تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

الكمال بتتالي القرون إلى ختم الدين والرسالة ، فهو عليه‌السلام كان مصدّقا للتوراة ، وقد زاد على ما فيه بعض ما يصلح للزيادة في زمانه ، وكان مبشّرا برسول يكمل الله به دينه ويختم أمره ، لكونه أقرب اولي العزم منه ، وقد ذكره الله في كتبه كما قال : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ). (١)

وله ـ عليه‌السلام ـ من المقامات العامّة المشتركة : مقام العبوديّة ، وأنّه من الشهداء ومن الصالحين ومن المقرّبين ، وقد حباه الله تعالى بالسلام والبركة والوجاهة ـ صلّى الله على نبيّنا وآله وعليه ـ.

وأمّا وفاته ـ عليه‌السلام ـ فقوله سبحانه في هذه السورة : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ* إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وإن كان ظاهرا في أنّه تعالى أخذه عليه‌السلام من بينهم إليه وبتّر مكرهم وحيلتهم فيه ، لكن يمكن توجيهه بما يوافق الموت العادي لمكان قوله : (مُتَوَفِّيكَ). لكن قوله في سورة النساء : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) ، (٢) يكذّب ذلك وينفي أن يكون ما شاهدوه من قتل عيسى وصلبه على حقيقته ولم يقع له عليه‌السلام غير ذلك من وقائع القتل أو الموت ، فهم قد فقدوه وأخذوا بغيره وأنّ الله رفعه إليه ، وقوله هاهنا : (مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ). يعطي أنّه وقع عليه التوفّي ، وأمّا أين صار عليه‌السلام بعد توفّيه؟

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٥٧.

(٢). النساء (٤) : ١٥٧ ـ ١٥٨.

٢٢١

فمطويّ عنه في القرآن شرحه ، وإنّما جملة الأمر أنّ الله رفعه إليه ، فافهم وسيجيء الأخبار المتعلّقة بهذا الباب.

قوله سبحانه : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١)

الآية هي العلامة التي يستدلّ بها على الشيء ، وقد كثر استعماله في كلامه تعالى فيما يستدلّ به عليه تعالى بنحو من الأنحاء ، وإن كانت ربما استعملت في غيره ، كقوله : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ). (٢)

والتي يستدلّ بها عليه تعالى :

منها : ما هو على العادة الجارية ، كالسماء والأرض والشمس والقمر والسحاب والريح وغير ذلك ، وقد عدّ الله سبحانه جميع ذلك آية يستدلّ بها من حيث أصناف الصفات المشهودة فيها على توحيده وعلمه وقدرته وسائر صفاته الكماليّة ، وعلى ما أنبأ به أنبياؤه بالغيب ، كالبعث والنشور ونحو ذلك.

ومنها : ما يدلّ على أمر خاصّ وحادث مخصوص غير ثابت الوجود ولا دائمة ، وبالضرورة يكون خارقا للعادة غير جار عليها ، إذ لو انطبق على العادة الجارية لم يدلّ إلّا على معنى ثابت الوجود ودائمه ، وذلك كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير ، وقد حكى سبحانه هذا القسم عن كثير من أنبيائه ورسله ، إذ سئلوا عن ذلك ، ليستدلّوا بذلك على صدق ما يدّعونه من الرسالة ،

__________________

(١). الظاهر أنّه بدل أو عطف بيان من قوله : (رَسُولاً) لأنّ ما يحتمله بعضهم من تقدير القول ونحوه ، بل هو حكاية قوله في رسالته ، يبيّن به رسالته ، التصرف في أقسام حكاية القول بلطائفها من خواصّ القرآن ، [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٢). الشعراء (٢٦) : ١٢٨.

٢٢٢

وربّما وجد مع غيرهم للدلالة على أمر إلهي ، كقوله تعالى في طالوت : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ، (١) وقوله تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) ، (٢) ولذلك سمّيت معجزة ، وهي من الكلمات الإسلاميّة ، مثل تسمية الصفر الأوّل ب : المحرّم ، وتسمية المعصية ب : الفسق ، ونحو ذلك ، فقيل : آية معجزة ، ثمّ اختصرت وحذفت الآية وقيل : معجزة.

وقد اختلف أرباب النظر في حقيقة المعجزة وغاروا في البحث عنها ، ولا يهمّنا التعرّض لشتات كلماتهم ، والذي يعطيه الاصول البرهانيّة : هي أنّ كلّ حادث ممكن فلوجوده علّة ، وأنّ العلّة القريبة للحادث الطبيعي حادث طبيعي من سنخه ، وأنّ الحوادث الطبيعيّة تنتهي عللها إلى ما وراء الطبيعة ، ولا ضرورة ولا برهان يقضيان بدوران حادث طبيعي مدار السبب الطبيعي العادي المعهود له وجودا وعدما. فهذه المقدّمات تقضي بإمكان صدور حوادث طبيعيّة مادّيّة عن ما وراء الطبيعة غير مستند إلى سببها العادي المعروف ، بل إلى سبب مجهول لنا بحسب العادة.

هذا ، فإن دعت إلى الله ودلّت على أمر إلهي ـ كما في مورد التحدّي ـ سمّيت ب : الآية المعجزة ، وإن دلّت على كرامة صاحبها على الله سمّيت ب : الكرامة ، وإن لم تدع إلى الله ـ كالخوارق الصادرة عن بعض أرباب الرياضات الشيطانيّة ـ فمن مطلق الخوارق ، كالسحر والكهانة.

وجميع الأقسام واقعة غير منكرة إلّا من معاند مكابر ، وناهيك في ذلك وجود القرآن الكريم بأيدينا ، (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٤٨.

(٢). الأنبياء (٢١) : ٩١.

٢٢٣

هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ، (١) وما هو المشهود المحسوس من الخوارق الصادرة عن أرباب الرياضات بهند وغيره.

قوله سبحانه : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ)

بيان لقوله : (بِآيَةٍ) وهذه التي عدّها هي الآيات على رسالته إلى بني إسرائيل فيما جاء به إليهم من الله سبحانه ، وأمّا تكلّمه في المهد وكهلا ، فهو من آياته على براءة ساحة مريم ـ عليها‌السلام ـ ممّا رموها به ، وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) ، قيّد به آياته ، دفعا لما في أوهام العامّة من الناس أنّ الإحياء مخصوص بالله سبحانه ، وكذا ما يلحق به من إبراء الأكمه والأبرص ، وإلّا فكلّ آية خارقة للعادة فهو بإذنه تعالى ، قال تعالى : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، (٢) بل كلّ ما يخرق العادة ، قال تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، (٣) وقال : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ، (٤) وذلك لإنكار الأفهام وقوعها من غيره تعالى ، وإن كانت حقيقة الأمر أنّ موجودا من الموجودات لا يملك لنفسه شيئا إلّا وهو سبحانه المالك له المملّك له إيّاه ، ولذلك قيّدها في كلامه بنحو العموم بإذنه ، قال تعالى : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) ، (٥) وقال : (يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ، (٦) وقال : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، (٧) وقال :

__________________

(١). الإسراء (١٧) : ٨٨.

(٢). الرعد (١٣) : ٣٨.

(٣). البقرة (٢) : ١٠٢.

(٤). سبأ (٣٤) : ١٢.

(٥). يونس (١٠) : ٣.

(٦). الأعراف (٧) : ٥٨.

(٧). آل عمران (٣) : ١٤٥.

٢٢٤

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، (١) وقال : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، (٢) وقال : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ). (٣)

وحقيقة الإذن في الشيء : هي الرضا به إذا توقّف عليه ، فالذي يفعله الإذن هو رفع المانع عن تأثير المؤثّر ، أي تتميم سببيّة السبب ، وعليه يدور تحقّقه ، سواء كان هناك رضى قلبي أو لم يكن ، كما في موارد الإذن بالفحوى ، وإن لم يتحقّق صورة رضى قلبي بالفعل ، وإذ كان السبب في الوجود بالحقيقة هو الله سبحانه لا سبب غيره إلّا به ، كان إذنه في تأثير شيء هو إفاضته تمام السببيّة له وإيجاده صفة الوساطة فيه ؛ ولذلك ربّما بدّل لفظ الإذن بالأمر في مثل الموارد السابقة ، قال سبحانه : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (٤) ، وقال : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) ، (٥) فجعل الخوارق المذكورة وغيرها أمرا لله ، وقال : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ، (٦) وقال : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ). (٧)

وقد عرفت في ما مرّ معنى أمره تعالى ـ وأنّه أحد وجهي الإيجاد ـ وكلمة «كن» ، فالأمر يستند إليه الربط بين كلّ شيء وبينه تعالى ، والإذن يستند إليه الربط بين كلّ سبب ومسبّبه.

__________________

(١). التغابن (٦٤) : ١١.

(٢). يونس (١٠) : ١٠٠.

(٣). القدر (٩٧) : ٤.

(٤). الأعراف (٧) : ٥٤.

(٥). الرعد (١٣) : ٣١.

(٦). آل عمران (٣) : ١٥٤.

(٧). القدر (٩٧) : ٤.

٢٢٥

قوله سبحانه : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ).

لم يقيّده بإذن الله بخلاف ما سبقه من الآيات إذ توهّم الإختصاص بمقام الالوهيّة غير موجود فيه ، وهو ظاهر ، وبالضرورة يتجدّد فيه سياق عدّ الآيات ، ويعين على ذلك أنّ الآيات السابقة الذكر يمكن أن يرميها المستنكفون عن الإيمان بأنّها من السحر بخلاف الإنباء بما يصنعونه في خلواتهم عندهم من الأكل والإدّخار ولم يعدّه ضمن ما عدّه من الآيات في آخر سورة المائدة حيث يمتنّ على عيسى ـ عليه‌السلام ـ ويقول : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) ، (١) كلّ ذلك مضافا إلى ما يشعر به السياق في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أنّه وارد مورد الإقناع ، وأنّ ذلك يكفيكم آية إن كنتم مذعنين بالحقّ ، فاسم الإشارة يشير إلى الآية الأخيرة.

وإلى ما مرّ يشير ما في تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ عيسى كان يقول لبني إسرائيل : إنّي رسول الله إليكم ، وإنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وابرئ الأكمه والأبرص و ـ الأكمه هو : الأعمى ـ ، قالوا : ما نرى الذي تصنع إلّا سحرا ، فأرنا آية نعلم أنّك صادق ، قال : أرأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم ، يقول : ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا وما ادّخرتم بالليل تعلمون أنّي صادق؟ قالوا : نعم ،

__________________

(١). المائدة (٥) : ١١٠.

٢٢٦

فكان يقول : أنت أكلت كذا وكذا ، وشربت كذا وكذا ، ورفعت كذا وكذا ، فمنهم من يقبل منه فيؤمن ، ومنهم من يكفر ، وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين. (١)

قوله سبحانه : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ)

اقتران الجملتين يوضح أنّ تحليله بعض الذي حرّم في التوراة من قبيل النسخ ببيان أمد الحكم وليس تغييرا لشريعة موسى.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : كان بين داود وعيسى بن مريم أربعمائة سنة ، وكانت شريعة عيسى أنّه بعث بالتوحيد والإخلاص وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى ، وانزل عليه الإنجيل ، واخذ عليه الميثاق الذي اخذ على النبيّين ، وشرع له في الكتاب إقام الصلاة مع الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحريم الحرام وتحليل الحلال ، وانزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود ، ليس فيها قصاص ولا أحكام حدود ولا فرض مواريث ، وانزل عليه تخفيف ما كان [نزل] على موسى في التوراة ، وهو قول الله في الذي قال عيسى بن مريم لبني إسرائيل : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ، وأمر عيسى من معه ممّن اتّبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والإنجيل. (٢)

قوله سبحانه : (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ)

لمّا كان قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) متفرّعا على مجيئه بالآية المذكورة في صدر الآية ،

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١٠٢ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٤٨.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٧٥ ، الحديث : ٥٢ ؛ بحار الانوار ١٤ : ٢٣٤ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٥٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٠٥ ، الحديث : ٨.

٢٢٧

وقد طال الفصل بينهما ، أعاد الأصل ثانيا ليفرّع عليه فرعه كما قيل ، وهو شائع في الكلام.

قوله سبحانه : (قالَ الْحَوارِيُّونَ)

في العيون عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل : لم سمّي الحواريّون الحواريّين؟ قال : أمّا عند الناس فإنّهم سمّوا حواريّين ؛ لأنّهم كانوا قصّارين يخلّصون الثياب من الوسخ بالغسل ، وهو اسم مشتقّ من الخبز الحوار ، وأمّا عندنا فسمّي الحواريّون الحواريّين ؛ لأنّهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلّصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير. (١)

وفي التوحيد عنه عليه‌السلام : إنّهم كانوا إثني عشر رجلا ، وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا. (٢)

قوله سبحانه : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)

في الإكمال عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : بعث الله عيسى بن مريم واستودعه النور والعلم والحكم وجميع علوم الأنبياء قبله ، وزاده الإنجيل ، وبعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه وحكمته وإلى الإيمان بالله ورسوله ، فأبى أكثرهم إلّا طغيانا وكفرا ، فلمّا لم يؤمنوا به دعا ربّه وعزم عليه ، فمسخ منهم شياطين ، ليريهم آية فيعتبروا ، فلم يزدهم ذلك إلّا طغيانا وكفرا ، فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم ويرغّبهم في ما عند الله ثلاثة

__________________

(١). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ٢ : ٧٩ ، الحديث : ١٠.

(٢). التوحيد : ٤٢١ ، الحديث : ١ ، فى الانجيل إسمه «لوقا» بدون الألف في أوّله ، وهو مؤلّف إحدى الأناجيل الأربعة.

٢٢٨

وثلاثين سنة حتّى طلبته اليهود وادّعت أنّها عذّبته ودفنته في الأرض حيّا ، وادّعى بعضهم : أنّهم قتلوه وصلبوه ، وما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه ، وإنّما شبّه لهم ، وما قدروا على عذابه ودفنه ولا على قتله وصلبه ؛ (١) لأنّهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ) (٢) بعد أن توفّاه. (٣)

أقول : قوله «واستودعه» إلى آخره ، يصدّقه قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) ، ولم يقل : «من الكتاب».

وقوله : «فمسخ منهم شياطين» إلى آخره ، ليس في قصصه ـ عليه‌السلام ـ في القرآن إشارة إلى ذلك ، لكنّه ممكن في نفسه ، فمن الجائز خروج الإنسان من القوّة إلى الفعل بالاستكمال في جانب الشرّ بالحركة الجوهريّة ، قال تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ). (٤)

وفي تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّ عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم إثنا عشر رجلا ، فأدخلهم بيتا ، ثمّ خرج إليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء ، فقال : إنّ الله أوحى إليّ أنّه رافعي إليه الساعة ومطهّري من اليهود ، فأيّكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي؟ فقال شابّ منهم : أنا يا روح الله! قال : فأنت هو ذا ، فقال لهم عيسى : أما إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي

__________________

(١). في المصدر : + «لقوله عزوجل : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، فلم يقدروا على قتله وصلبه»

(٢). النساء (٤) : ١٥٨.

(٣). إكمال الدين ١ : ٢٢٥ ، الحديث : ٢٠ ، تفسير الصافي ٢ : ٥٤.

(٤). الناس (١٤ آ) : ٤ ـ ٦.

٢٢٩

عشرة كفرة ، فقال رجل منهم : أنا هو يا نبيّ الله؟ فقال له عيسى : أتحسّ بذلك في نفسك؟ فلتكن هو ، ثمّ قال لهم عيسى : أما إنّكم ستفترقون بعدي على ثلاث فرق ، فرقتين مفتريتين على الله في النار ، وفرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنّة ، ثمّ رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه.

ثمّ قال ابو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى : إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة ، وأخذوا الشابّ الذي القي عليه شبح عيسى فقتل وصلب ، وكفر الذي قال له عيسى : يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة. (١)

أقول : والروايات من طرقنا في من القي عليه شبح عيسى ـ عليه‌السلام ـ مختلفة ، فمنها : الناطقة بإلقاء شبحه على واحد من أصحابه المؤمنين ، كالرواية الماضية ، ومنها : القائلة بإلقائه على من قصد اغتياله ، وهي موافقة لما روته العامّة. (٢)

وفي العيون عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّه ما شبّه أمر أحد من أنبياء الله وحججه للناس إلّا أمر عيسى وحده ، لأنّه رفع من الأرض حيّا وقبض روحه بين السماء والأرض ، ثمّ رفع إلى السماء وردّ عليه روحه ، وذلك قوله عزوجل : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ) ، وقال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). (٣) (٤)

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١٠٣ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٥٥.

(٢). تفسير الثعلبي ٢ : ٣٢٦.

(٣). المائدة (٥) : ١١٧.

(٤). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٢١٣ ، الحديث : ٢.

٢٣٠

أقول : وقد مرّ بعض الكلام في مضمون الرواية ، ويؤيّده ما في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : رفع عيسى بن مريم بمدرعة (١) صوف من غزل مريم ومن نسج مريم ومن خياطة مريم ، فلمّا إنتهى إلى السماء نودي : يا عيسى! ألق عنك زينة الدنيا. (٢)

*

__________________

(١). المدرعة : جبّة مشقوقة المقدم ، وهي عند اليهود : ثوب من كتان ، كان يلبسه عظيم أحبارهم.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٧٥ ، الحديث : ٥٣ ؛ بحار الأنوار ١٤ : ٣٣٨ ، الحديث : ٩.

٢٣١

[فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)]

قوله سبحانه : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ) المحاجّة في أمر عيسى ، أو في الحقّ الذي بيّنه الله من أمره ، على احتمالي رجوع الضمير إلى عيسى ، أو إلى الحقّ المذكور في قوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) لقربه.

وقدّم الأبناء على النساء والأنفس ؛ لأنّ الإنسان أشفق بهم منه بنفسه ، وربّما دفع المهالك والمخاطر عنهم بنفسه ، فتعريفهم للمباهلة أدلّ على علمه وإيقانه بدعواه واطمئنانه في إقدامه ، كما قيل. (١) ولعلّه لذلك فرّق بين أبناء المتباهلين ونسائهم وأنفسهم ، فلم يقل : (ندع أبناءنا ونساءنا وأنفسنا).

__________________

(١). تفسير الكشاف ١ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

٢٣٢

وقوله : (نَبْتَهِلْ)

من البهلة ـ بالفتح والضمّ ـ : اللعنة.

وقوله : (فَنَجْعَلْ)

بيان للإبتهال ، ولم يقل : «فنسأل لعنة الله على الكاذبين» للإشارة إلى كونها دعوة غير مردودة من الله حيث يمتاز بها الحقّ من الباطل ، والله متمّ نوره.

قوله : (عَلَى الْكاذِبِينَ)

مسوق سوق العهد دون الجنس والإستغراق ، إذ ليس المراد جعل اللعنة على كلّ كاذب في العالم ، بل على الكاذبين في طرفي الدعوى ، وهما : التوحيد والتثليث. وحينئذ فمن البيّن أن لو كانت الدعوى بين النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والنصارى وكان أحد الطرفين جمعا والآخر فردا كان من اللازم تبعيض الكاذبين ب : «من» التبعيضيّة أو ما يؤدّي معناه ، كأن يقال : (على من كان من الكاذبين) ، فلمن جاء به النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في المباهلة من أهل بيته اشتراكا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعوته واحتمال أعباء التوحيد ، فافهم.

وهذا من أفضل المفاخر التي شرّف الله تعالى به أهل بيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يوم المباهلة.

واعلم أنّه قد أجمعت الامّة واتّفقت روايات الفريقين (١) واعترف به المؤالف

__________________

(١). الأمالي للصدوق : ٥٢٥ ، الحديث : ١ ، المجلس التاسع والسبعون ؛ الأمالي للطوسي : ٥٦٣ ، الحديث : ١٧٧٤ ، المجلس يوم الجمعة الحادى عشر من صفر ؛ تفسير فرات : ٨٦ ، الحديث : ـ

٢٣٣

والمخالف أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إنّما أحضر يوم المباهلة لها عليّا وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم‌السلام ـ ، وهو شرف لا يشاركهم ولا يدانيهم فيه أحد في الإسلام ، فعليّ ـ عليه‌السلام ـ نفس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، ونساؤه منحصر في فاطمة ـ عليها‌السلام ـ ، والحسن والحسين أبنائه.

وقد اشتملت جمّ غفير من روايات الفريقين على أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ جمعهم عليهم‌السلام عند المباهلة تحت كسائه ثمّ تلا آية التطهير : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (١) (٢)

وفي تفسير الثعلبي عن مجاهد والكلبي أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لمّا دعاهم إلى المباهلة ، قالوا : حتّى نرجع وننظر ، فلمّا تخالوا قالوا للعاقب ـ وكان ذا رأيهم ـ : يا عبد المسيح! ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى! أنّ محمّدا نبيّ مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيّا قطّ فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكنّ ، (٣) فإن أبيتم إلّا إلف دينكم (٤) والإقامة على ما أنتم عليه [من القول فى صاحبكم] فوادعوا الرجل (٥) وانصرفوا إلى بلادكم.

__________________

ـ ٦٢ ؛ الخصال ٢ : ٥٧٦ ، الحديث : ١ ؛ علل الشرائع ١ : ١٢٩ ، الحديث : ١ ؛ شواهد التنزيل ١ : ١٥٥ ، ١٦٨ و ١٦٩ و ١٧٠ و ١٧١ و ١٧٢ و ١٧٣ ؛ صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ ؛ مسند أحمد ١ : ١٨٥ ؛ تفسير الطبري : ٣ : ٢١٢ ؛ تفسير إبن كثير ١ : ٣١٩ ؛ الدر المنثور ٢ : ٣٨ ؛ اسد الغابة ٤ : ٢٦.

(١). الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

(٢). الإحتجاج ٢ : ٣٩١ ؛ عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٨٣ ، الحديث : ٩ ؛ الخصال ٢ : ٥٧٦ ، الحديث : ١ ؛ الإختصاص : ١١٤ ؛ صحيح مسلم ٧ : ١٣١ ؛ ينابيع المودة ٢ : ٤٣٣.

(٣). في المصدر : «لنهلكنّ»

(٤). في المصدر : «الّا البقاء لدينكم»

(٥). وجدناه إلى هنا في تفسير الثعلبي ٢ : ٥٤ مع تفاوت كثير في العبارة.

٢٣٤

فأتوا رسول الله وقد غدى محتضنا الحسين ، آخذا بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعليّ خلفها ، وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمّنوا.

فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى! إنّي لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله [بها] ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة.

فقالوا : يا أبا القاسم! رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرّك (١) على دينك ونثبت على ديننا.

قال : فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا ، يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ، فأبوا.

قال : فإنّي اناجزكم ، (٢) فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردّنا عن ديننا ، على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة (٣) ، ألف في صفر وألف في رجب ، وثلاثين درعا عادية من حديد.

فصالحهم على ذلك وقال : والذي نفسي بيده ، إنّ الهلاك قد تدلّى على (٤) أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتّى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتّى يهلكوا. (٥)

وروي عن عائشة : أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خرج وعليه مرط

__________________

(١). في المصدر : «نتركك»

(٢). في المصدر : «أنابذكم بالحرب»

(٣). في المصدر : «سكّة»

(٤). في المصدر : «إنّ العذاب قد نزل في»

(٥). الكشف والبيان ٣ : ٨٥ ؛ الدر المنثور ٢ : ٣٩ ؛ الكشّاف ١ : ٣٦٨ ؛ الفصول المهمة : ٢٣ ؛ الطرائف : ٤٢ ، الحديث : ٣٧.

٢٣٥

مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فأدخله ، ثمّ فاطمة ، ثمّ عليّ ، ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (١) (٢)

وفي تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّ نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وكان سيّدهم الأهتم والعاقب والسيّد ، وحضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلّوا ، فقال أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : [يا رسول الله]! هذا في مسجدك! فقال : دعوهم ، فلمّا فرغوا دنوا من رسول الله ، فقالوا : إلى ما تدعو ، قال : إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله وأنّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث.

قالوا : فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : قل لهم : ما تقولون في آدم ، أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقالوا : نعم. قال : فمن أبوه؟ فبهتوا [فبقوا ساكتين] ، فأنزل الله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (٣) وقوله : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) إلى قوله : (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : فباهلوني ، فإن كنت صادقا انزلت اللعنة عليكم ، وإن كنت كاذبا انزلت عليّ ، فقالوا : أنصفت.

__________________

(١). الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

(٢). صحيح مسلم ٧ : ١٣١ ؛ الكشّاف ١ : ٣٦٩ ؛ العمدة : ٣٧ ، الحديث : ١٨ ؛ الطرائف ١ : ٤٢ ، الحديث : ٣٧ ؛ كشف الغمّة ١ : ٢٣٤.

(٣). آل عمران (٣) : ٥٩.

٢٣٦

فتواعدوا للمباهلة ، فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم : السيّد والعاقب والأهتمّ ، : إن باهلنا بقومه باهلناه ، فإنّه ليس نبيّا ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة لم نباهله ، فإنّه لا يقدم إلى أهل بيته إلّا وهو صادق.

فلمّا أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم‌السلام ـ ، فقال النصارى : من هؤلاء؟ فقيل لهم : هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه عليّ بن أبي طالب ، وهذه ابنته فاطمة ، وهذان ابناه الحسن والحسين ، ففرقوا (١) فقالوا لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة ، فصالحهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ على الجزية وانصرفوا. (٢)

أقول : والأخبار في هذه المضامين من طرق الفريقين كثيرة جدّا. (٣)

*

__________________

(١). في المصدر : «فعرفوا»

(٢). تفسير القمي ١ : ١٠٤.

(٣). الأمالي للصدوق : ٥٢٥ ، الحديث : ١ ، المجلس التاسع والسبعون ؛ الأمالي للطوسي : ٥٦٣ ، الحديث : ١٧٧٤ ، للمجلس يوم الجمعه ، الحادي عشر من صفر ؛ الخصال ٣ : ٥٧٦ ، الحديث : ١ ؛ تفسير فرات : ٨٦ ، الحديث : ٦٢ ؛ علل الشرايع ١ : ١٢٩ ، الحديث : ١ ؛ صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ ؛ مسند أحمد ١ : ١٨٥ ؛ تفسير الطبري ٣ : ٢١٢ ؛ تفسير إبن كثير ١ : ٣١٩ ؛ الدر المنثور ٢ : ٣٨ ؛ أسد الغابة ٤ : ٢٦.

٢٣٧

[قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ

٢٣٨

إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)]

قوله سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا ...)

من متمّات ما مرّ من قصّة عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، كالتلخيص لتفصيل ما سبقه.

وقوله : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ)

من إعطاء البرهان في طيّ الدعوى والبيان ، إذ المتساويان في الوجود يمتنع كون أحدهما ربّا والآخر مربوبا.

قوله سبحانه : (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ)

يردّ سبحانه تنازعهم فيه وضمّ كلّ طائفة إيّاه إلى أنفسهم.

٢٣٩

أوّلا : بأنّ أساس التهوّد والتنصّر هو نزول التوراة والإنجيل ، وقد كان إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قبل الكتابين جميعا بقرون كثيرة.

وثانيا : إنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان حنيفا مسلما لله ، وما كان متّخذ شريك له تعالى كاليهود والنصارى ، فما كان من إحدى الطائفتين ، بل كان على دين النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وهو الإسلام ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن آمن به هم الأولى به دون اليهود والنصارى ، والله وليّ للمؤمنين ، فهو وليّ لهم دون المشركين.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) ، قال : قال أمير المؤمنين : لا يهوديّا يصلّي إلى المغرب ، ولا نصرانيّا يصلّي إلى المشرق ، ولكن كان حنيفا مسلما على دين محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ. (١)

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : خالصا مخلصا ، ليس فيه شيء من عبادة الأوثان. (٢)

قوله سبحانه : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ)

في المجمع قال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : إنّ أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاؤوا به ، ثمّ تلا هذه الآية وقال : إنّ وليّ محمّد من أطاع الله وإن بعدت لحمته ، وإنّ عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت لحمته. (٣)

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٧٧ ، الحديث : ٦٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٢٤ ، الحديث : ٢.

(٢). الكافي ٢ : ١٥ ، الحديث : ١ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٦٢.

(٣). مجمع البيان ٢ : ٧٧٠ ؛ ربيع الأبرار ٣ : ٥٦٠.

٢٤٠