تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

[فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)]

قوله سبحانه : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قول الله : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) قال : «وهي أيّام التشريق ، وكانوا إذا أقاموا بمنى بعد النّحر تفاخروا ، فقال الرجل منهم : كان أبي يفعل كذا وكذا ، فقال الله ـ جلّ ثناؤه ـ : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) قال : والتكبير : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلّا الله والله أكبر ولله الحمد ، والله أكبر على ما هدانا ، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام». (١)

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥١٦ ، الحديث : ٣.

٢١

أقول : وفي هذا المعنى وما يقرب منه أخبار اخر.

قوله سبحانه : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ...)

في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «رضوان الله والجنّة في الآخرة ، والسعة في المعيشة وحسن الخلق في الدنيا». (١)

وعنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «رضوان الله والتوسعة في المعيشة ، وحسن الصحبة ، وفي الآخرة الجنّة». (٢)

وعن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء ، وعذاب النار امرأة السوء». (٣)

أقول : والروايتان من قبيل عدّ المصداق ، والآية مطلقة.

وحيث كان رضوانه تعالى ممّا يمكن حصوله في الدنيا ـ وظهوره التام في الآخرة ـ صحّ أن يعدّ من حسنات الدنيا كما في الرواية الاولى ، (٤) أو الآخرة كما في الثانية. (٥)

قوله سبحانه : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)

سياق الآية يدلّ على أنّ الاسم «سريع الحساب» ليس من الأسماء المختصّة ظهوره بيوم القيامة ، بل من الأسماء الشاملة للدارين ، سواء كان المشار إليه

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٩٨ ، الحديث : ٢٧٤.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٩٩ ، الحديث : ٢٧٥.

(٣). راجع : بحار الأنوار ٨٣ : ١١٨.

(٤) الصحيح تبديل الاولى بالثانية وبالعكس.

(٥) الصحيح تبديل الاولى بالثانية وبالعكس.

٢٢

ب «اولئك» جميع الفرقتين ، أو الداعين للدنيا والآخرة معا.

وقوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) من أسمائه الحسنى ، وسيجيء معنى الحساب منه تعالى وسرعته إن شاء الله تعالى.

قوله سبحانه : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ)

في تفسير العيّاشي : «المعدودات والمعلومات واحدة ، أيّام التشريق». (١)

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «التكبير في أيّام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث ، وفي الأمصار يكبّر عقيب عشر صلوات». (٢)

أقول : وقد مرّ كيفيّة التكبير ، والروايات في هذا المعنى كثيرة.

قوله سبحانه : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ...)

في الفقيه سئل الصادق ـ عليه‌السلام ـ في هذه الآية ، فقال : «ليس هو على أنّ ذلك واسع : إن شاء صنع ذا وإن شاء صنع ذا ، لكنّه يرجع مغفورا له لا ذنب له». (٣)

وفي تفسير العيّاشي عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «يرجع مغفورا لا ذنب له لمن اتّقى». (٤)

أقول : الروايات في هذا المعنى كثيرة ، وهي ـ مثل الروايتين ـ تنفي كون المراد بقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) نفي التعيين وإثبات التخيير ، مثل ما ربّما يقال : إنّ

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٩٩ ، الحديث : ٢٧٧.

(٢). الكافي ٤ : ٥١٦ ، الحديث : ١.

(٣). من لا يحضره الفقيه ٢ : ٤٨٢ ، الحديث : ٣٠٢٦.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٩٥ ، الحديث : ٢٥٧.

٢٣

أهل الجاهليّة كانت بين طائفة تؤثّم التعجيل ، وطائفة تؤثّم التأخير ، فنفى الله تعالى بالآية زعم الطائفتين جميعا ، هذا.

وتذييل الآية بقوله : (لِمَنِ اتَّقى) ينافي المعنيين جميعا كما لا يخفى ؛ ولذلك تعرّض لتقييد الكلام به في الرواية الثانية ؛ إذ إثبات التخيير بين التعجيل والتأخير ، أو نفي تعيّن أحدهما ، لا يلائم التقييد بقوله : (لِمَنِ اتَّقى).

وفي الفقيه عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «يتّقي الصيد حتّى ينفر أهل منى». (١)

وعن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «لمن اتّقى الرفث والفسوق والجدال وما حرّم الله في إحرامه». (٢)

وعنه ـ عليه‌السلام ـ أيضا : «لمن اتّقى الله ـ عزوجل ـ». (٣)

وفيه أيضا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «لمن اتّقى الكبائر». (٤)

أقول : والروايات قريبة المعاني ، وهو ظاهر.

__________________

(١). من لا يحضره الفقيه ٢ : ٤٨٠ ، الحديث : ٣٠١٦.

(٢). من لا يحضره الفقيه ٢ : ٤٨٠ ، الحديث : ٣٠١٧.

(٣). من لا يحضره الفقيه ٢ : ٤٨٠ ، الحديث : ٣٠١٨.

(٤). من لا يحضره الفقيه ٢ : ٤٨٠ ، الحديث : ٣٠٢١.

٢٤

[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)]

قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ ...)

قيل : هو الأخنس بن شريق ؛ وعن ابن عبّاس : نزلت الآيات الثلاث في المرائي ؛ لأنّه يظهر خلاف ما يبطن. (١)

وفي المجمع : أنّه مرويّ عن الصادق ـ عليه‌السلام (٢) ـ ، وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّه فلان وفلان». (٣)

أقول : وظاهره بيان المصداق لا شأن النزول.

__________________

(١). راجع : مجمع البيان ٥ : ٢٤٣.

(٢). مجمع البيان ٢ : ٥٥.

(٣). تفسير العياشي ١ : ١٠٠ ، الحديث : ٣٨٧.

٢٥

وقد روي : أنّ الحرث الذرّيّة ، وأنّه الدّين ، وأنّه الزرع ، (١) والأمر في التطبيق سهل.

قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)

في أمالي الشيخ عن عليّ بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «نزلت في عليّ حين بات على فراش رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ». (٢)

أقول : تظافرت الروايات من الفريقين أنّها في عليّ ـ عليه‌السلام (٣) ـ ، وممّا لا يعبأ به ما قيل : إنّها نزلت في صهيب بن سنان ، أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفرا كانوا معه ، فقال : أنا شيخ كبير ؛ إن كنت معكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضرّكم ، فخلّوني وما أنا عليه وخذوا مالى ، فقبلوا منه ماله وأتى المدينة ... القصّة. (٤)

وأنت خبير بأنّ سياق قوله : (مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) لا يساعد عليه.

وأمّا قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [ف] لعلّ المراد : أنّه رؤوف بالعباد في بعثه مثل هذا الشاري ؛ ليتسبّب بذلك إلى نجاة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من أيدي الكفّار ، فلا ينطفئ نور الله ، والله متمّ نوره.

__________________

(١). راجع : تفسير العيّاشي ١ : ١٠٠ ، الحديث : ٣٨٧ ؛ بحار الأنوار ٩ : ١٨٩ ، الحديث : ٢٣.

(٢). الأمالي للطوسي : ٤٤٦ ، الحديث : ٩٩٦.

(٣). شرح الأخبار ٢ : ٣٤٥ ، الحديث : ٦٩٤ ؛ العمرة : ٢٤٠ ، الحديث : ٣٦٧ ؛ الغدير ٢ : ١٠١.

(٤). بحار الأنوار ٢٢ : ٣٥٣ ، الحديث : ٧٤.

٢٦

وفي المجمع عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «أنّ المراد بالآية : الرجل يقتل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». (١)

أقول : وهو بيان لعموم الآية وإن كان شأن نزولها خاصّا ، وملائم لسابق السياق من قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ).

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٥٧.

٢٧

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ...)

لمّا بيّن أنّ من الناس منافقا ساعيا في الأرض بالفساد ، وشاريا نفسه ابتغاء مرضاة الله ، عمّم وجه الكلام ووجّهه إلى جميع من يقول : آمنت بالله ورسوله ، فدعاهم إلى السّلم كافّة ، وهو الحافظ لهم أن يتفرّقوا في الدين والدنيا ، كمجرى قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (١) وقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). (٢)

وروى ابن شهر آشوب عن السجّاد والصادق ـ عليهما‌السلام ـ قالا : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) في ولاية عليّ ـ عليه‌السلام ـ (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ

__________________

(١). آل عمران (٣) : ١٠٣.

(٢). الانعام (٦) : ١٥٣.

٢٨

الشَّيْطانِ) قالا ـ عليهما‌السلام ـ : لا تتّبعوا غيره». (١)

أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة ، وهي من قبيل بيان المصداق أو الجري.

*

__________________

(١). مناقب آل أبي طالب ٢ : ٢٩٢.

٢٩

[هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)]

قوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) من الثابت بالبرهان والضروري من الظواهر الدينيّة من الكتاب والسنّة : أنّه سبحانه لا يجري عليه شيء ممّا يجري على غيره من الأشياء ، من ذات ووصف وفعل ، كيف؟! وكلّ شيء منه وله وإليه ، وليس كمثله شيء.

غير أنّ المعاني الجارية على الممكنات ـ من الأوصاف والأفعال ـ إذا جرّدت عن الجهات العدميّة والنواقص الإمكانيّة ـ ولم يبق منها إلّا مجرّد المعاني الخالية عن كلّ نقص وشين ـ جاز اتّصافه بها ، على ما سيجيء بيانه في ذيل قوله : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) ، (١) وعلى هذا ينبغي أن ينزّل ما

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٨٠.

٣٠

يوصف به من وصف أو فعل في كلامه تعالى ، دون ما اعتوره عدّة من المفسّرين من أصناف المجاز من غير حقيقة ، هذا.

ومعنى «الإتيان» و «المجيء» ـ على ما ينسبق إلى أذهاننا ـ قطع. الأمر الجسماني الفواصل المكانيّة بالحركة ، والحضور عند المأتيّ إليه ، وإذا جرّد عن الخصوصيّات المصداقيّة ـ كما في قولنا : «جاء غد» و «جاء شهر رمضان» و (جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) (١) ـ لم تكن حقيقته إلّا حضور الجائي عند المجيء إليه بعد كشف حجب مانعة عن المشافهة ، فإتيانه تعالى : هو رفعه حجب الأسباب عنهم ، بحيث لا يشغلهم شيء عنه تعالى ، وقضاؤه بينهم من غير توسيط سبب كما هو من شؤون القيامة ، وسيجيء بيانه في محلّ يليق به ، وإن كانت الأسباب مع ذلك لا ترتفع عن الواقع ولن ترتفع أبدا ، فافهم ذلك.

فقوله تعالى : (أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ)

كقوله تعالى ـ : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٢)

المراد به : انكشاف الأسباب وانجلاء غبارها عنهم ، فلا يبقى إلّا مولاهم الحقّ ، فيقضي بينهم ويحكم فيهم ، كما يتضمّنه قوله : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٣) وقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤) وقوله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). (٥) ... إلى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١). الإسراء (١٧) : ٥.

(٢). الفجر (٨٩) : ٢٢.

(٣). الانفطار (٨٢) : ١٩.

(٤). إبراهيم (١٤) : ٤٨.

(٥). ق (٥٠) : ٢٢.

٣١

فهذا أصل المعنى ، لكنّه سبحانه إذا سلب في كلامه نسبة شيء إلى استقلال الأسباب وإيجاد الوسائط ، ربّما نسبه إلى نفسه عزّ اسمه ، وربّما نسبه إلى أمره ، فعلمنا من ذلك : أنّ أمره شيء وليس بشيء ، أي أنّ المنسوب إلى أمره تعالى بعينه منسوب إليه تعالى ، وصحّ وضع الأمر فيما يحتاج إليه بحسب ظهور بعض الألفاظ في معان لا تليق بجناب العزّة والكبرياء.

ويشهد بذلك قوله سبحانه : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (١) فهذه الآية نظيرة الآيات الثلاث في معناها ؛ أعني من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ إلى قوله ـ : (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) وقد بدّل قوله : (يَأْتِيَهُمُ اللهُ) فيها بقوله : (يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ). (٢)

وفي التوحيد والمعاني ، عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «يقول : هل ينظرون إلّا أن يأتيهم بالملائكة في ظلل من الغمام ، وهكذا نزلت». (٣)

و «عن قول الله ـ عزوجل ـ : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٤) قال : إنّ الله ـ عزوجل ـ لا يوصف بالمجيء والذهاب ، تعالى عن الانتقال ، وإنّما يعني به (٥) : وجاء أمر ربّك والملك صفّا صفّا». (٦)

__________________

(١). التوبة (٩) : ٢٤.

(٢). البقرة (٢) : ١٠٩.

(٣). التوحيد : ١٦٣ ، الحديث : ١ ؛ معاني الأخبار ١٣ ، الحديث : ٣.

(٤). الفجر (٨٩) : ٢٢.

(٥). في المصدر : «بذلك».

(٦). معاني الأخبار : ١٣ ، الحديث : ٣.

٣٢

أقول : قوله : «يقول هل ينظرون ...» إلى آخره ، معناه : يريد هل ينظرون. وبه يظهر أنّ قوله : «هكذا نزلت» شأن نزول وبيان معنى ، وليس من القراءة في شيء.

والمعنى الذى فسّره به بعينه ما قرّبناه من كون المراد بإتيانه معنى ربّما يعبّر عنه بإتيان أمره ؛ فإنّ الملائكة إنّما تعمل ما تعمل وتنزل حين تنزل بالأمر ، قال سبحانه : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١) وقال : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ). (٢)

واعلم : أنّه ورد عنهم ـ عليهم‌السلام ـ تفسير الآية بيوم القيامة ، كما في تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ ، (٣) وتفسيرها بالرجعة ، كما رواه الصدوق عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، (٤) وتفسيرها بظهور المهدي ـ عليه‌السلام ـ ، كما رواه العيّاشي بطريقين عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ. (٥)

أقول : ونظائره كثيرة ، فإذا تصفّحت وجدت شيئا كثيرا من الآيات ورد فيها تفسير أئمّة أهل البيت : تارة بالقيامة ، واخرى بالرجعة ، وثالثة بالظهور ، والناس حيث لم يبحثوا عن حقيقة القيامة ، ولم يستفرغوا الوسع في الكشف عمّا يعطيه القرآن من هويّة هذا اليوم ، تراهم بين من يطرح هذه الروايات على كثرتها ، وهي تربو على سبعمائة رواية في أبواب متفرّقة ، وبين [من] يؤوّلها على ظهورها وصراحتها ، وآخرون ـ وهم أمثل طريقة ـ يقتصرون على نقلها

__________________

(١). الأنبياء (٢١) : ٢٦.

(٢). النحل (١٦) : ٢.

(٣). تفسير القمّي ٢ : ٤٢١.

(٤). راجع : بحار الأنوار ٥٣ : ٧٤ ، الحديث : ٧٥.

(٥). تفسير العياشي ١ : ١٠٣ ، الحديث : ٣٠٣ ـ ٣٠١.

٣٣

والوقوف عليه من غير بحث.

وغير الشيعة ـ وهم عامّة المسلمين ـ وإن أذعنوا بظهور المهديّ ورووه بالطرق المتواترة عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، لكنّهم أنكروا الرجعة وعدّوها من مختصّات الشيعة ، وربّما لحق بهم في هذه الأعصار بعض المنتحلين المنتسبين إلى الشيعة ، وعدّوها ممّا دسّ في الإسلام ، دسّه بعض اليهود وغيرهم من المتظاهرين بالإسلام ؛ كعبد الله بن سبأ وأمثاله.

وبعض المتفلسفين من هؤلاء رام إبطال الرجعة بأنّ الموت بحسب العناية الإلهيّة لا يطرأ على حيّ حتّى يستكمل بحسب ما يليق به من الوجود المادّي ، ويخرج إلى الفعل في كلّ ما له بالقوّة ، فرجوعه إلى الدنيا بعد موته رجوع إلى القوّة وهو بالفعل ، هذا خلف أو انقلاب ، إلّا أن يخبر به المخبر الصادق ؛ وهو الله سبحانه أو خليفة من خلفائه ، ولم يرد منه ولا منهم ذلك ، وما يدّعيه المثبتون غير تامّ. ثمّ أخذ في تضعيف الروايات ، فلم يدع منها صحيحا ولا سقيما ، هذا.

ولا يدري هذا المسكين : أنّ دليله هذا لو تمّ صدره في دلالته على الاستحالة ، لم ينقلب المحال ممكنا بإخبار المخبر الصادق ، وأنّ المخبر بوقوع المحال لا يكون صادقا ، وأنّ فرض صدقه في إخباره يوجب تأويل المحال ـ الذي أخبر به ـ إلى ما يكون ممكنا ، وليت شعري ما ذا يقول فيما أخبر الله به في قصص إبراهيم وموسى وعيسى وإرميا من إحياء الأموات؟! هذا.

وما ذكره ـ من امتناع عود ما خرج من القوّة إلى الفعل إلى القوّة ثانيا ـ حقّ ، لكنّ الصغرى ممنوعة ؛ فإنّه إنّما يلزم العود من الفعل إلى القوّة في الحياة بعد الموت الطبيعي ، دون الاخترامي الذي لقاسر ، ومن الممكن أن يستعدّ إنسان لكمال لا يجوّزه الاستعداد الموجود في العصر الحاضر معه إلّا زمانا بعد زمانه ،

٣٤

فيحيى بعد موته لحيازة كمال استعدّ له ، أو يستعدّ لشيء من الكمال بشرط تخلّل حياة برزخيّة ، فيموت ثمّ يحيى لحيازته.

وأمّا كون أجزاء النظام الكبير بالفعل من الجهات ، فهو نظر بحث غير النظر البحثيّ فيما بالقوّة وما بالفعل ، فافهم ؛ وتمام الكلام في غير هذا المحلّ.

وأمثال هذه التلفيقات ـ التي يسمّونها أدلّة ، أخفض سطحا وأنزل قدرا من أن تورد في المزبورات العلميّة ، غير أنّا أوردناها ليعلم الباحث عن الحقائق المتحقّق بها مبلغ علمهم ومقدار أوج كلامهم ، فلنضرب عنه صفحا ، ولنرجع إلى ما كنّا فيه :

وهو أنّ الذي يتحصّل من كلامه تعالى في حقيقة يوم القيامة أنّه وعاء لا يحجب فيه سبب من الأسباب ، ولا شاغل من الشواغل عنه سبحانه ، ويفنى فيه جميع الأوهام ، فلا يبقى إلّا حقيقة العلم بحقيقة الأمر ، ويظهر فيه حقائق الجميع بصفة الجمع ، فهو يوم الجمع.

وهذا لا يستلزم بطلان العالم المادّي والنظام من أصله ، وتفرّد النشأة الاخرويّة بالوجود ، وفقد نظام الوجود عند تلك النشأة الجسمانيّة الدنيويّة ، فلا شيء يدلّ على ذلك من كتاب وسنّة وبرهان ، بل الأمر بخلافه ، سوى أنّ البشر ـ أعني هذا النسل ـ على ما يظهر من القرآن سينقرض إلى طلوع هذا اليوم.

ولا مزاحمة بين النشأتين الاخرويّة والدنيويّة ، حتّى يدفع بعضها بعضا عن الوجود ، كما أنّ النشأة البرزخيّة ـ وهي ثابتة الآن للأموات ـ لا تدفع الدنيا ولا الدنيا تدفعها ، قال تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) فهذه حقيقة يوم القيامة (يَوْمَ يَقُومُ

__________________

(١). النحل (١٦) : ٦٣.

٣٥

النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١) (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٢) ولذلك ربّما سمّي يوم الموت بالقيامة ، فعن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «من مات فقد قامت قيامته» (٣) الخبر.

والروايات المثبتة للرجعة وإن كانت مختلفة الآحاد إلّا أنّها على كثرتها تتّحد في إثبات أنّ سير النظام الدنيويّ متوجّه إلى يوم تظهر فيه آيات الله كلّ الظهور ، ولا يعصى فيه الله ، بل يعبد عبادة محضة خالصة لا شيطان معها ، ويعود فيه بعض الأموات من الأولياء والأشقياء ، وينفصل فيه الحقّ من الباطل ، وهذا يفيد أنّه من مراتب يوم القيامة ، وإن كان دونه بإمكان الشرّ والفساد فيه دون القيامة ؛ ولذلك ربّما الحق به يوم الظهور أيضا.

وقد ورد بطرق كثيرة عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ : «أيّام الله ثلاثة : يوم الظهور ، (٤) ويوم الكرّة ، ويوم القيامة» ، (٥) وفي بعضها : «أيّام الله ثلاثة : يوم الموت ، ويوم الكرّة ، ويوم القيامة». (٦)

وهذا المعنى ـ أعني الاتّحاد بحسب الحقيقة ، والاختلاف بحسب المراتب ـ هو الموجب لتفسيرهم ـ عليهم‌السلام ـ بعض الآيات : تارة بالقيامة ، واخرى بالرجعة ، وثالثة بالظهور.

وأمّا نفس هذا اليوم فلا دليل مع المنكر يدلّ على نفيه ، على أنّ مثله ـ وهو رجوع الميّت حيّا ـ واقع ، كما أخبر به الله سبحانه في قصص بعض الامم

__________________

(١). المطفّفين (٨٣) : ٦.

(٢). الانفطار (٨٢) : ١٩.

(٣). بحار الانوار ٨٥ : ٧.

(٤). في المصدر : «يوم القائم»

(٥). الخصال ١ : ١٠٨ ، الحديث : ٧٥ ؛ معاني الأخبار : ٣٦٥ ، الحديث : ١.

(٦). تفسير القمّي ١ : ٣٦٧.

٣٦

الماضية ؛ وقد قال سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) (١) وقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما رواه الفريقان : «والذي نفسي بيده ، لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة ؛ حتّى لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنّة بني إسرائيل». (٢)

على أنّ هذه القضايا التي أخبرنا بها أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ من الملاحم المتعلّقة بآخر الزمان ، وقد أثبتها الرواة والنقلة في كتب محفوظة النّسخ عندنا ، مؤلّفة مودعة سابقة على الوقوع بقرون كثيرة ، نشاهد كلّ يوم صحّة شطر منها من غير زيادة ونقيصة ، فلنتحقّق صحّة جميع مضامينها ، ولا دليل على الاستحالة كما عرفت ، وسيجيء الكلام في الآيات المتعلّقة بالرجعة أو الظهور كلّ في محلّه.

قوله سبحانه : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ ...)

وقوع الآية ـ وهي تقرع بني إسرائيل بالعقاب الواقع على كفرانهم النعمة ـ عقيب الآيات السبع ، مشعر بأنّ قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ ...) الآية إنذار بأمر واقع.

*

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢١٤.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٣٠٣ ، الحديث : ٦٨ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ٢٨٦ ؛ كنز العمّال ١١ : ١٧٠ ، الحديث : ٣١٠٨٣.

٣٧

[كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤)]

قوله سبحانه : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...)

إذا خلّينا الإنسان في جانب ، والمزايا التي ينالها في مدّة حياته الدنيويّة ووعاء عمره الطبيعيّ في جانب ، وجدناه عاريا عنها ، غير مجهّز بها في أصل وجوده ، وإنّما ينالها تدريجا ويحوزها شيئا فشيئا ، والآلات الجسديّة ـ التي جهّز بها من الأعضاء ونحوها ـ غير كافية ولا تامّة في جنبها ، إلّا أنّ العناية الإلهيّة تمّمت نقصه ذلك بإيداع قوّة الفكر والتصرّف ، فقوي بذلك على إعطاء حدّ شيء أو حكمه لآخر ، فهيّأ بذلك علوما من غير سنخ العلوم الحقيقيّة التي ينالها بالحس

٣٨

والعقل ، وهي التي نسمّيها بالعلوم الاعتبارية ، كإذعانه أنّه يجب أن يفعل كذا أو يترك كذا ، وأنّ هذا حسن وذاك قبيح ، فهذه علوم يوسّطها الإنسان بينه وبين ما يقصده ممّا يعتقده كمالا ، وسيجيء استيفاء بيانه فيما سيجيء إن شاء الله.

ومن اصول هذه العلوم : ما يتنبّه له ـ في بدء عثوره على هذه العلوم ـ من لزوم استخدام الغير فيما لا يناله الإنسان بنفسه ، ويشبه أن يكون إنّما تنبّه له عند أوائل استعمال الأعضاء والأدوات البدنيّة ، فيستخدم الامور الطبيعيّة من الجماد والنبات وسائر أصناف الحيوان في سبيل حوائجه ، حتّى الأفراد الاخر من نوعه.

لكن سائر أفراد نوعه حيث كانوا أمثالا له مريدين لما يريده ، أنتج قضيّة الاستخدام معهم الاجتماع والتعاون إنتاجا ضروريّا ، ووقع الإصطلاح على ذلك قهرا ، وإن لم يخل النظام الذي بين النوع ـ وهو نظام الاجتماع والتعاون بعينه ـ عن الاستخدام دائما ، وهذا هو الذي يقال : إنّ الإنسان مدنيّ بالطبع.

وهذا وإن صحّ بوجه ، لكنّه ليس بصحيح مطلقا ، بمعنى اقتضاء الفطرة ذلك اقتضاءا أوّليّا ؛ ولو كانت الفطرة الإنسانيّة تلجئه على الإجتماع والتعاون ـ وبالأخرة على العدل ؛ ووضع كلّ شيء موضعه ـ كانت السيطرة للعدل على الجور ، والغلبة والظهور للصلاح الاجتماعي على فساده في وعاء النظام الدنيويّ ؛ والتاريخ والمشاهدة في السابق واللاحق يشهدان على خلافه ، وقد قال سبحانه في الإنسان : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (١) وقال : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ* ... وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). (٢)

__________________

(١). الاحزاب (٣٣) : ٧٢.

(٢). العاديات (١٠٠) : ٦ و ٨.

٣٩

نعم ، بناء الإنسان على الاجتماع والعدل بناء اضطراريّ أنتجه الاصطلاح المذكورة ومن هنا يعلم أنّ الاختلاف بين أفراد هذا النوع ضروريّ ؛ فإنّ الفرد من هذا النوع يحكم بوجوب حيازة الخير لنفسه أوّلا ولنوعه ثانيا ، والاختلاف في قوى الأفراد ضروريّ لاختلاف الموادّ ، وحكم الأمثال أيضا واحد.

وبالجملة : فهذا النوع لا يزال يزداد عددا من جانب ، ومدنيّة وحضارة وفكرا وعلوما بالاجتماع من جانب ، وهذا هو الذي إذا طالعناه ـ ورجعنا في مطالعته القهقرى زمانا فزمانا وقرنا قبل قرن ـ وجدنا هذا النوع يأخذ في قلّة العدد والعلم ، فيقلّ عددا وعلما وحضارة ، فربّما بلغ به القلّة إلى أن ينتهي إلى ذكر وأنثى ، أو استئصال بآفة وبليّة عامّة لا تبقي منه إلّا النزر القليل ، لكنّ القرآن ينصّ على وقوفه في ذكر وانثى وهو آدم وزوجته.

وأمّا العلم والحضارة ، فيشبه أن يكون الإنسان الأوّلي موجودا ساذجا في حياته ومعيشته ، ليس عنده من العلوم إلّا الضروريّات وشيء يسير من النظريّات ، ثمّ لم يزل يرقى درجة فدرجة إلى أن بلغ المبلغ الحاضر ، والله أعلم [ب] ما ينتهي به الحال في المآل.

وهذا المعنى هو الذي تنبئ عنه الآية : أنّ الناس كانوا جماعة ساذجين ، لم يظهر فيهم حكم اختلاف الاستعدادات ، ولم تشتعل بعد نار فطرتهم الوقّادة ، ولم يتنبّهوا لما لهم من الكمال الاخرويّ المستتبع للكمال الدنيويّ ؛ حتّى ظهر بينهم الاختلاف في مزايا الحياة الدنيويّة ذاك الاختلاف الاجتماعي ، فاستعدّوا لتلقين المعارف الإلهيّة بالتبشير والإنذار عند ذلك (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) فالآية كما ترى تعلّل إنزال الكتاب بوجود الاختلاف ، وتجعله مقارنا لبعث

٤٠