تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

وعن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : ما من آية إلّا ولها أربعة معان : ظاهر وباطن وحدّ ومطلع ، فالظاهر : التلاوة ، والباطن : الفهم ، والحدّ : هو أحكام الحلال والحرام ، والمطلع : هو مراد الله من العبد بها. (١)

أقول : الظاهر والباطن والحدّ ظاهرة المعاني والانطباق على ما فسّره ـ عليه‌السلام ، والمطلع ، إمّا بضمّ الميم وتشديد الطاء المفتوحة اسم مكان من الإطّلاع ، أو بفتح الميم واللام وسكون الطاء اسم مكان من الطلوع ، وعلى أيّ حال هو من المعنى المرتبة التي تشرف على التأويل ، وهو مراد الله من العبد بها كما ذكره عليه‌السلام ، وقد مرّ في بيان معنى التأويل.

ويستفاد من قوله : «ما من آية إلّا ولها أربعة معان» :

أنّ من الأحكام ما يستفاد من غير آيات الأحكام ، وقد مرّ في ذيل قوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢) من سورة البقرة كلام في هذا المعنى ، فارجع.

قوله سبحانه : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) لمّا كانت شهادتهم على الإيمان بجميع المحكم والمتشابه مستندا إلى رسوخهم في العلم في قبال المتّبعين للمتشابه لزيغ قلوبهم أشفقوا على ما معهم من الرسوخ والتجأوا إلى ربّهم أن لا يأخذ ما معهم بإزاغة قلوبهم ، ومن ذلك يتبيّن أنّ هذه الرحمة المسؤولة نوع منها يكون معه الأمن من الزيغ ، فإنّهم مشمولون

__________________

(١). تفسير الصافي ١ : ٣١ ؛ الميزان في تفسير القرآن ٣ : ٧٣ ؛ البرهان في تفسير القرآن للزركشي ٢ : ١٥٤.

(٢). البقرة (٢) : ٢٢٢.

١٨١

للرحمة والهداية ، والمسؤول عنه غير الحاصل الموجود ، وهو ظاهر ، فما سألوه هو ما يشير إليه في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) (١) فهي رحمة بعد رحمة ومقدّمة للدخول في مقام الصلاح ، وقد مرّ بيانه ، وهو قول سليمان ـ عليه‌السلام ـ : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) ، (٢) وقد عرفت أنّ هذه المعاني امور مشكّكة ذات مراتب.

وفي الكافي عن هشام ، عن الكاظم ـ عليه‌السلام ـ في حديث ، قال : يا هشام! إنّ الله حكى عن قوم صالحين أنّهم قالوا : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ، حين علموا أنّ القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها.

إنّه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها فى قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلّا من كان قوله لفعله مصدّقا ، وسرّه لعلانيته موافقا ، لأنّ الله تعالى لم يدلّ على الباطن الخفيّ من العقل إلّا بظاهر منه وناطق عنه. (٣)

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : أكثروا من أن تقولوا : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) ولا تأمنوا الزيغ. (٤)

*

__________________

(١). الحديد (٥٧) : ٢٨.

(٢). النمل (٢٧) : ١٩.

(٣). الكافي ١ : ١٨ ، الحديث : ١٢.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ١٦٤ ، الحديث : ٩ ؛ تفسير الصافي ٢ : ١٥ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٣٦٩ ، الحديث : ٣.

١٨٢

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ

١٨٣

هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)]

قوله سبحانه : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا)

في تفسير القمّي : أنّها نزلت بعد بدر لمّا رجع رسول الله [من بدر] إلى بني قينقاع وهو يناديهم ، وكان بها سوق يسمّى : سوق النبط ، فأتاهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا معشر اليهود! قد علمتم ما نزل بقريش وهم أكثر عددا وسلاحا وكراعا منكم ، فادخلوا في الإسلام. فقالوا : يا محمّد! إنّك تحسب حربنا مثل حرب قومك ، والله لو قد لقيتنا للقيت رجالا ، فنزل عليه جبرئيل فقال : يا محمّد! (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) ـ إلى قوله ـ : (لِأُولِي الْأَبْصارِ). (١)

أقول : وروي قريب منه من طرق العامّة. (٢)

وفي المجمع نسب إلى رواية أصحابنا ، وذكر قريبا منه. (٣)

وهذا من جملة إخبارات القرآن بالقضايا قبل وقوعها ، وقد صدّق الله وعده هذا في اليهود حتّى نزل فيهم سورة الحشر فقال فيها : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) (٤) وقد قال هاهنا : (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ).

قوله سبحانه : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ)

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٩٧.

(٢). سنن أبى داود ٢ : ٣٣ ، الحديث : ٣٠٠١ ؛ سنن الكبرى ٩ : ١٨٣ ؛ فتح الباري ٧ : ٢٥٦ ؛ الدر المنثور ٢ : ٩ ؛ تفسير القرطبي ٤ : ٢٣ ؛ تفسير ابن كثير ١ : ٣٥٨.

(٣). مجمع البيان ٢ : ٢٤٥.

(٤). الحشر (٥٩) : ٢.

١٨٤

سيأتي الكلام فيه عند قوله : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ). (١)

قوله سبحانه : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ)

يمكن أن يكون المراد بالشهوات المشتهيات للمبالغة ، فقوله : (مِنَ النِّساءِ) بيان لذلك ، وأن يكون نفس الشهوة ، فكلمة (من) نشويّة.

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : ما تلذّذ الناس في الدنيا والآخرة بلذّة أكبر لهم من لذّة النساء ، وهو قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) ، ثمّ قال : وإنّ أهل الجنّة ما يتلذّذون بشيء من الجنّة أشهى عندهم من النكاح ، لا طعام ولا شراب. (٢)

أقول : وقد استفاده من الترتيب ، وليعلم أنّ هذا الترتيب بين اللذائذ الحسّية من متعلّقات القوى البدنيّة ، وإلّا فحقيقة اللذّة هي إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، وكمال الشيء ملائم له ، فكلّما كان أقرب كمالا وسعادة فهو ألذّ ، فإدراك الشيء لنفسه ألذّ عنده من كلّ شيء ، وآكد منه إدراكه ؛ لما هو أقرب إليه من ذاته ، وهو علّته الفيّاضة.

وفي المجمع عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : القنطار : ملؤ مسك ثور ذهبا. (٣)

وفي تفسير القمّي قال عليه‌السلام : (الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) : المرعيّة. (٤)

__________________

(١). الأنفال (٨) : ٤٤.

(٢). الكافي ٥ : ٣٢١ ، الحديث : ١٠ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٦٤ ، الحديث : ١٠.

(٣). مجمع البيان ٣ : ٤٩ ؛ تفسير الصافي ٢ : ١٨.

(٤). تفسير القمي ١ : ٩٧ ، يعني : «الراعية والأنعام» ، وفي تفسير الصافي : «المعلّمة والمرعيّة»

١٨٥

قوله سبحانه : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)

هو صلاة الوتر ، أو جميع صلاة الليل وفيها الوتر ، باعتبار تشريع الإستغفار فيه ، كقوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (١)

وفي الفقيه والخصال عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : من قال في وتره إذا أوتر : أستغفر الله وأتوب إليه (سبعين مرّة) [وهو قائم] (٢) فواظب على ذلك حتّى تمضي له سنة ، كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار ، ووجبت [الجنّة و] (٣) له المغفرة من الله تعالى. (٤)

أقول : وفي هذا المعنى روايات اخرى ، (٥) وهو من سنن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

قوله سبحانه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

المراد من هذه الشهادة على ما يظهر من السياق أداء الشهادة ، ولذا عقّبه بقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) والقسط هو العدل ، أي هو سبحانه غير جائر في شهادته على التوحيد ، بل إنّما شهد بالصدق لعدم تصوّر تحقّق الكذب مع الالوهيّة. فقوله : (قائِماً) حال من الضمير المستتر في قوله : (شَهِدَ).

واعلم أنّ العلم إذا كان متعلّقه ظاهرا جليّا سمّي شهادة ، وإذا تعلّق بالباطن

__________________

(١). الإسراء (١٧) : ٧٨.

(٢). ساقط عن من لا يحضره الفقيه.

(٣). ساقط عن الخصال.

(٤). من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٨٩ ، الحديث : ١٤٠٥ ؛ الخصال ٢ : ٥٨١ ، الحديث : ٣.

(٥). ثواب الأعمال : ١٧١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٦٥ ، الحديث : ١٣ ؛ تهذيب الأحكام ٢ : ١٣٠ ، الحديث : ٢٦٩.

١٨٦

الخفي سمّي خبرة ، ونفس العلم أعمّ من حيث المتعلّق ، فالشهادة هو العلم المأخوذ ممّا لا خفاء فيه ، وأداؤها حيث كان كشفا عنها ، والكشف عن الشيء ملحوظ طريقا لا موضوعا أغمض عنه وسمّى أداء الشهادة شهادة بهذه العناية ، وإذ كان علمه سبحانه بذاته أو بغيره حضوريّا هو نفس المعلوم من ذاته أو غيره في الخارج كانت الشهادة وأداء الشهادة هناك واحدا بحسب الخارج ، وإن اختلفا بحسب اللفظ ، وهو المصحّح لقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) كما عرفت ، والمشهود بهذه الشهادة إذا اخذ على نحو الحضور دون الحصول ، كان مختصّا به سبحانه غير قابل للتعدّد ، وإن تعدّد الشهود.

ولعلّ هذا هو الوجه في إتيان قوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) بالإفراد ، فإنّما الشهادة واحدة والقيام بالقسط واحد ، وهو لله سبحانه ، وفيه كفاية ، فافهم. (١)

*

__________________

(١). وقد ورد في بعض الروايات أنّ (أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) هو الإمام ، واللفظ لا يساعد عليه وإن احتمل كونه حالا عن أولى العلم باعتبار كلّ واحد ، لكنه بعيد لا يحمل على مثله الفاظ القرآن. [تفسير العيّاشي ١ : ١٦٦ ، الحديث : ١٩] ، [منه ـ رحمه‌الله ـ].

١٨٧

[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي

١٨٨

اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)]

قوله سبحانه : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)

قد عرفت أنّ الإسلام معنى ذو مراتب ، فالكلام إنّما اشتمل على نفس المعنى وإنّما يختلف باختلاف الجملة ، فإهمال الكلام لا يوجب قصره على مرتبة مّا ، كالشهادتين لسانا فقط. وعليه ينطبق ما في تفسير العيّاشي عن محمّد بن مسلم ، قال : سألته عن قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، فقال : الذي فيه الإيمان. (١)

وما عن ابن شهر آشوب عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : التسليم لعليّ بن أبي طالب بالولاية. (٢)

أقول : ومعناهما واضح بما مرّ.

وعنه أيضا عن عليّ ـ عليه‌السلام قال : لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي ، ولا ينسبها أحد بعدي ، الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ، المؤمن أخذ دينه عن ربّه ، إنّ المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، وإنّ الكافر يعرف كفره بإنكاره. أيّها الناس دينكم دينكم ، فإنّ السيّئة فيه خير من الحسنة في غيره ، إنّ السيّئة فيه تغفر ، وإنّ الحسنة في غيره لا تقبل. (٣)

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٦٦ ، الحديث : ٢٢.

(٢). المناقب ٣ : ٩٥.

(٣). تفسير القمي ١ : ٩٩ ـ ١٠٠ ؛ معاني الأخبار : ١٨٦ ، الحديث : ١ ؛ والأمالي للصدوق : ٣٥١ ، الحديث : ٤ ؛ روضة الواعظين ١ : ٤٣ ؛ و... روي مع اختلاف.

١٨٩

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ)

في المجمع عن أبي عبيدة الجرّاح ، قال : قلت : يا رسول الله ، أيّ الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبيّا ، أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ، ثمّ قرأ : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) ، ثمّ قال : يا أبا عبيدة! قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا أوّل النهار في ساعة [واحدة] ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل ، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا [من] آخر النهار من ذلك اليوم ، وهو الذي ذكره الله. (١)

قوله سبحانه : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ)

من الملك : ما هو حقيقي وهو كون وجود شيء قائما بشيء آخر بتمام حقيقته ، وهو الذي له سبحانه بالذات (٢) ولغيره بالعرض ، وهو ملك الأشياء لأنفسها ولآثارها وأحكامها على قدر ما أفاض الله تعالى عليها بإذنه وأقرّها عليه في كتابه ، كقوله : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، (٣) وقوله : (بِما فِي قُلُوبِهِمْ) ، (٤) وغير ذلك. فجميع هذه الإضافات من الملك.

ومن الملك : ما هو اعتباري اجتماعي ، التزم الإنسان باعتباره بفطرته الإجتماعيّة لينتظم به نظام الإجتماع ، ثمّ أمضاه الشريعة الإلهيّة بإصلاح ما في

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

(٢). وهو الذي ربّما يسمى ب : «التكويني» ، [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٣). المائدة (٥) : ١٠٥.

(٤). التوبة (٩) : ٦٤.

١٩٠

أيديهم وتمييز الصحيح منه من الفاسد ، وقد أقرّه لهم بإسناده إلى نفسه على ما يليق بحضرته ، كما قال : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) ، (١) وقال : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) (٢) ففيه إثبات الملك وإبانة أنّه بالعرض بنحو التخويل والاستخلاف.

ومن الملك : ما هو عند الناس ملك بالاستيلاء من غير تصديقه من ناحية الشرائع والنواميس الإلهيّة ، وقد أسنده الله إلى نفسه تعالى بمعنى الاستيلاء والسلطة للفتنة لا بمعنى الملك والرزق ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) ـ إلى أن قال ـ : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، (٣) وقوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) ، (٤) وقوله : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ، (٥) وقوله : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ). (٦)

والعزّة فيما مرّ كالملك ، فمنها : ما هي حقيقيّة ، ومنها : ما هي اعتباريّة عقلائيّة ، ومنها ما هي وهميّة جائرة ، قال سبحانه : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) ، (٧) وقال :

__________________

(١). الحديد (٥٧) : ٧.

(٢). الأنعام (٦) : ٩٤.

(٣). البقرة (٢) : ٢٥٨.

(٤). آل عمران (٣) : ١٧٨.

(٥). يونس (١٠) : ٨٨.

(٦). التوبة (٩) : ٥٥.

(٧). البقرة (٢) : ٢٠٩.

١٩١

(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ، (١) وقال : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً). (٢) فلم ينف عنهم العزّة ، وإنّما خصّ به نفسه بالذات ، وقال : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) ، (٣) وقال : (وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ). (٤)

والملك والعزّة وإن كانا جميعا خيرا ، لكن ليس إعطاء الخير خيرا على الإطلاق ، وإن كان من اللازم كونه خيرا بوجه ، كأن يكون بالقياس إلى نظام الكلّ خيرا.

إذا تبيّن هذا ، بان أنّ قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ) على ظاهر إطلاقه وشموله لكلّ ملك وعزّة ، ولا يلزم من ذلك إكرام كلّ ذي ملك ، ولا ذي عزّ بما اوتي من الملك والعزّ إلّا فيما حمده الله سبحانه ، فكون الشيء في نفسه نعمة وكرامة معنى ، وكونه نعمة بالقياس إلى من اوتيه معنى آخر ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) ، (٥) وقال تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) ، (٦) فعدّ الملك والعزّة في الآية على إطلاقهما خيرا لا يوجب منقبة لكلّ متقلّد بهما ، وقد علّل ذلك بالقدرة العامّة في قوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وبما مرّ يتبيّن معنى ما في الكافي عن عبد الأعلى مولى آل سام ، عن

__________________

(١). المنافقون (٦٣) : ٨.

(٢). النساء (٤) : ١٣٩.

(٣). البقرة (٢) : ٢٠٦.

(٤). الشعراء (٢٦) : ٤٤.

(٥). إبراهيم (١٤) : ٢٨.

(٦). الواقعة (٥٦) : ٨٢.

١٩٢

أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : قلت له : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) ، أليس قد آتى الله عزوجل بني اميّة الملك؟ قال : ليس حيث تذهب [إليه] ، إنّ الله ـ عزوجل ـ آتانا الملك وأخذته بنو اميّة ، بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر ، فليس هو للّذي أخذه. (١)

أقول : وروى مثله العيّاشي عن داود بن فرقد ، عنه عليه‌السلام. (٢) والراوي إنّما اشتبه عليه الأمر ؛ إذ لم يفرّق بين المعنيين عن الملك ـ أعني : الثاني والثالث ـ الذين ذكرناهما ، ولم يفرّق بين الخير في نفسه والخير بالقياس إلى غيره.

*

__________________

(١). الكافي ٨ : ٢٦٦ ، الحديث : ٣٨٩.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٦٦ ، الحديث : ٢٣.

١٩٣

[لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)]

قوله سبحانه : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ)

هو من الشواهد على ما ذكرناه من إطلاق الملك والعزّة ، فمضمونه كالبيّنة على أنّ الملك والعزّة لله ، يضعهما في أيّ محلّ شاء ، ولذلك جاء مفصولا من غير وصل ، فالناظر لو لم يكن يرى تعاقب الليل والنهار ونظر إلى ليل فقط ، أو إلى نهار فقط ، لم يمكنه أن يذعن بولوج أحدهما في الآخر ، والله يفيض النهار

١٩٤

المضيء لمورد يفقده وينزع ذلك عن مورد تلبّس به ، وكذلك الحيّ والميّت لو لم يجد الإنسان إلّا أحدهما فقط لم يمكنه التصديق بخروج أحدهما من الآخر ، كالنبات الحيّ والحيوان الحيّ من الأرض الميتة وبالعكس ، كالفضلات الميتة مثل الصمغ من الشجرة ، ومثل ولادة المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، فقد سمّى الله تعالى الإيمان والكفر : حياة وموتا ، قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها). (١)

ومن الشواهد عليه : الرزق بغير حساب ، فإنّ الرزق بحساب فيه شائبة الإقتضاء والإيجاب ، بخلاف الرزق بغير حساب ؛ فإنّه إنّما يكون عن ملك طلق إتيانه بالمشيّة ونزعه بالمشيّة.

وفي المجمع في الآية ، قيل : معناه : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن. قال : وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما‌السلام ـ. (٢)

أقول : وروى قريبا منه الصدوق ، عن العسكري ـ عليه‌السلام ـ ، (٣) وهو من قبيل عدّ المصداق والجري.

قوله سبحانه : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً)

حكم التقيّة والسياق يعطي أنّ تجويزها مقصور على الظاهر فقط ، ولذلك عقّب الآية بقوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ) إلى قوله ثانيا : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ).

__________________

(١). الأنعام (٦) : ١٢٢.

(٢). مجمع البيان ٢ : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

(٣). معاني الأخبار : ٢٩٠ ـ ٢٩١ ، الحديث : ١٠.

١٩٥

وفي الاحتجاج عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : وأمرك أن تستعمل التقيّة في دينك ؛ فإنّ الله يقول : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ) ، قال : وإيّاك ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك وأن تترك التقيّة التي أمرك بها ، (١) فإنّك شائط بدمك ودماء إخوانك ، معرّض لنعمك ونعمهم للزوال ، مذلّهم في أيدي أعداء دين الله ، وقد أمرك الله بإعزازهم. (٢)

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول : لا إيمان لمن لا تقيّة له ، ويقول : قال الله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً). (٣)

أقول : والروايات في التقيّة وأحكامها كثيرة.

قوله سبحانه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)

المحبّة : انجذاب النفس إلى الشيء بما أنّه جميل ، وهي من الأحوال الوجدانيّة ، تستغني عن التعريف ، كالبغض المقابل لها.

وأنت إذا أحببت شيئا فإنّما تحبّه لجمال فيه وحسن ، وربّما صادفت شيئا من العيب والنقص فيه فأوجب ذلك زوال الحبّ إذا لم يكن مستقرّا ، ولكن مع ثبات الحبّ واستقراره هان العيب والنقص اللائحان في نفسه أو في أفعاله ، وكلّما اشتدّ الحبّ ضعف ظهور ما في المحبوب من العيب والنقص وتأثيره ، ولا يزال يضعف حتّى يلحق بالعدم ، وهو ما يقال : إنّ حبّ الشيء يوجب حبّ آثاره ،

__________________

(١). في المصدر : «فإن ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك وتنقطع به عن عمل الدين وصلاح إخوانك المؤمنين وإيّاك ثمّ إياك أن تترك التقيّة التى أمرتك بها»

(٢). الاحتجاج ١ : ٢٣٩.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ١٦٦ ، الحديث : ٢٤.

١٩٦

وما يقال : إنّ حبّ الشيء يعمي ويصمّ. (١)

ولذلك نرى أنّ الإنسان يتحمّل في جنب المحبّ من البلايا والمحن والأذايا ما لا يتحمّل ، ولا يسيرا منه لو لا الحبّ ، وليس ذلك إلّا لأنّ انجذاب النفس إلى المحبوب واشتغالها به واجتماع إدراكها فيه يوجب ضعف إدراكها لصور البلايا والمحن والمكاره.

والغاية في هذه الجذبة المسمّاة ب : «الحبّ» هي المحبوب ، على حسب ما يليق به من الوجود للمحبّ ووصوله إليه ، ففي المطاعم والمشارب : أكلها وشربها ، وفي النساء : ازدواجها ، وفي المال : التملّك به ، وفي العلم : تعلّمه ، وفي الجاه : وجدانه وحيازته وهكذا.

وإذا كان الحبّ شيئا وجدانيّا إداركيّا ، كانت غاية الحبّ هي غاية المحبّ بعينها ، فغاية الحبّ هي الوصول إلى المحبوب وأن لا يحجبه عنه حاجب ، أي أن لا يشتغل نفسه بإدراك ما يمنع إدراكه عن إدراك المحبوب بوجه.

وإذا أمعنّا وجدنا أنّ نهاية الفوز بالمحبوب أن ينسى المحبّ نفسه في جنبه بعد ارتفاع سائر الحجب المانعة.

ومن هنا ما يقال : إنّ غاية الحبّ فناء.

ولما مرّ ، كان أشهى الأشياء عند المحبّ ارتفاع الحجب المانعة ، ولا بشرى عنده أحبّ من بشرى حبّ المحبوب له ، فإنّه بشرى انجذاب متعاكس وقرب مطلوب.

__________________

(١). لم نجده في المجامع الروائية بهذا اللفظ ولكن في الكافي ٢ : ١٣٦ ، الحديث : ٢٣ : «فانّ حبّ الدنيا يعمي ويصم» ، وفي من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٨٠ ، الحديث : ٥٨١٤ : «حبكّ للشيء يعمي ويصم» ، وراجع : الميزان في تفسير القرآن ١ : ٣٧٤.

١٩٧

إذا عرفت هذا ، علمت أنّ قوله سبحانه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ، بمنزلة قولنا : إن كنت تحبّ فلانا فأحببت محبّته لك وتسهيله طريقك إليه فاعمل بكذا ليحبّك ويرفع الموانع دون الوصول إليه ، فكأنّ المعنى : إن كنتم صادقين في حبّ الله أحببتم آثاره وما يرتضيه ، وهو ما عندي ـ من التقوى والإحسان بالعمل الصالح ـ ، فاتّبعوني يحببكم الله ؛ إذ هو القائل عزّ من قائل : (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، (١) (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، (٢) فهذا ـ أعني : حبّ الله ـ إحدى البشارتين ، والثانية : قوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ).

فالذنوب هي العائقة عن الإشتغال بالله والحاجبة عن الله ـ جلّ شأنه ـ ، قال : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ، (٣) (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ). (٤)

وفي المعاني عن سعيد بن يسار ، قال : قال لي أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : هل الدين إلّا الحبّ ، إنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ). (٥)

أقول : وروى مثله القمّي في تفسيره (٦) عن الحذّاء ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ ، والعيّاشي في تفسيره (٧) عن الحذّاء ، عنه عليه‌السلام ، وعن بريد ، عنه عليه‌السلام ،

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٧٦.

(٢). آل عمران (٣) : ١٣٤.

(٣). المطففين (٨٣) : ١٥.

(٤). المطفّفين (٨٣) : ١٤.

(٥). لم نجده في معاني الأخبار ولكن رواه الكلينى بسند آخر في الكافي ٨ : ٧٩ ، الحديث : ٣٥ ؛ والصدوق بهذا الاسناد في الخصال ١ : ٢١ ، الحديث : ٧٤.

(٦). لم نجده في تفسير القمّي.

(٧). تفسير العيّاشي ١ : ١٦٧ الحديث : ٢٥ و ٢٧ و ٢٨.

١٩٨

وعن ربعي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ.

وقد مرّ في سورة الحمد عند قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (١) : أنّ العبادة على ثلاثة أقسام : العبادة طمعا في الجنّة ، وخوفا من النار ، وحبّا لله سبحانه ، وأنّ ما دون الثالث ليس بعبادة حقيقة ، ومرّت عدّة من الروايات في ذلك.

وفي المعاني عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : ما أحبّ الله من عصاه ، ثمّ تمثّل بقوله :

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع (٢)

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث له قال : ومن سرّه أن يعلم أنّ الله يحبّه فليعمل بطاعة الله وليتّبعنا ، ألم يسمع قول الله عزوجل لنبيّه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ، والله لا يطيع الله عبد أبدا إلّا أدخل الله عليه في طاعته اتّباعنا ، ولا والله لا يتّبعنا عبد أبدا إلّا أحبّه الله ، ولا والله لا يدع أحد اتّباعنا إلّا أبغضنا ، ولا والله لا يبغضنا أحد أبدا إلّا عصى الله ، ومن مات عاصيا لله أخزاه الله وأكبّه على وجهه في النار ، والحمد لله ربّ العالمين. (٣)

*

__________________

(١). الفاتحة (١) : ٥.

(٢). لم نجده في معاني الأخبار ولكن رواه العاملي في وسائل الشيعة ١٥ : ٣٠٨ ، الحديث : ٢٠٥٩٦ ؛ وابن شعبة في تحف العقول : ٢٩٤ بهذه العبارة : «ما عرف الله من عصاه وأنشد»

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمرك في الفعال بديع

لو كان حبكّ صادقا لأطعته

انّ المحبّ لمن أحبّ مطيع

(٣). الكافي ٨ : ١٣ ، الحديث : ١.

١٩٩

[إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)]

قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ)

الإصطفاء وحده غير الإصطفاء على العالمين ، والذي مرّ من معنى الإصطفاء وأنّه مقام التحقّق بالدين هو الإصطفاء فقط ، ويومي إلى ذلك قوله : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (١) حيث فرّق بين نوعي الإصطفاء.

وقد عرفت في الفرق بين الاصطفاء والاجتباء ، أنّ الاصطفاء كمال اكتسابيّ دون الاجتباء فهو وهبيّ اختصاصيّ ، والكمال الاختصاصيّ وإن كان غير ميسور بالكسب لكن يحتاج إلى كمال نفساني به يحصل الاستعداد والاستحقاق لإفاضته حتّى لا يلزم الترجيح من غير مرجّح ، فله نسبة إلى المحلّ بالاستعداد ، وإلى المفيض بالاختصاص.

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٤٢.

٢٠٠