تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

[حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)]

قوله سبحانه : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ...)

في الكافي والفقيه وتفسيري العيّاشي والقمّي ، بطرق كثيرة عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : «إنّ الصلاة الوسطى هي الظهر (١)». (٢)

أقول : ويؤيّدها ما في تفسير العيّاشي عن محمّد بن مسلم عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «قلت له : الصلاة الوسطى ، فقال : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ

__________________

(١). في تفسير القمّي : «صلاة العصر»

(٢). الكافي ٣ : ٢٧١ ، الحديث : ١ ؛ من لا يحضره الفقيه ١ : ١٩٥ ، الحديث : ٦٠٠ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٢٧ ، الحديث : ٤١٥ ؛ تفسير القمّي ١ : ٧٩ ؛ بحار الأنوار ٧٩ : ٢٩٠.

٨١

الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) والوسطى هي الظهر ، وكذلك كان يقرأها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ...» (١) الحديث.

وروي هذه القراءة في بعض روايات العامّة أيضا. (٢)

وروي : «الصلاة الوسطى صلاة العصر» من غير عطف ، كما رواها القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ. (٣)

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) : «إقبال الرجل على صلاته ومحافظته على وقتها ؛ حتّى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء». (٤)

وفي المجمع قال : (٥) هو الدعاء في الصلاة (٦) حال القيام ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ». (٧)

أقول : ولا منافاة بين الروايتين ، وهو ظاهر.

وفي بعض الروايات تأويل الصلوات بالنبيّ وآله ـ عليهم‌السلام ـ ، وسيجيء بيانه.

قوله سبحانه : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً)

في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «إذا خاف من سبع أو

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٢٧ ، الحديث : ٤١٥.

(٢). سنن أبي داود ١ : ١٠٢ ، الحديث : ٤١٠ ؛ السنن الكبرى للبيهقي ١ : ٤٦٢ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٧٠ ، الحديث : ٤٢٧٥.

(٣). تفسير القمّي ١ : ٧٩.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ١٢٧ ، الحديث : ٤١٨.

(٥). في المصدر+ «القنوت»

(٦). في المصدر : + «في»

(٧). مجمع البيان ٢ : ١٢٨.

٨٢

لصّ (١) يكبّر ويومىء أيماءا (٢)». (٣)

وفي الفقيه عنه ـ عليه‌السلام ـ في صلاة الزحف ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «تكبير وتهليل ، ثمّ تلا الآية». (٤)

وفيه عنه ـ عليه‌السلام ـ : «إن كنت في أرض مخوفة ، فخشيت لصّا أو سبعا ، فصلّ الفريضة وأنت على دابّتك». (٥)

وفيه عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «الذي يخاف اللصوص يصلّي إيماءا على دابّته». (٦)

أقول : وفي هذه المضامين روايات اخر. (٧)

واعلم : أنّه يمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) على ما يعين عليه قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) ضرب القاعدة لأحكام الصلاة في الشكّ ، كما يستفاد من أدلّة قاعدتي «التجاوز» و «الفراغ» ، وأحكام الشكّ في عدد الركعات ، كقوله ـ عليه‌السلام ـ : «ينبغي لك أن تحتاط في الصلوات كلّها».

بيان ذلك : أنّ التشقيق بقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) يوجب كون حكم الخوف مترتّبا على المحافظة على الصلوات ، وهو حكم واقعيّ ثانويّ لا معنى لترتّبه على غير

__________________

(١). في المصدر : + «كيف يصلّي قال»

(٢). في المصدر : «برأسه»

(٣). الكافي ٣ : ٤٥٧ ، الحديث : ٦.

(٤). من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٦٥ ، الحديث : ١٣٤١.

(٥). من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٦٥ ، الحديث : ١٣٤٢.

(٦). من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٦٥ ، الحديث : ١٣٤٣.

(٧). تهذيب الأحكام ٣ : ١٧٣ ، الحديث : ٣ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٢٨ ، الحديث : ٤٢٤.

٨٣

الحكم الواقعي الأوّلي ترتّب أحد الشقّين على الآخر ، والاحتياط والتحفّظ على الصلوات حكم طريقيّ لحفظ الواقع ظاهريّ ، منطبق على صورة الخوف كانطباقه على أصل الصلاة ؛ فإنّ الاحتياط في الدين ـ على حسنه ـ لا يختصّ بحكم دون حكم ، وإن اختلف فيها من حيث التأكّد وعدمه.

ومن هنا يتبيّن أنّ قوله : (حافِظُوا) مشتمل على الحكم الواقعي الأوّلي.

فالقواعد المشتملة على أحكام الشكّ بأنواعه في الصلاة تشتمل على أحكام واقعيّة ـ مترتّبة على اخرى كذلك ترتّب الموضوع على الموضوع ؛ كالمريض على الصحيح ، وفاقد الماء على واجده ـ دون الأحكام الظاهريّة المتفرّعة على الواقعيّة مع بقاء الموضوع واختلاف حاله باليقين والشكّ ، فبعروض الشكّ ينقلب الحكم الواقعي إلى آخر من مثله ، فافهم.

وقد تنبّه لذلك بعض الأجلّة في قاعدتي «التجاوز» و «الفراغ» ، فذكر أنّهما فرعا قاعدة «الاحتياط» المجعولة في الصلاة ، على ما يستفاد من دليلهما ، وقوّاه بعض الأساطين من أساتيذنا في أحكام الشكّ في عدد الركعات ، وذهب إلى انقلاب التكليف عند الشكّ في عدد الركعات إلى ما يقتضيه الاحتياط ، وصرّح بعدم تنجّز العلم الإجمالي المربوط بصور الشكّ.

قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) ـ إلى قوله ـ : (إِخْراجٍ)

في تفسير العيّاشي عن أبي بصير قال : «سألته عن قول الله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) إلى قوله : (إِخْراجٍ) قال ـ عليه‌السلام ـ : هي منسوخة ، قلت : وكيف كانت؟ قال : كان الرجل إذا مات انفق على امرأته من صلب المال حولا ، ثمّ اخرجت

٨٤

بلا ميراث ، ثمّ نسختها آية الربع والثمن ، فالمرأة ينفق عليها من نصيبها». (١)

وفيه عن معاوية بن عمّار قال : «سألته عن قول الله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ...) قال : منسوخة ، نسختها آية (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (٢) ونسختها آية الميراث». (٣)

أقول : وعليه روايات اخر. (٤)

قوله سبحانه : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ ...)

في الكافي وتفسير العيّاشي : «سئل الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن الرجل يطلّق امرأته يمتّعها؟ قال : نعم ، أما يحبّ أن يكون من المحسنين؟! أما يحبّ أن يكون من المتّقين؟!». (٥)

أقول : إشارة إلى ما في آيتي المتعة : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٦) (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

*

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٢٩ ، الحديث : ٤٢٧.

(٢). البقرة (٢) : ٢٣٤.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ١٢٩ ، الحديث : ٤٢٦.

(٤). تفسير القمّي ١ : ٥ ؛ وسائل الشيعة ٢٢ : ٢٣٧ ، الحديث : ٢٨٤٨١.

(٥). الكافي ٦ : ١٠٤ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٢٤ ، الحديث : ٣٩٦.

(٦). البقرة (٢) : ٢٣٦.

٨٥

[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)]

قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ...)

في الاحتجاج عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، في حديث ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «أحيى الله قوما خرجوا من أوطانهم هاربين من الطاعون ، لا يحصى عددهم ، فأماتهم الله دهرا طويلا ؛ حتّى بليت عظامهم وتقطّعت أوصالهم وصاروا ترابا ، فبعث الله في وقت أحبّ أن يري خلقه نبيّا يقال له : حزقيل ، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم ، ورجعت فيها أرواحهم ، وقاموا كهيئة يوم ماتوا ، لا يفتقدون في أعدادهم رجلا ، فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا». (١)

أقول : وروى هذا المعنى الكليني والعيّاشي بنحو أبسط ، وفي آخره : «وفيهم نزلت هذه الآية». (٢)

__________________

(١). الاحتجاج ٢ : ٣٤٤.

(٢). الكافي ٨ : ١٩٨ ، الحديث : ٢٣٧ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٣٠ ، الحديث : ٤٣٣.

٨٦

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «فعاشوا بعد ذلك ...» إلى آخره ، يمكن أن يستفاد من سياق الآية ؛ إذ لو كان إحياء بلا إعاشة ـ كأن يكون ذلك لآية معجزة كما في قصّة أصحاب الكهف ، أو تحدّيا من نبيّ ـ كان الغرض الأصيل متعلّقا به وببيانه ، ولم يجز في مسلك البلاغة إلغاؤه والصفح عنه ، وهو ظاهر ، ولم يكن لتذييله بما ذيّل به من قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ) وجه ، والسياق أيضا يفيد كون إحيائهم فضلا عليهم ، فعلّله بقوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ) لا أنّ الله أحياهم ليعتبر به وبهم المعتبرون أنّ الله لذو فضل على الناس ؛ إذ لو كان كذلك لم يكن بدّ في الكلام من ذكر الغرض.

*

٨٧

[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)]

قوله سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ ...)

في المعاني عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «لمّا نزلت (١) هذه الآية : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) (٢) قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : اللهمّ زدني ، فأنزل الله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٣) قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : اللهمّ زدني ، فأنزل الله : (٤) (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) فعلم رسول الله أنّ الكثير من الله (٥) لا يحصى ، وليس له منتهى». (٦)

__________________

(١). في المصدر : + «على النبيّ»

(٢). النمل (٢٧) : ٨٩.

(٣). الأنعام (٦) : ١٦٠.

(٤). في المصدر : + «تعالى»

(٥). في المصدر : + «عزوجل»

(٦). معاني الأخبار : ٣٩٧ ، الحديث : ٥٤.

٨٨

أقول : وروى الطبرسي والعيّاشي (١) نظيره.

قوله ـ عليه‌السلام ـ : «فعلم رسول الله ...» إلى آخره ، يومئ إليه آخر الآية : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) إذ لا نهاية لعطائه ، قال تعالى : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٢) فالتذييل بالعطاء الغير المتناهي يفيد ذلك.

وفي تفسير العيّاشي عن أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «هي صلة الإمام». (٣)

أقول : وروى مثله في الكافي (٤) عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، وهو من باب عدّ المصداق.

*

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ١٣٧ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٣١ ، الحديث : ٤٣٤.

(٢). الإسراء (١٧) : ٢٠.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ١٣١ ، الحديث : ٤٣٥.

(٤). الكافي ١ : ٥٣٧ ، الحديث : ٢.

٨٩

[أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ

٩٠

غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)]

قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ...)

الروايات متكاثرة في ذكر هذه القصّة ، ولا تزيد على ما ذكره الله تعالى منها إلّا خصوصيّات ـ سنوردها إن شاء الله ـ خاصّة.

قوله سبحانه : (لِنَبِيٍّ لَهُمُ)

في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «هو اشموئيل ، وهو بالعربيّة إسماعيل». (١)

قوله سبحانه : (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ...)

في تفسير القمّي عنه ـ عليه‌السلام ـ في حديث : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) فغضبوا من ذلك وقالوا : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) وكانت النبوّة في بيت لاوي ، والملك في ولد يوسف ، وكان طالوت من ولد ابن يامين (٢) أخي يوسف لامّه ، ولم يكن من بيت النبوّة ولا من بيت الملكة (٣) (قالَ) لهم نبيّهم (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ

__________________

(١). تفسير الصافي ١ : ٢٧٣ نقلا عن مجمع البيان.

(٢). في المصدر : «بنيامين»

(٣). في المصدر : «المملكة»

٩١

واسِعٌ عَلِيمٌ) وكان أعظمهم جسما وكان شجاعا قويّا وكان أعلمهم ، إلّا أنّه كان فقيرا ، فعابوه بالفقر ، فقالوا : لم يؤت سعة من المال ...» (١) الحديث.

قوله سبحانه : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)

في عدّة روايات عنهم ـ عليهم‌السلام ـ : «إنّ السكينة ريح تخرج من الجنّة ، لها صورة كصورة الإنسان». (٢)

أقول : وكون التابوت فيه السكينة : هو إفاضته تعالى الأمنة والطمأنينة على قلوب بني إسرائيل كلّما قدّموه أمامهم في الحروب ، كنزول السكينة على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعلى المؤمنين.

وأمّا كونها ريحا لها صورة كصورة الإنسان : فمن التمثّلات البرزخيّة التي وردت في المعاني الغير الجسمانيّة ، وتجسّمها في الدنيا أو في الآخرة ، وسيأتي إن شاء الله بيانه.

ويشهد به : ما في تفسير العيّاشي عن العبّاس بن الهلال عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ قال : «سمعته وهو يقول للحسن : أيّ شيء السكينة عندكم؟ وقرأ (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) (٣) فقال له الحسن : جعلت فداك! لا أدري ، فأيّ شيء هي؟ قال ـ عليه‌السلام ـ : هي ريح تخرج من الجنّة لها صورة كصورة وجه الإنسان ، قال : فتكون مع الأنبياء.

فقال له عليّ بن أسباط : تنزل على الأنبياء والأوصياء؟ فقال : تنزل على

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٨١.

(٢). الكافي ٣ : ٤٧١ ، الحديث : ٥ ؛ تفسير القمّي ١ : ٨٢.

(٣). الفتح (٤٨) : ٢٦.

٩٢

الأنبياء ، (١) قال : وهي التي نزلت على إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حيث بنى الكعبة ، فجعلت تأخذ كذا وكذا وبنى الأساس عليها ، فقال له محمّد بن عليّ : قول الله : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قال : هي من هذا ...» (٢) الحديث.

فظهر أنّه وصف لمطلق السكينة النازلة على الأنبياء.

وقريب منه ما في المعاني عن أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ قال : «روح الله يتكلّم ، كانوا إذا اختلفوا في شيء كلّمهم وأخبرهم ...» (٣) الحديث.

وسيأتي الكلام في الروح أيضا.

قوله سبحانه : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ)

في الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «رضراض الألواح فيه العلم والحكمة». (٤)

أقول : يريد ـ عليه‌السلام ـ ألواح التوراة ، كما صرّح به في روايات اخر ، (٥) وقد اضيف إلى ذلك في الرواية السابقة عصا موسى ، وفي اخرى درعه ، وفي اخرى الطست التي يغسل فيها قلوب الأنبياء ، وهو كلام متشابه لم يرد عنهم تفسيره ، وقد ورد نظيره في قصّة لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قبل البعثة : «إنّ الملائكة أخرجت قلبه فغسلته بالطست ...» الحديث ، وإن أمكن تصحيح معناه.

__________________

(١). في المصدر : + «والأوصياء»

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٣٣ ، الحديث : ٤٤٢.

(٣). معاني الأخبار : ٢٨٤ ، الحديث : ٢.

(٤). الكافي ٨ : ٣١٧ ، الحديث : ٥٠٠.

(٥). بحار الأنوار ٥٧ : ٢٥١.

٩٣

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ) قال ـ عليه‌السلام ـ : «البقيّة : ذرّيّة الأنبياء ...» (١) الحديث.

والظاهر أنّه غلط من الراوي ، وإنّما ذكر ـ عليه‌السلام ـ الذرّيّة تفسيرا لآل موسى وآل هارون ، فاشتبه عليه وظنّه تفسيرا للبقيّة. ويؤيّد ما ذكرناه : ما في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه : «سئل عن قول الله : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) فقال : «ذرّيّة الأنبياء ...» (٢) الحديث.

قوله سبحانه : (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ)

في الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «كانت تحمله في صورة البقرة ...» (٣) الحديث.

قوله [سبحانه] : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ...)

في تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية «فشربوا منه إلّا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، منهم من اغترف ، ومنهم من لم يشرب ، فلمّا برزوا قال الذي اغترفوا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) وقال الذين لم يغترفوا : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)». (٤)

__________________

(١). بحار الأنوار ١٣ : ٤٤١ ، الحديث : ٤ ، نقلا عن تفسير القمّي.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٣٣ ، الحديث : ٤٤١.

(٣). الكافي ٨ : ٣١٧ ، الحديث : ٤٩٩.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ١٣٤ ، الحديث : ٤٤٣.

٩٤

أقول : الفرقتان القائلتان ـ القائلة : (لا طاقَةَ لَنَا) والقائلة : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ ...) إلى آخره ـ جميعهما هم المؤمنون معه المجاوزون النهر كما يقصّه سبحانه ، وحيث كان قوله : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) استثناءا من قوله تعالى : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) وقد اخّر في الكلام ، أفاد السياق رخصة في الاغتراف وانحطاطا في المنزلة عن الذين لم يشربوا ، فأفاد ذلك أنّ القائلين : (لا طاقَةَ لَنَا) هم المغترفون بعينهم.

وقد ورد أنّ عدّة جنود طالوت كانت ستّين ألفا. (١)

وقوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ)

الكلام فيه نظير الكلام في قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ). (٢)

*

__________________

(١). بحار الأنوار ١٣ : ٤٣٥.

(٢). البقرة (٢) : ٤٥ ـ ٤٦.

٩٥

[فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)]

قوله سبحانه : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ ...)

قيل : أي دفع بعض الناس من المفسدين ببعض آخر مصلحا أو مفسدا ، كما يفيده الظاهر ، وقيل : أي بنصر المؤمنين على الكافرين ، وكأنّه مأخوذ من قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (١)

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ الله ليدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي من شيعتنا ، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا ، وإنّ الله ليدفع بمن يزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكّي ، ولو اجتمعوا على

__________________

(١). الحجّ (٢٢) : ٤٠.

٩٦

ترك الزكاة لهلكوا ، وإنّ الله ليدفع بمن يحجّ من شيعتنا عمّن لا يحجّ ، ولو اجتمعوا على ترك الحجّ لهلكوا ، وهو قول الله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) فو الله ما نزلت إلّا فيكم ولا عنى بها غيركم». (١)

أقول : مدار الأمر على المراد بفساد الأرض ، فليس على حقيقته ؛ إذ الأرض لا تفسد نفسها ، وإنّما المراد فسادها من حيث أهلها : إمّا فسادها بهلاك أهلها ببليّة عامّة وسخط إلهيّ شامل ، فيكون إنّما دفع بعض عن أن يشمله الهلاك بسبب صلاح بعض ، وإمّا فسادها بسبب فساد نظام الدين أو نظام العيش ، فيكون إنّما دفع بعض الناس من مفسدي النظام بسبب بعض آخر من المفسدين أو المصلحين.

وفي قوله تعالى : (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) إطلاق يشمل الجميع ، ولا يستلزم ذلك كون قوله : (بَعْضَهُمْ) مفعولا للدفع ومنصوبا بنزع الخافض معا ؛ فإنّه كما يصحّ أن يعتبر البلاء مدفوعا عن الناس ، كذلك يصحّ أن يعتبر الناس مدفوعين عن البلاء ، فافهم.

وقد ورد هذا المعنى عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ رواه الطبرسي في المجمع. (٢)

*

__________________

(١). الكافي ٢ : ٤٥١ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٣٥ ، الحديث : ٤٤٦.

(٢). مجمع البيان ٢ : ١٥٢.

٩٧

[تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)]

قوله سبحانه : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ...)

سياق الآية يعطي : أنّها في مقام بيان أنّ الاختلافات بين الناس بحسب الأفعال والآثار ـ كاختصاص كلّ بأمر وشأن ـ ناشئة عن الاختلاف بينهم في أنفسهم ، وأنّ الجميع بإرادة الله تعالى وإذنه ، فقال : (تِلْكَ الرُّسُلُ) والإشارة بلفظ «تلك» لترفيع قدرهم وبعد منالهم ووضوح شأنهم (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) ثمّ قرع السمع بآثار تفضيلهم بنحو الإجمال.

لكنّ هذه الفضائل حيث كانت على قسمين ـ :

منها : ما هو بحسب نفس الاسم يدلّ على الفضيلة ، كالآيات البيّنات والتأيّد

٩٨

بروح القدس ، كما ذكر لعيسى ـ عليه‌السلام ـ.

ومنها : ما ليس كذلك وإنّما يدلّ عليها بالإضافة ؛ فالتكليم ليس بنفسه منقبة حتّى يضاف إلى شيء يكتسب منه المنقبة ، فيقال : «تكليم الله» ، وكذا رفع الدرجات ، حتّى يقال : «رفعه الدرجات» ـ كان ـ وهذا هو الوجه في الالتفات من التكلّم إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث ، حيث قال : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) فحوّل وجه الكلام إلى الغيبة في الجملتين الاوليين ؛ حتّى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأوّل وهو التكلّم ، فقال تعالى : (وَآتَيْنا عِيسَى).

وذلك هو الوجه في إيراد عيسى باسمه دون الباقين ؛ إذ إيتاء البيّنات والتأييد بروح القدس مشتركان بين الرسل جميعا ، ليسا بمنقبة لأحد بعينه ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) (١) وقال : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا) (٢) لكنّهما في عيسى حيث كانا بنحو خاصّ ـ كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص من البيّنات ، ونفخ الروح ـ أضافهما إليه ، فصرّح بالاسم فيه دون غيره.

على أنّ في اسمه خاصّة اخرى وآية بيّنة : وهو أنّه ابن مريم لا أب له ، قال تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٣) فمجموع الامّ والابن بيّنة تامّة اخرى ، هذا.

ثمّ وقع الالتفات إلى الغيبة ، فقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ

__________________

(١). الحديد (٥٧) : ٢٥.

(٢). النحل (١٦) : ٢.

(٣). الأنبياء (٢١) : ٩١.

٩٩

بَعْدِهِمْ) وذلك أنّ الالوهيّة تنافي تقيّد القدرة ، فهي الموجبة لكون طرفي الإيجاب والسلب في كلّ شيء تحت إحاطة القدرة ، فمسّت حاجة المقام إلى إظهاره للذكر ، فقيل : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) ولم يقل : «ولو شئنا». وهذا هو الوجه في قوله في ذيل الآية : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ). وهو الوجه أيضا في العدول من الإضمار إلى الإظهار في المواضع الثلاثة الأخيرة.

وكيف كان ، فقد كان مقدورا أن يمنع عن اقتتالهم ، لكنّ اختلافهم بحسب أنفسهم أوجب ذلك ، وهو قوله تعالى : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ).

ثمّ لمّا أمكن أن يتوهّم أنّه يوجب خروج الاقتتال عن حيطة القدرة ـ وإن كان داخلا فيها لولاه ـ ذكر ثانيا أنّ القدرة باقية على حالها ، فقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) وعقم السبب ـ سبب الاقتتال ـ وألغى الاقتضاء (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) وقد أراد أن يجري الامور بأسبابها ، وإن كانت الأسباب والمسبّبات والروابط التي بينها تحت قدرته وأمره عزّ شأنه.

وفي الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «في هذا ما يستدلّ به على أنّ أصحاب محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد اختلفوا من بعده ؛ فمنهم من آمن ومنهم من كفر». (١)

وفي تفسير العيّاشي عن الأصبغ بن نباتة قال : «كنت واقفا مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ يوم الجمل ، فجاء رجل حتّى وقف بين يديه ، فقال : يا أمير المؤمنين! كبّر القوم وكبّرنا ، وهلّل القوم وهلّلنا ، وصلّى القوم

__________________

(١). الكافي ٨ : ٢٧٠ ، الحديث : ٣٩٨.

١٠٠