تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

النبيّين مبشّرين ومنذرين ، فهو ما ذكرنا ، واختلاف الناس هو السبيل إلى التبشير والإنذار وبعث الأنبياء.

ومن هنا تعرف : أنّ الآية تعطي للدّين حدّا ؛ وهو نحو سلوك في الحياة الدنيويّة يتضمّن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الاخرويّ والحياة الحقيقيّة الدائمة عند الله ـ عزوجل ـ

ومن هنا تعرف أيضا : أنّ الأديان لم تزل تستوعب جهات الحياة حتّى تستوعب جميع جهاتها ، فعند ذلك يقف الدين مختوما ؛ فإنّ الدين يحاذي ما عند الله ، فإذا استوعب وجب أن يختم ؛ قال تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (١) وبالعكس الدين الذي يختم به الأديان يجب أن يستوعب جهات الحياة الدنيا وبالمحاذاة جهات الحياة الاخرى ؛ قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢) وقال : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٣) وقال : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ). (٤)

ومن هنا يظهر أيضا : أنّ كلّ شريعة لا حقة أكمل من سابقتها ، وأمّا الاختلاف في الكتاب وما حواه من المعارف الالهيّة فهو سبحانه ينسبه إلى بغي حملته وطلبهم الفساد بذلك ؛ إذ قال : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ... بَغْياً بَيْنَهُمْ ...) إلى آخره ، دون فطرة الناس ؛ إذ الفطرة على ما فطرها الله تعالى لا تقضي إلّا بالحق ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها

__________________

(١). النحل (١٦) : ٩٦.

(٢). آل عمران (٣) : ١٩.

(٣). الأحزاب (٣٣) : ٤٠.

(٤). النحل (١٦) : ٨٩.

٤١

لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (١) وقال : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢) وقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣) فلا يضلّ في المعارف الالهيّة إلّا أهل البغي والظلم ؛ ولذلك ذيّل الآية بقوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هذا.

وقوله : (فَبَعَثَ اللهُ)

أخذ البعثة ـ وأصلها البعث عن النوم ؛ إذ هو الأنسب لما تحكيه الآية من حال الناس وخمودهم ـ دون الإرسال لاقتضائه خروج المرسل عن حكم المرسل إليهم.

وقوله تعالى : (النَّبِيِّينَ)

من النبأ بمعنى الخبر ، والنبيّ هو الإنسان الذي عنده النبأ من الله وآياته ، فالفعيل ما استقرّ فيه الفعل.

وقد قيل : إنّ الفرق بين النبيّ والرسول بالعموم والخصوص المطلق ، فالرسول : هو الذي يبعث فيؤمّر بالتبليغ ويحمل الرسالة ، والنبيّ : هو المبعوث سواء امر بالتبليغ أم لم يؤمر ، هذا.

لكن ينافيه قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) (٤) وقوله تعالى :

__________________

(١). الروم (٣٠) : ٣٠.

(٢). آل عمران (٣) : ١٠١.

(٣). الأنعام (٦) : ٨٢.

(٤). الأعراف (٧) : ١٥٧.

٤٢

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (١) والآيتان في مقام المدح والتعظيم ، ولا وجه معه لذكر الخاصّ بعد العامّ ، وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) (٢) فجعل النبيّ مرسلا مثل الرسول ، ولا يظهر من كلامه تعالى ما يعطي حقيقة هذين اللفظين حتّى يحكم بما يستفاد منها فيهما.

والذي يستفاد ممّا تشتمل عليه الروايات من الفرق : هو أنّ الرسالة بما هي رسالة بوحي الملك ، وأنّ للنبيّ بما هو نبيّ منزلة ليست للرسول ، وهو التلقّي من الله من غير وساطة الملك.

فعن الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٣) قال : «النبيّ : الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول : الذي يسمع الصوت ولا يرى في المنام ويعاين ...» (٤) الحديث. وكأنّه مستفاد من نحو قوله : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) (٥) وتمام الكلام في سورة الشعراء.

وكيف كان ، فالقرآن صريح في أنّ الأنبياء كثيرون وأنّه تعالى لم يقصص الجميع في كتابه ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (٦) والذين قصّهم بالاسم من الأنبياء سبعة وعشرون نبيّا ، وهم : آدم ونوح وادريس وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل واليسع وذو الكفل وإلياس وعزير وأيّوب ويونس وإسحاق ويعقوب ويوسف وشعيب

__________________

(١). مريم (١٩) : ٥١.

(٢). الحجّ (٢٢) : ٥٢.

(٣). مريم (١٩) : ٥١ و ٥٤.

(٤). الكافي ١ : ١٧٦ ، الحديث : ١.

(٥). الشعراء (٢٦) : ١٣.

(٦). غافر (٤٠) : ٧٨.

٤٣

وموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وإسماعيل صادق الوعد وعيسى ومحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ.

وهناك عدّة لم يذكروا بالإسم ، قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) ، (١) وقال تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) (٢) وقال : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) (٣) وقال : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٤) وقال سبحانه : (وَالْأَسْباطِ) (٥).

وهناك بعض لا يتّضح من اللفظ أنّه نبيّ ؛ كفتى موسى في قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) (٦) والذي في قوله : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) (٧) ومثل ذي القرنين من المصرّح بأسمائهم ، هذا.

وبالجملة : فلم يذكر في القرآن لهم عدد يقفون عنده ، والذي يشتمل عليه من الروايات آحاد مختلفة المتون ، وأشهرها رواية أبي ذرّ عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ «أنّ الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبيّ ، والمرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا». (٨)

واعلم : أنّ سادات الأنبياء هم اولو العزم منهم ، وهم : نوح وإبراهيم وموسى

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٤٦.

(٢). البقرة (٢) : ٢٥٩.

(٣). يس (٣٦) : ١٤.

(٤). الكهف (١٨) : ٦٥.

(٥). البقرة (٢) : ١٣٦.

(٦). الكهف (١٨) : ٦٠.

(٧). النمل (٢٧) : ٤٠.

(٨). الخصائص ٢ : ٥٢٤ ، الحديث : ١٣.

٤٤

وعيسى ومحمّد ـ صلوات الله عليهم ـ ، وسيجيء الكلام في معنى عزمهم في قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (١) الآية.

وكلّ واحد منهم صاحب شرع وكتاب ، قال سبحانه : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (٢) وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) (٣) إلى أن قال : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) (٤) إلى أن قال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (٥) فهذه كتب إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد ـ صلوات الله عليهم ـ.

وأمّا كتاب نوح فهو الذي تنبئ عنه هذه الآية : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) إذ هو سبحانه يقول : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) (٦) وهو في مقام الامتنان بجامعيّة شرع محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ للدين كلّه ، فلو كان هناك دين وشرع قبل نوح أو بعده غير ما ذكره لذكره.

وإذ يقول في هذه الآية : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ

__________________

(١). الأحقاف (٤٦) : ٣٥.

(٢). الأعلى (٨٧) : ١٨.

(٣). المائدة (٥) : ٤٤.

(٤). المائدة (٥) : ٤٦.

(٥). المائدة (٥) : ٤٨.

(٦). الشورى (٤٢) : ١٣.

٤٥

فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) يفيد أنّ الدين إنّما نزّل بالكتاب ، وهذا الكتاب : إمّا هو الكتب الرافعة للاختلاف فهو كتاب نوح ، أو جنس الكتب فكتاب نوح ـ عليه‌السلام ـ فيها فافهم ذلك.

ومن هنا يعلم أنّ هذه الفترة كانت قبل زمان نوح ـ عليه‌السلام ـ وبعد آدم ـ عليه‌السلام ـ كما يفيده الروايات :

ففي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «كان ذلك قبل نوح ، فقيل : فعلى هدى كانوا؟ قال : بل كانوا ضلّالا ؛ وذلك أنّه لمّا انقرض آدم وصالح (١) ذرّيّته و (٢) بقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين الله الذي كان عليه آدم وصالح ذرّيّته ، وذلك أنّ قابيل كان يواعده بالقتل كما قتل أخاه هابيل ، فصار (٣) فيهم بالتقيّة والكتمان ، فازدادوا كلّ يوم ضلالة ، (٤) حتّى لم يبق على الأرض معهم إلّا من هو سلف ، ولحق الوصيّ بجزيرة من (٥) البحر يعبد الله ، فبدا الله تبارك وتعالى أن يبعث الرسل ، ولو سئل هؤلاء الجهّال لقالوا : قد فرغ من الأمر ، وكذبوا ، إنّما هو (٦) شيء يحكم (٧) الله في كلّ عام ، ثمّ قرأ (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٨) فيحكم الله تبارك وتعالى ما يكون في تلك السنة من شدّة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك.

__________________

(١). في المصدر : «وصلح».

(٢). في المصدر : ـ «و».

(٣). في المصدر : «يسار».

(٤). في المصدر : «ضلالا».

(٥). في المصدر : «في».

(٦). في المصدر : «[هي]».

(٧). في المصدر : + «به».

(٨). الدخان (٤٤) : ٤.

٤٦

قلت : أفضلّالا كانوا قبل النبيّين أم على هدى؟ قال : لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة الله التي فطرهم عليها ، لا تبديل لخلق الله ولم يكونوا ليهتدوا حتّى يهديهم الله ، أما تسمع بقول إبراهيم : (قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (١)؟! أي ناسيا للميثاق». (٢)

أقول : قوله : «لم يكونوا على هدى ، كانوا على فطرة الله ...» إلى آخره ، يفسّر معنى كونهم «ضلّالا» في أوّل الحديث ، وأنّهم إنّما خلوا عن الهداية التفصيليّة إلى المعارف الإلهيّة ، وهي الهداية المطلقة في كلامه تعالى للمؤمنين ، وأمّا الهداية الفطريّة الإجماليّة فهي تجامع الضلال بمعنى الجهل بالتفاصيل.

وإليه يشير ما في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «كان الناس (٣) قبل نوح أمّة واحدة على فطرة الله ؛ لا مهتدين ولا ضلّالا ، فبعث الله النبيّين ...» (٤) الحديث.

فالهداية هدايتان : هداية فطريّة ، كما قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٥) وهداية تفصيليّة ، وهي التي يشير إليها بقوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وإحدى الهدايتين عامّة والاخرى خاصّة.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «أي ناسيا للميثاق» تفسير للضلال ، فالهداية ذكر الميثاق ، وهذا يعطي للهداية حدّا وراء معنى إراءة الطريق ؛ وهو الإيصال إلى

__________________

(١). الانعام (٦) : ٧٧.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٠٤ ـ ١٠٥ ، الحديث : ٣٠٩.

(٣). في المصدر : «كانوا»

(٤). مجمع البيان ٢ : ٦٥.

(٥). الأعلى (٨٧) : ٣.

٤٧

المطلوب إيصالا حقيقيّا ، فيكون إطلاق الهداية على ما نتعارفه من الإيمان بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله ـ من غير حصول على حقائق المعارف الإلهيّة ـ إطلاقا بالعناية ، وهو كذلك ، وقد مرّ من الكلام على معنى الهداية ما يعين على هذا المقام ، والله الهادي.

*

٤٨

[يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)]

قوله سبحانه : (ما ذا يُنْفِقُونَ ...)

روي : أنّ عمرو بن الجموح كان شيخا همّا ذا مال عظيم ، فقال : يا رسول الله ، ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت. (١)

__________________

(١). تفسير الصافي ١ : ٢٤٦ ، الحديث : ٢١٥ ؛ الدرّ المنثور ١ : ٢٤٣.

٤٩

قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ...)

قيل : بعث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عبد الله بن جحش (١) على سريّة في جمادى الآخرة قبل قتال (٢) بدر بشهرين ؛ ليترصّد عيرا لقريش فيهم عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه ، فقتلوه وأسروا اثنين واستقاوا العير وفيها تجارة الطائف ، وكان ذلك أوّل يوم من (٣) رجب ، وهم يظنّونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش : قد استحلّ محمّد الشهر الحرام ، شهرا يأمن فيه الخائف وينذعر (٤) فيه الناس إلى معائشهم ، (فوقف رسول الله العير ، وعظم) (٥) ذلك على أصحاب السريّة وقالوا : ما نبرح حتّى تنزّل توبتنا ، وردّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ العير والاسارى. وعن ابن عبّاس : لمّا نزلت أخذ رسول الله الغنيمة. (٦)

وفي تفسير القمّي بعد ذكر القصّة : «فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) قال : القتال في الشهر الحرام عظيم ، ولكنّ الذي فعلت بك قريش : (٧) من الصدّ عن المسجد الحرام والكفر بالله وإخراجك منه أكبر عند الله ، والفتنة ـ يعني الكفر بالله ـ أكبر من القتل ، ثمّ

__________________

(١). في المصدر : + «ابن عمته».

(٢). في المصدر : ـ «قتال».

(٣). في المصدر : «في غرّة»

(٤). في المصدر : «ويذعر».

(٥). في المصدر : «وشقّ».

(٦). تفسير كنز الدقائق ١ : ٥١٥.

(٧). في المصدر : + «محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ»

٥٠

انزلت عليه : (١) (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٢)». (٣)

أقول : ظاهره أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لم يردّ الغنيمة كما في رواية ابن عبّاس ، وهو اللائح من سياق الآية ، وتفسير الفتنة بالكفر أيضا يناسب السياق.

*

__________________

(١). في المصدر : ـ «عليه»

(٢). البقرة (٢) : ١٩٤.

(٣). تفسير القمّي ١ : ٧٢.

٥١

[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)]

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...)

قيل : نزلت في قصّة أصحاب عبد الله بن جحش ، حين خافوا على أنفسهم من الإثم إذا قاتلوا في الشهر الحرام.

أقول : فيدلّ على أنّ العقاب والثواب يدوران مدار النيّة ، وقد روى الفريقان عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال : «إنّما الأعمال بالنيّات». (١)

__________________

(١). تهذيب الأحكام ١ : ٨٣ ، الحديث : ٢١٨ ؛ الأمالي للطوسي : ٦١٨ ؛ دعائم الإسلام ١ : ٤ ؛ صحيح البخاري ١ : ٢ ؛ سنن أبي داود ١ : ٤٩٠ ، الحديث : ٢٢٠١ ؛ السنن الكبرى ١ : ٤١.

٥٢

قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...)

في الكافي عن عليّ بن يقطين قال : «سأل المهدي أبا الحسن ـ عليه‌السلام ـ عن الخمر ، هل هي محرّمة في كتاب الله عزوجل ؛ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون تحريمها ، (١) فقال له أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : بل هي محرّمة. (٢)

فقال : في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله عزوجل (٣) يا أبا الحسن؟ فقال : «قول الله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (٤) ـ إلى أن قال : ـ فأمّا الإثم فإنّها الخمر بعينها ، وقد قال الله تعالى في موضع آخر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فأمّا الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) كما قال الله تعالى.

فقال المهدي : يا عليّ بن يقطين! هذه فتوى هاشميّة ، (٥) فقلت له : صدقت (٦) يا أمير المؤمنين ، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت ، قال : فو الله ما صبر المهدي إلى أن قال لي : صدقت يا رافضيّ». (٧)

وفي الكافي أيضا عن الوشّا عن أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ قال : «سمعته

__________________

(١). في المصدر : «تحريم لها».

(٢). في المصدر : + «في كتاب الله عزوجل يا أمير المؤمنين»

(٣). في المصدر : «جلّ اسمه»

(٤). الأعراف (٧) : ٣٣.

(٥). في المصدر : + «قال»

(٦). في المصدر : + «والله»

(٧). الكافي ٦ : ٤٠٦ ، الحديث : ١.

٥٣

يقول : «الميسر هو القمار». (١)

أقول : والأخبار فيهما كثيرة لا غبار عليها.

قوله سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ ...)

قيل : سائله أيضا عمرو بن الجموح ، سأل أوّلا عن المنفق والمصرف ، فاجيب بقوله تعالى : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ) (٢) وسأل ثانيا عن القدر ، فاجيب بالعفو.

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «العفو الوسط». (٣)

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : «الكفاف». (٤)

وفي رواية أبي بصير : «القصد». (٥)

وعن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية : (الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦) قال : «نزلت (٧) هذه بعد هذه ، هي الوسط». (٨)

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «العفو : ما فضل عن قوت السنة». (٩)

__________________

(١). الكافي ٥ : ١٢٤ ، الحديث : ٩.

(٢). البقرة (٢) : ٢١٥.

(٣). الكافي ٤ : ٥٢ ، الحديث : ٣ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٠٦ ، الحديث : ٣١٤.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ١٠٦ ، الحديث : ٣١٦.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ١٠٦ ، الحديث : ٣١٧.

(٦). الفرقان (٢٥) : ٦٧.

(٧). في المصدر : ـ «نزلت»

(٨). تفسير العيّاشي ١ : ١٠٦ ، الحديث : ٣١٥.

(٩). مجمع البيان ٢ : ٨٢.

٥٤

أقول : والروايات متوافقة ، والأخيرة بيان مصداق.

قوله سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ...)

في تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّه لمّا نزلت : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١) أخرج كلّ من كان عنده يتيم ، وسألوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في إخراجهم ، فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)». (٢)

أقول : والأخبار فيه كثيرة وجميعها تحوم حول ما تفيده الآية : من الأمر بالإصلاح لهم وفي مخالطتهم والنهي عن الإفساد.

وذيل الآية : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) ـ من العنت ، وهي المشقّة ـ يدلّ على أنّه حكم تسهيليّ ثانيا.

*

__________________

(١). النساء (٤) : ١٠.

(٢). تفسير القمّي ١ : ٧٢.

٥٥

[وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)]

قوله سبحانه : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ...)

قيل : نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، بعثه رسول الله إلى مكّة ليخرج منها ناسا من المسلمين ، وكان قويّا شجاعا ، فدعته امرأة ـ يقال لها : عناق ـ إلى نفسها ، فأبى ، فقالت : هل لك أن تتزوّج بي؟ فقال : حتّى أستأذن رسول الله ، فلمّا رجع إلى المدينة استأذن في تزويجها ، فنزلت. (١)

__________________

(١). راجع : تفسير كنز الدقائق ١ : ٥٢٤.

٥٦

أقول : وسيجيء الكلام على الآية في قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...) (١).

قوله سبحانه : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ...)

تشديد أن لا يقصدن بالإتيان ؛ ولذا بدّل ثانيا عند رفع الحظر بقوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) فلا يفيد ذلك النهي عن سائر التمتّعات غير الإتيان المعهود ، وقد عبّر في مثله في آية الصيام بقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) (٢) وكذلك يضاهي قوله : (فَأْتُوهُنَ) في تقييده بقوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ما في آية الرفث من آيات الصيام من قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) (٣) والنكتة واحدة.

فقوله : (فَأْتُوهُنَ) ـ وإن كان أمرا بعد الحظر ـ لا يفيد أكثر من الإباحة والإذن ، لكن قيّد بما قيّد دفعا لما يتراءى من الأمر بأمر شهويّ معدود عند الناس من اللغو ، فالمراد حينئذ من الأمر في قوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) الأمر التكويني ؛ حيث وضعت العناية الإلهيّة عضو التناسل وقوّة التوليد في جهازين في مقدّم الذكر والانثى من الإنسان ، واحتالت إلى الغرض بإيداع قوّة الباه وشهوة النكاح فيهما ، حتّى تبعثهما إلى المقاربة والتناسل ، فهو الأمر بذلك.

ومن هنا يظهر : أنّ الحال في قوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (٤) في تقييده

__________________

(١). المائدة (٥) : ٥.

(٢). البقرة (٢) : ١٨٧.

(٣). البقرة (٢) : ١٨٧.

(٤). البقرة (٢) : ٢٢٣.

٥٧

بقوله : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) (١) نظير الحال فيها ، وأنّ المراد بقوله : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) طلب الولد بإتيان الحرث ، كما قيل.

ويستفاد ذلك ممّا روي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) «أي فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله ...» (٢) الحديث.

والتسمية بالحرث أيضا لمثل هذا الغرض ، على ما في هذه العبارات من الأدب البارع.

وفي الكافي : سئل الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال : كلّ شيء ما عدا القبل بعينه». (٣)

وفيه عنه ـ عليه‌السلام ـ : «في المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيّامها ، قال : إذا أصاب زوجها شبق ، فليأمر (٤) فلتغسل فرجها ، ثمّ يمسّها إن شاء قبل أن تغتسل». (٥)

وفي رواية : «والغسل أحبّ إليّ». (٦)

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة جدّا ، وهي تؤيّد قراءة (يَطْهُرْنَ) بالتخفيف ، وهو انقطاع الدم. فالمراد ب (تَطَهَّرْنَ) إن كان هو الاغتسال أفاد استحباب الاغتسال عقيب الانقطاع ، وهو قوله في الرواية : «والغسل أحبّ إليّ» ، وإن كان هو الغسل بفتح الغين أفاد الانقطاع ؛ حيث إنّ غسل المحلّ عادة

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٢٣.

(٢). تهذيب الأحكام ٧ : ٤١٤ ، الحديث : ٢٩.

(٣). الكافي ٥ : ٥٣٨ ، الحديث : ١.

(٤). في المصدر : «فليأمرها».

(٥). الكافي ٥ : ٥٣٩ ، الحديث : ١.

(٦). الكافي ٣ : ٥١ ، الحديث : ١٠.

٥٨

غالبا إنّما يتأتّى بعد انقطاع الدّم ، فافهم.

قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)

في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار ، ثمّ احدث الوضوء ، وهو خلق كريم ، فأمر به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وصنعه ، فأنزل الله في كتابه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)». (١)

أقول : والأخبار في هذا المعنى كثيرة ، وفي بعضها : «أنّ أوّل من استنجى بالماء براء بن عازب ، فنزلت الآية وجرت به السنّة». (٢)

وفي الكافي عن سلام بن المستنير ، قال : «كنت عند أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ، فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء ، فلمّا همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : اخبرك أطال الله بقاءك (٣) وأمتعنا بك ، إنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتّى ترقّ قلوبنا ، وتسلو أنفسنا عن الدنيا ، وهوّن (٤) علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال ، ثمّ نخرج من عندك ، فإذا صرنا مع الناس والتجّار أحببنا الدنيا ، قال : فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : إنّما هي القلوب ، مرّة تصعب ومرّة تسهل.

ثمّ قال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : أما إنّ أصحاب محمّد قالوا : يا رسول الله!

__________________

(١). الكافي ٣ : ١٨ ، الحديث : ١٣ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٠٩ ، الحديث : ٣٢٦.

(٢). وسائل الشيعة ١ : ٣٥٤ ، الحديث : ٩٤٢.

(٣). في المصدر : + «لنا»

(٤). في المصدر : «يهون»

٥٩

نخاف علينا من (١) النفاق ، قال : فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ولم تخافون ذلك؟ قالوا : إذا كنّا عندك فذكّرتنا ورغّبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتّى كنّا (٢) نعاين الآخرة والجنّة والنار ونحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحول عن الحالة (٣) التي كنّا عليها عندك ، وحتّى كأنّا لم نكن على شيء ، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟

فقال لهم رسول الله : كلّا إنّ هذه خطوات الشيطان ، فيرغّبكم في الدنيا ، والله لو تدومون على الحالة ـ التي وصفتم أنفسكم بها ـ لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء ، ولو لا أنّكم تذنبون فتستغفرون الله تعالى ، لخلق خلقا حتّى يذنبوا فيستغفروا (٤) الله تعالى فيغفر (٥) لهم ، إنّ المؤمن مفتن توّاب ، أما سمعت قول الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) وقال تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (٦)». (٧)

أقول : وروى مثله العيّاشي في تفسيره. (٨)

قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لو تدومون على الحالة ...» إلى آخره ، إشارة إلى مقام الولاية ؛ وهو الانصراف عن الدنيا والإشراف على ما عند الله

__________________

(١). في المصدر : ـ «من»

(٢). في المصدر : «كأنّا»

(٣). في المصدر : «الحال»

(٤). في المصدر : «ثمّ يستغفروا»

(٥). في المصدر : + «الله»

(٦). هود (١١) : ٣.

(٧). الكافي ٢ : ٤٢٣ ، الحديث : ١.

(٨). تفسير العيّاشي ١ : ١٠٩ ، الحديث : ٣٢٧.

٦٠