تفسير البيان - ج ٢

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٨

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)]

٢٦١

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)

اتّقاؤك نفسك من الشرّ أن تردّ عنها الشرّ ، لا بأن تبطل الشرّ في نفسه ، ولا بأن تبطل توجّهه إليك ، بل بأن تحفظ نفسك من وصول الشرّ إليها ، واتّقاء العبد من الله تعالى لو صحّ على حقيقته لكان ممّا يريد به ويفعله من الشرّ.

وفعله سبحانه خلقه ، وليس في خلقه غير الحسن ، وقد قال تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (١) فليس عنده تعالى غير الحسن والخير ، وما يفيضه خير وحسن ، فهذا الشرّ الذي أمرنا بالإتّقاء من الله لأجله إنّما صار شرّا مكروها بنسبته إلينا سيّئا بفساد أنفسنا ، فهذا الإتّقاء إنّما هو اتّقاء ممّا عندنا من موجبات سخطه وغضبه ـ أعاذنا الله منه ـ وإلّا فلا شرّ عنده سبحانه يتّقى.

على أنّ ما يريده سبحانه لا دافع له ولا مانع ، فالتقوى في الحقيقة هي التقوى من المعصية والذنب وإن كان بحسب جليل النظر ، هو السيّء من الأعمال والأفعال لكنّه بحسب دقيق النظر ينحلّ إلى الغفلة عمّا يقتضيه أسماؤه وصفاته الجماليّة والجلاليّة ـ عزّت أسماؤه ـ وعدم الجري على ذلك وستره والكفر به ، فذكره سبحانه من غير نسيان هو الموجب أن لا يرى الإنسان لغيره تعالى وقعا ومكانة يميل به إليه ممّا تهواه النفس ويميل إليه الطبع الخسيس ، والشكر له عند ذلك ، أي وضع كلّ شيء في موضعه وحدّ وجوده من الفقر إلى الله ، والذلّة لله والقيام بالله.

فحقّ تقوى الله أن لا ينسى العبد مقام ربّه ويضع كلّ شيء موضعه الذي وضعه فيه ربّه.

__________________

(١). السجدة (٣٢) : ٧.

٢٦٢

ومن فروعه : أن لا يعصيه في أمر ولا نهي.

ولعلّه لذلك اضيفت «التقاة» إلى الضمير في قوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) ، ليفيد حقّ التقوى ويستوفي معناه.

ومن هناك يظهر أنّ المراد بالإسلام هو المرتبة العالية منه ، وهو أن يكون الإنسان بذاته مسلّما لله ، فالإسلام جلّ فائدته عند الموت والقيامة ، ولا يثبّت إلّا بالتقوى حقّ التقوى ليخلص به الباطن إلى الله كالظاهر (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (١) ، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). (٢)

وفي المعاني وتفسير العيّاشي عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله عزوجل : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)؟ قال : «يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر». (٣)

أقول : وروى مثله البرقي ، (٤) ومعناه ظاهر ممّا مرّ.

وفي تفسير العيّاشي عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)؟ قال : «منسوخة» ، قلت : وما نسختها؟ قال : قول الله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٥) (٦).

أقول : قد عرفت في ذيل قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) ، (٧) أنّ النسخ أعمّ ممّا هو

__________________

(١). الطارق (٨٦) : ٩.

(٢). الشعراء (٢٦) : ٨٨ ـ ٨٩.

(٣). معاني الأخبار : ٢٤٠ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٩٤ ، الحديث : ١٢٠.

(٤). المحاسن ١ : ٢٠٤ ، الحديث : ٥٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٦٤ ، الحديث : ٤.

(٥). التغابن (٦٤) : ١٦.

(٦). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٤ ، الحديث : ١٢١ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٩١ وفيه : «وما نسخها»

(٧). البقرة (٢) : ١٠٦.

٢٦٣

المصطلح عليه ، فتسهيل الحكم وتنزيله في منزل الإستطاعة والطاقة لمن لا يطيقه بحقيقته من النسخ ، حيث كان بيان المراتب لحكم ظهر ظهور ذي المرتبة الواحدة ، ولكنّ صحّة الخطاب ـ مع ذلك ـ يوجب أن يكون في المخاطبين من من شأنه أن يقوم به ويطيقه ، وإلّا لغى الخطاب.

وقد مرّ نظير الكلام في آخر سورة البقرة عند قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ). (١)

ويشهد لما ذكرناه ما عن ابن شهر آشوب ، عن تفسير وكيع ، عن عبد خير ، قال : سألت عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ عن قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)؟ قال : والله ما عمل بها غير بيت رسول الله ، نحن ذكرناه فلا ننساه ، ونحن شكرناه فلن نكفره ، ونحن أطعناه فلم نعصه ، فلمّا نزلت هذه الآية ، قال الصحابة : لا نطيق ذلك ، فأنزل الله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). (٢) (٣)

وفي المجمع ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «وأنتم مسلّمون» ـ بالتشديد ـ. (٤)

قوله سبحانه : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً)

في المعاني ، عن السجّاد ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «وحبل الله هو القرآن». (٥)

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٨٤.

(٢). التغابن (٦٤) : ١٦.

(٣). المناقب ٢ : ١٧٧ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٦٤ ، الحديث : ٢.

(٤). مجمع البيان ٢ : ٣٥٦ ؛ ومعناه مستسلمون لما أتى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ منقادون له ، [تفسير الصافي ٢ : ٩١ ـ ٩٢].

(٥). معاني الأخبار : ١٣٢ ، الحديث : ١.

٢٦٤

وفي المعاني أيضا ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «نحن الحبل». (١)

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «آل محمّد هم حبل الله الذي أمر بالإعتصام به». (٢)

وفيه ، عن الكاظم ـ عليه‌السلام ـ : «عليّ بن أبي طالب حبل الله المتين». (٣)

أقول : والجميع من الجري وقيل : الإسلام. (٤)

قوله سبحانه : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)

لمّا دعاهم إلى الجماعة وعدم التفرّق ـ وكان لا يتأتّى ذلك إلّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ أتبعها بهما.

وفي الكافي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أواجب هو على الامّة جميعا؟ فقال : «لا» ، فقيل : [له و] لم؟ قال : إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر ، لا على الضعفة الذين لا يهتدون (٥) سبيلا إلى أيّ من أيّ يقول : من الحقّ إلى الباطل ، والدليل على ذلك كتاب الله تعالى ، قوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، فهذا خاصّ غير عامّ ، كما قال الله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٦) ولم يقل : على امّة موسى ،

__________________

(١). لم نجده في معاني الأخبار ، ولكن روي في المناقب ٣ : ٧٥ ؛ الأمالي للطوسي : ٢٧٢ ، الحديث : ٥١٠ ؛ بحار الأنوار ٢٤ : ٥٢ و ٨٤ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٩٣.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٤ ، الحديث : ١٢٣ ، وفي بعض النسخ «أمرنا» بدل «أمر»

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٤ ، الحديث : ١٢٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٧٠ ، الحديث : ٦.

(٤). راجع : الأمالي للطوسي : ٦٥٤ ، الحديث : ١٣٥٤ ؛ بحار الأنوار ٢٤ : ٨٣ ؛ ٣٦ : ٢٠ ؛ التبيان ٢ : ٥٤٥.

(٥). في الكافي : «الضعيف الذي لا يهتدي»

(٦). الأعراف (٧) : ١٥٩.

٢٦٥

ولا : على كلّ قومه ـ وهم يومئذ امم مختلفة ـ ، والامّة واحد فصاعدا ، كما قال سبحانه : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) ، (١) يقول : مطيعا لله ، وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج ، إذا كان لا قوّة له ولا عدد ولا طاقة. (٢)

أقول : قوله : «يقول من الحقّ إلى الباطل» ، من كلام الراوي ، يفسّر به قوله ـ عليه‌السلام ـ : «من أيّ إلى أيّ» انتهى.

ويستفاد من الرواية كونه واجبا كفائيّا مع شرائطه.

وفي تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «فهذه الآية لآل محمّد ومن تابعهم ، (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)». (٣)

أقول : وذلك لانحصار كمال الشرائط فيهم.

وفي المجمع يروي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «ولتكن منكم أئمّة ، وكنتم خير أئمّة اخرجت للناس». (٤)

أقول : ومن المحتمل أن تكون رواية هذه القراءة عنه عليه‌السلام اشتباها ناشئا من النقل بالمعنى ، وربّما أيّد ذلك الروايتان السابقتان ، وسيجيء تتمّة الكلام عند قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

وفي التهذيب عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت

__________________

(١). النحل (١٦) : ١٢٠.

(٢). الكافي ٥ : ٥٩ ـ ٦٠ ، الحديث : ١٦ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٩٤. والهدنة : الصلح ، والمراد منها زمان الصلح مع أهل البغى.

(٣). تفسير القمي ١ : ١٠٩.

(٤). مجمع البيان ٢ : ٣٥٨ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٩٥ ، الحديث : ١٢٨ ؛ بحار الأنوار ٢٤ : ١٥٣ ، الحديث : ١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٧٤ ، الحديث : ٤.

٢٦٦

منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء». (١)

وفي الكافي عن محمّد بن عرفة ، قال : سمعت أبا الحسن ـ عليه‌السلام ـ يقول : «لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهنّ عن المنكر ، أو ليستعملنّ عليكم شراركم [على خياركم] ، (٢) فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم». (٣)

أقول : والأخبار في هذه المعاني كثيرة. (٤)

وبيان المقام أنّ كلّ هيئة اجتماعيّة لا تتمّ إلّا بوحدة ما بين أعضائها وأجزائها ، حتّى يستحفظ بها منافعهم ويدفع بها مضارّهم والآفات المتوجّهة إليهم ، ولا تتمّ هذه الوحدة إلّا بوحدة المجتمعين من حيث الغرض والهدف ، بأن يذعن كلّ جزء من أجزاء الاجتماع ـ وهي الأفراد ـ [بأنّ] منافع غيره منافع لنفسه ، وقد احتال كلّ اجتماع لحفظ هذه الوحدة بحيل مختلفة ناقصة أو تامّة ، ربما عمّرت طويلا أو قصيرا ، ومع ذلك فحيث كان الغرض المؤلّف بينهم غرضا دنيويّا وهدفا جسمانيّا يقبل الاستكمال بمرور الدهور وتراكم التجارب

__________________

(١). تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢ ، ١٨١.

(٢). ليس في الاصل.

(٣). الكافي ٥ : ٥٦ ، الحديث : ٢.

(٤). راجع : الكافي ٥ : ٥٥ ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ تهذيب الأحكام ٦ : ١٧٦ ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ وسائل الشيعة ١٦ : ١١٥ ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ مستدرك الوسائل ١٢ : ١٧٥ ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ بحار الأنوار ٩٧ : ٦٨ ، أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ مصباح الشريعة : ١٨ ، الباب السابع : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ غرر الحكم : ٣٣١ ، الفصل الثاني في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ روضة الواعظين ٢ : ٣٦٤ ، مجلس في ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ الجعفريات : ٨٨ ، باب من له أن يأمر بالمعروف ... وغيرها.

٢٦٧

وتكامل العلوم ، كان كلّ اجتماع متكوّن بين الناس ـ حتّى الإجتماعات المحكمة البنيان ـ في معرض الانهدام ، سائرة نحو الفناء والزوال ، يشهد بذلك التاريخ وما اعتورته الأيّام من أحوال الامم.

لكنّ الإسلام حيث جعل الغاية في الاجتماع الديني هو الله سبحانه كما قال : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ، (١) وهو سبحانه هدف ثابت ، غير متغيّر ولا هالك ، طاهر من شوب النقائص والعيوب ، قال تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ، (٢) وقال : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، (٣) والإنسان إذا اتّبع غرضا له يريد أن يحصّله كان من الواجب في الطبيعة أن يكون عنده من العلم ما يميّز به غرضه عن غيره ، وما يصلحه وما يفسده ، ومن القوّة العاملة ما يحرّكه إليه وما يصرفه عن خلافه ، والصناعة والاعتبار تتشبّه بالطبيعة ، كان من الواجب أن يكون في الاجتماع علم بالغرض الاجتماعي مبثوث على جميع أجزائه ، وقوّة عاملة تبعث الهيئة إلى الواجب من غرضه ، وتصرفها عن ما يضرّه ويفسده.

وهذان في عرصة الاجتماع الديني ، علم الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما قال سبحانه : (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

ومن هنا يظهر أنّ هذين الأمرين أهمّ الواجبات النوعيّة من بين جميعها ؛ إذ هما الركنان الحافظان لبنيان الاجتماع الديني ، ومع اختلال أحدهما يختلّ

__________________

(١). يوسف (١٢) : ١٠٨.

(٢). النحل (١٦) : ٩٦.

(٣). العنكبوت (٢٩) : ٦٤.

٢٦٨

باختلاله الآخر ـ أيضا ـ ولا محالة تفسد الجماعة.

على أنّ الغاية هناك ، أمر وراء الطبيعة مخالف لهوى النفوس وملاذّها ، والنفوس في السجيّة الحيوانيّة بالفعل ، وبالنسبة إلى السجايا الإنسانيّة الربّانيّة بالقوّة ، فلو لا الإمداد لما حصّلتها من الكمال من تقوية المعارف وسدّ باب الخلل ، عادت إلى حيوانيّتها بأدنى غفلة ، فضلا عن تراكم الجهالة وظلمات المسامحة والمداهنة ، وأقوى ما يصدّق ذلك ما آل إليه أمر الدين في هذه الأزمنة من خلوّ العرصة وتراكم الظلمة ، ولا بيان كالعيان.

وفي الكافي والتهذيب ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ، ـ قال : «يكون في آخر الزمان قوم ينبغ (١) فيهم قوم مراؤون ، يتقرّؤون ويتنسّكون ، حدثاء سفهاء ، لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر ، إلّا إذا آمنوا الضرر ، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير ، يتبعون (٢) زلّات العلماء وفساد علمهم ، يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلّمهم (٣) في نفس ولا مال ، ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها ، إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض ، هنالك يتمّ غضب الله عليهم فيعمّهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الفجّار ، والصغار في دار الكبار ، إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين ، (٤) فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب

__________________

(١). في المصدر : «يتبع» وفي الأصل : «ينبغ» اي يخرج ويظهر.

(٢). في المصدر : «يبتغون» [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٣). الكلم : الجرح ، اي لا يضرّهم.

(٤). في الكافي : «الصلحاء»

٢٦٩

وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر ، فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم (١) الحديث.

قوله سبحانه : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا)

خطابه تعالى في لحن الإصرار والتأكيد بعد الخصوصيّات يدلّ على أهميّة الكلمة ووقوع المحذور لا محالة ، ونظائره في كلامه تعالى كثيرة ، كقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) ، (٢) وقوله : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، (٣) وقوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ) ، (٤) وغير ذلك.

وعن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فيما رواه الفريقان. (٥)

وعن تفسير الثعلبي ، عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : «والذي نفسي بيده ، ليردنّ عليّ الحوض ممّن صحبني أقوام حتّى إذا رأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولنّ : اصيحابي اصيحابي ، فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى». (٦)

__________________

(١). الكافي ٥ : ٥٥ ـ ٥٦ ، الحديث : ١ ؛ تهذيب الأحكام ٦ : ١٨٠ ـ ١٨١ ، الحديث : ٢١.

(٢). البقرة (٢) : ٢١٠.

(٣). الشورى (٤٢) : ٢٣.

(٤). الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

(٥). فى الأصل هنا بياض.

(٦). تفسير الثعلبي ٣ : ١٢٦ ؛ تفسير الصافي ١ : ٣٦٩ ؛ مجمع البيان ٢ : ٣٦٠ ؛ مسند أحمد ٥ : ٤٨ ؛ سنن الترمذي ٤ : ٣٩ ، الحديث : ٢٥٣٩ ؛ الدر المنثور ٢ : ٣٤٩.

٢٧٠

قوله سبحانه : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ)

في المجمع ، عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «هم أهل البدع والأهواء [والآراء الباطلة] (١) من هذه الامّة». (٢)

أقول : معناه واضح ممّا مرّ ، فالكلام في هذه الامّة.

قوله سبحانه : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)

في تفسير العيّاشي عن أبي عمرو الزبيري ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «يعني الامّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، فهم الامّة التي بعث الله فيها ومنها وإليها ، وهم الامّة الوسطى ، وهم خير امّة اخرجت للناس». (٣)

أقول : وهو لا ينافي توجيه الخطاب إلى العموم ، بل هو السبيل في الكلام كما مرّ في نظائره ، والرواية تؤيّد أنّ المراد ممّا ورد في قراءتهم «خير أئمّة اخرجت» (٤) هو التنزيل ، أعني : المراد دون قراءة اللفظ ، وإن كانت بعض الروايات الواردة آبية عنه ، لكنّها ضعيفة.

*

__________________

(١). ساقط عن المصدر المطبوع ولكن رواه الفيض في تفسير الصافي ٢ : ٩٨ عن مجمع البيان.

(٢). مجمع البيان ٢ : ٣٦٠.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٥ ، الحديث : ١٣٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٧٦ ، الحديث : ٤.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٥ ، الحديث : ١٢٨.

٢٧١

[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ

٢٧٢

تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)]

قوله سبحانه : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)

على تقدير المتعلّق ـ أي : معتصمين بحبل ، ـ وهو العهد والذمّة ، وهو الجزية على ما فسّروه. (١)

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الحبل من الله : كتاب الله ، والحبل من الناس : عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ». (٢)

أقول : وروى القمّي في تفسيره وابن شهر آشوب ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ مثله (٣) وهو وإن كان بعيدا في الظاهر عن السياق غير أنّ الآيات في مقام دعوة المسلمين إلى الوحدة وعدم التفرّق وأن لا يكونوا كأهل الكتاب في تفرّقهم واختلافهم ، فيبتلوا بما ابتلي به أهل الكتاب من العذاب العظيم وإسوداد الوجه يوم القيامة ، وضرب الذلّة والمسكنة بكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، وعند ذلك يتمّ معنى الحديث : «فأوّل ما كفرت به الامّة كتاب الله ، وأوّل ما اختلفت

__________________

(١). راجع : تفسير ابن كثير ١ : ٤٠٥ ؛ تفسير الجلالين : ٨١.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٦ ، الحديث : ١٣١.

(٣). لم نجده في تفسير القمي المطبوع ولكن رواه السيد البحراني في البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٤٧٦ عن تفسير القمي ؛ تفسير الصافي ٢ : ١٠٢ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ١٩٦ ، الحديث : ١٣١ ؛ المناقب ٣ : ٧٥ ؛ تفسير فرات : ٩٣ ؛ الحديث : ٩٢ ـ ٧٦ ؛ تأويل الآيات : ١٢٧.

٢٧٣

فيه وتفرّقت هو الإمامة ، فهم متقلّبون في ما تقلّبت فيه أهل الكتاب من بلايا الدنيا والآخرة حتّى يرجعوا إلى ما رفضوه كأهل الكتاب» ، وحينئذ فهو من الجري ، وليس بالتفسير ولا بالتأويل ، وهو ظاهر.

قوله سبحانه : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)

في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم ، ولكنّهم سمعوا أحاديثهم (١) فأذاعوها فاخذوا عليها فقتلوا ، فصار قتلا واعتداء ومعصية». (٢)

أقول : وروى مثله في الكافي والمحاسن ، (٣) فقوله (ذلِكَ) ، ثانيا تعليل وبيان لقوله : (ذلِكَ) ، أوّلا ، فالمعنى أنّهم استوجبوا هذه السخطات بكفرهم وقتلهم الأنبياء ، وإنّما لزمتهم الكفر والقتل بعصيانهم وإصرارهم في الاعتداء إذ لم يسمعوا من أنبيائهم فعصوا وأفشوا أسرارهم.

ومن هنا يظهر الوجه في تكرّر التعليل ، ويظهر أيضا وجه تقييد قتلهم الأنبياء بكونه بغير حقّ ؛ إذ لو كان قتلا بالمباشرة ـ ولا يكون إلّا بغير حقّ ـ كان التقييد لغوا زائدا.

قوله سبحانه : (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ)

في العلل ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّ المؤمن مكفّر وذلك أنّ معروفه يصعد

__________________

(١). في المصدر : «ما ضربوهم بأيديهم ولا قتلوهم بأسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم واسرارهم» وما في المتن مطابق لرواية الكافي.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ١٩٦ ، الحديث : ١٣٢.

(٣). الكافي ٢ : ٣٧١ ، الحديث : ٦ ؛ المحاسن ١ : ٢٥٦ ، الحديث : ٢٩١.

٢٧٤

إلى الله فلا ينتشر في الناس ، والكافر مشكور وذلك أنّ معروفه للناس ينتشر في الناس ولا يصعد إلى الله. (١)

قوله سبحانه : (رِيحٍ فِيها صِرٌّ)

الصرّ : هو البرد الشديد ، والبطانة : باطن الثوب ، شبّه به الوليجة لاطّلاعه على السرّ المستور.

وقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ)

أي لا يقصّرون فيكم والخبال : الفساد.

وقوله : (ما عَنِتُّمْ)

أي عنتكم ، وهو شدّة الضرر.

*

__________________

(١). علل الشرائع ٢ : ٥٦٠ ، الحديث : ١ ، وفيه : «إلى السماء» ؛ تفسير الصافي ٢ : ١٠٤.

٢٧٥

[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)]

قوله سبحانه : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ)

نزلت الآيات في غزوة احد ـ كما روي عن الصادق عليه‌السلام (١) ـ وهي نيّف

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١١٠ ؛ جوامع الجامع ١ : ٣٢٢ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٢١٨ ؛ جامع البيان ٤ : ٩٢ ؛ ـ

٢٧٦

وستّون آية ، غير عدّة آيات معترضة فيها ، وهي تبتدئ من قوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ) ، أو هي تبتدئ من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا) قبل ثلاث آيات ، أو من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، قبل خمس آيات ، وهذه الغزوة إحدى الغزوات الكبرى في الإسلام.

وفي المجمع عن القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «سبب غزوة احد أنّ قريشا لمّا رجعت من بدر إلى مكّة ـ وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر ؛ لأنّه قتل منهم سبعون ، واسر منهم سبعون ـ قال أبو سفيان : يا معشر قريش ، لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم ، فإنّ الدمع إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمّد».

فلمّا غزوا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يوم احد أذنوا لنسائهم بالبكاء والنوح وخرجوا من مكّة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل وأخرجوا معهم النساء.

فلمّا بلغ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ذلك ، جمع أصحابه وحثّهم على الجهاد ، فقال عبد الله بن أبيّ (١) : يا رسول الله لا تخرج (٢) من المدينة حتّى نقاتل في أزقّتها فيقاتل الرجل الضعيف والمرأة والعبد والأمة على أفواه السكك وعلى السطوح ، فما أرادنا قوم قطّ فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا ، وما خرجنا على عدوّ لنا قطّ إلّا كان لهم الظفر علينا.

فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقال (٣) : يا رسول الله! ما طمع فينا أحد

__________________

ـ أسباب نزول الآيات : ٧٩.

(١). في المصدر : «أبي سلول»

(٢). في المصدر : «نخرج»

(٣). في المصدر : «فقالوا»

٢٧٧

من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام ، فكيف يظفرون بنا وأنت فينا؟ لا ، حتّى نخرج إليهم ونقاتلهم ، فمن قتل منّا كان شهيدا ، ومن نجا منّا كان مجاهدا في سبيل الله.

فقبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ رأيه وخرج مع نفر من أصحابه يتبوّءون موضع القتال ـ كما قال سبحانه : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) ـ وقعد عنه عبد الله بن ابيّ (١) وجماعة من الخزرج اتّبعوا رأيه.

ووافت قريش إلى احد وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عبّأ أصحابه ـ وكانوا سبعمائة رجل ـ فوضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب ، وأشفق أن يأتيهم كمينهم من ذلك المكان ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لعبد الله بن جبير وأصحابه : «إن رأيتمونا قد هزمناهم حتّى أدخلناهم مكّة فلا تبرحوا من هذا المكان ، وإن رأيتموهم قد هزمونا حتّى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم».

ووضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا وقال له : إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتّى تكونوا وراءهم.

وعبّأ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أصحابه ودفع الراية إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، فحمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة ، ووقع أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في سوادهم.

وانحطّ خالد بن الوليد في مائتي فارس على عبد الله بن جبير فاستقبلوهم بالسهام ، فرجع.

__________________

(١). في المصدر : «أبي سلول»

٢٧٨

ونظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ينتهبون سواد القوم ، فقالوا لعبد الله بن جبير : قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة ، فقال لهم عبد الله : اتّقوا الله ، فإنّ رسول الله قد تقدّم إلينا أن لا نبرح ، فلم يقبلوا منه ، وأقبل ينسلّ رجل فرجل حتّى أخلوا مراكزهم. وبقي عبد الله بن جبير في اثني عشر رجلا.

وكانت رأية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي (١) من بني عبد الدار ، فقتله عليّ ـ عليه‌السلام ـ ، فأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله عليّ ـ عليه‌السلام ـ ، فسقطت الراية ، فأخذها مسافح (٢) بن طلحة ، فقتله ، حتّى قتل تسعة [نفر] من بني عبد الدار حتّى صار لواءهم إلى عبد لهم أسود يقال له : صواب ، فانتهى إليه عليّ ـ عليه‌السلام ـ فقطع يده [اليمنى] ، فأخذ الراية (٣) باليسرى ، فضرب يسراه فقطعها ، فاعتنقها بالجذماوين (٤) إلى صدره ، ثمّ التفت إلى أبي سفيان ، فقال : هل أعذرت في بني عبد الدار الراية (٥)؟ فضربه عليّ ـ عليه‌السلام ـ على رأسه فقتله فسقط اللواء ، فأخذتها عمرة بنت علقمة الكنانيّة فرفعتها.

وانحطّ خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير وقد فرّ أصحابه وبقي في نفر قليل ، فقتلهم على باب الشعب ، ثمّ أتى المسلمين من أدبارهم.

__________________

(١). في الأصل : «العبدري» ، ولكن في تفسير القمي : «العدوي» ، وفي المصدر والميزان في تفسير القرآن وتفسير الصافي : «العبدي» ، والصحيح : «العبدري» كما صرّح به السمعاني في الأنساب ٨ : ٣٤٨ ، حيث قال : «العبدري» بفتح العين وسكون الباء وفتح الدال ، هذه النسبة الى «عبد الدار» وقد صرّح في الرواية أنّ طلحة هذا من بني عبد الدار.

(٢). في الأصل وبعض النسخ تفسير القمي : «مسافح» ، وفي المصدر وتفسير الصافي : «مسافع»

(٣). في المصدر : «اللواء»

(٤). وهما اليدان المقطوعتان ، [«منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٥). في المصدر : ـ «الراية»

٢٧٩

ونظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها ، وانهزم أصحاب رسول الله هزيمة عظيمة وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كلّ وجه.

فلمّا رأى رسول الله الهزيمة كشف البيضة عن رأسه وقال : إليّ أنا رسول الله ، إلى أين تفرّون ، عن الله وعن رسوله؟

وكانت هند بنت عتبة في وسط العسكر ، وكلّما انهزم رجل من قريش رفعت (١) إليه ميلا ومكحلة وقالت : إنّما أنت امرأة فاكتحل بهذا.

وكان حمزة بن عبد المطّلب يحمل على القوم ، فإذا رأوه انهزموا ولم يثبت له أحد ، وكانت هند [قد] أعطت وحشيّا عهدا : لئن قتلت محمّدا أو عليّا أو حمزة ، لأعطينّك كذا وكذا ، وكان وحشيّ عبدا لجبير بن مطعم حبشيّا ، فقال وحشيّ : أمّا محمّد فلا أقدر عليه ، وأمّا عليّ فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه ، فكمن لحمزة ، قال : فرأيته يهزّ الناس هزّا ، فمرّ بي فوطئ على جرف نهر فسقط ، فأخذت حربتي فهززتها ورميته [بها] فوقعت في خاصرته وخرجت من ثنّته (٢) ، فسقط فأتيته فشققت بطنه فأخذت كبده وجئت به إلى هند ، فقلت : هذه كبد حمزة ، فأخذتها في فمها فلاكتها فجعلها الله في فمها مثل الداعضة ، (٣) ـ وهي عظم رأس الركبة ـ فلفظتها ورمت بها. قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : فبعث الله ملكا فحمله وردّه إلى موضعه. قال : فجاءت إليه فقطعت مذاكيره وقطعت اذنيه وقطعت يده ورجله.

__________________

(١). في المصدر : «دفعت»

(٢). الثنّة بالضم : «العانة».

(٣). في الاصل والمصدر : «الداعضة» ، وفي تفسير القمي والصافي : «الداغصة» ، وهو الصحيح ، وهو عظم مدور يديص ويموج فوق رضف الركبة. [لسان العرب ٤ : ٣٦٥].

٢٨٠