تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

١٤١

الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ...)

الآيتان في أحكام الدّين والبيع والشهادة والرهن ؛ ممّا يقرب من ثلاثين حكما ، وقد تكاثرت الأخبار فيها ، وهي مستغنية عن الشرح.

قوله سبحانه : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

مناسبتها مع ما قبلها ظاهرة ؛ فإنّ الملكيّة ـ كما عرفت سابقا ـ ملاك العلم الفعلي ، وقد أنذر الله سبحانه به كاتمي الشهادة في ذيل الآيتين السابقتين ، كما أنّها ملاك الحساب.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)

أشدّ آية وأثقلها في الحساب ، وسيجيء بيان أنّه ترتّب النتائج على الأعمال من حيث انسياقها إلى السعادة والشقاوة ، والوجدان يساعد على هذا البيان ، فكلّ خاطر نفسانيّ ـ في خير أو شرّ ـ يستتبع من جنسه ما يناسبه ، ويرسم في النفس رسما وهيئة على شاكلته ، والآخرة على وزان الاولى ؛ قال سبحانه : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) (١) (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٢) وفي نهج البلاغة : «وبما في الصدور تجازى العباد». (٣)

__________________

(١). طه (٢٠) : ١٢٣.

(٢). الإسراء (١٧) : ٧٢.

(٣). نهج البلاغة : الخطبة : ٧٥.

١٤٢

فالآية بعمومها تشمل كلّ خاطر نفسانيّ ، وتشدّد كلّ تشديد ، غير أنّ ذيله أعني قوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ينعم بعض الرجاء ؛ إذ كان يثبت مغفرة ما في تلو هذا الحساب ، ويؤكّده تقديم المغفرة على العذاب.

ثمّ قوله سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) (١) يبيّن ذلك ؛ بأنّ التكليف إنّما يقع فيما في الوسع فعله وتركه ، وأنّ ما ليس في الوسع ـ كمطلق الخواطر النفسانيّة ـ لا يؤاخذ بها مؤاخذة التكليف العامّ.

وقد عدّ قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ) في بعض الروايات ناسخا لقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) (٢) وقد عرفت معنى النسخ سابقا.

*

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٨٦.

(٢). راجع : الميزان في تفسير القرآن ٢ : ٤٣٨.

١٤٣

[آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)]

قوله سبحانه : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ...)

نظم الآيتين من عجيب النظم :

فترى القول فيهما تارة في سياق الخبر.

واخرى في سياق الحكاية.

ومرّة يؤتى باللفّ ويتبع بالنشر ، كقوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) وقوله : (آمَنَ بِاللهِ) مع قوله : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) وكقوله : (وَرُسُلِهِ) مع قوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) وكقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) مع قوله :

١٤٤

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) وكقوله : (غُفْرانَكَ رَبَّنا) مع قوله تعالى : (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا).

ومرّة يؤتى بالنشر أوّلا ثمّ باللفّ ، وهو الإجمال بعد التفصيل ؛ كقوله : (الرَّسُولُ) و (الْمُؤْمِنُونَ) مع قوله : (كُلٌّ ...) إلى آخرها.

ومرّة يوضع العموم والشمول أوّلا ، ثمّ يوضع في العود بوصفه الخاصّ المقيّد ، كقوله : (غُفْرانَكَ رَبَّنا) مع قوله : (وَاعْفُ عَنَّا) وكقوله : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) مع قوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) كالعبد إذا شافه مولاه فأخذ بإيفاء حقّ الربوبيّة وأدب العبوديّة ، فخاطبه بقبول كلّ ما يريده إبداءا لعظمة ربوبيّته ، ثمّ لاذ إليه بذكر ما لنفسه من الضعف والفاقة ، هذا.

ومع ذلك كلّه ، فالآيتان أشبه شيء بالمجموع الملفّق من محادثة متكلّمين اثنين ومسامرتهما ، وهو ظاهر.

وفي تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ هذه الآية مشافهة الله لنبيّه ...» (١) الحديث.

وفي تفسير العيّاشي عن عبد الصمد بن شيبة عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث يذكر فيه معراج النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، قال : «فقال الله (٢) (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فقال الله (٣) : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) فقال النبيّ ـ صلّى الله عليه

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٩٥.

(٢). في المصدر : + «تعالى»

(٣). في المصدر : + «تعالى»

١٤٥

وآله وسلّم ـ : (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) قال الله (١) : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) قال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قال : فقال الله (٢) : قد فعلت ، فقال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) قال : قد فعلت ، فقال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) كلّ ذلك يقول الله : قد فعلت ...» (٣) الحديث.

وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر ـ عليه‌السلام ـ يصف معراج النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، إلى أن قال : «فرأى عظمة ربّه بفؤاده ولم يرها بعينه ، فكان قاب قوسين بينها وبينه أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ، (٤) فكان فيما أوحى إليه الآية التي في سورة البقرة ، قوله (٥) : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (٦)

وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم إلى أن بعث الله تبارك وتعالى محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وعرضت على الامم ، فأبوا أن

__________________

(١). في المصدر : + «تعالى»

(٢). في المصدر : + «تعالى»

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ١٥٧ ، الحديث : ٥٣٠.

(٤). النجم (٥٣) : ٩ ـ ١٠.

(٥). في المصدر : + «تعالى»

(٦). البقرة (٢) : ٢٨٤.

١٤٦

يقبلوها من تثقيلها (١) وقبلها رسول الله ، وعرضها على امّته فقبلوها ، فلمّا رأى الله تبارك وتعالى منهم القبول علم أنّهم لا يطيقونها.

فلمّا أن سار إلى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه ، فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) فأجاب ـ مجيبا عنه وعن امّته ـ فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فقال جلّ ذكره : لهم الجنّة والمغفرة عليّ إن فعلوا ذلك ، فقال النبيّ : أمّا إذا فعلت بنا ذاك ف (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) يعني المرجع في الآخرة ، فأجابه الله جلّ ثناؤه : وقد فعلت ذلك بك وبامّتك.

ثمّ قال جلّ ثناؤه : أما إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها ـ وقد عرضتها على الامم ، فأبوا أن يقبلوها وقبلتها امّتك ـ فحقّ عليّ أن أرفعها عن امّتك ، وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ) من خير (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من شرّ ...» (٢) الحديث.

أقول : وهو ـ كما ترى ـ يجعل قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) تقريرا لقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) (٣) هذا.

وهاهنا روايات اخرى في هذا المعنى ، إلّا أنّ كيفيّة المشافهة ـ المنقولة فيها ـ تخالف ما مرّ ، وما نقلناها أطبق لسياق الآيتين ، وبالرواية يهتدى إلى نكات اسلوب الآيتين.

ولا منافاة بين كون الآيتين مجموعا من مشافهة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١). في المصدر : «ثقلها»

(٢). الاحتجاج ١ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(٣). البقرة (٢) : ٢٨٤.

١٤٧

وسلّم ـ مع ربّه ، وبين نزول المجموع آية من كتاب الله ؛ وسيجيء نظيره في قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١) وسيجيء بيان الحال في هذا القسم من الوحي إن شاء الله.

«الحمد لله ربّ العالمين»

«تمّ ليلة الأضحى المباركة من سنة ١٣٦٤ ه‍. ق»

__________________

(١). الصافّات (٣٧) : ١٦٥ ـ ١٦٦.

١٤٨

سورة آل عمران

١٤٩
١٥٠

[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)]

قوله سبحانه : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)

ولمّا كانت عمدة الغرض في هذه السورة ـ كسورة البقرة ـ هي التعرّض لحال أهل الكتاب في بغيهم وكفرهم بآيات الله وتفريطهم في جنبها ، مع ما يلحق به من حال الكافرين ، وذكر وقعة احد ، صدّر الكلام بموجز ما فيه من القول المبسوط ، وهو الآيات الثلاث : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) ، فبيّن أنّه أنزل ما أنزله من الكتب لغرض الهداية ، وأنّ الكافرين بها لهم عذاب شديد ، غير أنّه تعالى

١٥١

يشير إلى أنّ إنزال الكتب ، وكذلك كفر الكافرين بها وبالقرآن خاصّة جميعا من القدر ، وليس شيء منها خارجا عن حيطة الربوبيّة ودائرة الملك والتدبير الإلهي ، ولذلك صدّرها بقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

وقد عرفت في الكلام في ذيل آية الكرسي أنّها مشتملة على علم القدر ، فراجع.

ولذلك أيضا ختم الآيات الأربع بقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ،) ثمّ أردفها بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ) ، على ما سيجيء بيانه ، وختم السورة بقوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ). الآيات.

فتبيّن من ذلك كلّه أنّ عمدة الغرض في السورة بيان حال أهل الكتاب ، ومن يلحق بهم في اعتدائهم وتجافيهم عن الحقّ ، وأنّ ذلك كلّه من القدر.

قوله سبحانه : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ)

قد عرفت أنّ الفرق بين الفرقان والقرآن أو الكتاب ، أنّ الفرقان هو : المحكم الواجب العمل به ، والقرآن : جملة الكتاب المقروء ، وأنّ اللفظ يساعد على ذلك. قال في الصحاح : كلّ ما فرّق به بين الحقّ والباطل فهو فرقان ، (١) إنتهى. وقد مرّت الروايات في هذا المعنى ، (٢) وحينئذ فتكرار معنى قوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) بقوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) ، مشعر بأنّ الذي يحاذي به التوراة والإنجيل من القرآن هو الفرقان ، والمحكم منه ، كما أنّ التوراة كذلك ، قال سبحانه : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) (٣) وكذلك الإنجيل ، فالتوراة

__________________

(١). الصحاح ٤ : ١٥٤١.

(٢). التوحيد : ٢١٧ ؛ تفسير القمّي ١ : ٢٧٢.

(٣). البقرة (٢) : ٥٣.

١٥٢

والإنجيل والفرقان محكمات جميعا.

وأمّا الكتاب فيمتاز عنهما :

أوّلا : باشتماله على المحكم والمتشابه جميعا ، كما سيبيّنه بعد ثلاث آيات بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ، (١) ففي قوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) ، توطئة وإيماء إلى ذلك من باب براعة الإستهلال.

وثانيا : أنّه مشتمل على تبيان كلّ شيء بخلافهما ، قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، (٢) قال تعالى حكاية عن عيسى : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ، (٣) وقال مخاطبا لنبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ، (٤) وسيجيء بيانه إن شاء الله.

وقد فرّق بين الإنزال والتنزيل بأنّ التنزيل تدريجيّ الحصول ، بخلاف الإنزال فهو أعمّ ، أو خصوص الدفعي.

قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

قد مرّ أنّ تصدير الكلام بقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، للإشارة إلى أنّ تقلّبات الكافرين في أنواع بغيهم وأقسام مظالمهم من القدر غير خارجة عن التدبير الإلهي ، وقد مرّ في ذيل آية الكرسي أنّ مجال القدر هو السماء والأرض

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٧.

(٢). الأعراف (٧) : ١٤٥.

(٣). الزخرف (٤٣) : ٦٣.

(٤). النحل (١٦) : ٨٩.

١٥٣

وما فيهما ، وأمّا العرش وما خلفه فهو خارج عنه ، كما يتضمّنه قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، (١) ولذلك قصّر الكلام هاهنا على علمه بما في الأرض والسماء ، فهو موطن التقدير ، فأساس التقدير هو العلم التفصيلي الفعلي.

ومن هنا يعلم أنّ الآية التالية ـ أعني قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) في مقام التعليل لذلك ، وأنّ المراد بالتصوير ما لا يختصّ بظاهر الصور من السّباحة والملاحة والقباحة ، والسواد والبياض ، والذكورة والانوثة ، بل يشمل ما يرسمه الإنسان في صفحة حياته.

على أنّ التصوير هو إيجاد الصورة ، والصورة : هي ما له ظلّ ، فيشمل الجسم ، فهو تقويم البدن وقواه ، والقوى البدنيّة على اختلافها هي المبادئ لأخلاق الإنسان وأحواله ـ بل الحيوان ـ ، وهي المبادئ للأفعال ، وقد مرّ وسيجيء أنّ هذا ليس من الجبر في شىء.

فوزان هاتين الآيتين وزان قولك : إنّه لا يخفى عليّ شيء في هذا البستان ، فأنا الذي غرست وحرثت. وبذلك يظهر معنى ما عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «الشقيّ من شقي في بطن امّه ، والسعيد من سعد في بطن امّه». (٢) (٣)

وفي الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّ الله تعالى إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي ممّا أخذ عليها الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٥٥.

(٢). في المصدر : «والسعيد من وعظ بغيره»

(٣). الكافي ٨ : ٨١ ، الحديث : ٣٩ ؛ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤٠٣ ، الحديث : ٥٨٦٨ ؛ الأمالي للصدوق : ٤٨٧ ، الحديث : ١.

١٥٤

في الرحم ، حرّك الرجل للجماع وأوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتّى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري ، فتفتح الرحم بابها ، فتصل النطفة إلى الرحم ، فتردّد فيه أربعين يوما ، ثمّ تصير علقة أربعين يوما ، ثمّ تصير مضغة أربعين يوما ، ثمّ تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة.

ثمّ يبعث الله ملكين خلّاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله ، فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ، ويشقّان له السمع والبصر وجميع الجوارح ، وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى.

ثمّ يوحي الله إلى الملكين : اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري ، واشترطا لي البداء فيما تكتبان. فيقولان : يا ربّ ، ما نكتب؟ فيوحي الله عزوجل إليهما أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس امّه ، فيرفعان رؤوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة امّه ، فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه ، سعيدا أو شقيّا ، وجميع شأنه. قال : فيملي أحدهما على صاحبه ، فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان ، ثمّ يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ، ثمّ يقيمانه قائما في بطن امّه. قال : فربّما عتا فانقلب. ولا يكون ذلك إلّا في كلّ عات أو مارد ، وإذا بلغ أوان خروج الولد تامّا أو غير تامّ ، أوحى الله عزوجل إلى الرحم أن افتحي بابك حتّى يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري ، فقد بلغ أوان خروجه. قال : فتفتح الرحم باب الولد ، فيبعث الله عزوجل إليه ملكا يقال له زاجر ، فيزجره زجرة فيفزع منها الولد فينقلب فيصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهّل الله على المرأة وعلى الولد الخروج. قال : فإذا احتبس ، زجره الملك زجرة اخرى فيفزع منها فيسقط الولد إلى الأرض باكيا

١٥٥

فزعا من الزجرة». (١)

أقول : قوله : «أن يخلق النطفة» ، إلى آخره ، أي يجعلها بشرا تامّا ، وتقييدها بقوله : «التي هي ممّا أخذ عليه الميثاق» ، إلى آخره ، إشارة إلى ما مرّ وسيجيء بيانه أنّ موجودات هذه النشأة الدنيويّة وأحوالها مسبوقة الوجود بنشأة اخرى سابقة عليها تجري هي على صراطها ، وهي المسمّاة في لسان الأخبار ب : (عالم الذرّ والميثاق) ، فما اخذ عليه الميثاق لابدّ أن يخلق في هذه النشأة الدنيويّة ، وما يخلق في هذه النشأة هو ممّا اخذ عليه الميثاق من غير أن يقبل التغيير والتبديل ، فذلك من القضاء المحتوم ، ولذلك ردّد الكلام بينه وبين قوله عليه‌السلام : «أو ما يبدو له» ، انتهى. أي يبدو له البداء في تمام خلقه ، فلا يتمّ ويعود سقطا ، فالقسم المقابل له المأخوذ عليه الميثاق لا بداء فيه ، وعلى ذلك أخبار كثيرة سيجيء في محلّها.

قوله عليه‌السلام : «يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة» ، إنتهى. يمكن أن يكون لفظة «من فم المرأة» من كلام الراوي ، كما يؤيّده وضع الظاهر موضع المضمر ، وعلى ظاهر الحال من كونه من كلام الإمام هو من الشواهد على كون دخولهما واقتحامهما في بطن المرأة من غير سنخ دخول الجسم في الجسم ؛ إذ لا طريق إلى الرحم من غير الفرج إلّا العروق ، ومنها العرق الذي يدرّ منه دم الحيض فينصبّ في الرحم ، وليس هذا المنفذ بأسهل للدخول من جدران الرحم ، فللدخول من الفم سببا غير سهولة الطريق ، وهو ظاهر.

قوله عليه‌السلام : «وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام

__________________

(١). الكافي ٦ : ١٣ ـ ١٥ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٩.

١٥٦

النساء» ، إلى آخره. كأنّها الروح النباتيّة التي هي المبدأ للتغذّي والتنمّي.

قوله عليه‌السلام : «فينفخان فيها روح الحياة والبقاء» ، إلى آخره. ظاهره رجوع الضمير إلى الروح القديمة ، فروح الحياة والبقاء منفوخة في الروح النباتيّة ، فيعطي أنّ نفخ الروح الإنساني مثلا إنّما هو ترقّي الروح النباتي بالاشتداد ، على ما يعطيه مسلك الحركة الجوهريّة من القول بكون النفس جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء. وبذلك يظهر معنى انتقال الروح القديمة في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فالروح متّحد الوجود بوجه مع البدن ، وهو النطفة وما يمدّه من دم الحيض ، وهي المتّحدة مع بدني الأبوين ، وهما مع النطفة وهلمّ جرّا ، فما يجري على الإنسان مأخوذ الفهرس في وجود آبائه وامّهاته ، ومكتوب المنشور في صور أشخاصهم.

وبه يظهر معنى قوله : «فيوحي الله عزوجل إليهما ـ أي إلى الملكين ـ إرفعا رؤوسكما إلى رأس امّه» ، وذلك أنّ الذي لأبنه من شرح قضائه وقدره قد انفصل عنه بانفصال النطفة فما بقي متّصلا به إلّا امّه ، وهو قوله : «فإذا اللوح يقرع جبهة امّه» ـ والجبهة مجتمع حواسّ الإنسان ـ «فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيدا أو شقيّا وجميع شأنه فيملي أحدهما على صاحبه» فنسبتهما شبيهة نسبة الفاعل والقابل ، فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان فيه ، وذلك لعدم اشتمال صورته على تمام العلّة ، فإنّ الصورة وإن كانت هي المبدأ لجميع ما يجري على الإنسان من الحوادث المختصّة به ، لكن ليست بالمبدأ كلّه ، ولذلك كان الذي يتراءى منها من الحوادث غير حتميّ الوقوع ، فكانت مظنّة البداء ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

واعلم أنّ نسبة تفاصيل الولادة إلى تحريك الله الرجل ووحيه إلى الرحم

١٥٧

وإرسال الملكين الخلّاقين والملك الزاجر ، لا ينافي استناد هذه الحوادث إلى الطبيعة ، فإنّما هو طوليّ ، وليس أحدهما في عرض الآخر حتّى يتدافعا أو يعود الأمر إلى تركّب العلّة التامّة من مجموعهما ، بل كلّ منهما تمام العلّة لكن في مرتبته ، فمن أقامه الله لهداية الناس إلى مرضاته وظيفته البيان بسلوك مسلك الباطن من توسيط الملائكة ، واستناد الحوادث إلى عملهم ونسبة السعادة بخصوصيّاتها إليهم ونسبة الشقاء بخصوصيّاته إلى الشيطان ، ونسبة الجميع إليه ـ سبحانه ـ على ما يليق بقدس ساحته وحضرته حتّى يستنتج منها صور الهداية والضلالة ، والربح والخسران ، وبالجملة ، شؤون الحياة الآخرة.

ولذلك لو أوفيت التصفّح واجدت التتبّع في الظواهر الدينيّة ، وجدت فيها خصوصيّات الحوادث وأحكام العالم برمّتها وجملتها منسوبة إلى مشيئة الرحمان ووساطة الملك والشيطان شبيه تشكّل المملكة عندنا حيث تنتظم من عدّة مؤتلفة من أفراد الإنسان بالإجتماع والتعاون ، وهم الرعيّة ، وتجتمع أزمّتهم عند عرش الملك وتنتظم امورهم من أحكام صادرة عنه ، ويتوسّط بينه وبينهم في أخذها وإيصالها وإجرائها وجميع تقليباتها جماعة اخرى ، هم الوزراء والمستشارون والامراء والأعوان والحجّاب والجنود وغيرهم ، كلّ ذلك تشبّها بالطبيعة ، وأنّ الشريعة تجاري معهم في بيان ما تتشبّه به الطبيعة بأخذ ما تشبّه بالطبيعة أخذا بالمعروف المعهود عند الناس ، وأمّا بحسب الحقيقة فالنظام الاجتماعي يتشبّه بالطبيعة ، والطبيعة تتشبّه بما ورائها ، قال سبحانه : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، (١)

__________________

(١). العنكبوت (٢٩) : ٦٤.

١٥٨

وحقيقة اللعب لا تتجاوز التشبيه والخيال ، واللهو ما يشغل الإنسان.

وعن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم». (١)

قوله سبحانه : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

لمّا وضع أساس البيان في هذه الآيات الستّ على ثبوت القدر ، ومن الواضح أنّ انتفائه وتحديد السلطنة الإلهيّة يوجب انتقاض التوحيد ، وكيف يجامع التوحيد ثبوت التأثير الحقيقي المستقلّ من غيره سبحانه ، حفّ طرفي الكلام بكلمة التوحيد وقارنها في الصدر بالإسمين : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وهما محتدا القدر ، وفي الذيل بالإسمين : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) دفعا لما يختلج في الصدور أنّ ثبوت القدر ـ وهو التأثير في الخلق من كلّ جهة ـ يوجب انهدام أساس الأمر والنهي والثواب والعقاب ، فعزيز القوم هو الذي عنده ما عند القوم من أسباب الغنى وليس عنده ما عندهم من الحاجة ، فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد من غير حاجب ولا مانع ، والحكيم هو المتقن في أفعاله فلا يظلم ولا يجازف.

وبذلك يظهر وجه توسّط الإسمين : (عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) في الكلام ، فهو عزيز غير مغلوب ذو انتقام شديد.

*

__________________

(١). الكافي ١ : ٢٣ ، الحديث : ١٥ ؛ الأمالي للصدوق : ٤١٩ ، الحديث : ٦ ؛ الأمالي للطوسي : ٤٨١ ، الحديث : ١٠٥٠.

١٥٩

[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)]

قوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)

ذكر سبحانه أنّ من الكتاب آيات محكمات واخر متشابهات ، وعرّف المحكمات بأنّها امّ الكتاب وأصله الذي يرجع إليه غيره ، وأنّها في أصالتها وامومتها ومرجعيّتها شيء واحد لا اختلاف فيه ؛ إذ هو المفهوم من قوله (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) حيث أفردت ولم تجمع ، فأفاد أنّ المقصود المرجوع إليه في الكتاب واحد ، وهو الذي تحويه محكمات الكتاب وترجع إليه متشابهاتها ، فالمحكمات واحدة بصفة الإحكام ، وأمّا المتشابهات ، فإنّما تتّصف بالإحكام

١٦٠