تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : هم الأئمّة ومن اتّبعهم. (١)

وفي تفسيري القمّي والعيّاشي عن عمر بن يزيد عنه عليه‌السلام قال : أنتم والله من آل محمّد ، فقلت : من أنفسهم ـ جعلت فداك ـ؟ قال : نعم ، والله من أنفسهم ـ ثلاثا ـ ثمّ نظر إليّ ونظرت إليه ، فقال : يا عمر! إنّ الله يقول في كتابه : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ ...). (٢)

أقول : والأخبار في مضمون الروايتين الأخيرتين كثيرة ، (٣) والوجه في الجميع ظاهر ، وفي الآية إيماء إلى ضابط كلّي هو : أنّ التبعيّة يلحق التابع بالمتبوع ، والتمرّد يفصله منه ، فمن أطاع أحدا فهو منه ، ومن عصاه فليس منه ، كما قال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (٤)

قوله سبحانه : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ)

في تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لمّا قدم المدينة وهو يصلّي نحو بيت المقدس أعجب ذلك القوم ، (٥) فلمّا صرفه الله عن بيت المقدس إلى بيت الله الحرام وجدت [اليهود من ذلك] ، وكان صرف

__________________

(١). الكافي ١ : ٤١٦ ، الحديث : ٢٠ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٧٧ ، الحديث : ٦٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٢٦ ، الحديث : ٦.

(٢). تفسير القمي ١ : ١٠٥ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٧٧ ، الحديث : ٦١ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٦٣.

(٣). الخصال ١ : ٣٠٨ ، الحديث : ٨٤ ؛ نهج البلاغة : الحكمة ٩٦ ؛ إكمال الدين ٢ : ٦٧٥ ، الحديث : ٣٢.

(٤). إبراهيم (١٤) : ٣٦.

(٥). في المصدر : «اليهود من ذلك»

٢٤١

القبلة صلاة الظهر ، فقالوا : صلّى محمّد الغداة واستقبل قبلتنا ، فآمنوا بالذي انزل على محمّد وجه النهار واكفروا آخره ، يعنون القبلة حين استقبل رسول الله المسجد الحرام [لعلّهم يرجعون الى قبلتنا]. (١)

أقول : قولهم : (آمِنُوا) كلام ملقى في مورد السخرية والتهاون والإهانة ، و (وَجْهَ النَّهارِ) ، أوّله ، وما ذكره عليه‌السلام في الرواية هو المتعيّن ، وما وجّه به في التفاسير تعسّف من غير وجه (٢).

وقوله سبحانه : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ)

يجري مجرى التفسير منه.

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ)

اعتراض وجواب.

وقوله : (أَنْ يُؤْتى)

جملتان معلّلتان لقولهم : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أو ما قبله ، أي : مخافة أن يكون في يد غيركم ما في أيديكم من القبلة ونحوه ، إذ الإيمان به تثبيت له ، أو تؤمنوا به فيحاجّوكم عند ربّكم ، نظير قولهم في ما حكى الله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١٠٥ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٢٣ ، الحديث : ١١ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٦٤.

(٢). من قولهم : «لعلّهم يشكّون ، يرجعون عن دينهم» [تفسير الكشف والبيان ٣ : ٩١ ؛ الكشاف ١ : ٣٧٣].

٢٤٢

اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ). (١)

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ)

جواب عن قولهم ، وهو ظاهر.

قوله سبحانه : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)

أي نحن مطلقوا العنان في مورد الامّيّين ، سائغ لنا ما نفعل فيهم.

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ)

ظاهره التعرّض باليهود.

وفي أمالي الشيخ عن عديّ بن عديّ ، عن أبيه ، قال : اختصم امرؤ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في أرض ، فقال : ألك بيّنة؟ قال : لا ، قال : فبيمينه ، قال : إذا والله يذهب أرضي ، قال : إن ذهب أرضك بيمينه كان ممّن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكّيه وله عذاب أليم ، قال : ففزع الرجل فردّها إليه. (٢)

أقول : وفي هذا المعنى وفي القصّة روايات كثيرة ، (٣) وروتها العامّة أيضا ، (٤) وذلك لا يقضي بكونه شأن النزول ، وإنّما هو من قبيل الانطباق.

__________________

(١). البقرة (٢) : ٧٦.

(٢). الأمالي للطوسي : ٣٥٨ ، الحديث : ٧٤٤ ، المجلس الثاني عشر.

(٣). الأمالي للطوسي : ٣٥٨ ، الحديث : ٧٤٥ ، المجلس الثاني عشر ؛ وسائل الشيعة ١٨ : ١٧٢ ، الحديث : ٧.

(٤). جامع البيان ٣ : ٤٣٦ ؛ الدر المنثور ٢ : ٤٤ ؛ السنن الكبرى للنسائي ٢ : ٤٨٧ ، الحديث : ٥٩٩٦ ؛ مسند أحمد ٤ : ١٩١ ؛ فتح الباري ١١ : ٤٨٧.

٢٤٣

[ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)]

٢٤٤

قوله سبحانه : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ ...)

في العيون عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : لا ترفعوني فوق حدّي ، (١) فإنّ الله اتّخذني عبدا قبل أن يتّخذني نبيّا ، ثمّ تلا هذه الآية. (٢)

أقول : وهو من الانطباق دون شأن النزول ، وظاهر السياق أنّ الآيات ذيل قصّة عيسى وبيان عبوديّته.

قوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ)

قيل : إنّ اللام في قوله تعالى (لَما) ، للتوطئة ، وما موصولة مبتدأ وقوله :(لَتُؤْمِنُنَ) خبره واللام فيه للقسم ، ويؤيّده قراءة حمزة (لما) بكسر اللام ، ويحتمل كون (ما) شرطيّة ، وقوله : (لَتُؤْمِنُنَ) سادّا مسدّ الجزاء وإضافة الميثاق إلى النبيّين إضافة إلى الموثّق له ، فالموثّق عليه اممهم ، والميثاق مأخوذ منهم ، أو إضافة إلى الموثّق عليه المأخوذ منه ، وهو الميثاق المأخوذ من النبيّين.

وعلى الأوّل : حيث كان (لَتُؤْمِنُنَ) ، خبرا أو جزاء في الحقيقة لقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ) ، فقوله : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) توطئة له وهو الملاك لميثاق الإيمان والنصرة ، والمعنى : إذا جاءكم رسول وصدّق ما عندكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه ، لأنّ ما اوتيتم من الكتاب والحكمة يوافق ما عنده ، فكفركم به وخذلانكم إيّاه كفر بما عندكم وبما اوتيتموه ، فيؤول المعنى : إنّ الامم مأخوذ عليهم الميثاق أن لا يفرّقوا بين رسل الله.

ويؤيّده قوله تعالى : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ) ـ إلى قوله ـ : (مُسْلِمُونَ) ، وقوله :

__________________

(١). في المصدر : «حقّى»

(٢). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ٢ : ٢٠٠ ، الحديث : ١.

٢٤٥

(ثُمَّ جاءَكُمْ) وقوله : (فَمَنْ تَوَلَّى) ، إذ هذا النوع من الخطاب بامم الأنبياء أليم وأنسب ، وحينئذ فقوله : (فَاشْهَدُوا) ، ليس خطابا للامم ؛ إذ الشهادة قد مرّ أنّها غير مبذولة إلّا للواحد بعد الواحد من أولياء الله تعالى ، على أنّ الشاهد على الميثاق يجب أن يكون غير الموثّق عليه.

فما قيل : إنّ الشهادة لبعضهم على بعض (١) غير مستقيم ، وسيجيء ما يشعر به من الروايات.

وعلى هذا فمناسبة الآية مع ما قبلها من قصّة عيسى وأمر النصارى : أنّ أهل الكتاب قد اخذ عليهم الميثاق أن لا يفرّقوا بين الرسل ويؤمنوا بالنبيّ محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فنقضوا عهد الله ونسوا ميثاقه ، هذا.

وعلى الثاني : كان المراد من مجيء الرسول اللحوق [وهو] أعمّ من الحضور والغيبة ، بحسب الوجود الدنيوي إذ إطلاق النبيّين ـ وهو جمع محلّى باللام ـ يفيد الإستغراق ، ومن الإيمان والنصرة إظهار الموافقة والإخبار به والدعوة إليه كما بشّر عيسى بمحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

ويمكن أن يكون المراد بالمجيء ، هو مطلق اللحوق في العدّ ، فيؤمن كلّ رسول بمن سبقه وينصره ، وبمن لحق به وينصره ، كما يؤيّده قوله : (قُلْ آمَنَّا) ، حيث أمر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بهذا الإيمان.

وعلى كلّ من التقديرين روايات.

ففي المجمع والجوامع عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية : معناه : وإذ أخذ الله ميثاق امم النبيّين كلّ امّة بتصديق نبيّها والعمل بما جاءهم به فما وفوا به

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٣٣٥.

٢٤٦

وتركوا كثيرا من شرايعهم وحرّفوا كثيرا. (١)

أقول : وهو تفسير بالمعنى الأوّل.

وفي المجمع أيضا عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبيّنا أن يخبروا اممهم بمبعثه ونعته ويبشّروهم به ويأمروهم بتصديقه. (٢)

أقول : وفي معناه بعض اخبار اخر ، (٣) وهو تفسير بالمعنى الثاني.

والتأمّل في الآية وما مرّ من مؤيّدات كلّ من المعنيين يعطي أن يكون هذا الميثاق ، ميثاقا واحدا مأخوذا على الأنبياء واممهم جميعا أن لا يفرّقوا بين الرسل ويؤمنوا باللاحق من الأنبياء المصدّق لمن سبقه منهم ، كما يؤيّده قوله بعد : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) وقوله : (قُلْ آمَنَّا) حيث أمر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أن يؤمن

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٧٨٤ ؛ تفسير جوامع الجامع ١ : ٣٠٣.

(٢). مجمع البيان ٢ : ٧٨٤.

(٣). وهنا عدة روايات رواها القمّي والعيّاشي وغيرهما وفيها (لَتُؤْمِنُنَ) برسول الله (وَلَيَنْصُرَنَ) أمير المؤمنين ، وظاهرها التفسير بإرجاع أول الضميرين إلى رسول الله وثانيهما إلى أمير المؤمنين من غير دليل دالّ ، لكن فيما رواه العياشي ما رواه عن سلام بن المستنير ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «لقد تسمّوا باسم ، ما سمّى الله به أحدا إلّا علّي بن أبي طالب وما جاء تأويله» ، قلت : جعلت فداك متى يجيء تأويله؟ قال : «إذا جاء جمع الله أمامه النبيين والمؤمنين حتّى ينصروه وهو قول الله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ـ الى قوله ـ : (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)» الحديث.

فيهون الأمر حينئذ ، إذ الإشكال إنّما يرد لو كانت من قبيل التفسير ، وأمّا التأويل وقد عرفت معناه فيما مرّ ، فلا ارتباط له باللفظ. «منه ـ رحمه‌الله ـ». [تفسير العيّاشي ١ : ١٨٠ ، الحديث : ٧٣ ؛ تفسير القمي ١ : ١٠٦ و ١ : ٢٤٦ و ٢٤٧ ؛ المسائل السروية : ٤١].

٢٤٧

بمن سبقه عنه وعن امّته معا.

وعليه فكلّ واحدة من الروايتين تفسير ببعض المضمون والتعبير عنه بميثاق النبيّين من حيث ارتباط الميثاق بهم ـ عليهم‌السلام ـ.

وفي المجمع عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ) إلى آخرها ، قال : أأقررتم وأخذتم العهد بذلك على اممكم؟ قالوا ـ أي قال الأنبياء واممهم ـ : أقررنا بما أمرتنا بالإقرار به ، قال الله : (فَاشْهَدُوا) بذلك على اممكم (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) عليكم وعلى اممكم (١).

أقول : والرواية تؤيّد ما أومأنا إليه أخيرا من شمول الميثاق للأنبياء واممهم جميعا ، وتخصيصه عليه‌السلام خطاب (أَأَقْرَرْتُمْ) للأنبياء مع تعميم الجواب لهم ولاممهم من قبيل الحمل على التشريف ، أعني : أنّ الإستفسار شامل للجميع وانّما وجّه الخطاب إلى الأنبياء لتشريفهم بأنّهم السادة والقادة ، وإشعار بوساطتهم بين الله وبين اممهم.

وقوله عليه‌السلام : «من الشاهدين عليكم وعلى اممكم» ، مشعر بأنّ هناك شهودا اخر غير الأنبياء ، كما في الرواية الآتية.

وفي تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : قال لهم في الذرّ : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) أي : عهدي ، قالوا : (أَقْرَرْنا قالَ) الله للملائكة : (فَاشْهَدُوا). (٢)

أقول : قد مرّ ما يتّضح به معناه.

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٤٦٨.

(٢). تفسير القمّي ١ : ١٠٦.

٢٤٨

وقوله عليه‌السلام : «قال لهم في الذرّ» ، يدلّ على أنّ هذا الميثاق مأخوذ في الذرّ قبل هذه النشأة الدنيويّة ، ويدلّ على ذلك شمول الخطاب وكون الميثاق شاملا للأنبياء واممهم جميعا ؛ إذ لم يتّفق ذلك في النشأة الدنيا ، فموطنه نشأة قبل هذه النشأة ، والحمل على لسان الحال معلوم الحال ، وسيجيء تفصيل القول فيه.

قوله سبحانه : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)

إذ كان ذات كلّ شيء وصفاته وآثاره الوجوديّة فائضة من عند الله سبحانه لا يملك لنفسه شيئا البتّة ، كان من المحال أن يتحقّق عصيان بالنسبة إلى فيض يفيض من عنده بعدم القبول وهذا هو الإسلام الذي يشير إليه بقوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلّا أنّ تخصيصه باولى العقل كما يدلّ عليه لفظة «من».

ثمّ التذييل بقوله : (طَوْعاً وَكَرْهاً) يفيد أنّ لهذا الصنف من الموجودات جهة اخرى بها يتحقّق كرهها لهذا الإسلام الذاتي ، وبالمقابلة طوعها كذلك ، فهناك طوع وإسلام شامل عامّ ، ثمّ بعده طوع وكره من حيث استقلال ذواتها المفاضة لها من عند الله سبحانه ، فكلّ شيء مسلم لله تعالى لا محالة ، ومن فى السماوات والأرض مدرك لهذا الإسلام كلّ من نفسه ، غير أنّها بين مسلم غير كاره في إسلامه وبين مسلم كاره فيه ، فمساق هذه الآية مساق قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) ، (١) فلفظ الكره مع الإسلام ذاتا يعطي أن يكون توحيدهم لله ـ عزّ شأنه ـ معلوما مدركا لهم غير مفارق لهم ، كما

__________________

(١). الرعد (١٣) : ١٥.

٢٤٩

يشير إليه في بعضهم بقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ، (١) وقوله : (أَفِي اللهِ شَكٌ) ، (٢) ولا ينافي هذا العلم بتوحيده تعالى ما عند أهل الريب والكفر من الشكّ أو العلم بالخلاف ، فإنّ العلم بالشيء غير العلم بالعلم به ، فالأوّل يجامع الغفلة دون الثاني ، هذا.

ثمّ إنّ الدين ـ كما عرفت سابقا ـ عدّة معارف وأخلاق وأفعال يلائم ما عليه الأمر في حقيقته ، أعني أنّه نحو سلوك دنيويّ يطابق الحقائق النفس الأمريّة ، فإذا كان حقيقة الأمر إسلام كلّ موجود لله ـ عزّ اسمه ـ في وجوده وأوصافه وأفعاله ، كان الدين الحقّ هو الإسلام لله في مرتبة العلم والخلق والعمل ؛ ولذلك وبّخهم بتركه بقوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً).

وفي التوحيد وتفسير العيّاشي في الآية ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : هو توحيدهم لله عزوجل. (٣)

أقول : ويظهر منه أنّ الإسلام هو التوحيد ، وقد مرّ بيانه ، فما من معرفة او حكم ديني إلّا ومرجعه عند التحليل هو التوحيد.

*

__________________

(١). الروم (٣٠) : ٣٠.

(٢). إبراهيم (١٤) : ١٠.

(٣). التوحيد : ٤٦ ، الحديث : ٧ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٨٢ ، الحديث : ٧٨.

٢٥٠

[كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ

٢٥١

وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)]

قوله سبحانه : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) ـ إلى قوله ـ : (غَفُورٌ رَحِيمٌ)

في المجمع قيل : نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له : الحارث بن السويد بن الصامت ، وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدرا وهرب وارتدّ عن الإسلام ولحق بمكّة ، ثمّ ندم ، فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله : هل لي من توبة؟ فسألوا ، فنزلت الآيات إلى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ، فحملها إليه رجل من قومه ، فقال : إنّي لأعلم أنّك لصدوق ، وأنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أصدق منك ، وأنّ الله تعالى أصدق الثلاثة ، ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه ، قال : وهو المرويّ عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ. (١) (٢)

قوله سبحانه : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ)

تكذيب لما ادّعته اليهود : أنّ الذي حرّم عليهم من الطعام لم يحرّم لبغي أو ظلم

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٣٣٨.

(٢). والعلامة ـ رحمه‌الله ـ لم يتعرض لتفسير آية ٩٢ من هذه السوره ، ولكن جاء في هامشه : «في الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). قال : هكذا فاقرأها.

أقول : والرواية ضعيفة ب : يونس بن ضبيان [منه ـ رحمه‌الله ـ].

الموجود في الكافي المطبوع ٨ : ١٨٣ ، الحديث : ٢٠٩ : (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ولكن علّق العلامة المجلسى على الحديث : بقوله : «وفي أكثر نسخ الكتاب (مِمَّا تُحِبُّونَ) إي جميع ما تحبّون» [مرآة العقول ٢٦ : ٧٥] ، وأمّا تفسير العيّاشي ١ : ١٨٤ ، الحديث : ٨٤ ، ففيه : (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، هكذا قرأها».

٢٥٢

منهم ـ كما نطقت به القرآن في قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ، (١) وغير ذلك ـ بل المحرّم عليهم محرّم في جميع الشرائع السابقة ، فكذّبهم تعالى بأنّ كلّ الطعام كان حلّا لهم.

قوله سبحانه : (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ)

في الكافي وتفسير العيّاشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ إسرائيل ـ عليه‌السلام ـ كان إذا أكل من لحم (٢) الإبل هيّج عليه وجع الخاصرة ، فحرّم على نفسه لحم الإبل ، وذلك قبل أن تنزل التوراة ، فلمّا نزلت التوراة لم يحرّمه ولم يأكّله». (٣)

أقول : يعني : لم يحرّمه موسى ولم ياكله ، فضمير الفاعل راجع إلى موسى بقرينة المقام ، ويمكن أن يرجع إلى التوراة.

وقوله : «لم يأكّله» من التأكيل أو المؤاكلة بمعنى : التمكين ، ففي الأساس : أكلتك فلانا أمكنتك منه (٤) ويظهر من التاج : أنّ فعّلت وفاعلت فيه بمعنى واحد. (٥)

قوله سبحانه : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ)

في العلل عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «موضع البيت بكّة ، والقرية مكّة». (٦)

__________________

(١). النساء (٤) : ١٦٠.

(٢). في تفسير العيّاشي : «لحوم» بدل «من لحم»

(٣). الكافي ٥ : ٣٠٦ ، الحديث : ٩ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٨٤ ، الحديث : ٨٦.

(٤). أساس اللغة : (أساس البلاغة) : ٨ في مادة «أكل».

(٥). تاج العروس ١ : ٣٩.

(٦). علل الشرائع ٢ : ٣٩٧ ، الحديث : ٣.

٢٥٣

وفيه أيضا ، عنه عليه‌السلام : «إنّما سمّيت بكّة بكّة لأنّ الناس يبكّون فيها. (١)

أقول : أي يزدحمون.

وفيه عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّما سمّيت مكّة بكّة ، لأنّه يبكّ بها الرجال والنساء ، والمرأة تصلّي بين يديك وعن يمينك وعن شمالك وعن يسارك ومعك ولا بأس بذلك ، إنّما يكره في سائر البلدان». (٢)

أقول : لعلّ الشمال بمعنى الخلف ، بقرينة ذكر اليسار معه.

وفيه عن الباقر ـ [عليه‌السلام] ـ أيضا قال : «لمّا أراد الله تعالى أن يخلق الأرض أمر الرياح ، فضربن متن الماء حتّى صار موجا ، ثمّ أزبد فصار زبدا [واحدا] ، فجمعه في موضع البيت ، ثمّ جعله جبلا من زبد ، ثمّ دحى الأرض من تحته ، وهو قول الله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) فأوّل بقعة خلقت من الأرض الكعبة ، ثمّ مدّت الأرض منها». (٣)

أقول : والأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة وخلق الأرض من زبد الماء كثيرة ، (٤) ولا برهان يدفع ذلك سوى ما يبتنى على كون الأرض عنصرا قديما ، أحد العناصر الأربعة ذي مكان طبيعي ، وهو مزيّف ومحلّه غير هذا المحلّ ، وهذا تفسير ما يلوح من الروايات : أنّ الكعبة هي أوّل بيت في الأرض ،

__________________

(١). علل الشرائع ٢ : ٣٩٧ ، الحديث : ١.

(٢). علل الشرائع ٢ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ ، الحديث : ٤.

(٣). لم نجده في علل الشرائع ، ولكن روي في من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٤١ ، الحديث : ٢٢٩٦ ؛ تفسير القمي ٢ : ٦٩ ، إلى الآية ؛ وفي تفسير العيّاشي ١ : ١٨٦ ، الحديث : ٩١ ، مع تفاوت.

(٤). راجع : الكافي ٤ : ١٩٧ الحديث : ١ ؛ من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٤٩ الحديث : ٢٣٢٥ ؛ الأمالي للصدوق : ٦١٦ ، الحديث : ٤ ؛ الاحتجاج ٢ : ٣٣٥ ؛ الإرشاد ٢ : ١٩٩ ؛ التوحيد : ٢٥٣ ، الحديث : ٤ وغيرها.

٢٥٤

وقد مرّ في ذيل قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) (١) من سورة البقرة ، وإن كان الظاهر من السياق أنّها أوّل بيت موضوع للعبادة ، كما فيما رواه ابن شهر آشوب عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، فقال له رجل : أهو أوّل بيت؟ قال : «لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركا ، فيه الهدى والرحمة والبركة ، وأوّل من بناه إبراهيم ، ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم ، ثمّ هدم فبنته العمالقة ، ثمّ هدم فبناه قريش». (٢)

أقول : وفي المعاني السابقة روايات اخر.

قوله سبحانه : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ)

في الكافي وتفسير العيّاشي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل : ما هذه الآيات البيّنات؟ قال : «مقام إبراهيم ؛ حيث قام على الحجر فأثّرت فيه قدماه ، والحجر الأسود ، ومنزل إسماعيل». (٣)

أقول : وفي هذا المعنى روايات اخر ، ولعلّ ذكره الثلاثة من قبيل العدّ من غير حصر ، فلا ينفي غيره ، كقهره أصحاب الفيل ، ودفعه كلّ جبّار يقصده بسوء ، ولذا قيل : إنّما سمّيت بكّة ؛ لأنّها تبكّ وتدقّ أعناق الجبابرة والفراعنة إذا قصدوه بسوء. (٤)

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٢٧.

(٢). المناقب ٢ : ٤٣.

(٣). الكافي ٤ : ٢٢٣ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٨٧ ـ ١٨٨ ، الحديث : ٩٩.

(٤). راجع : الكافي ٤ : ٢١١ ؛ القاموس المحيط ٣ : ٢٩٥ ؛ وسائل الشيعة ٩ : ٣٥٠ ؛ تفسير ابن كثير ١ : ٣٣٧ ؛ معجم البلدان ١ : ٤٧٥ ؛ تاريخ الطبري ٢ : ٣٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ١ : ١٤٨ ؛ المصنف ، لعبد الرزاق الصنعاني ٥ : ١٥٠ ؛ الفائق في غريب الحديث ١ : ١١٢ ؛ التبيان ٢ : ٥٣٥ ؛ مجمع البيان ٢ : ٣٤٧ ؛ الصافي ١ : ٣٥٧ ؛ المفردات للراغب : ٥٧.

٢٥٥

قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)

في الكافي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «يعني به الحجّ والعمرة جميعا لأنّهما مفروضان». (١)

أقول : ورواه العيّاشي في تفسيره ، (٢) وقد فسّر عليه‌السلام الحجّ في الرواية بمعناه اللغوي ، وهو القصد.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «[وإن كان يقدر أن يمشي بعضا ويركب بعضا فليفعل](وَمَنْ كَفَرَ) قال : ترك». (٣)

أقول : ورواه الشيخ في التهذيب ، (٤) وقد عرفت أنّ الكفر كالإيمان ذو مراتب.

وفي الكافي عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى ، في حديث ، قال : قلت : فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ فقال : «لا ، ولكن من قال : ليس هذا هكذا ، فقد كفر». (٥)

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة. (٦) وعلى أيّ حال فإطلاق الكفر على العصيان يفيد الإهتمام التامّ بهذه الفريضة العظيمة.

وفي الآية جهات تدلّ على هذا الإهتمام ، كالبيان بالجملة الإسميّة والخبريّة

__________________

(١). الكافي ٤ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، الحديث : ١.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٩١ ، الحديث : ١١٠.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٢ ، الحديث : ١١٢.

(٤). تهذيب الأحكام ٥ : ١٨ ، الحديث : ٤.

(٥). الكافي ٤ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، الحديث : ٥.

(٦). من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٦٨ ، الحديث : ٥٧٦٢ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٩٠ ، الحديث : ١٠٨ ؛ دعائم الاسلام ١ : ٢٨٨ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٨ : ١١٣ ؛ مستدرك الوسائل ٨ : ١٢ ، الحديث : ٨٩٣٣ ، و ١٨ ، الحديث : ٨٩٥٦ ؛ ثواب الأعمال : ٢٣٦ ، باب : عقاب من ترك الحّج.

٢٥٦

الدالّتين على الثبوت ، وتقديم لفظ الجلالة ، وتلوه بالناس ، والإتيان ب (اللام وعلى) ، والتعميم ثمّ التخصيص ، وتسمية الترك كفرا ، وذكر غنى الله وكونه عن جميع العالمين الدالّ على المقت.

*

٢٥٧

[قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)]

قوله سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ)

قيل (١) : أتت اليهود الأوس والخزرج فذكّروهم ما كان بينهم من العداواة والحروب ليعودوا لمثله ، وذلك أنّ شاش بن قيس اليهودي مرّ بالأنصار وقد اجتمعوا يتحدّثون فغاظه ذلك ، فدسّ شابّا من اليهود إليهم يذكّرهم يوم بعاث ـ وكان يوما للأوس على الخزرج ـ وينشدهم ما قيل فيه من الشعر ، ففعل ،

__________________

(١). المنار ٤ : ذيل الآية ؛ ومثله في أسباب نزول الآيات ، للواحدي النيسابوري : ٧٦ ؛ الدر المنثور ٢ : ٥٧ ؛ فتح القدير ١ : ٣٦٨ ؛ أسد الغابة ١ : ١٤٩ ؛ سيرة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، لابن هشام ٢ : ٣٩٧ ؛ عيون الأثر ١ : ٢٨٤ ؛ سبيل الهدى والرشاد ٣ : ٣٩٨.

٢٥٨

فتنازع القوم وتفاخروا حتّى دعوا بالسلاح. فبلغ النبيّ فخرج إليهم فقال : «أتدعون الجاهليّة بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة وألّف بينكم» ، فعرف القوم أنّها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم ، فألقوا السلاح وبكوا وتعانقوا وانصرفوا معه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

قوله سبحانه : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

إذا أخذت بحبل أو ربط فمنعك عن السقوط أو ما يشبهه فقد عصمك ، فأصل العصمة هو المنع الخاصّ ، وإن ذكر في التاج أنّ : المنع هو الأصل في معناه ، (١) ونقل عن بعض أهل اللغة أنّ أصله الربط.

وكيف كان ، ففي معنى الاعتصام امتناع وأخذ ، فالمعتصم بالله كأنّه ممتنع عمّا لا يرتضيه الله سبحانه بالأخذ به تعالى.

ومن هنا يظهر أنّ الآية التالية وهي قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٢) كالتفسير والبيان للإعتصام بالله.

ومن هنا يظهر أيضا أنّ الإعتصام بالله كالإيمان وسائر المقامات الدينيّة ، أمر ذو مراتب ومبادئ مراتبه اكتسابيّة ، وينتهي إلى أن يكون العاصم للعبد من الذنب والمعصية هو الله عزّ اسمه من غير توسّط شيء من القوى المتعلّقة بالنفس ؛ إذ ما دام للفعل تعلّق بشيء من القوى النفسانيّة البدنيّة من حيث ترجيح الفعل والترك ، فالطرفان متساويان من غير تحقّق وجوب لأحد الطرفين وامتناع للآخر ، فليس امتناع المعصية إلّا أنّه سبحانه هو المدبّر لحال الإنسان

__________________

(١). تاج العروس ٨ : ٣٩٩.

(٢). آل عمران (٣) : ١٠٢.

٢٥٩

المعصوم ، قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) ، (١) وسيجيء زيادة شرح للآية في سورة الأنبياء.

وفي المعاني عن حسين الأشقر ، قال : قلت لهشام بن الحكم : ما معنى قولكم : إنّ الإمام لا يكون إلّا معصوما؟ قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن ذلك فقال : «المعصوم : هو الممتنع بالله من جميع محارم الله ، وقد قال الله تبارك وتعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (٢)

أقول : معنى قوله عليه‌السلام : «الممتنع بالله» أن يكون الله سبحانه هو المانع له عنها من غير توسيط القوى الجسمانيّة ، وتمسّكه بالآية لإطلاقها كما مرّ ، وسيجيء حديث آخر عن السجّاد ـ عليه‌السلام ـ في العصمة والإعتصام.

وممّا مرّ يظهر أيضا الوجه في تنكير قوله : (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، فأنت بعد الإحاطة بما مرّ عند قوله سبحانه : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) من سورة الفاتحة ، من معنى الهداية ومعنى الصراط المستقيم ، تعرف الوجه في ذلك فارجع.

*

__________________

(١). الأنبياء (٢١) : ٧٣.

(٢). معاني الأخبار : ١٣٢ : الحديث : ٢.

٢٦٠