تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

وقوله سبحانه : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ)

مشعر بأنّ بين هذه الذرّيّة سببا متّصلا وحبلا متينا ممدودا ، هو الموجب لإفاضة هذا الإصطفاء ، والله سميع لأقوالهم ، عليهم بأفعالهم ، كما أشار إليه في آل إبراهيم بقوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ.) (١)

ونصب (ذُرِّيَّةً) وهي عطف بيان ، يدلّ على كون المصطفين منخرطين في سلك واحد من سلسلة متّصلة وذرّيّة واحدة ، فآل إبراهيم من ذرّيّة إبراهيم من نسل واحد ، والنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من آل إبراهيم وذرّيّته ، كما يدلّ عليه قوله سبحانه : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) ، (٢) وهذا القرع والتعيير ، لأهل الكتاب الذين هم في عهد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، فالآية تدلّ على كون آل إبراهيم المذكورين هاهنا من غير بني إسرائيل ، وعلى كون النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من آل إبراهيم ، وآل رسول الله منه ، فالنبيّ وآله من آل إبراهيم.

وأمّا قوله : (وَآلَ عِمْرانَ) فعمران هذا ، إمّا أبو موسى وهارون ـ عليهم‌السلام ـ وهو ابن يصهر بن ناهث بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وإمّا أبو مريم ، وهو عمران بن ماثان ، ينتهي بسبعة وعشرين أبا إلى يهودا بن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ، ويؤيّد ثاني الإحتمالين الآيات التالية ، وفيها ذكر امرأة عمران ومريم وابنها عيسى واصطفاء الله إيّاهما. على أنّ عمران أبا موسى لم يرد منه ذكر باسمه في سائر القرآن ، هذا.

__________________

(١). الزخرف (٤٣) : ٢٨.

(٢). النساء (٤) : ٥٤.

٢٠١

وإلى ما مرّ من معنى آل إبراهيم يشير ما في تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ أنّه تلا هذه الآية ، فقال : نحن منهم ، ونحن بقيّة تلك العترة. (١)

وما في العيون في حديث الرضا مع المأمون ، فقال المأمون : هل فضّل الله العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه ، فقال له المأمون : أين ذلك من كتاب الله؟ فقال له الرضا ـ عليه‌السلام ـ : في قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ). (٢)

أقول : وفي هذا المعنى روايات اخرى ، (٣) والبيان ما مرّ.

وفي المجمع : في قراءة أهل البيت : وآل محمّد على العالمين. (٤)

أقول : وعليه روايات ، (٥) وإن اختلفت (٦) بعض الإختلاف.

وعن تفسير الثعلبي أنّه قرأ في مصحف عبد الله بن مسعود : وآل إبراهيم وآل محمّد على العالمين. (٧)

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٦٨ ، الحديث : ٢٩.

(٢). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٢٢٨ ، الحديث : ١.

(٣). الأمالي للصدوق : ١٥٧ ، المجلس الثلاثون ، الحديث : ١ ؛ الكافي ٨ : ١١٧ ، الحديث : ٢ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٧٩ ، الحديث : ٢٨٦.

(٤). مجمع البيان ٢ : ٧٣٥.

(٥). الأمالي للطوسي : ٣٠٠ ، المجلس الحادي عشر ، الحديث : ٥٩٢ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٦٩ ، ٣٥ ؛ تفسير القمّي ١ : ١٠٠.

(٦). حيث يدلّ بعضها على سقوط الكلمة بعد لفظ آل عمران وفي بعضها تبديل آل عمران بآل محمد [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٧). لم نجده في تفسير الثعلبي وراجع : شواهد التنزيل ١ : ١٥٢ ، الحديث : ١٦٥ ـ ١٦٧ ؛ العمدة : ٥٥ ، الحديث : ٥٥ ؛ بحار الأنوار ٢٣ : ٢٢٨ ، الحديث : ٥١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٣٩١ ، الحديث : ١٧ ؛ احقاق الحق ١٤ : ٣٨٤.

٢٠٢

[إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)]

٢٠٣

قوله سبحانه : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ)

شروع في قصّة عيسى ـ عليه‌السلام ـ وكيفيّة تكوّنه وولادته والتعرّض عند ذلك لقصّة مريم ، ولقصّة زكريّا ويحيى ؛ لما لها من الإرتباط بالقصّة.

ويشعر بذلك قوله : (هُنالِكَ دَعا) وقوله : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ).

هذا ، وفي تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّ الله أوحى إلى عمران : أنّي واهب لك ذكرا سويّا (١) مباركا ، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله ، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل ، فحدّث عمران امرأته حنّة بذلك ـ وهي امّ مريم ـ فلمّا حملت كان حملها بها عند نفسها غلاما ، (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ... وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) لا تكون البنت رسولا ، يقول الله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) ، فلمّا وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشّر به عمران ووعده إيّاه ، فإذا قلنا في الرجل منّا شيئا ، وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك. (٢)

أقول : وروى قريبا منه العيّاشي في تفسيره ، (٣) وكون اسم امرأة عمران حنّة ـ كما في الرواية ـ هو المشهور ، وفي بعض الروايات : مرثار. (٤)

ويستفاد من الرواية أنّ عمران كان نبيّا يوحى إليه ، وإن لم يذكر في القرآن

__________________

(١). في المصدر : ـ «سويّا» ؛ وفي الكافي ١ : ٥٣٥ ، الحديث : ١ موجودة.

(٢). تفسير القمي ١ : ١٠١ ؛ الكافي ١ : ٥٣٥ ، الحديث : ١.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ١٧١ ، الحديث : ٣٩.

(٤). لم نجده بلفظ «مرثار» في الروايات ولكن وجدناه بلفظ «مرثا» في الكافي ١ : ٤٧٩ ، الحديث : ٤ ؛ بحار الأنوار ٤٨ : ٨٧ ، الحديث : ١٠٦ ، وبلفظ «مرثان» في تفسير الصافي ٢ : ٣٥ نقلا عن الكافي.

٢٠٤

بين الأنبياء المسمّين.

وفي البحار عن القصص ، عن أبي بصير ، قال : سألت عن عمران أكان نبيّا؟ فقال : نعم ، كان نبيّا مرسلا إلى قومه ... الحديث. (١)

ثمّ إنّ إخباره تعالى بعيسى بالوحي يصدّقه قوله : (نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) فإنّه مشعر بأنّ حملها كان عندها ذكرا.

وأيضا يستفاد من الرواية أنّ قوله : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) ، مقول قولها ، ويؤيّده قراءة (وَضَعَتْ) بصيغة المتكلّم وحده ، وأمّا قراءة (وَضَعَتْ) بصيغة المفردة الغائبة ، فعليها قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) جملة معترضة غير محكيّة عن قولها.

قوله سبحانه : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ)

أي تقبّلها من حيث تعلّق النذر بها إذ كانت نذرت ما في بطنها من الولد ، وإن كانت تزعم كونها ذكرا.

وقوله تعالى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً)

بمنزلة الإخبار عن استجابة دعائها إذ قالت : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ)

قوله سبحانه : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا)

في تفسير القمّي في ذيل الرواية السابقة : فلمّا بلغت مريم صارت في المحراب وأرخت على نفسها سترا ، وكان لا يراها أحد ، وكان يدخل عليها زكريّا

__________________

(١). بحار الأنوار ١٤ : ٢٠٢ ، الحديث : ١٤ ؛ القصص للراوندي : ٢١٤ ، الحديث : ٢٧٨.

٢٠٥

المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، فكان يقول : (أَنَّى لَكِ هذا) فتقول : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). (١)

أقول : والروايات في هذا المضمون كثيرة. (٢)

وفي تنكير قوله : (رِزْقاً) تلويح أنّه كان نوعا من الرزق مخصوصا.

وفي قوله : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) أيضا من التلويح على كونه خرقا للعادة ما لا يخفى.

وفي قوله : (قالَ يا مَرْيَمُ)

باختيار الفصل على الوصل ، يشعر بأنّ استفساره عنها لم يكن كلّما رأى عندها الرزق.

قوله سبحانه : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ)

لفظ (هُنالِكَ) للمكان أو للزمان.

وقوله : (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)

أي مباركة لائقة به ، فالطيّب من كلّ شيء ما يلائم الغرض المقصود منه ، ومنه : طاب العيش ، وطاب الكلام ، وطاب المجلس ، وطاب الطعام.

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١٠١.

(٢). تهذيب الاحكام ٩ : ٢٦٦ ؛ الأمالي للطوسي : ٦١٤ ، مجلس يوم الجمعة ، الحديث : ٧ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٧١ ، الحديث : ٤١.

٢٠٦

وقوله : (وَسَيِّداً)

أي شريفا في قومه بالزهادة والعبادة.

وقوله : (وَحَصُوراً)

من الحصر ، أي يحصر نفسه عن الشهوات ، وخاصّة شهوة النساء.

وقوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ)

كلمة «من» نشويّة أو تبعيضيّة.

قوله سبحانه : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً)

في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّ زكريّا لمّا دعا ربّه أن يهب له ولدا فنادته الملائكة بما نادته به ، أحبّ أن يعلم أنّ ذلك الصوت من الله ، فأوحى إليه أنّ آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيّام ، فلمّا أمسك لسانه ولم يتكلّم ، علم أنّه لا يقدر على ذلك إلّا الله ، وذلك قول الله : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً). (١)

وفي تفسير القمّي في ذيل الحديث السابق ، قال زكريّا : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) ، وذلك أنّ زكريّا ظنّ [أنّ] الذين بشّروه هم الشياطين ، فقال : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) فخرس ثلاثة أيّام. (٢)

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ١٧٢ ، الحديث : ٤٣ ؛ بحار الانوار ١٤ : ١٨٤ ، الحديث : ٣١.

(٢). تفسير القمي ١ : ١٠١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٣٩٣ ، الحديث : ٢.

٢٠٧

أقول : قد مرّ في تفسير الفاتحة أنّ الألفاظ موضوعة بإزاء حاقّ المعاني من غير نظر إلى خصوصيّات المصاديق ، وعليه فالكلام والقول إنّما هو كلام باعتبار ما يدلّ عليه من المعنى الذي يصحّ السكوت عليه ، فما يفيد معنى تامّا فهو كلام وقول ، سواء كان معه لفظ وصوت ، أو كان من غير سنخ الألفاظ كالإشارات ونحوها ، والناس لا يتوقّفون في تسمية الصوت المسموع المفيد فائدة تامّة ، وتسمية الإشارة المفيدة كذلك كلاما.

والقرآن أيضا يسمّي المعاني الملقاة في القلوب من ناحية الشياطين كلاما وقولا ، قال سبحانه : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) ، (١) وقال : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) ، (٢) وقال : (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) ، (٣) وقال : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) ، (٤) وقال ـ حكاية عن إبليس ـ : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ) ، (٥) وقال تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً). (٦)

ومن الواضح أنّ هذه هي الخواطر الواردة على القلوب ، نسبت إلى الشيطان وسمّيت ب : الأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد ، وجميعها كلام ، ولا لفظ لساني هناك.

ومن هنا يعلم أنّ ما يشتمل عليه قوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ

__________________

(١). النساء (٤) : ١١٩.

(٢). الحشر (٥٩) : ١٦.

(٣). الناس (١١٤) : ٥.

(٤). الأنعام (٦) : ١١٢.

(٥). إبراهيم (١٤) : ٢٢.

(٦). البقرة (٢) : ٢٦٨.

٢٠٨

بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ* يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ، (١) من وعده سبحانه مغفرة وفضلا في قبال وعد الشيطان ، هو الكلام الملكيّ في قبال الوسوسة والكلام الشيطانيّ ، ووصفه بالحكمة ومثلها قوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ، (٢) وقوله : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) ، (٣) وقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). (٤)

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : ما من قلب إلّا وله اذنان ، على إحداهما ملك مرشد ، وعلى الاخرى شيطان مفتّن ، هذا يأمره وهذا يزجره ، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها ، وذلك قول الله عزوجل : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (٥) الحديث. (٦)

والأخبار في ذلك كثيرة ، (٧) سيأتي إن شاء الله شطر منها.

فهذه الخواطر التي تطرق القلب من المعاني التي تدعو إلى رضى الله أو سخطه ، نحن نراها تنشئها نفوسنا ، والله سبحانه يخبرنا أنّها من كلام الملك أو الشيطان ، وقد أخبر تعالى أنّ الملائكة شأنهم الخير والصدق ، والشيطان شأنه

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

(٢). التغابن (٦٤) : ١١.

(٣). الحديد (٥٧) : ٢٨.

(٤). الفتح (٤٨) : ٤.

(٥). ق (٥٠) : ١٧.

(٦). الكافي ٢ : ٢٦٦ ، الحديث : ١ ، باب أنّ للقلب أذنين ؛ تفسير القمي ٢ : ٤٥٠ ؛ الميزان في تفسير القرآن ٣ : ١٨٥.

(٧). الكافي ٢ : ٢٦٦.

٢٠٩

الإغواء والإضلال ، وبذلك يحصل التميّز بين الخواطر ، وتمييز الخاطر الملكي من الخاطر الشيطاني ، فما يدعو إلى الله سبحانه من الخواطر فهو ملكيّ ، وما يدعو إلى غيره فهو شيطانيّ.

وربّما ظهر الشيطان بخاطر الملك ، ويعرف بالغرض منه وهو الذي من خطوات الشيطان ، كما مرّ في سورة البقرة عند قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ). (١)

ثمّ إنّ الأنبياء ومن يتلوهم ربّما تيسّر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما ، كما حكاه سبحانه عن آدم وإبراهيم ولوط ، (٢) فأغنى ذلك عن استعمال التمييز ، وأمّا مع عدم المشاهدة فحالهم حال سائر المؤمنين في استعماله وإن كانوا معصومين لا سبيل للشيطان إليهم في صدّهم عن سبيل الله ، كما سيجيء.

وإلى ذلك يشير ما في الكافي عن زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن الرسول ، وعن النبيّ ، وعن المحدّث؟ قال : الرسول : الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربّه يقول : يأمرك كذا وكذا ، والرسول : يكون نبيّا مع الرسالة ، والنبيّ : لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه ، قلت : فما علمه أنّ الذي في منامه حقّ؟ قال : يبيّنه الله حتّى يعلم أنّ ذلك حقّ ، ولا يعاين الملك ، الحديث. (٣)

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٦٨.

(٢). الأعراف (٧) : ٢٠ ـ ٢٢ ؛ العنكبوت (٢٩) : ٣١ ـ ٣٣.

(٣). لم نجده بهذه الألفاظ في الكافي ولكن وجدناه في بصائر الدرجات : ٣٧١ ، الحديث : ١٢ ، نعم روى الكليني أحاديث بهذا المضمون ، فراجع : الكافي ١ : ١٧٦ ، الحديث : ١ ـ ٤.

٢١٠

أقول : قوله : «والرسول يكون نبيّا» ، إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين.

وقوله : «فيكون كالمغمى عليه» تفسير معنى رؤيته في المنام ، وأنّ معناها الغفلة عن الحسّ.

وقوله : «يبيّنه الله» إشارة إلى تميّز الكلام الملكي من الشيطاني بما يبيّنه الله من الحقّ.

وفي البصائر عن بريد عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ في حديث ، قال بريد : فما الرسول والنبيّ والمحدّث؟ قال : الرسول : الذي يظهر [له] الملك فيكلّمه ، والنبيّ : يرى في المنام ، وربّما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد ، والمحدّث : الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة. قال : قلت : أصلحك الله ، كيف يعلم أنّ الذي رأى في المنام هو الحقّ وأنّه من الملك؟ قال : يوفّق لذلك حتّى يعرفه ، لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيّكم الأنبياء (١) الحديث. (٢)

إذا عرفت ما مرّ ، علمت أنّه لذلك لمّا نادت الملائكة زكريّا ، سأل ربّه آية تطمئنّ إليه نفسه إذ حيث لم ير الملك ولم يعرف ، فاجيب بآية في نفسه تطمئنّ إليه نفسه ، وهو أن لا يقدر على التكلّم ثلاثة أيّام إلّا رمزا ، ولا سبيل للشيطان إلى نفوس الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لمكان العصمة. وفي قوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) بعض التلويح إلى ذلك ؛ إذا النسبة بين الإنسان والملك ، ليست النسبة المكانيّة قربا وبعدا ، فافهم.

*

__________________

(١). في بصائر الدرجات : «قال يوقع علم ذلك حتى يعرفه»

(٢). بصائر الدرجات : ٣٧١ الحديث : ١١ ؛ ومثله في الكافي ١ : ١٧٧ ، الحديث : ٤.

٢١١

[وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ

٢١٢

وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)

قوله سبحانه : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ)

سألت امّ مريم العبادة لها والعصمة لها ولذرّيّتها ، إذ نذرت لما في بطنها التحرير لله وسمّتها مريم وهي العابدة وأعاذتها وذرّيّتها بالله سبحانه ، فأجابها الله إذ قال : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً).

وهذا السياق يعطي أن يكون قول الملائكة : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) يراد به الإصطفاء بحسب الدين ، وقد مرّ شرحه.

(وَطَهَّرَكِ) يراد به العصمة ، وخاصّة فيما يختصّ بالنساء من العفّة.

٢١٣

(وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) أي : في الولادة من غير فحل.

وإليه يؤول ما في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : معنى الآية : اصطفاك من ذرّيّة الأنبياء ، وطهّرك من السفاح ، واصطفاك لولادة عيسى من غير فحل. (١)

أقول : ومسألة تكليم الملائكة للإنسان هو المسمّى ب : (التحديث) ، وقد وردت الروايات أنّ مريم بنت عمران كانت محدّثة ، (٢) وأنّ صاحب سليمان ، والخضر صاحب موسى ، وذا القرنين كانوا محدّثين ، (٣) والقرآن يؤيّدها ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ) وقال تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) ، (٤) وقال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) ، (٥) وقال تعالى : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ). (٦)

ووردت الروايات أنّ الأئمّة من أهل البيت كانوا محدّثين ، (٧) وأنّ فاطمة سيّدة النساء كانت محدّثة ، (٨) وأنّ سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ كان محدّثا. (٩) قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ

__________________

(١). مجمع البيان ٢ : ٧٤٦.

(٢). علل الشرايع ١ : ١٨٢ ، الحديث : ٢ ؛ كتاب سليم بن قيس : ٨٢١ ، الحديث : السابع والثلاثون.

(٣). بصائر الدرجات : ٣٦٦ و ٣٢٣ ، الحديث : ١١ ؛ رجال الكشي : ١٧٧ ، الحديث : ٣٠٥.

(٤). النمل (٢٧) : ٤٠.

(٥). الكهف (١٨) : ٦٥.

(٦). الكهف (١٨) : ٨٦.

(٧). بصائر الدرجات : ٣١٩ و ٣٢١ ، «باب في أنّ المحدّث كيف صفته وكيف يصنع به وكيف يحدّث الائمة» ؛ رجال الكشي : ١٥ ، الحديث : ٣٦ ؛ ١٢ ، الحديث : ٢٧ ؛ الأما لي للطوسي : ٤٠٧ ، الحديث : ٩١٤ ، المجلس الرابع عشر.

(٨). علل الشرايع ١ : ١٨٢ ، الحديث : ٢ ؛ بصائر الدرجات ؛ ٣٧٢ ، الحديث : ١٦ ؛ كتاب سليم بن قيس : ٨٢١ ، المجلس السابع والثلاثون ؛ كشف الغمة ١ : ٤٦٨.

(٩). الأما لي للطوسي : ٤٠٧ ، الحديث : ٩١٤ ، المجلس الرابع عشر ؛ بصائر الدرجات : ٣٢٢ ، ـ

٢١٤

الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) ، (١) وسيجيء شرحه في الكلام على الآيات.

وفي بصائر الدرجات عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في حديث : فقلت : وأيّ شيء المحدّث؟ فقال : ينكت في اذنه فيسمع طنينا مثل (٢) طنين الطست ، أو يقرع على قلبه فيسمع وقعا كوقع السلسلة على الطست ، فقلت : إنّه نبيّ؟ قال : لا ، مثل الخضر ومثل ذي القرنين. (٣)

وفيه أيضا عن زرارة ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في حديث : الذي يسمع الصوت ولا يرى شيئا. (٤)

وفيه أيضا عن بريد العجلي ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : والمحدّث : الذي يسمع كلام الملائكة وينقر في اذنه وينكت في قلبه. (٥)

أقول : وفي هذه المعاني عدّة روايات اخر ، (٦) وعدّ النقر والنكت وغيرهما من الكلام بناء على ما مرّ من معنى الكلام ، وعدم رؤية الملك حال النكت والتكليم لا ينافي الرؤية في غير تلك الحال كتمثّل جبرئيل لمريم ـ عليها‌السلام ـ.

وفي البصائر أيضا عن محمّد بن مسلم ، قال : ذكرت المحدّث عند أبي عبد الله

__________________

ـ الحديث : ٤ ؛ رجال الكشي : ١٢ ، الحديث : ٢٧ ؛ ١٥ ، الحديث : ٣٥ و ٣٦ ؛ ١٩ ، الحديث : ٤٤ ؛ علل الشرايع ١ : ١٨٣.

(١). فصّلت (٤١) : ٣٠ ـ ٣٢.

(٢). في المصدر : «كطنين»

(٣). بصائر الدرجات : ٣٢٤ ، الحديث : ١٣.

(٤). بصائر الدرجات : ٣٦٨ ، الحديث : ٣ و ٢.

(٥). بصائر الدرجات : ٣٦٨ ، الحديث : ١.

(٦). راجع بصائر الدرجات : ٣١٦ ، باب ما يفعل بالإمام من النكت والقذف والنقر في قلوبهم وأذنهم.

٢١٥

ـ عليه‌السلام ـ قال : فقال : إنّه يسمع الصوت ولا يرى ، فقلت : أصلحك الله ، كيف يعلم أنّه كلام الملك؟ قال : إنّه يعطى السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه ملك. (١)

أقول : إشارة إلى ما مرّ من التميّز ، ومن جملة أقسامه الطمأنينة والإضطراب ، ومنها : المجيء عن اليمين وعن الشمال.

قوله سبحانه : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ)

مشعر بأنّه إنباء عن دراية لمن فقد الدراية ، ولهذا أخبر أنّه من أنباء الغيب من حفيظ عليم ، وليس المراد بالغيب ما هو غيب بعد انقضاء ، أو أنّه بعد ما كان شهادة لشاهده ، وسيجيء تمام الكلام في سورة الأنعام.

قوله سبحانه : (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)

في تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : يقرعون بها حين أيتمت من أبيها. (٢)

أقول : وفي معناه أخبار اخر ، (٣) وقوله : (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، أي في كفالتها ، وعليه وردت الروايات. (٤)

قوله سبحانه : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ)

لا ينافي ما هنا ما في سورة مريم : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) ، (٥) من إخبار الروح

__________________

(١). بصائر الدرجات : ٣٢٣ ، الحديث : ٩.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٧٣ ، الحديث : ٤٧ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٠١ ، الحديث : ١٥.

(٣). تفسير القمي ١ : ١٠١ ؛ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٨٩ ، الحديث : ٣٣٨٨ ؛ الخصال ١ : ١٥٦ ، ١٩٨.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ١٧٣ ، الحديث : ٤٨ ؛ تفسير القمي ١ : ١٠١ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٤٥.

(٥). مريم (١٩) : ١٧.

٢١٦

بولادته ، إذ قال لها (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) ، (١) وهو ظاهر.

وفي قصص الأنبياء عن الباقر ـ عليه‌السلام : إنّ مريم بشّرت بعيسى ، فبينما هي في المحراب إذ تمثّل لها الروح الأمين بشرا سويّا ... الحديث. (٢)

وإذا ضمّ قوله هناك (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، (٣) إلى قوله هاهنا : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ، أفاد ذلك أنّ غير النبيّ ربّما سمع كلام الله سبحانه.

وقد أفاد ما في سورة مريم إمكان مشاهدة غير النبيّ الملك واستماعه كلامه.

قوله سبحانه : (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)

قيل : المسيح معرّب مشيحا ، (٤) ومعناه : المبارك ، كما حكى الله تعالى عنه قوله : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) ، وعيسى معرّب يسوع ، بمعنى يعيش.

وقوله : (وَجِيهاً)

أي ذا جاه مقبولا ، وهو مشهود في الدنيا وسيشهد في الآخرة.

وقوله : (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)

سيأتي شرح معناه. (٥)

__________________

(١). مريم (١٩) : ١٩.

(٢). قصص الأنبياء للراوندي : ٢٦٤ ، الحديث : ٣٠٣.

(٣). مريم (١٩) : ٢٠ ـ ٢١.

(٤). قال ابو عبيدة : هو بالسريانية «مشيحا» فعرّبته العرب ، مجمع البيان ٢ : ٧٤٩.

(٥). في سورة الواقعة عند قوله : (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) ، [منه ـ رحمه‌الله ـ].

٢١٧

وقوله : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً)

هو معنى تأييده عليه‌السلام بروح القدس ، كما قال سبحانه : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً). (١)

وقوله : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ)

قد مرّ معناه ، كما مرّ معنى «الكلمة» إذا نسب إلى الله تعالى وهو الوجود الطاهر عن ألواث المعاصي وكدورات الطبيعة.

واعلم أنّ هذه الآيات إلى آية المباهلة وما سبقها من قصّة مريم وولادتها ، تتكفّل إجمال القول في خلقة عيسى ـ عليه‌السلام ـ وحياته وتوفّيه ، وهو ـ عليه‌السلام ـ آية في خلقته وحياته وتوفّيه جميعا ، كما كان يكرّر لفظ الآية في كلامه ودعوته كما حكاه القرآن.

والمقام ـ وإن كان يقتضي الإطناب ـ كما يظهر من سياقها أنّها نزلت في محاجّة نصارى نجران ، وقد روى ذلك المفيد في الاختصاص عن محمّد بن المنكدر عن أبيه ، عن جدّه ، في حديث طويل ، (٢) غير أنّ تفصيل القول قد بيّنه تعالى فيما أنزله قبل هذه السورة من سورة مريم وغيرها. (٣)

وكيف كان ، فإنّا إذا تأمّلنا ما ذكره تعالى في خلقته عليه‌السلام كقوله :

__________________

(١). المائدة (٥) : ١١٠.

(٢). الاختصاص : ١١٢.

(٣). اي قبل هذه السورة بحسب ترتيب النزول ، فإنّ سورة مريم ، السورة الرابع والأربعين وسورة آل عمران ، السورة التاسع والثمانين حسب ترتيب النزول على المشهور. [تاريخ القرآن ، للدكتور محمود رامياد : ٦٩٠ ـ ٦٩٦].

٢١٨

(فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) ، (١) إلى قوله : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) ، (٢) وقوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) ، (٣) وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) ، (٤) وقوله تعالى : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، (٥) لاح لنا بادئ الأمر أنّه ـ عليه‌السلام ـ كان روحا سماويّا غير أرضيّ ، ظاهرا في صورة إنسانيّة ، كما أنّ الآيات الظاهرة منه عليه‌السلام من خلق الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإنباء عن المغيّبات ، كلّها امور روحيّة معنويّة ، غير أنّ ما يخبره سبحانه من حمل مريم به ووضعه وولادته ، إذ قال تعالى : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا* فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا* فَناداها مِنْ تَحْتِها) ، (٦) وما ذكره تعالى في آخر هذه الآيات بقوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، يعطي أنّ خلقته كانت خلقة بشريّة ، وإنّما خرقت العادة في التناسل فتمّت من غير نطفة الذكور ، كما تمّت خلقة آدم من غير نطفة ، وإنّما حقيقة كونه ـ عليه‌السلام ـ روحا منفوخا من روح ثمّ مؤيّدا بروح القدس ، عدم تأثير الخليط الأرضي في روحه وبقائه على طهارته ونزاهته الأصليّة السماويّة ، وهو الفارق بينه وبين آدم ـ عليه‌السلام ـ ، فهو من

__________________

(١). مريم (١٩) : ١٧.

(٢). مريم (١٩) : ١٩.

(٣). الأنبياء (٢١) : ٩١.

(٤). النساء (٤) : ١٧١.

(٥). البقرة (٢) : ٨٧.

(٦). مريم (١٩) : ٢٢ ـ ٢٤.

٢١٩

اولي العزم لم ينس الميثاق ولم يحتجب عن الطهارة الأصليّة ، فكان روحا من الله وكلمة لله ، وقد قال تعالى في آدم : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ، (١) وإنّما عاد آدم ـ عليه‌السلام ـ إلى ما كان عليه بعد توبته ، كما قال تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ، (٢) فهذا إجمال ما يتعلّق بخلقته ـ عليه‌السلام ـ.

وأمّا حياته عليه‌السلام ؛ فعمدة ما شرّفه به القرآن ما وصفه به في هذه السورة ب : الكلمة وسمّاه : المسيح وهو المبارك ، وب : الوجاهة ، وبكونه من المقرّبين ومن الصالحين ، وبعلم الكتاب والحكمة ، وبالرسالة وتصديق التوراة والاختصاص ببعض الأحكام ، وفي سورة مريم بالعبوديّة والنبوّة ، (٣) وفي سورة الزخرف (٤) ببيان بعض اختلافات الناس ، وفي سورة الصفّ (٥) بالبشارة برسول الله محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في عدّة مواضع بالشهادة وبكونه أحد الخمسة اولي العزم وبالإمام ، وقد مرّ تفسير بعضها ، وسيجيء معنى بعضها الآخر.

فله ـ عليه‌السلام ـ من المقامات الموقوفة المختصّة : النبوّة والرسالة وولاية العزم والإمامة ، على أنّه ـ عليه‌السلام ـ روح الله وكلمته ، وقد مرّ في ذيل قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) (٦) أنّ دين الله واحد لا يزال يتدرّج من النقص إلى

__________________

(١). طه (٢٠) : ١١٥.

(٢). طه (٢٠) : ١٢٢.

(٣). مريم (١٩) : ٣٠.

(٤). الزخرف (٤٣) : ٦٣.

(٥). الصف (٦١) : ٦.

(٦). البقرة (٢) : ٢١٣.

٢٢٠