تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

وصلّينا ، فعلام نقاتلهم؟

فقال ـ عليه‌السلام ـ : على هذه الآية : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) فنحن الذين من بعدهم ، (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فنحن الذين آمنّا ، وهم الذين كفروا ، فقال الرجل : كفر القوم وربّ الكعبة ، ثمّ حمل فقاتل حتّى قتل رحمه‌الله». (١)

أقول : وروى هذه القصّة المفيد في أماليه والشيخ في أماليه والقمّي في تفسيره. (٢)

قوله سبحانه : (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ)

المراد به يوم الموت ، وقد مرّ.

*

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٣٦ ، الحديث : ٤٤٨.

(٢). الأمالي للمفيد : ١٠١ ، الحديث : ٣ ؛ الأمالي للطوسي : ١٩٧ ، الحديث : ٣٣٧ ؛ تفسير القمّي ١ : ٨٣.

١٠١

[اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)]

قوله سبحانه : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...)

قد مرّ بعض الكلام في لفظ الجلالة ؛ وأنّه سواء اشتقّ من «أله» بمعنى «تاه» أو من «أله» بمعنى «عبد» فلازم معناه : الذات المستجمع لجميع صفات الكمال ، فالضمير يعود إليه بالمعنى ، وليس مثل الضمير في قوله : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ). (١)

وأمّا اسم «الحيّ» فمعناه : ذو الحياة الثابتة ، على وزان سائر الصفات

__________________

(١). القصص (٢٨) : ٧٠.

١٠٢

المشبّهة في دلالتها على الدوام والثبات.

والناس في بادئ مطالعتهم لحال الموجودات التي بين أيديهم ، وجدوها على قسمين : قسم لا يختلف حالها عند الحسّ ما دام وجوداتها موجودة ، كالأحجار وما أشبهها ، وقسم منها ربّما تغيّرت حالها وتعطّلت قواها وأفعالها مع بقاء وجودها الظاهر عند الحسّ ، كالإنسان وسائر أصناف الحيوان ، ربّما نجدها تعطّلت قواها ومشاعرها وأفعالها ، ثمّ يطرأ عليها الفساد تدريجا.

وبذلك أذعن الإنسان أنّ هناك وراء الإحساس أمرا آخر ، هو المبدأ للإحساسات والإدراكات العلميّة والأفعال ، يسمّيه بالحياة ، ويسمّى بطلانه بالموت.

وقد عدّ سبحانه هذه الحياة التي تحت إحساسنا شيئا هيّنا لا يعبأ به ؛ فكرّر نحو قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ) (١) وقوله : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) والمتاع : ما يقصد به الغير ، والعرض : ما يعرض ويزول.

ثمّ شدّد الأمر أن عدّها سرابا وهميّا ، وأمرا مجازيّا غير حقيقيّ ، في مثل قوله : (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٣) والظاهر أنّ الإضافة بيانيّة ، والزينة : هي الجميل الذي يضمّ إلى الشيء ويغرّ به قاصده ، فيقصد غير ما يقع ويقع غير ما يقصد.

ومثل قوله : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) (٤) واللهو : ما يشغلك

__________________

(١). الآية بهذا اللفظ وردت في القرآن مرّتين مقرونة ب : «الغرور» ، وسيشير لاحقا إلى ذلك اللفظ ، وورد وصف الحياة الدنيا بالمتاع أو إضافة المتاع إلى الحياة الدنيا في آيات عديدة لكن ليس بهذا اللفظ ، مثل : (إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) و (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) انظر : غافر (٤٠) : ٣٩ ، وآل عمران (٣) : ١٤.

(٢). النساء (٤) : ٩٤.

(٣). الكهف (١٨) : ٢٨.

(٤). العنكبوت (٢٩) : ٦٤.

١٠٣

بنفسه عمّا يهمّك ، واللعب : هو العمل المرتّب لغاية خياليّة ، ومنه لعب الأطفال ، ومثل قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (١).

ومثل قوله : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٢) ففرض الكلام في اولي العقل ، وهم أحياء بحسب ما يحكم به إحساساتنا ، ثمّ نفى عنهم الحياة ، فعلمنا بذلك أنّ حقيقة الحياة هي التي لا يطرأ عليها الموت.

وهو تعالى وإن عدّ الحياة الآخرة من الحياة الحقيقيّة ، بقوله : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٣) لكنّه سبحانه أفاد في آيات اخرى كثيرة أنّه هو المحيي فيها ، المفيض لها ، بيده زمامها ، فأفاد ذلك أنّ القصر في الآية للقلب أو الإفراد ، فالحياة الحقيقيّة هي التي لا يجوز طروّ الموت عليها ، ولا يعقل إلّا بكون الحياة عين ذات الحيّ ، غير عارضة لها ولا طارئة عليها بتمليك الغير وإفاضته ، قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ). (٤)

ومن هنا يظهر أنّ قوله تعالى : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٥) قصر حقيقيّ غير إضافيّ ، وأنّ حقيقة الحياة ـ التي لا يشوبها موت ، ولا يعتريها فناء وزوال ـ هي حياته تعالى فهو الحيّ بذاته والحياة بذاته ، وغيره حيّ به.

فالأوفق في الآية : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُ) وفي قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ

__________________

(١). آل عمران (٣) : ١٨٥ ؛ الحديد (٥٧) : ٢٠.

(٢). النحل (١٦) : ٢٠ ـ ٢١.

(٣). العنكبوت (٢٩) : ٦٤.

(٤). الفرقان (٢٥) : ٥٨.

(٥). غافر (٤٠) : ٦٥.

١٠٤

الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (١) أن يكون لفظ «الحيّ» خبرا بعد خبر ، فيفيد الحصر ، وقد عرفت أنّ معنى الحياة هو الوجود العلميّ ؛ أي كون الموجود بحيث يشعر بذاته.

وأمّا اسم «القيّوم» فهو اسم يحكي عن قيامه سبحانه بأمر ما سواه من شيء ، وإذ كان سبحانه هو المبدئ لكلّ شيء فهو القائم على كلّ ذات ووصف وفعل بحقيقة القيام التي لا يشوبها فتور.

ففي المقام حصران : حصر القيام عليه ؛ على ما يفيده كون «القيّوم» خبرا بعد خبر ، وحصره على القيام ، فليس عنده إلّا القيام ، وهذا هو الذي يفيده التقييد بقوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) وقد ضمّن الأخذ معنى الغلبة على ما قيل ؛ ولذلك قدّمت السّنة على النوم ، وكان ظاهر مقتضى الحال العكس ؛ بالتدرّج من النوم إلى السّنة ؛ فإنّ عدم أخذ النوم أضعف بالنسبة إلى عدم أخذ السّنة ، وهو ظاهر.

وهذا الاسم أمّ الأسماء الإضافيّة الثابتة له سبحانه كالخالق والرازق والمحيي والمميت والباعث والوارث وغيرها ، فكلّ واحد منها يحكي عن طور من أطوار القيمومة ، وحيثيّة من حيثيّاتها.

وقوله سبحانه : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...)

هما جملتان كلّ واحدة منهما مقيّدة بقيد في معنى دفع الدّخل ؛ قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قيّد بقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)

__________________

(١). ظاهره وجود آيتين إحداهما مشتملة على لفظ «القيّوم» والاخرى خالية عنه ، والحال أنّ هذه الجملة وردت في القرآن مرّتين وفي كلتيهما يوجد لفظ القيّوم ، انظر : آية الكرسي هنا ؛ وآل عمران (٣) : ٢.

١٠٥

وقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) قيّد بقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ).

فأمّا قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فقد عرفت فيما مرّ معنى ملكه تعالى للموجودات ، إلّا أنّ بين قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وقوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) فرقا ؛ وهو أنّ «اللام» يفيد الاختصاص الملكي مع التدبير ، فينطبق على معنى الربوبيّة ، والربوبيّة أنسب لمعنى القيمومة من الملك فقط ، وهو ظاهر.

فيستقيم حينئذ استدراك مسألة الشفاعة ؛ إذ لا مزاحمة بين كون الملك له سبحانه ، وبين وجود شافع هناك ، بخلاف الربوبيّة والتدبير فالشفاعة تزاحمها ظاهرا ؛ حيث إنّها تنقض إبرام التدبير من المشفوع عنده ، فدفع الوهم : بأنّ الشفاعة لو ثبتت فإنّما هي بإذنه ، فهي من شؤون تدبير الربوبيّة فالشفاعة ـ كنفس الشفيع والمشفوع له ـ غير خارجة عن دائرة الربوبيّة وحيطتها ، فافهم.

وأمّا قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ)

فما بين الأيدي : هو المشاهد المعلوم ، بخلاف الخلف الذي يغفل عنه ، فينطبق بعض الانطباق على الشهادة والغيب ، وهو الأنسب لمعنى قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فعلم المربّي المدبّر بمدبّره ـ بالفتح ـ وإن كان لازما في التدبير ، لكنّ علمه بما بين يدي المدبّر ـ بالفتح ـ وما يرتبط به من الماضي والمستقبل ألزم ؛ وإلّا لم يتمّ التدبير وكان في معرض البطلان والفساد.

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٠٧.

١٠٦

ومن هنا يظهر وجه العدول عن نحو قوله : (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١) وقوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) (٢) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٣) وأمثالها الواردة في كلامه تعالى ، إلى (٤) قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) مع أنّ المناسب ظاهرا لمقام الربوبيّة التوسعة في عموم العلم وشموله.

وكذا العدول عن نحو قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (٥) ـ إلى قوله ـ : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فإنّ هذا هو الأنسب لمقام الربوبيّة من حيث العنوان ؛ إذ عنوانا «الغيب والشهادة» لا دخالة لهما في التدبير ، بخلاف العلم بما بين يدي المربوب وما خلفه ، وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر الوجه في تذييله بقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) فإنّ من كمال التدبير أن يجهل المدبّر ـ بالفتح ـ بما يعلمه ويريده المدبّر ـ بالكسر ـ منه ؛ لئلّا يحتال في التخلّص ممّا يكرهه إلى ما يحبّه لنفسه ، فيختلّ بذلك أمر التدبير ، كجماعة مسيّرين على خلاف مشتهاهم ومرادهم ، فيبالغ في التعمية عليهم ؛ حتّى لا يدروا من أين سير بهم وفي أين نزلوا ، وإلى أين يقصد بهم ، هذا.

فبيّن تعالى : أنّ العلم له سبحانه ، وإنّما يحاط من علمه بما يحاط بمشيّته ، فكلّ ما يعلمه عالم منهم ـ ثمّ يستخدم ذلك العلم في تدبير ـ فإنّما هو بمشيّته

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٢٩.

(٢). يونس (١٠) : ٦١.

(٣). آل عمران (٣) : ٥.

(٤). متعلق بقوله : «العدول» قبل أسطر.

(٥). الأنعام (٦) : ٧٣.

١٠٧

وإرادته ، فهو من شؤون التدبير والتربية ، فلا يسع لمقدم أن يقدم على خلاف ما يريده سبحانه من التدبير لمملكته ، إلّا وهو بعض التدبير.

وقوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)

سياق الجملتين : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) ـ إلى قوله ـ : (شاءَ) يفيد أنّ المراد بوسعة الكرسي : إحاطة مقام السلطنة الإلهيّة ، فيتعيّن للكرسي من المعنى : أنّه المقام الربوبيّ الذي يقوم به ما في السماوات وما في الأرض ؛ من حيث إنّها مملوكة مدبّرة معلومة ، وللوسعة من المعنى : حفظ كلّ ما فيهما بذاته وآثاره ولذلك ذيّله بقوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) وضمير الإفراد راجع إليه تعالى دون الكرسي ، فالمعنى : لا يثقل عليه حفظهما حتّى يؤدّي إلى تعب يستراح منه بالسّنة والنوم ، فقوله سبحانه : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) نظير التفسير والتوضيح لقوله تعالى : (الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ).

وجمل الآية المتّسقة كلّ سابقة منها يجري مجرى السبب المقتضي للاحقتها ؛ فوسعة الكرسي للسماوات والأرض مسبّبة عن شمول الربوبيّة والعلم ، ووسعة العلم مسبّبة عن وسعة الربوبيّة ، ووسعتها عن القيمومة ، وهي عن الحياة ، وهي عن الله لا إله إلّا هو.

وقوله تعالى : (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)

ختم بهما الآية لبيان عظمته سبحانه : بالإحاطة بالجميع ، وعلوّه عن فساد الأمر واختلال السلطان ؛ بيانا بعد بيان.

ومن هنا يظهر أنّ «العليّ» و «العظيم» من الأسماء التي تحت اسم «القيّوم».

١٠٨

وبما مرّ يتبيّن معنى ما ورد من الروايات في تفسير الآية :

ففي الكافي عن زرارة ، قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله ـ عزوجل ـ : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) السماوات والأرض وسعن الكرسيّ ، أو الكرسيّ وسع السماوات والأرض؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : إنّ كلّ شيء في الكرسي». (١)

أقول : وهذا المعنى مرويّ في عدّة روايات عنهم بما يقرب من هذا السؤال والجواب ، وهو بظاهره غريب إذ لم يرو قراءة «كرسيّه» بالنصب ، و «السموات والأرض» بالرفع ، حتّى يستصحّ به هذا السؤال.

والظاهر أنّه مبنيّ على ما يتوهّمه الأفهام العاميّة : أنّ «الكرسي» جسم مخصوص موضوع فوق السماوات والأرض ـ أعني عالم الأجسام ـ منه تبتدئ أحكام المملكة الجسمانيّة ، فتكون السماوات والأرض وسعته ؛ إذ كان موضوعا عليها لا بالعكس ، فيكون معنى السؤال : أنّ الأنسب أنّها وسعت الكرسي فما معنى وسعته لها؟ والتعبير عنه بهذا اللفظ شائع ، فاجيب : أنّ الوسعة من غير سنخ وسعة الأجسام بعضها لبعض.

وروى الصدوق عن حفص بن غياث قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله ـ عزوجل ـ : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قال : علمه». (٢)

وروى أيضا عنه في الآية : «السماوات والأرض وما بينهما في الكرسي ، والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره». (٣)

__________________

(١). الكافي ١ : ١٣٣ ، الحديث : ٥.

(٢). التوحيد : ٣٢٧ ، الحديث : ١.

(٣). التوحيد : ٣٢٧ ، الحديث : ٢.

١٠٩

أقول : ويظهر من ضمّ الرواية الثانية إلى الاولى : أنّ في العلم مرتبة غير محدودة ، وظاهر أنّ عدم التقدير ليس من حيث الكثرة العدديّة في المعلومات ؛ إذ كلّ عدد يدخل في الوجود ـ فهو محدود ؛ لكونه أقلّ من الزائد عليه بواحد ، ولو كان كذلك كان الكرسي بعض العرش أو عينه بوجه ، فهو علم غير مقدّر بقدر ؛ من حيث كون المعلوم غير متناه من غير جهة العدد ، بل من حيث كمال الوجود ، فينطبق على قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١) وسيجيء شرحه إن شاء الله.

والأشياء بحسب وجوداتها الخارجيّة معلومة له تعالى ؛ أي أنّ أنفسها نفس العلم كما سيجيء في ذيل قوله تعالى : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) (٢) فبين عالم الأجسام ـ وهو عالمنا ـ وبين هذه الموجودات الغير المتناهية ـ التي هي خزائن الغيب ـ مرتبة من العلم مقدّرة بالأقدار محدودة بتناهي الوجود ، وهي الكرسي.

وهو المستفاد من قوله سبحانه : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) حيث جعل المعلوم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وهو أمر غير مجتمع الوجود في هذه النشأة ، فهناك مقام يجتمع فيه وجود المتفرّقات الزمانيّة ، وليست وجودات غير متناهية الكمال ، وإلّا لم يصحّ الاستثناء من الإحاطة ، فهو مقام يمكن لهم أن يحيطوا ببعض ما فيه.

وفي التوحيد عن حنّان قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن العرش والكرسي ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة ، له في كلّ

__________________

(١). الحجر (١٥) : ٢١.

(٢). يونس (١٠) : ٦١.

١١٠

سبب وصنع (١) في القرآن صفة على حدة ؛ فقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢) يقول : ربّ (٣) الملك العظيم ، وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٤) يقول : على الملك احتوى ، وهذا حكم الكيفوفيّة في الأشياء.

ثمّ العرش في الوصل مفرد (٥) عن الكرسي ، لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب ، وهما جميعا غيبان ، وهما في الغيب مقرونان ؛ لأنّ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ، ومنها الأشياء كلّها ، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والمشيئة وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء فهما في العلم بابان مقرونان ؛ لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسي ، وعلمه أغيب من علم الكرسى ؛ فمن ذلك قال : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي صفته أعظم من صفة الكرسي ، وهما في ذلك مقرونان».

قلت : جعلت فداك ، فلم صار في الفضل جار الكرسي؟ قال : إنّه صار جاره لأنّ علم الكيفوفيّة فيه ، وفيه الظاهر من أبواب البداء وإنّيّتها ، وحدّ رتقها وفتقها ، فهذان جاران ، أحدهما حمل صاحبه في الظرف ، وبمثل صرف العلماء ، وليستدلّوا على صدق دعواهما ؛ لأنّه يختصّ برحمته من يشاء وهو القويّ العزيز». (٦)

أقول : قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لأنّ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب» إلى آخره ، قد عرفت الوجه فيه إجمالا ؛ فمرتبة العلم المقدّر المحدود أقرب إلى

__________________

(١). في المصدر : «وضع»

(٢). التوبة (٩) : ١٢٩.

(٣). في المصدر : ـ «ربّ»

(٤). طه (٢٠) : ٥.

(٥). في المصدر : «متفرّد»

(٦). التوحيد : ٣٢١ ، الحديث : ١.

١١١

عالمنا الجسماني ـ المقدّر المحدود ـ ممّا لا حدّ له ولا قدر ؛ وسيجيء شرح فقرات الرواية في الكلام على آية العرش.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «وبمثل صرف العلماء» إشارة إلى أنّ هذه الألفاظ ـ من العرش والكرسي وما يشابههما ـ أمثال مصرّفة مضروبة للناس ، وما يعقلها إلّا العالمون.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال أبو ذرّ : يا رسول الله ، أفضل ما انزل عليك؟ قال : آية الكرسي ، ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلّا كحلقة ملقاة في أرض فلاة ـ ثمّ قال : ـ وإنّ فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة». (١)

وفي الاحتجاج عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «كلّ شيء خلق الله في جوف الكرسي (٢) خلا عرشه ؛ فإنّه أعظم من أن يحيط به الكرسي». (٣)

أقول : وقد اتّضح معناهما بما مرّ.

وبه يظهر أنّ ما رواه الصدوق عن المفضّل بن عمر ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ وفيه : «إنّ العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله وحججه ، والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه (٤) أنبياءه ورسله وحججه ...» (٥) الحديث ـ إمّا وهم من الراوي بتبديل موضعي اللفظين ، أو مجعول كالرواية المنسوبة إلى زينب العطّارة ، وفيها أمارات للجعل ولا يصدّقها كلام الله سبحانه.

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٣٧ ، الحديث : ٤٥٥.

(٢). في المصدر : + «ما»

(٣). الاحتجاج ٢ : ٣٥١.

(٤). في المصدر : + «أحدا من»

(٥). معاني الأخبار : ٢٩ ، الحديث : ١.

١١٢

وفي تفسير العيّاشي عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ السماء والأرض وما بينهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي ، وله أربعة أملاك يحملونه بأمر الله». (١)

أقول : ورواه الصدوق عن الأصبغ عنه ـ عليه‌السلام ـ.

ولم يرد عنهم ـ عليهم‌السلام ـ للكرسي حملة إلّا في هذه الرواية ، وهو في العرش كثير وسيجيء بيانه.

وفي تفسيره أيضا عن معاوية بن عمّار عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «قلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) قال : نحن اولئك الشافعون». (٢)

أقول : ورواه البرقي أيضا ، (٣) وسيجيء بيانه ، والشفاعة مطلقة.

قوله سبحانه : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى)

في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «هي الإيمان بالله وحده لا شريك له».

وفيه عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ قال : «هي الإيمان». (٤)

وروى الصدوق عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى فليستمسك بحبّ عليّ وأهل بيته». (٥)

أقول : والروايات في هذه المضامين كثيرة ، (٦) ومعناها واضح ، والمنطبق على الآية من غير مؤونة هو الرواية الاولى.

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٣٨ ، الحديث : ٤٥٨.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٣٦ ، الحديث : ٤٥٠.

(٣). المحاسن ١ : ١٨٤ ، الحديث : ١٨٧.

(٤). الكافي ٢ : ١٤ ، الحديث : ١.

(٥). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ٢ : ٥٨ ، الحديث : ٢١٦.

(٦). تفسير العيّاشي ١ : ١٣٨ ، الحديث : ٤٥٩ ؛ المناقب ٤ : ٢.

١١٣

[اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)]

قوله سبحانه : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)

في تفسير العيّاشي عن ابن أبي يعفور قال : «قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : إنّي اخالط الناس ، فيكثر عجبي من أقوام لا يتولّونكم ويتولّون فلانا وفلانا ، لهم أمانة وصدق ووفاء ، وأقوام يتولّونكم ليست (١) لهم تلك الأمانة ولا الوفاء ولا الصدق! قال : فاستوى أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ جالسا ، فأقبل عليّ كالغضبان ، ثمّ قال : لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر ليس من الله ، ولا عتب لمن (٢) دان الله (٣) بولاية إمام عادل (٤) من الله.

__________________

(١). في المصدر : «ليس»

(٢). في المصدر : «على من»

(٣). في المصدر : ـ «الله»

(٤). في المصدر : «عدل»

١١٤

قلت : لا دين لاولئك ولا عتب على هؤلاء؟! قال : نعم ، لا دين لهؤلاء ولا عتب على هؤلاء ، ثمّ قال : ألا تسمع لقول الله ـ عزوجل ـ : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) يعني (١) من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة ؛ لولايتهم كلّ إمام عادل من الله ـ عزوجل ـ ، وقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ).

قال : قلت : أليس الله عنى بها الكفّار؟ قال : وأيّ نور للكافر ـ وهو كافر ـ فاخرج منه إلى الظلمات؟! إنّما عنى بهذا : أنّهم كانوا على نور الإسلام ، فلمّا أن تولّوا كلّ إمام جائر ليس من الله ، خرجوا بولايتهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر ، فأوجب الله (٢) لهم النار مع الكفّار ، فقال : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)». (٣)

أقول : وروي هذا المعنى في الكافي. (٤)

وهو منه ـ عليه‌السلام ـ استفادة لطيفة ، وحينئذ يظهر التناسب بين هذه الآية وما يتلوها من قصّة محاجّة نمرود ؛ حيث إنّ الله أضلّه في حجّته ، وجعل النعمة التي أنعم بها عليه ـ وهي الملك ـ نقمة عليه وأضلّه ؛ والله لا يهدي القوم الظالمين.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «النور آل محمّد والظلمات أعداؤهم». (٥)

أقول : وهو من قبيل عدّ المصداق ، أو التأويل.

__________________

(١). في المصدر : «يخرجهم»

(٢). في المصدر : ـ «الله»

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ١٣٨ ، الحديث : ٤٦٠.

(٤). الكافي ١ : ٣٧٥ ، الحديث : ٣.

(٥). بحار الأنوار ٦٤ : ٢٣ نقلا عن الكافي.

١١٥

[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)]

قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ ...)

هو «نمرود» الملك بعد أن ألقى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في النار وأنجاه الله منها ، وهو المروي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ. (١)

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٨٦.

١١٦

وقوله : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ)

كما قيل في مقام التعليل لمحاجّته ؛ من باب وضع علّة ضدّ الشيء موضع علّته ، كما يقال : «أساء إليّ فلان لأنّي أحسنت إليه» يراد به : أنّه جازاني بالإساءة بدل أن يجازيني بالإحسان لأنّي أحسنت إليه.

وقوله : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)

وصف الله بالإبهام عنه إشعارا بأنّ الربّ هكذا يجب أن يكون ، فغيره تعالى ممّا يدعى ربّا غير مستحقّ لأن يدعى ربّا ، كالأصنام.

فغالطه نمرود بتمويه معنى الإحياء والإماتة بإطلاق الأسير وقتله ؛ حيث يسمّيان مجازا إحياءا وإماتة ، فقال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) فمفاده : أنّي مصداق لما ذكرت احيي واميت فأنا ربّك ، وليس مفاده : أنّ الذي ذكرت من الإحياء والإماتة غير مختصّ بربّك ؛ إذ لو كان كذلك كان من حقّ الكلام الوصل ، فيقال : «وأنا احيي واميت» ، ولذلك عدل إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عن الإبهام بالوصف ثانيا إلى التصريح بالاسم ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) فأثبت حجّة نفسه وأبطل حجّة خصمه في كلام واحد جميعا ، فافهم ذلك.

قوله سبحانه : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ...)

الروايات الواردة في تفسيرها مختلفة : (١) فبعضها يعدّ صاحب القصّة عزير النبيّ ـ عليه‌السلام ـ ، وبعضها أرميا النبيّ ـ عليه‌السلام ـ ، وفيها بعض اختلافات اخر.

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٨٦ و ٩٠ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٤٠ ، الحديث : ٤٦٦.

١١٧

لكنّها جميعا جهات تاريخيّة خارجة عن الخصوصيّات اللائحة من القرآن ، غير ممكنة التأييد بشيء منها. لكن لو ثبت أنّ قول اليهود : «عزير ابن الله» لانبعاثه بعد موته ايّدت روايات العزير بقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ). (١)

وكيف كان فقوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ) استعظام لقدرة الله تعالى في صورة الاستبعاد ، وهو مصحّح التناسب بين الآيتين.

وقوله : (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ)

الهاء للسكت ، وبهذا قرئ بحذفها في الوصل ، وكأنّ إثباتها تبعا للرسم.

وهذان الأمران ـ بالنظر إلى حال المستمع ـ في مكان الشاهد على قوله : (بَلْ لَبِثْتَ) إذ الكلام الإلهي وإن كان صادقا لا يقع فيه شكّ ، لكنّ متن هذا الكلام ـ من حيث هو كلام ـ يحتمل الشكّ من وجهين :

أحدهما : من حيث زيادة مدّة اللبث مع احتماله اليوم وبعض اليوم.

وثانيا : من حيث عدم التغيّر في إدراك هذا الذي اميت وبقي على ذلك مائة عام ، فالموت ليس بإعدام للميّت ، وإنّما هو انتقال من دار إلى دار ، وترك نوع من الحياة وأخذ نوع منها ، فالميّت إذا احيي وردّ إلى الدنيا وجب أن يذكر حياته البرزخيّة.

فدلّ سبحانه على الدعوى الثانية بقوله : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) ولكونهما معا دليلا واحدا جيء بصيغة الإفراد في قوله : (لَمْ يَتَسَنَّهْ).

وعلى الدعوى الاولى بقوله : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) وبه يظهر أنّ الحمار كان ميّتا وأنّ العظام في قوله : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) إمّا عظام الحمار فقط ،

__________________

(١). التوبة (٩) : ٣٠.

١١٨

أو عظامه وعظام غيره.

وقوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً)

في مقام التعليل للإماتة ثمّ الإحياء ، والعطف على مقدّر ؛ وهو يفيد أنّ العلّة المعطوفة بعض العلّة ومن النتائج والفوائد ، نظير قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (١)

وبما مرّ يظهر الوجه في توسّط قوله : (وَلِنَجْعَلَكَ) بين قوليه : (فَانْظُرْ) و (وَانْظُرْ) وبين قوله : (إِلَى الْعِظامِ).

فقد تبيّن أنّ الجواب لقوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ) هو قوله : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً).

وقد تبيّن الجواب ـ عمّا يفيده قوله : (أَنَّى يُحْيِي) من الاستبعاد واستطالة المدّة ـ من قوله : (قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) فحاصل الجواب : أن ليس الإحياء بعد الإماتة إلّا كاليوم أو بعضه ، كما ورد نظير ذلك في آيات البعث ، فاقض عجبا بهذا النظم العجيب.

وقوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ)

أضمر فاعل «تبيّن» ليكون أوقع لقوله : (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إذ الكلام في تقدير قولنا : فلمّا تبيّن له هذه القصّة تبيّن له القدرة الإلهيّة ، فقال : أعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير.

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٧٥.

١١٩

[وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)]

قوله سبحانه : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ ..).

إذا قيل لك : «أرني كتابتك» أو قيل : «أرني كيف تكتب» ، كان المسؤول (١) عنه في كلّ من القولين غير الآخر ، فإذا أجبته وأخذت تكتب قنع السائل بأوّل السؤالين بمجرّد رؤية كتابتك ، لكنّ السائل بالثاني لا يقنع بذلك ، وأخذ يدقّق النظر بتصفّح علل الكتابة من حركات الأصابع والقلم ومداده والقرطاس ، وهمك حتّى يقف بذلك على حقيقة الكتابة ، وتصفّح آثار الكتابة من حسن خطّك وكونه بقلم النسخ أو الثلث ، أو غير ذلك.

فالسؤال عن الكيفيّة غير السؤال عن أصل الوجود وإن كان ـ من جهة التلازم ـ ربّما يوضع السؤال عن الكيفيّة مقام السؤال عن أصل الوجود.

__________________

(١). الأولى التعبير هنا ـ وفي السطرين الآتيين ـ بمادّة الطلب دون السؤال.

١٢٠