة والإرشاد من زيادات الشيخ الهوّاريّ ، وهي غير واردة في سع ولا في ز.

(٢) كذا في ب ، وفي ع وفي سع ورقة ٥١ و : «يلقى الرجل الرجل».

(٣) قال أبو عبيدة : «مجازه : تقبلونه ويأخذه بعضكم عن بعض ...». وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٤٨ : «وقرأت عائشة (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) وهو الولق ، أي : تردّدونه. والولق في السير والولق في الكذب بمنزلته : إذا استمرّ في السير والكذب فقد ولق».

(٤) نسب هذا القول في ب وع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هكذا : «ذكروا عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...» على اضطراب ونقص في ألفاظه في ع ، ونسب في سع ورقة ٥١ وإلى الحسن. وظاهر لفظه يؤيّد ما جاء في سع من أنّه من كلام الحسن وليس من كلام النبيّ عليه‌السلام.

(٥) زيادة من سع ورقة ٥١ و.

١٤٦

ثمّ قال : (يَعِظُكُمُ اللهُ) : [أي ينهاكم الله] (١) (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧) : فاتّعظوا بعظة الله فيما وعظكم ، وتأدّبوا بأدب الله فيما أدّبكم. (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٨) : أي عليم بخلقه ، حكيم في أمره.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) : [أي أن يظهر الزنا في تفسير قتادة] (٢) (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) : وهم المنافقون. كانوا يحبّون ذلك ليعيبوا به النبيّ عليه‌السلام ويغيظوه. قال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١٩) وعذاب الله في الدنيا للمنافقين أن تؤخذ منهم الزكاة كرها وما ينفقون في الغزو كرها قال الله تعالى في براءة (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ).

قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) : وهو مثل قوله الأوّل ، أي لأهلككم واستأصلكم ، يعني الذين قالوا ما قالوا. وليس يعني بالفضل والرحمة عبد الله بن أبيّ بن سلول فيهم ، وقد ذكره بعد هذه الآية أنّه في النار. قوله : (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢٠) : أي بالمؤمنين. وقد نفى الرحمة على الزاني والزانية في أوّل السورة ، لأنّهم ليسوا بمؤمنين.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) : أي خطايا الشيطان ؛ وبعضهم يقول : أمر الشيطان. قال : (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ) : أي فإنّ الشيطان (يَأْمُرُ) بالخطيئة ويأمر (بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٣). قال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) : وهي مثل الأولى (ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) : أي ما صلح منكم من أحد (أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) : أي يصلح (مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢١).

قوله : (وَلا يَأْتَلِ) : أي ولا يحلف (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) : يعني الغنى (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢).

نزلت هذه الآية في أبي بكر الصدّيق ومسطح. وكان بين مسطح وبين أبي بكر قرابة ، وكان

__________________

(١) زيادة من سع ورقة ٥١ و.

(٢) زيادة من سع ورقة ٥١ و.

(٣) كذا في ب وع ، وفي سع ورقة ٥١ و : ولعلّ صوابه : (يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي : بالخطيئة ويأمر (بِالْمُنْكَرِ).

١٤٧

يتيما في حجره ، وكان ممّن أذاع على عائشة ما أذيع. فلمّا أنزل الله براءتها وعذرها ائتلى أبو بكر ، أي : حلف ، ألّا يرزأه (١) خيرا أبدا. فأنزل الله هذه الآية ، [أي فكما تحبّون أن يغفر الله لكم فاعفوا واصفحوا] (٢).

ذكروا أنّ النبيّ عليه‌السلام دعا أبا بكر فتلاها عليه ثمّ قال : يا أبا بكر ، ألا تحبّ أن يعفو الله عنك؟ قال : بلى ، قال : فاعف وتجاوز (٣). فقال أبو بكر : لا جرم والله لا أمنعه معروفا كنت أوليه إيّاه قبل اليوم.

ذكروا عن عائشة قالت : كفّر أبو بكر يمينه لذلك (٤).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ) : أي العفائف (الْمُؤْمِناتِ) : أي المصدّقات بالله ، العاملات بفرائضه (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢٣) وإذا عظّم الله شيئا فهو عظيم.

ثمّ قال : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤) : قال بعضهم : بلغني أنّه يعني عبد الله بن أبيّ بن سلول في أمر عائشة.

قولهم : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) : أي عملهم الحقّ ، أي : يدانون بعملهم (وَيَعْلَمُونَ) يومئذ (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) : (٢٥) : والحقّ اسم من أسماء الله.

قوله : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ:) أي الخبيثات من القول والعمل للخبيثين من الرجال والنساء ، والخبيثون من الرجال والنساء للخبيثات من القول والعمل ، والطيّبات من القول والعمل للطيّبين من الرجال

__________________

(١) يقال : «رزأ فلان فلانا إذا برّه» كما في اللسان. وجاء في صحيح البخاريّ ، كتاب التفسير ، تفسير سورة النور : قالت عائشة : «فحلف أبو بكر ألّا ينفع مسطحا بنافعة أبدا».

(٢) زيادة من سع ورقة ٥١ و.

(٣) لم أجده بهذا اللفظ فيما بين يديّ من كتب الحديث ، ولكنّ معناه ثابت في كتب السنة والتفسير ، وقد أورده ابن سلّام بدون سند.

(٤) روى يحيى بن سلّام هذا الخبر بالسند التالي : «وحدّثني يحيى بن أيّوب عن هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة». انظر سع ورقة ٥١ و.

١٤٨

والنساء ، والطيّبون من الرجال والنساء للطيّبات من القول والعمل. وهذا في قصّة عائشة. قال : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) : أي لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : (٢٦) أي في الجنّة.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) : [سعيد عن قتادة قال : وهو الاستئذان] (١). (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها).

ذكروا عن مجاهد قال : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أي : حتّى تتنحنحوا أو تنخّموا (٢). وقال بعضهم : حتّى تسلّموا ، وهي مقدّمة ومؤخّرة ، أي : حتّى تسلّموا وتستأذنوا (٣). ذكروا أنّ رجلا استأذن على النبيّ عليه‌السلام فقال لرجل عنده : قم فعلّم هذا كيف يستأذن ، فإنّه لم يحسن يستأذن. فخرج إليه الرجل ، فسلّم ثمّ استأذن (٤).

ذكروا عن زيد بن أسلم قال : جئت ابن عمر في داره فقلت : ألج؟ فأذن لي ، فدخلت ، فقال : يا ابن أخي ، إذا استأذنت فلا تقل : ألج ، وقل : السّلام عليكم ، فإذا قالوا : وعليك ، فقل : أدخل؟. فإذا قالوا : ادخل فادخل.

ذكروا عن الحسن قال : استأذن الأشعريّ على باب عمر ثلاث مرّات ، فلم يؤذن له ، فرجع.

__________________

(١) زيادة من سع ، ورقة ٥١ ظ.

(٢) نسب هذا القول في ب وع إلى ابن عبّاس ، والصحيح أنّه لمجاهد كما ورد في تفسير مجاهد ص ٤٣٩ ، وفي سع.

(٣) نسب هذا القول في التقديم والتأخير إلى ابن عبّاس ، ونسب إليه أيضا أنّه قال : «إنّما هي خطأ من الكاتب» ، كما أورده الطبريّ في تفسيره ، ج ١٨ ص ١٠٩ ـ ١١٠. والحقّ أنّه لا يمكن أن ينسب مثل هذا إلى ابن عبّاس انظر الردّ على هذا في تفسير القرطبيّ ، ج ١٢ ص ٢١٤.

(٤) كذا في ع ، وفي سع ورقة ٥١ ظ : «فسمعها الرجل فسلّم ثمّ استأذن». والحديث أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبخاريّ في الأدب ، وأخرجه أبو داود في كتاب الأدب ، باب كيف الاستئذان. (رقم ٥١٧٧) ، ولفظه : «حدّثنا رجل من بني عامر أنّه استأذن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في بيت ...». وأخرجه ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٨ ص ١١٠ «عن عمرو بن سعيد الثقفيّ أن رجلا استأذن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ألج أو أنلج؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمة له يقال لها : روضة قومي إلى هذا فكلّميه ، فإنّه لا يحسن يستأذن ، فقولي له يقول : السّلام عليكم ، أدخل؟ فسمعها الرجل فقالها ، فقال : أدخل؟».

١٤٩

فأرسل إليه عمر فقال له : ما ردّك عن بابنا؟ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من استأذن ثلاث مرّات فلم يؤذن له فليرجع. فقال له : لتأتينّي على ذلك بيّنة وإلّا عاقبتك (١). فجاء بطلحة فشهد له.

وفي حديث عمرو عن الحسن في هذا الحديث : الأولى إذن ، والثانية مؤامرة ، والثالثة عزيمة ، إن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردّوا.

ذكر بعضهم قال (٢) : كنّا ونحن نطلب الحديث إذا جئنا إلى باب الفقيه استأذن منّا رجل مرّتين ، فإن لم يؤذن له تقدّم آخر فاستأذن مرّتين ، مخافة أن يستأذن الرجل منّا ثلاثا فلا يؤذن له ، ثمّ يؤذن بعد ، فلا يستطيع أن يدخل ؛ لأنّه لم يؤذن له وقد أذن لغيره.

ذكروا عن الحسن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تأذن المرأة في بيت زوجها وهو شاهد إلّا بإذنه (٣). ذكروا عن عطاء بن يسار قال : إنّ رجلا قال : يا رسول الله ، أستأذن على أمّي؟ [قال : نعم ، قال : إنّي أخدمها ، فقال : استأذن عليها] (٤) فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمّ أعادها عليه. فقال :

__________________

(١) كذا في ب وع ، «وإلّا عاقبتك» ، وفي سع ورقة ٥١ ظ : «أو لأجعلنّك نكالا». والحديث صحيح أخرجه أصحاب السنن ؛ أخرجه مثلا البخاريّ في صحيحه ، في كتاب الاستئذان ، باب التسليم والاستئذان ثلاثا ، عن أبي سعيد الخدريّ. وفيه أنّ الذي قام من المجلس ليشهد لأبي موسى الأشعريّ عند عمر إنّما هو أبو سعيد الخدريّ ، وكان أصغر القوم ، وكان ذلك بإشارة من أبيّ بن كعب. ورواه أبو داود أيضا في كتاب الأدب ، باب كم مرّة يسلّم الرجل في الاستئذان عن أبي سعيد الخدريّ (رقم ٥١٨٥) وفيه أنّ الشاهد هو أبو سعيد ، وفي حديث آخر لأبي داود (رقم ٥١٨١) : «قال ايتني ببيّنة على هذا ، فذهب ثمّ رجع ، فقال : هذا أبي ، فقال أبي : يا عمر ، لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...». ولم أجد فيما بين يديّ من كتب الحديث أنّ طلحة هو الذي شهد لأبي موسى كما ذكره المؤلّف هنا.

(٢) هو المؤلّف نفسه يحيى بن سلّام كما جاء في سع ورقة ٥١ ظ. وقلّما يتحدّث ابن سلّام عن نفسه أو عن حياته العلميّة ، وهذه إشارة عابرة إلى ذلك. وهذا لعمري غاية في آداب التعلّم وتلطّف حسن في طلب الحديث. وليت طلّاب اليوم يفقهون هذا فيلتزموا بهذه الآداب حسبما تمليه ظروف العصر الحاضر وتسمح به.

(٣) أخرجه الطبرانيّ في الكبير عن ابن عبّاس ، وقد ضعّف هذا الحديث.

(٤) زيادة من سع ، ورقة ٥١ ظ. أخرج الحديث ابن جرير الطبريّ في تفسيره ، ج ١٨ ص ١١٢. وأخرجه أيضا مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله رجل ... في الموطأ ، كتاب الجامع ، ـ

١٥٠

أتحبّ أن تراها عريانة؟ قال الرجل : لا. قال : استأذن عليها.

ذكروا عن عطاء قال : كان لي أخوات فسألت ابن عبّاس : أستأذن عليهنّ؟ فقال : نعم.

وذكروا أنّ عليّا قال : يستأذن الرجل على كلّ امرأة إلّا على امرأته.

ذكروا أنّ عمر استأذن على قوم فأذن له ، فقال : ومن معي؟ فقيل له : ومن معك ، فدخلوا.

ذكروا عن الحسن أنّه قال : ليس في الدور إذن. يعني الدّور المشتركة (١) التي فيها حجر. وليس في الحوانيت إذن. قال بعضهم : إذا وضعوا أمتعتهم ، وفتحوا أبوابها ، وقالوا للناس : هلمّوا.

ذكروا عن ابن عمر أنّه كان إذا استأذن ليدخل في بيوت التجّار فقالوا : ادخل بسلام ، لم يدخل ، لقولهم : ادخل بسلام (٢).

قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٢٧) : أي لكي تذّكّروا.

قوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) : يعني البيوت المسكونة (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) : قال بعضهم : أي لا تقف على باب قوم ردّوك عن بيتهم ، فإنّ للناس حاجات ، ولهم أشغال. قال : (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) : أي خير لكم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨).

قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) : أي حرج ، أي : إثم. (أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) : يعني الخانات ، وهي الفنادق (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) : أي ينزلها الرجل في سفره فيجعل فيها متاعه ، فليس عليه أن يستأذن في ذلك البيت ، لأنّه ليس له أهل يسكنونه. [وقال السدّيّ : (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ)

__________________

ـ باب الاستئذان.

(١) كذا في ع : «يعني الدور المشتركة ...». وجاء في سع ورقة ٥١ ظ مايلي : «ليس في الدور إذن. قال يحيى : أظنّه يعني الدار المشتركة التي فيها حجر». وهذه العبارة أوثق رواية وأوضح معنى.

(٢) لأنّ لفظ الإذن هنا يحتمل معنى : ادخل بسلامك لا بشخصك. وقد روى هذا الخبر في واقعة بعينها «أنّ ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال : السّلام عليكم أأدخل؟ فقالت المرأة : ادخل بسلام ، فأعاد ، فأعادت. فقال لها : قولي : ادخل. فقالت ذلك ، فدخل». انظر تفسير القرطبي ، ج ١٢ ص ٢١٥.

١٥١

: منافع لكم من الحرّ والبرد] (١). (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) : أي ما تعلنون (وَما تَكْتُمُونَ) (٢٩) : أي ما تسرّون في قلوبكم.

قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) : [يعني يغضّوا أبصارهم عن جميع المعاصي. (من) ههنا صلة] (٢). وقال بعضهم : أي عمّا لا يحلّ لهم من النظر.

ذكروا عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجليّ عن أبيه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النظرة فجأة فقال : غضّ بصرك (٣).

قوله : (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) : أي عمّا لا يحلّ لهم. وهذه الآية في الأحرار والمملوكين. (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٣٠) : أي بما يفعلون.

قوله : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) : أي يغضضن أبصارهنّ عمّا لا يحلّ لهنّ من النظر. وهذه في الحرائر والإماء.

قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) : قال بعضهم : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها :) الثياب. وكذلك قال الحسن. ذكروا عن مجاهد عن ابن عبّاس قال : (ما ظَهَرَ مِنْها) : الكحل والخاتم.

ذكروا عن عائشة أنّها سئلت عن الزينة الظاهرة فقالت : القلب ، تعني السّوار ، والفتخة ، تعني الخاتم الذي لا فصّ له. وقالت بثوبها على كوعها فسترته (٤). قالت العلماء : هذه الآية في الحرائر ؛ وأمّا الإماء فإنّ عمر بن الخطاب رأى أمة عليها قناع فعلاها بالدّرّة وقال : اكشفي عن

__________________

(١) زيادة من سع ورقة ٥٢ و ، ومن ز ورقة ٢٣٢.

(٢) زيادة من سع ورقة ٥٢ و ، ومن ز ورقة ٢٣٢.

(٣) حديث صحيح ، أخرجه أحمد في مسنده ، وأخرجه مسلم في كتاب الآداب ، باب نظر الفجأة (رقم ٢١٥٩). وأخرجه أبو داود في كتاب النكاح ، باب ما يؤمر به من غضّ البصر (رقم ٢١٤٨) ولفظه : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نظرة الفجأة فقال : اصرف بصرك». كلّهم يرويه عن أبي زرعة عن جرير بن عبد الله.

(٤) في ب وع : «فسترته» ، وفي سع ورقة ٥٢ و : «فشدّته». و «الكوع : مفصل اليد». وهذا الشرح للكوع زيادة من أحد النسّاخ وردت في ب وع.

١٥٢

رأسك لا تتشبّهي بالحرائر.

ذكروا عن أنس بن مالك قال : كنّ جواري عمر (١) يخدمننا كاشفات رؤوسهنّ تضطرب ثديهنّ ، بادية خدامهن (٢).

قوله : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) : أي تسدل الخمار على جيبها ، وهو نحرها. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) : وهذه الزينة الباطنة ؛ وهما زينتان ، زينة ظاهرة ، وقد فسّرناها ، وزينة باطنة وسنفسّرها إن شاء الله. (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) : أي أزواجهنّ (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ) : أي آباء أزواجهنّ. (أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ) : المسلمات اللاتي يرين منها ما يراه ذو المحرم ؛ ولا ترى ذلك منها اليهوديّة ولا النصرانيّة. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ).

فهذه ثلاث حرم بعضها أعظم من بعض. منهنّ الزوج الذي يحلّ له كلّ شيء منها ؛ فهذه حرمة ليست لغيره.

ومنهم الأب والابن ، والأخ والعمّ والخال وابن الأخ وابن الأخت. والرضاع في هذا بمنزلة النسب. فلا يحلّ لهؤلاء في تفسير الحسن أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساق وأشباه ذلك.

[وقال الحسن : لا تضع المرأة خمارها عند أبيها ولا ابنها ولا أخيها] (٣). وقال ابن عبّاس : ينظرون إلى موضع القرطين والقلادة والسوارين والخلخالين. فهذه الزينة الباطنة.

وحرمة أخرى ، وهي الثالثة ؛ منهم أبو الزوج وابن الزوج والتابع الذي قال الله : (غَيْرِ أُولِي

__________________

(١) كذا وردت هذه العبارة : «كنّ جواري عمر يخدمننا» في ب وع ، وفي سع. وهي عبارة صحيحة في العربيّة. فمثلها ورد في صحيح مسلم ، كتاب الأشربة ، باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ (رقم ٢٠٢٩) وفيه من حديث أنس قال : «قدم النبيّ المدينة وأنا ابن عشر سنين ، ومات وأنا ابن عشرين ، وكنّ أمّهاتي يحثثنني على خدمته ...». واللفظ نفسه أخرجه الحميديّ في مسنده ، ج ٢ ص ٤٩٩ ، في أحاديث أنس بن مالك (رقم ١١٨٢).

(٢) خدام : جمع خدمة ، وهي هنا الخلخال ، وتجمع أيضا على خدم.

(٣) زيادة من سع ، ورقة ٥٢ ظ.

١٥٣

الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) أي : غير أولي الحاجة إلى النساء. وهم قوم كانوا في المدينة فقراء ، طبعوا على غير شهوة النساء. وقال بعضهم : هو الرجل الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل. وقال الحسن : هو الرجل يتبع الرجل يخدمه بطعام بطنه. ومملوك المرأة ، لا بأس أن تقوم بين يدي هؤلاء في درع صفيق ، وخمار صفيق (١) بغير جلباب.

ذكروا أنّ عمر بن الخطاب قال : لا تسافر المرأة إلّا مع ذي محرم منها.

ذكروا أنّ عمر بن الخطّاب قال : لا تخلو المرأة مع الرجل إلّا أن يكون محرما ، وإن قيل حموها ، إنما حموها الموت (٢). وقال بعضهم : لا تضع المرأة خمارها عند مملوكها ، فإن فاجأها فلا بأس. وبعضهم يقول : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) يعني الإماء وليس العبيد. [ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : لا تضع المرأة خمارها عند عبد سيّدها] (٣).

قوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) : أي الذين لم يبلغوا الحلم أو النكاح.

قوله : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) : وكانت المرأة تضرب برجلها إذا مرّت بالمجلس لتسمع قعقعة خلخالها. وقال بعضهم : تضرب إحدى رجليها بالأخرى حتّى تسمع صوت الخلخالين ؛ فنهين عن ذلك. قوله : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) من ذنوبكم هذه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١) : أي لكي تفلحوا فتدخلوا الجنّة.

قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) : يعني كلّ امرأة ليس لها زوج (٤). قال الحسن : هذه

__________________

(١) كذا في ز : «درع صفيق ، وخمار صفيق» ، وهو الصحيح ، وفي ب وع : «درع صفيق وخمار جديد» ، وفي سع ورقة ٥٢ ظ : «في درع ضيّق وخمار ضيّق» والصحيح ما أثبتّه. ودرع المرأة قميصها. وقيل : «هو درع تجوب المرأة وسطه ، وتجعل له يدين وتخيط فرجيه». والصفيق من الثياب ما كان كثيفا جيّد النسج.

(٢) وردت هذه الجملة مضطربة فأثبتّ صحّتها من سع.

(٣) زيادة من سع ، ورقة ٥٢ ظ : ويعني بعبد سيّدها عبد زوجها. وقد ورد في القرآن لفظ السيّد وأريد به الزوج في قوله تعالى : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) [يوسف : ٢٥].

(٤) وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٥١ : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) يعني الحرائر. والأيامى القرابات ، نحو البنت والأخت وأشباههما. وما قاله أبو عبيدة في المجاز ، ج ٢ ص ٦٥ أولى بالصواب وأحقّ بالتأويل ، قال : «(الأيامى) من الرجال والنساء الذين لا أزواج لهم ولهنّ ، ويقال : رجل أيّم ، وامرأة أيّمة وأيّم أيضا. قال ـ

١٥٤

فريضة.

[عثمان عن محمّد بن المنكدر عن سليمان بن يسار أنّ قوما نزلوا منزلا ، ثمّ ارتحلوا ، وبغت امرأة منهم ، فرفعت إلى عمر بن الخطّاب فجلدها عمر الحدّ ، وقال : استوصوا بها خيرا وزوّجوها فإنّها من الأيامى] (١).

ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه نهى عن التبتّل. [والتبتّل فعل] التي تقيم من النساء بلا زوج ، والذي يقيم من الرجال بلا امرأة (٢).

ذكروا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : من تزوّج فقد استكمل نصف دينه فليتّق الله في النصف الباقي (٣).

قوله : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ) : يعني المملوكين المسلمين (وَإِمائِكُمْ) : أي وأنكحوا من إمائكم المسلمات ، وهذه رخصة ، وليس على الرجل بواجب أن يزوّج أمته وعبده.

قوله : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). ذكروا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اطلبوا الغنى في هذه الآية : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٤).

__________________

ـ الشاعر :

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيّمي

وإن كنت أفتى منكم أتأيّم».

(١) أثبتّ هذا الخبر زيادة من سع ورقة ٥٢ ظ لما فيه من العبرة والعظة البالغة ، ولما يبيّن من سيرة عمر الحميدة.

فقد كان قويّا في الحقّ حين أقام عليها الحدّ ، لطيفا رحيما بها حين أوصى بها خيرا ، متفقّها في الدين ، خبيرا بأحوال الأمة حين اعتبرها أيّما تزوّج ، لا بغيّا تنبذ. ولا أدري كيف أسقط الشيخ هود هذه الفقرة المفيدة ، فعهدي به يلتقط هذه الدرر والنفائس من بالغ الحكمة والموعظة.

(٢) زيادة يقتضيها السياق ، وكأنّ العبارة من زيادة ناسخ شرح بها معنى التبتّل. وعبارة ابن سلّام في سع ورقة ٥٢ ظ أوفى. قال : «... عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهى عن التبتّل نهيا شديدا ، ويقول : تزوّجوا الولود الودود فإنّي مكاثر بكم البشر يوم القيامة».

(٣) أخرجه الطبرانيّ في الأوسط عن أنس ، وأخرجه أيضا يحيى بن سلّام هكذا : «حدّثني خالد عن يزيد الرقاشيّ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...».

(٤) رواه يحيى بن سلّام عن عبد العزيز بن أبي داود مرسلا ، ولم أجده فيما بين يديّ من كتب الحديث بهذا اللفظ ، إلّا ما أخرجه الديلميّ عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «التمسوا الرزق بالنكاح» ، كما جاء في ـ

١٥٥

ذكروا أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : ما رأيت مثل رجل لم يلتمس الغنى في الباءة ، أي : النكاح ، والله يقول : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

قال : (وَاللهُ واسِعٌ) بخلقه (عَلِيمٌ) (٣٢) بأمرهم.

قوله : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) : أي حتّى يجدوا ما يتزوّجون به.

قوله : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي إن علمتم عندهم مالا. وليس بفريضة إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه. وقال بعضهم : إن علمتم منهم صدقا ووفاء وأمانة. وقال ابن عبّاس : إن علمتم عندهم حرفة أو عملا. ويكره أن يكاتبه وليست له حرفة ولا عمل إلّا على مسألة الناس. فإن كان له حرفة أو عمل ثمّ تصدّق عليه من الفريضة أو التطوّع فلا بأس على سيّده ، لأنّه من ذوي فريضتها ، قد وجبت له الزكاة ، وصار حرّا قد استوجب سهما من سهام الصدقة ؛ فلا بأس أن يأخذ منه ما قد ملّكه الله وأحلّه له.

قوله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) : [قال بعضهم : أي أن يترك له طائفة من مكاتبته] (١). وقال بعضهم : أي أعطوهم ممّا أوجب الله لهم من سهمهم في الصدقة ؛ يقول : إنّهم أحرار ، وإنّهم قد وجبت لهم الصدقة بفرض الله لهم منها سهما فيها. وهي عنده كقوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) [التوبة : ٦٠] لهؤلاء الذين سمّاهم الله في الصدقات ، فكذلك قوله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أي : أعطوهم فرضهم الذي فرض الله لهم في كتابه (٢).

__________________

ـ الدرّ المنثور ، ج ٥ ، ص ٤٥ ، وفي تفسير الطبريّ ، ج ١٨ ص ١٢٦ : عن عبد الله بن مسعود قال : التمسوا الغنى في النكاح ، يقول الله : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

(١) زيادة من سع ورقة ٥٣ و ، وقال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٥١ : «حدّثنا حبّان عن الكلبيّ عن أبي صالح عن عليّ بن أبي طالب قال : يعطيه ثلث مكاتبته ، يعني المولى يهب له ثلث مكاتبته».

(٢) أورد ابن سلّام في تفسير هذه الآية صورا كثيرة من المكاتبة وأقوالا للصحابة وللتابعين وأحكاما مفصّلة مفيدة للمتفقّة. فهذه الأحكام ، وإن لم تكن الحاجة إليها أكيدة في عصرنا هذا ، توسّع آفاق معرفة الطالب ، ـ

١٥٦

قوله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) : أي تعفّفا (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا). قال بعضهم : كان الرجل يكره مملوكته على البغاء ليكثر ولدها.

وقال بعضهم : نزلت في أمة لعبد الله بن أبيّ ابن سلول كان يكرهها على رجل من قريش رجاء أن تلد منه ، فيفدي ولده. فذلك العرض الذي كان ابن أبيّ يبتغي.

قوله : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَ) لهن (غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٣) [وليست لهم] (١) وكذلك هي قراءة ابن مسعود.

قوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) : أي قد أنزلنا إليكم كتابا فيه آيات مبينّات ، أي : الحلال والحرام والأمر والنهي والفرائض والأحكام (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) : أي أخبار الأمم السالفة (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٣٤).

ذكروا عن أبي الدرداء قال : نزل القرآن على ستّ آيات : آية مبشّرة وآية منذرة ، وآية فريضة ، وآية تأمرك ، وآية تنهاك ، وآية قصص وأخبار.

قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا

__________________

ـ ولو تباينت آراء الفقهاء من الصحابة وغيرهم في الموضوع. روى ابن سلّام قال : «حدّثني بحر بن كنيز عن الزهريّ قال : قضى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان وزيد بن ثابت وعائشة وابن عمر وعمر بن عبد العزيز أنّه عبد قنّ ما بقي عليه درهم حياته وموته ، قال : ولو ترك مالا فهو عبد أبدا حتّى يؤدّي ...». وروى «أنّ ابن مسعود قال : إذا أدّى الثلث أوقف رقبته فهو غريم ...». وقال : «وحدّثنا المسعوديّ عن الحكم بن عتيبة قال : المكاتب تجري فيه العتاقة في أوّل نجم يؤدّى».

(١) زيادة من سع ورقة ٥٣ ظ. أي أنّ مغفرة الله ورحمته للفتيات المكرهات على البغاء لا لسادتهنّ. قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٥١ : «كان أهل الجاهليّة يكرهون الإماء ويلتمسون منهنّ الغلّة فيفجرن ، فنهى أهل الإسلام عن ذلك (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ) لهن (غَفُورٌ رَحِيمٌ). وانظر تفسير الطبريّ ، ج ١٨ ص ١٣٣. وروى مسلم في كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) (رقم ٣٠٢٩) عن جابر «أنّ جارية لعبد الله بن أبيّ ابن سلول يقال لها : مسيلة ، وأخرى يقال لها : أميمة ، فكان يكرههما على الزنى ، فشكتا ذلك إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ ..). إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ).

١٥٧

شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥).

أما قوله : (مَثَلُ نُورِهِ) أي : فمثل نوره الذي أعطى المؤمن في قلبه (كمشكاة) والمشكاة : الكوّة في البيت التي ليست بنافذة ، وهي بلسان الحبشة. وهي مثل صدر المؤمن.

(فيها مصباح) وهو النور الذي في قلب المؤمن. قال : (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) صافية ، والزجاجة القنديل ، وهو مثل قلب المؤمن ، قلبه صاف.

(الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي : عظيم مضيء (١) (يُوقَدُ) يقرأ على وجهين : يوقد وتوقد ، فمن قرأها بالياء فهو يعني المصباح ، ومن قرأها بالتاء فهو يعني الزجاجة بما فيها ، فكذلك قلب المؤمن يتوقّد نورا.

(مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) وهي مثل قلب المؤمن. (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي : لا شرقيّة تصيبها الشمس إذا أشرقت ولا تصيبها إذا غربت. ولا غربيّة تصيبها الشمس إذا غربت ولا تصيبها إذا أشرقت ؛ أي : ليس يغلب عليها الشرق دون الغرب ، ولا الغرب دون الشرق ، ولكن يصيبها الشرق والغرب. وقال بعضهم : لا يفيء عليها ظلّ شرقيّ ولا غربيّ ؛ هي ضاحية للشمس ، وهي أصفى الزيت وأعذبه وأطيبه (٢).

وقال بعضهم : لا يصيبها فيء شرق ولا فيء غرب ، هي في سفح جبل ، وهي شديدة الخضرة. وهي مثل المؤمن. (لا شَرْقِيَّةٍ) أي : لا نصرانيّة تصلّي إلى الشرق ، (وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي : ولا يهوديّة تصلّى إلى المغرب ، أي : إلى بيت المقدس. الموضع الذي نزل فيه القرآن غربيّه بيت المقدس (٣).

__________________

(١) قال الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٥٢ بعد أن ذكر القراءتين : (كوكب دري) ، و (دري) : «فالقراءة إذا ضممت أوّله بترك الهمز ، وإذا همزته كسرت أوّله. وهو من قولك : درأ الكوكب إذا انحطّ ، كأنّه رجم به الشيطان فدمغه. ويقال في التفسير : إنّه واحد من الخمسة : المشتري ، وزحل ، وعطارد ، والزهرة ، والمرّيخ. والعرب قد تسمّي الكواكب العظام التي لا تعرف أسماءها الدراريّ بغير همز».

(٢) جاءت هذه الجملة الأخيرة مضطربة ناقصة في ب وع ، فأثبتّ صحّتها من سع وز. والقول لقتادة.

(٣) الواقع أنّ بيت المقدس يقع شمال مكّة ، مع ميل قليل إلى الغرب.

١٥٨

(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) أي : يكاد زيت الزجاجة يضيء (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) وهو مثل قلب المؤمن ، يكاد أن يعرف الحقّ من قبل أن يبيّن له فيما يذهب إليه قلبه من موافقة الحقّ فيما أمر به ، وفيما يذهب إليه من كراهيّة ما نهى عنه ؛ وهو مثل لقوله : (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ).

قال : (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي : نور النار على الزيت في المصباح. فكذلك قلب المؤمن إذا تبيّن له الحقّ صار نورا على نور ، كما صار المصباح حين جعلت فيه النار نورا على نور : نور الزجاجة ، ونور الزيت ، ونور المصباح.

قال : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي : لدينه (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

قوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) : وهي المساجد.

ذكروا عن أبي ذرّ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنّة) (١). ذكروا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : (كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من بنى مسجدا من ماله بنى الله له بيتا في الجنّة ، وإنّما يتقبّل الله من المّتقين) (٢).

ذكروا أنّ كعبا قال : في التوراة مكتوب : إنّ بيوتي في الأرض المساجد ؛ فمن توضّأ فأحسن وضوءه ، وزارني في بيتي أكرمته ، وحقّ على المزور أن يكرم زائره.

قوله : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣٦) : الغدوّ صلاة الصبح ، والآصال : العشيّ ، أي : الظهر والعصر. وقد ذكر في غير هذا الموضع المغرب والعشاء وجميع الصلوات الخمس.

__________________

(١) الحديث صحيح متّفق عليه ، أخرجه أصحاب السنن عن جملة من الصحابة بألفاظ متشابهة ، فأخرجه البخاريّ مثلا في كتاب الصلاة ، باب من بنى مسجدا ، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، عن عثمان بن عفّان في باب فضل بناء المساجد والحثّ عليها (رقم ٥٣٣) ورواه ابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات ، باب من بنى لله مسجدا (رقم ٧٣٥) عن عمر بن الخطّاب وعن عثمان بن عفّان (رقم ٧٣٦) وعن جابر بن عبد الله (رقم ٧٣٨) ورواه النسائيّ في المساجد عن عمرو بن عبسة من حديث أوله : «من بنى مسجدا ليذكر اسم الله فيه ...».

(٢) رواه يحيى بن سلّام بالسند التالي : ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عليّ ، وبهذا السند أخرجه ابن ماجه (رقم ٧٣٧) وإسناده ضعيف.

١٥٩

قال : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ) : التجارة الجالب ، والبيع الذي يبيع على يديه (١) ، قال : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ).

كانوا إذا سمعوا المؤذّن تركوا بيعهم وقاموا إلى الصلاة. وذكر الله في هذا الموضع الأذان.

(وَإِقامِ الصَّلاةِ) يعني الصلوات الخمس ، (وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) الزكاة المفروضة (٢). وهذا الحرف يقرأ على وجهين : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) أي : في المساجد (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ) ، والحرف الآخر : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ، ثمّ قال : (رِجالٌ) ، أي : فهم الذين يسبّحون له فيها بالغدوّ والآصال (٣).

قوله : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٧) : أي قلوب الكفّار وأبصارهم. وتقلّب القلوب أنّ القلوب انتزعت من أماكنها فغصّت بها الحناجر ، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج. وهو قوله : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) [غافر : ١٨]. وأمّا تقلّب الأبصار فقد قال في آية أخرى : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٩٧] أي : لإجابة الداعي. وهو كقوله : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [إبراهيم : ٤٣].

وقال الحسن في قوله : (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي : بالزّرق (٤) بعد الكحل ، والعمى

__________________

(١) كذا في ب وع وفي سع ورقة ٥٤ و ، وفي ز ورقة ٢٣٤. وعبارة الفرّاء في المعاني ، ج ٢ ص ٢٥٣ أصحّ وأوضح : قال : «فالتجارة لأهل الجلب ، والبيع ما باعه الرجل على يديه».

(٢) أورد ابن سلّام بعد هذا أحاديث وأقوالا عن الصحابة في كراهيّة صلاة المرأة في المسجد ، ولم ترد في ب ولا في ع منها : «إبراهيم بن محمّد عن صفوان بن سليم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى امرأة في المسجد فقال : يا أيّها الناس كفّوا عليكم نساءكم فإنّما عذّبت بنو إسرائيل حين أرسلوا نساءهم إلى المساجد والأسواق ...». «... وعن ابن مسعود قال : ما صلّت امرأة في مكان خير من قعر بيتها إلّا أن يكون المسجد الحرام أو مسجد النبيّ ، إلّا أن تخرج في منقليها. قال حمّاد : المنقلان الخفّان».

والحقّ أنّه وردت أحاديث صحيحة تنهى المسلمين أن يمنعوا النساء من الذهاب إلى المسجد ، منها ما رواه ابن عمر مرفوعا : «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ، وزاد أبو هريرة : «ولكن ليخرجن وهنّ تفلات».

(٣) كذا في ب وع وسع. وعبارة ابن خالويه في الحجّة ص ٢٣٨ أوضح. قال : «قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) يقرأ بفتح الباء وكسرها. فالحجّة لمن فتح : أنّه جعله فعلا لما لم يسمّ فاعله ورفع (الرجال) بالابتداء ، والخبر (لا تُلْهِيهِمْ). والحجّة لمن كسر : أنّه جعله فعلا للرجال فرفعهم به ، وجعل ما بعده وصفا لحالهم».

(٤) في ع : «بالرزق» وفيه تصحيف ، صوابه ما أثبتّه : «الزّرق». يقال زرقت عينه زرقا إذا تغشّى سوادها بياض ، ـ

١٦٠