تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

ولم يبق مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلّا أبودجانة سماك بن خرشة وعليّ ، فكلّما حملت طائفة على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ استقبلهم عليّ فدفعهم عنه حتّى انقطع سيفه ، فدفع إليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سيفه ذا الفقار ، وانحاز رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى ناحية احد ، فوقف وكان القتال من وجه واحد ، فلم يزل عليّ ـ عليه‌السلام ـ يقاتلهم حتّى أصابه في وجهه ورأسه ويديه وبطنه ورجليه سبعون جراحة. [كذا أورده عليّ بن إبراهيم في تفسيره] قال : فقال جبرئيل : إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد! فقال له : إنّه منّي وأنا منه [وقال جبرائيل : وأنا منكما].

قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «نظر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى جبرئيل بين السماء والأرض على كرسيّ من ذهب وهو يقول : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليّ». (١)

وفي رواية القمّي : «وبقيت مع رسول الله نسيبة بنت كعب المازنيّة ، وكانت تخرج مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في غزواته تداوي الجرحى ، وكان ابنها معها فأراد أن ينهزم ويتراجع فحملت عليه فقالت : يا بنيّ! إلى أين تفرّ عن الله وعن رسوله!؟ فردّته فحمل عليه رجل فقتله ، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل ، فضربته على فخذه فقتلته ، فقال رسول الله : بارك الله فيك (٢) يا نسيبة! وكانت تقي رسول الله بصدرها وثدييها [ويديها] حتّى أصابتها جراحات

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٣٧٦ ـ ٣٧٩ ؛ تفسير الصافي ٢ : ١٠٧ ـ ١١٠ ؛ وتفسير القمي ١ : ١١١ ـ ١١٦ ، مع تقديم وتأخير وزيادة ونقصان ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٨٩ ؛ مناقب ابن المغازلي : ١٩٧ ؛ ذخائر العقبى : ٧٤ ؛ الرياض النضرة ٣ : ١٥٥ ؛ ينابيع المودة : ٢٠٩.

(٢). في المصدر : «عليك»

٢٨١

كثيرة ، وحمل ابن قميّة (١) على رسول الله وقال : أروني محمّدا لا نجوت إن نجى ، فضربه على حبل عاتقه ونادى : قتلت محمّدا ، واللات والعزّى». (٢)

وفي روايات أصحابنا وغيرهم : أنّ رسول الله اصيب يومئذ بالشجّة في جبهته ، وكسرت رباعيّته ، واشتكت ثنيّته ، رماه مغيرة بن العاص. (٣)

وفي رواية القمّي وغيره (٤) : «وتراجعت الناس فصارت قريش على الجبل ، فقال أبو سفيان ـ وهو على الجبل ـ : اعل هبل. فقال رسول الله لأمير المؤمنين : قل له : الله أعلى وأجلّ. فقال : يا عليّ! إنّه أنعم علينا. فقال عليّ : بل الله أنعم علينا».

أقول : والروايات في هذه الغزوة فوق حدّ الإحصاء ، والتواريخ مشحونة بأخبارها ، (٥) وإنّما أوردنا هذا الانموذج لابتناء فهم الآيات النازلة على ذلك ، فهي بين ما يؤنّب المنافقين ويغلظ عليهم ، وما يوبّخ المكتشفين المنجلين عن رسول الله ، وبين ما يشكر الشاكرين ، وهم الثابتون ، وبين ثناء للمستشهدين فيها ، وما بمنزلة التسلية للمؤمنين.

قوله سبحانه : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا)

الفشل : الضعف والجبن.

__________________

(١). في البرهان في تفسير القرآن : «ابن قميئة».

(٢). تفسير القمي ١ : ١١٥ ـ ١١٦.

(٣). راجع : مستدرك الوسائل ٢ : ٦١١ ؛ المناقب ١ : ٤٨٦ ؛ التعجب : ٤٠ ؛ بصائر الدرجات : ٢٢٨ ؛ مجمع البيان ٢ : ٣٧٦ ؛ تفسير الصافي ٢ : ١١٤ ؛ انوار التنزيل ١ : ١٨١.

(٤). تفسير القمي ١ : ١١٧ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٠١ ، الحديث : ١٥٥ ؛ الخصال : ١٠٥ ، ٣٩٧ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٨٧ ؛ مجمع البيان ٢ : ٣٧٦.

(٥). راجع : المناقب ١ : ١٨٦ ، فصل في غزواته ؛ بحار الأنوار ٢٠ : ١٤. الباب ١٢ ، غزوة أحد وغزوة حمراء الأسد ؛ إعلام الورى : ٧٢ ؛ شرح نهج البلاغه ١٥ : ١ ؛ قصص الانبياء ، للراوندي : ٣٣٩ ، فصل في مغازيه (١٠) ؛ كشف الغمة ١ : ١٨٧ ؛ المغازي ، للواقدي ١ : ١٩٩ ـ ٣٣٤.

٢٨٢

وقوله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما)

حال ، والمقام مقام تأنيب وتوبيخ.

وفي المجمع وعنهما ـ عليهما‌السلام ـ : «هما بنو سلمة وبنو حارثة ، حيّان من الأنصار». (١)

أقول : وكانوا تردّدوا وفشلوا قبيل القتال بما ألقى فيهم عبد الله بن ابيّ من الخلاف ، ثمّ رجعوا ، وفي الآية إشعار بذلك.

قوله سبحانه : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)

بدر : اسم موضع بين مكّة والمدينة ، وكان لرجل اسمه بدر.

وفي تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «ما كانوا أذلّة وفيهم رسول الله ، وإنّما نزلت : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ) ضعفاء)». (٢)

أقول : وروي مثله في المجمع (٣) وغيره (٤) عنه عليه‌السلام.

وفي تفسير العيّاشي عن أبي بصير قال : قرأت عند أبي عبد الله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) ، فقال : «مه ، ليس هكذا أنزلها الله ، إنّها نزلت (٥) : (وأنتم قليل) (٦)».

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٣٧٦.

(٢). تفسير القمي ١ : ١٢٣.

(٣). مجمع البيان ٢ : ٣٨١.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٦ ، الحديث : ١٣٥ ؛ بحار الأنوار ١٩ : ٢٤٣ ، الحديث : ١ ؛ ١٩ : ٢٨٤ ، الحديث : ٢٣.

(٥). في المصدر : «أنزلت»

(٦). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٦ ، الحديث : ١٣٣.

٢٨٣

أقول : وروي مثله عن ابن سنان ، عن أبيه ، عنه عليه‌السلام ، (١) وربما قضى نحو اختلاف الروايتين بأنّ مراده ـ عليه‌السلام ـ : التنزيل ، أعني : المراد دون القراءة اللفظيّة.

قوله سبحانه : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ)

لفظ «عند» يفيد الحضور ، وقرب مظروفه ممّا اضيف إليه ، وما عدا ذلك من الخصوصيّات المكانيّة والزمانيّة وغير ذلك خصوصيّات طارئة بحسب اختلاف المصاديق ، كقولنا : فلان عند الأمير ، وقولنا : سيعطيك عند مجيئه ، وقول العالم : عندي أنّ المسألة الفلانيّة كذلك ، إلى غير ذلك. ويجمع الجميع معنى الحضور. وإذ كان الله سبحانه يفيض عنه الوجود وهو خالق كلّ شيء ، فلا يعقل أن يحتجب عنه شيء ، أو أن يحتجب هو عن شيء إلّا بالغفلة مع انحفاظ أصل الحضور ، فلازم الأوّل أن يكون كلّ شيء عنده ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) ، (٢) ولازم الثاني حضوره عند كلّ شيء ، كما قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، (٣) وبدّل «عند» ب : «مع» بلحاظ المضاف إليه وظهور جسمانيّته.

نعم ، اعتبار معنى الغفلة ينفي العنديّة الثانية وهو المصحّح لصدق «عند» في غيره تعالى من غير أن يصدق عليه عنديّته ، ويجري عليه حكمه ، كما قال تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (٤) مع أنّ كلّ ما عندنا فهو عنده سبحانه.

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٦ ، الحديث : ١٣٤.

(٢). آل عمران (٣) : ٥.

(٣). الحديد (٥٧) : ٤.

(٤). النحل (١٦) : ٩٦.

٢٨٤

ويمتاز العنديّة المنسوبة إليه تعالى عن العنديّة المنسوبة إلى غيره بالأحكام ، وإن كانت الحقيقة تدور مدار ما ذكرناه أوّلا ، قال سبحانه : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، (١) وقال : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، (٢) وقال : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، (٣) وقال : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ). (٤) وقال تعالى : (مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ) ، (٥) وقال : (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) ، (٦) وقال : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) ، (٧) إلى غير ذلك.

وعلى هذا ـ أعني الإمتياز بالحكم ـ يؤول الأمر إلى اعتبار الإستقلال الظاهري في الأسباب والفقر الذاتي فيها المستند إلى الغنى الذاتي عنده تعالى ، فكلّ حكم يرجع عند التحليل إلى الأعدام والنقائص ، فهو عند غيره تعالى ، وما يرجع إلى الكمال والبهاء فهو عنده تعالى بالذات ، وعند غيره بالعرض فيما يصحّ فيه اعتبارهما معا ، فافهم ذلك.

وممّا بالذات : قوله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ، ومنهما معا : قوله : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ). (٨)

وظاهر أنّ ما بالعرض من المعنى يصحّ فيه الإيجاب والسلب معا باعتبارين ،

__________________

(١). آل عمران (٣) : ١٦٩.

(٢). الزمر (٣٩) : ٣٤.

(٣). فصّلت (٤١) : ٣٨.

(٤). ق (٥٠) : ٤.

(٥). البقرة (٢) : ١٤٠.

(٦). النساء (٤) : ٨١.

(٧). الأنعام (٦) : ١٤٨.

(٨). التحريم (٦٦) : ٤.

٢٨٥

وبذلك يتمّ الحصر الذي هو في معناهما.

قوله سبحانه : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)

إذ كان كلّ شيء له سبحانه بحقيقة الملك ، فلا يملك غيره تعالى ، من نبيّ أو غيره شيئا بحسب الذات إلّا ما ملّكه إيّاه ، وقد قال : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ، (١) وقال : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (٢) فلا ينافي ذلك ما جعله سبحانه للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أو لبعض عباده من الأمر. (٣)

*

__________________

(١). آل عمران (٣) : ١٥٤.

(٢). الأعراف (٧) : ٥٤.

(٣). وفي الاختصاص المفيد عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) قال : إنّ رسول الله حرص أن يكون عليّ وليّ الامر من بعده فذاك الذي عني الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) وكيف لا يكون له من الأمر شيىء وقد فوّض الله اليه ، فقال : ما أحلّ النبيّ فهو حلال وما حرّم النبيّ فهو حرام ، الحديث. [الاختصاص : ٣٢٢] وهو مبني على تفسير «لك من الأمر» بما بالذات وما بالغير ، على أنّ الرواية ضعيفة السند بابن سنان وغيره. وعن طرق العامة : أن عتبة بن أبي وقّاص شجّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد وكسر رباعيّته فجعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم بالدم فنزلت ، وأعلمه أنّ كثيرا منهم ليؤمنون ، [منه ـ رحمه‌الله ـ].

٢٨٦

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)]

قوله سبحانه : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)

في المجمع ، عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «إلى أداء الفرائض». (١)

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٣٩٠ ؛ تفسير الصافي ٢ : ١١٦.

٢٨٧

أقول : وجه ذلك أنّه تعالى إنّما فرّع المغفرة في كلامه على أداء الفرائض ، بخلاف دخول الجنّة ، فتتبّع.

قوله سبحانه : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)

في المجمع عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه سئل : إذا كانت الجنّة عرضها السماوات والأرض ، (١) فأين تكون النار؟ [فجوابه : أنه روي أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سئل عن ذلك ،] فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «سبحان الله ، إذا جاء النهار فأين الليل»؟ (٢)

أقول : الليل : هو الظلمة الحاصلة في الأرض ـ مثلا ـ من فقدان مسامتة الشمس وهو ظلّ مخروطيّ قاعدته أقلّ من سطح نصف كرة الأرض على ما بيّن في المناظر ، ويدور على الأرض دائما بحسب الحسّ ، وإن كان بحسب الحقيقة عدما للضوء الشمسي ، والنسبة بينهما نسبة العدم والملكة.

وقوله : «إذا جاء النهار فأين الليل؟» لا ينفي ذلك ، كيف! والقرآن يثبته ، وضرورة الحسّ تشهد به ، وإنّما مصبّ كلامه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ووجهه عدم المزاحمة بينهما مع الإستيعاب كما سيتّضح ، والشبهة وإن لم يكن لها وقع بحسب الاصول البرهانيّة ، لكنّ الذي يمسّ المقام حلّها بحسب ما يستفاد من كلامه تعالى على ما يلائم الغرض من الكتاب.

بيان ذلك أنّ المبعوث المحشور في الآخرة وإن كان هو الإنسان نفسه الذي في الدنيا ، لكنّ الذي يعطيه كلامه تعالى أنّ النشأتين مختلفتان بحسب النظام

__________________

(١). في المصدر : «كعرض السماء والأرض»

(٢). مجمع البيان ٢ : ٣٩١ ؛ تفسير الصافي ٢ : ١١٦.

٢٨٨

فيختلفان بالضرورة بحسب السنخ والأحكام ، فالأرض لها نظام مادّي ومبادئ أحكامها الجسمانيّات على ما أودع الله فيها من الأحكام ، والحياة الدنيا وهي حياة الإنسان في الأرض ذو نظام مادّي يربطه بالإنسان الإرادة والمشيّة.

وأمّا الحياة الآخرة فنظامها نظام المشيّة ، قال سبحانه : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) ، (١) وقال : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) ، (٢) هذا في السعداء.

وقال سبحانه وتعالى : (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) ، (٣) وقال : (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) ، (٤) إلى غير ذلك.

فالنشأة الاخرى يدور نظامها مدار الإرادة والمشيّة وحصول الإنسان على ما يشاؤه أو لا يشاؤه ، والفارق بين السعادة والشقاء هناك أنّ للسعيد ما يشاؤه وللشقيّ ما يكرهه ولا يشاؤه ، ولذلك لم يكن هناك تزاحم لا في حياة السعيد وسعادته ، ولا بين حياته وحياة الشقيّ ؛ إذ النسبة بينهما كنسبة العدم والملكة ، كما قال سبحانه : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) ، (٥) فالنسبة بينهما نسبة الليل والنهار ، فلا تزاحم هناك فيما فيه التزاحم هاهنا في نظام السعادة ونظام الشقاء بعكسه.

ومن هنا يظهر معنى ما عن ابن شهر آشوب في المناقب ، قال : في تفسير يوسف القطّان ، عن وكيع ، عن الثوري ، عن السدّي قال : كنت عند عمر بن

__________________

(١). النحل (١٦) : ٣١.

(٢). الزخرف (٤٣) : ٧١.

(٣). الزخرف (٤٣) : ٧٥.

(٤). العنكبوت (٢٩) : ٢٣.

(٥). الحديد (٥٧) : ١٣.

٢٨٩

الخطّاب ، إذ أقبل عليه كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف (١) وحيّ بن أخطب ، فقال : إنّ في كتابكم (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ، إذا كانت سعة جنّة واحدة كسبع سماوات وسبع أرضين ، فالجنان كلّها يوم القيامة أين تكون؟ فقال عمر : لا أدري (٢) فبينما هم في ذلك إذ دخل عليّ ـ عليه‌السلام ـ فقال : «في أيّ شيء أنتم»؟ فألقى (٣) اليهوديّ المسألة عليه ، (٤) فقال لهم : خبّروني : أنّ النهار إذا أقبل الليل أين يكون؟ [والليل إذا أقبل النهار أين يكون؟] فقالوا له : في علم الله تعالى [يكون] ، فقال عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «كذلك الجنان تكون في علم الله تعالى» ، فجاء عليّ إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأخبره بذلك ، فنزل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (٥) (٦)

أقول : معنى إحالتهم الأمر إلى علم الله دعوى عدم الدليل على انحصار وعاء الموجودات فيما يناله الحسّ من الوعاء ولا أحكامها فيما ندركه من الأحكام حتّى يقع التزاحم والتدافع ، فإحالته ـ عليه‌السلام ـ عدم تزاحم الجنان من حيث الوعاء مرجعه إلى ذلك ، ويرجع بالآخرة إلى ما قدّمناه ، كما لا يخفى.

قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً)

في المجالس عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي : أنّ الآيات نزلت في بهلول

__________________

(١). في المصدر : «الصيفي»

(٢). في المصدر : «لا أعلم»

(٣). في المصدر : «فألتفت»

(٤). في المصدر : «وذكر المسألة»

(٥). النحل (١٦) : ٤٣.

(٦). المناقب ٢ : ٣٥٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٩٢.

٢٩٠

النبّاش ، وكان ينبش القبور ، فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها ونزع أكفانها ، وكانت بيضاء جميلة ، فسوّل له الشيطان حتّى زنى بها ثمّ ندم ، فجاء إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فردّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثمّ اعتزل الناس وتعبّد في بعض جبال المدينة حتّى قبل الله توبته ونزلت الآيات. (١)

أقول : وهو مفصّل قد لخّصناه.

قوله سبحانه : (فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)

الفاحشة من الذنب : ما فيه فحش وقبح كالزنا ، فالظلم المذكور غيره ، والجميع ذنب ، لقوله : (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ).

قوله سبحانه : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا)

في تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «الإصرار : أن يذنب المذنب (٢) فلا يستغفر الله ولا يحدّث نفسه بتوبة ، فذلك الإصرار». (٣)

وروي عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «ما أصرّ من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرّة». (٤)

__________________

(١). الأمالي للصدوق : ٤٢ ـ ٤٦ ، المجلس الحادي عشر ، الحديث : ٣ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٩٧ ـ ٥٠٠ ؛ تفسير الصافي ٢ : ١١٩ ـ ١٢٢.

(٢). في المصدر : «العبد»

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٨ ، الحديث : ١٤٤.

(٤). جامع الأخبار : ٥٧ ؛ مستدرك الوسائل ١٢ : ١٢٢ ، الحديث : ١٣٦٨٥ نقلا عن تفسير أبي الفتوح ١٢ : ١٣٨ ، الحديث : ١٣٧١٧ ؛ نقلا عن لبّ اللباب للقطب الراوندي ؛ بحار الأنوار ٩٠ : ٢٨٢ ؛ الكشف والبيان ٣ : ١٦٩.

٢٩١

أقول : وهذا المعنى مستفاد من المقابلة في الآية ، وقد مرّ ما يقرب عنهما في سورة البقرة عند قوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ). (١)

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الإستغفار». (٢)

وفي تفسير العيّاشي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث قال : «وفي كتاب الله نجاة من الردى ، وبصيرة من العمى ، [ودليل إلى الهدى] وشفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الإستغفار والتوبة ، قال الله : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، وقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) ، (٣) فهذا ما أمر الله به من الاستغفار واشترط معه التوبة والإقلاع عمّا حرّم الله ، فإنّه يقول : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ، (٤) وبهذه الآية يستدلّ [على] (٥) أنّ الإستغفار لا يرفعه إلى الله إلّا العمل الصالح والتوبة. (٦)

أقول : وقد استفاد عدم العود والإقلاع بعد التوبة من نفي الإصرار وأنّ قبول التوبة يحتاج إلى صالح العمل بعدها.

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٢٢.

(٢). الكافي ٢ : ٢٨٨ ، الحديث : ١.

(٣). النساء (٤) : ١١٠.

(٤). فاطر (٣٥) : ١٠.

(٥). في المصدر : «وهذه الآية تدل على»

(٦). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٨ ، الحديث : ١٤٣.

٢٩٢

قوله سبحانه : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ)

في المجالس عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : لمّا نزلت هذه الآية صعد إبليس جبلا [بمكة يقال له ثور] فصرخ بأعلى صوته بعفاريته ، فاجتمعوا إليه فقالوا : يا سيّدنا ، لماذا دعوتنا؟ قال : نزلت هذه الآية ، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال : أنا لها بكذا وكذا ، قال : لست لها ، فقام آخر فقال مثل ذلك ، فقال : لست لها ، فقال الوسواس الخنّاس : أنا لها ، قال : بماذا؟ قال : أعدهم وامنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة ، فإذا واقعوها (١) أنسيتهم الإستغفار ، فقال : أنت لها ، فوكّله بها إلى يوم القيامة. (٢)

*

__________________

(١). في المصدر : «واقعوا الخطيئة»

(٢). الأمالي للصدوق : ٤٦٥ ، المجلس الحادي والسبعون ، الحديث : ٥ ؛ تفسير الصافي ٢ : ١١٩.

٢٩٣

[وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ

٢٩٤

ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)]

قوله سبحانه : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا)

هذا هو العلم الفعلي الذي هو عين الفعل ، وقد مرّ. وأمّا العلم السابق على الإيجاد فليس مناطا لثواب أو عقاب ، وما قيل : إنّ المراد بالعلم الرؤية ، فكلام خال عن التحصيل.

قوله سبحانه : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ)

ظاهره كون «من» تبعيضيّة ، ويحتمل كونها نشويّة ، والشهداء هي الأيّام.

قوله سبحانه : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)

وجه تذييل الآية به دون العلم والعزّة والحكمة ونحو ذلك ، لتأكيد الغايات المذكورة في قوله : (وَلِيَعْلَمَ) ، وأنّ جعل اليوم للكافرين على المؤمنين ليس لحبّ منه لهم ، بل لما ذكر من الغايات.

قوله سبحانه : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)

التمحيص : الإمتحان والإبتلاء من قولك : محّصت الذهب بالنار ، إذا خلّصتها من ما يشوبه ، ومحق الشيء : فناؤه شيئا فشيئا ، ففيه مقابلة حسنة وإشارة إلى أنّ الإمتحانات الإلهيّة تسوق المؤمن إلى الخلوص والصفاء ، والكافر إلى البوار والهلاك ، قال الله تعالى : (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ). (١)

__________________

(١). الزمر (٣٩) : ١٥.

٢٩٥

قوله سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)

في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : «إنّ الله هو أعلم بما هو مكوّنه قبل أن يكوّنه وهم ذرّ ، وعلم من يجاهد ممّن لا يجاهد ، كما علم أنّه يميت خلقه قبل أن يميتهم ، ولم يرهم موتهم وهم أحياء». (١)

أقول : إشارة إلى ما مرّ ، وأنّه فرق بين العلم قبل الإيجاد والعلم الفعلي الذي هو الفعل ، وأنّ المراد ليس هو العلم قبل الإيجاد.

قوله سبحانه : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ)

في تفسير القمّي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «إنّ المؤمنين لمّا أخبرهم الله تعالى بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر في منازلهم في الجنّة ، رغبوا في ذلك فقالوا : اللهمّ أرنا قتالا (٢) نستشهد فيه ، فأراهم الله يوم احد إيّاه ، فلم يثبتوا إلّا من شاء الله منهم ، فذلك قوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ). (٣)

قوله سبحانه : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)

إنكار لما وقع منهم من الإنهزام ولم يثبت له صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا الرسالة ليتحقّقوا أن ليس له في أمر الله إلّا الوساطة المحضة ، وقد قيّد ذلك بقوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) فهو رسول يجري عليه ما جرى على سائر رسل الله من الموت والقتل وغير ذلك ، فلا يحقّ لمؤمن وهو يعلم هذا أن لا يدافع عن دين الله

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٩ ، الحديث : ١٤٧ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٥٠٤.

(٢). في المصدر : «القتال»

(٣). تفسير القمي ١ : ١١٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٥٠٦.

٢٩٦

في حال وينقلب على عقبيه ، وفيه إشعار أنّ الله سبحانه لم يقبل ولم يرتض ما اعتذر به المنهزمون بعد ما تراجعوا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حين رجوعه إلى المدينة أنّهم إنّما انهزموا لمّا سمعوا قتل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وأنّ ذلك كان منهم ارتدادا وانقلابا على أعقابهم ؛ إذ كان قيام الدين على ساقه يومئذ يدور مدار ثباتهم ، فسمّى ذلك منهم انقلابا على الأعقاب أوّلا ، وإرادة لثواب الدنيا ثانيا ، وزلّة باستزلال الشيطان ثالثا ، وخبثا رابعا ؛ إذ يقول : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). (١)

ثمّ سمّى سبحانه الثبات ممّن ثبت منهم ك «عليّ» ـ عليه‌السلام ـ وأبي دجانة شكرا ، إذ قال في آخر الآية : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ، ثمّ في الآية التالية (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) وهو ظاهر بعد ما كان انهزام المنهزمين كفرانا لما أنعم الله عليهم من الدين ، كما يقول في ذيل الآيات : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، (٢) ولقد سمّاه شكرا إذ يقول : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، (٣) فهو الثبات.

في تفسير القمّي قال عليه‌السلام : إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خرج يوم احد وعهد العاهد به على تلك الحال ، فجعل الرجل يقول لمن لقيه : إنّ رسول الله قد قتل النجاء ، (٤) فلمّا رجعوا إلى المدينة أنزل الله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) إلى قوله : (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) يقول :

__________________

(١). آل عمران (٣) : ١٧٩.

(٢). آل عمران (٣) : ١٦٤.

(٣). آل عمران (٣) : ١٢٣.

(٤). النجاء ، كعلاء : الخلاص ، أي : أنجوا بأنفسكم.

٢٩٧

إلى الكفر (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً). (١)

أقول : ومعناه ظاهر ، وقد روى هذا المعنى في الكافي في حديث طويل. (٢)

وفي الكافي ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّه أصاب عليّا يوم احد ستّون جراحة وأنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أمر امّ سليم وامّ عطيّة أن تداوياه فقالا (٣) : إنّا لا نعالج منه مكانا إلّا انفتق مكان ، وقد خفنا عليه ، ودخل رسول الله والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة وجعل يمسحه بيده ويقول : إنّ رجلا لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر ، فكان القرح الذي يمسحه رسول الله يلتئم ، فقال عليّ ـ عليه‌السلام ـ : الحمد لله إذ لم أفرّ ولم أولّ الدبر ، فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن ، وهو قوله : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ، (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ). (٤)

أقول : ظاهره أنّ المشكور منه هو ما لقيه في جنب الله ، فيكون شكره عليه‌السلام هو ثباته ، كما مرّ آنفا أنّ الشكر هاهنا هو الثبات.

ويمكن على بعد أن يكون المشكور هو حمده عليه‌السلام لله تعالى ، ومعنى الرواية مرويّ في عدّة روايات اخر.

وفي تفسير العيّاشي عن زرارة قال : كرهت أن أسأل أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ عن الرجعة واستخفيت ذلك وقلت : لأسألنّ مسألة لطيفة لأبلغ بها حاجتي ،

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١١٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٥٠٦.

(٢). الكافي ٨ : ٢ ـ ١٤ ، الحديث : ١.

(٣). كذا في المتن والصحيح : «فقالتا»

(٤). لم نجده في الكافي ولكن وجدناه في مجمع البيان ٢ : ٤٠٩ ؛ المناقب ٢ : ١١٩ مع تفاوت ؛ بحار الأنوار ٤١ : ٣ نقلا عن مجمع البيان وتفسير القمي ، وما وجدناه في تفسير القمي ، راجع : شواهد التنزيل ١ : ١٧٦ ، الحديث : ١٨٧.

٢٩٨

فقلت : أخبرني عمّن قتل ، أمات؟ قال : «لا ، الموت موت (١) والقتل قتل» ، قلت : ما أحد يقتل إلّا وقد مات؟ فقال : «قول الله أصدق من قولك ، فرّق بينهما في القرآن فقال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) ، وقال : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) ، (٢) وليس كما قلت يا زرارة ، الموت موت والقتل قتل». قلت : فإنّ الله يقول : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ، (٣) قال : «من قتل لم يذق الموت ، ثمّ قال : لابدّ من أن يرجع حتّى يذوق الموت». (٤)

أقول : وفي هذا المضمون روايات اخر ، وقد استفيد فيها المباينة بينهما من التفرقة الواقعة في كلامه : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) وقوله : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) ، ولو كان بينهما العموم والخصوص مطلقا ، كان ذكر القتل بعد الموت مستهجنا ، فالمراد بالموت ما كان حتف الأنف من غير وقوع القتل ، فحينئذ يتضادّان ، وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ، يقضي بعموم الموت لكلّ نفس حتّى المقتول فينتج أنّ المقتول سيرجع فيموت.

نعم ، يبقى عليه ما يمكن أن يقال : إنّ الموت ضدّ الحياة ، قال تعالى : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً) ، (٥) وقال : (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، (٦) والقتل قطع الحياة بسبب فجائي ، فالموت إذا اطلق وحده ، كان أعمّ والمراد به ضدّ الحياة ،

__________________

(١). في الاصل «الموت» والصحيح ما أثبتناه في المتن.

(٢). آل عمران (٣) : ١٥٨.

(٣). آل عمران (٣) : ١٨٥.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٢٠٢ ، الحديث : ١٦٠ ؛ مختصر البصائر : ٩٢ ، الحديث : ٦١ ؛ الايقاظ من الهجعة : ٢٥٧ ، الحديث : ٨٠.

(٥). الفرقان (٢٥) : ٣.

(٦). الروم (٣٠) : ١٩.

٢٩٩

وإذا اقترنا كان ضدّا له ، فلا يستقيم النتيجة ، فتأمّل.

قوله سبحانه : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)

وقرئ «قتل» بضمّ القاف بالبناء للمجهول ، والضمير إمّا للنبيّ أو الربّيّون ، وإن ضعّف الأوّل بأنّا لم نسمع بنبيّ قتل في معركة القتال.

وفيه : أنّ قراءة «قتل» ، لا يستلزم القتال وإنّما يستلزم الإبتلاء والمصيبة ، وبذلك يتمّ تنظير المقام بهذه القصّة أنّ الربّيّون من مؤمني الأنبياء السابقين على ما وقع عليهم وفيهم من القتل والمصائب ، لم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا ، بل ثبتوا وسألوا ربّهم المغفرة وثبات القدم والنصرة.

والربّيّون منسوب إلى الربّ ، أي ربّانيّون ، إلهيّون. وكسر الراء تغيير طار من النسبة ، كذا قيل. (١)

وفي المجمع (٢) عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «الربّيّون عشرة آلاف».

وفي تفسير العيّاشي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : أنّه قرأ : وكأيّن من نبيّ قتل معه ربّيون كثير ، قال : «الوف والوف ، ثمّ قال : إي والله ، يقتلون». (٣)

*

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٧٨١.

(٢). مجمع البيان ٢ : ٨٥٤ ؛ وفي تفسير القمّي ١ : ١٢٠ ، الربّيون : الجموع الكثيرة ، الربوة الواحدة : عشرة آلاف.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٢٠١ ، الحديث : ١٥٤ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٥١٠.

٣٠٠