تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

انفعالات الناس وعاطفتهم ، لإسقاطه في ساحة الصراع .. كما يفعل كثير من المترفين المتكبرين المتجبرين عند ما يثيرون المعارك الكلامية أمام دعوات التغيير والإصلاح ، ليشغلوا الدعاة إليها بالقضايا الجانبية التي تبتعد بالموقف عن القضايا الأصليّة ، ولكن الله يؤكد أنهم لن يصلوا إلى ما يريدون ، لأن الكبر ليس حالة فكر ، بل هو حالة انفعال لا تلبث أن تتبخر أمام الحقيقة الحاسمة التي تفرض نفسها بالأدلّة القاطعة الواضحة ، وهكذا يتحركون في نهج استكباريّ نحو هدف (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) فإن الله يبطل كل كيدهم ومكرهم ، ويوجّه النبي إلى الاستعاذة بالله من كل ذلك. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الذي يسمع ما يتحدثون به من نجاوى الشرّ ، ويبصر حركة تنفيذ مخططاتهم العدوانية.

* * *

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) فالناس يمثلون إحدى ظواهر هذا الكون الكبير ، المتمثل بالسماوات التي تضمّ ملايين الكواكب وملايين الظواهر داخل كل كوكب في ما يعجز الفكر عن الوصول إليه فضلا عن أسراره ، والمتمثل بالأرض التي تضمّ مختلف الظواهر في طبيعتها وفي القوى المودعة في أعماقها ، وفي الموجودات المتحركة في داخلها ، مما لا يدركه العقل ولا يستوعبه الحسّ ، فلا يصل إلا إلى القليل منه .. فإذا كان الله قد خلق السماوات والأرض ، فهل يعجزه خلق الإنسان من جديد ، وإعادته إلى الحياة بعد الموت ، إنها الحقيقة التي يهتدي إليها الناس بتفكيرهم المستقيم الذي يقودهم إلى الإيمان ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لأنهم لا يريدون الأخذ بأسباب العلم ليدركوا الحقيقة من خلال ذلك.

* * *

٦١

لا سواء بين الإيمان والكفر

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) لأن العمى يمثل انغلاق الحسّ عن الحياة من حوله ، بينما يمثل البصر انفتاح الحسّ على المرئيات كلها ، وإذا كنا نعرف أن العمى في الحسّ قد يوحي بالعمى في العقل ، كما أن البصر الحسيّ يوحي بالبصر المعنوي .. فإن من الممكن أن نحرك هذين النموذجين في الإنسان المنفتح بالعلم على الواقع والفكر ، في مقابل الإنسان المنغلق بالجهل عن حقائق الحياة وأسرار الإيمان ، لنعرف بالبداهة أنهما لا يستويان.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الذين يمثلون عنصر الخير والصلاح والتقوى ، الذي يبني للحياة قوّتها ، وللإنسان روحيته وفاعليته في حركة الحقيقة ، (وَلَا الْمُسِيءُ) الذي يسيء إلى نفسه بالكفر والمعصية ، وإلى الحياة بالانحراف والضلال ، وإلى الناس من حوله بالتعقيد والظلم والطغيان. (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) عند ما لا تفرّقون بين هؤلاء لأنكم غارقون في انجذابكم إلى ظواهر الأشياء ، ممّا يجعلكم غافلين عن بواطنها وحقائقها ، ولكن هذه الغفلة لن تستمر أمام المصير الحاسم الذي تتكشف فيه كل غوامض الأمور. (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) وسيقف الجميع غدا في ساحاتها أمام الله الواحد ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) لأنهم لا يريدون أن يفكروا بالقضايا في خط اليقين.

* * *

(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فالدعاء يمثل في عمقه عبادة ، ويتضمن في معناه خضوعا وشعورا بالفقر المطلق والحاجة الكبيرة إلى الله ،

٦٢

مما يجعل الداعي مشدودا إلى الله بالحب والإيمان والإخلاص من موقع الطهارة الروحية والانفتاح الفعلي على الله ، ولهذا كانت الاستجابة أمرا طبيعيا في ما يرحم الله به عباده ، وفي ما يتقبله من عبادتهم الخالصة الخاشعة ، وهذا هو الخط المستمر الذي يصل الله بعباده ويؤكد وعي الإنسان معنى ألوهية الله وعلاقتها بعبوديته ، في إحساس بالفقر المطلق ، أمام الغنى المطلق حيث يرتبط العبد بربه من خلال ارتباط وجوده وكل حاجاته به. وبذلك يؤمن الله للعباد حاجاتهم من خلال ما يقدّره لهم في تكوين الوجود ، وما لهم في إرادتهم.

.. وإذا كان الدعاء هو مظهر العبادة ، فإن الذين يمتنعون عنه يمثلون النموذج الذي يستكبر عن عبادة الله ، وقد حدثنا الله عما ينتظرهم (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أذلّة ، لأن الاستكبار لا بد من أن يقابله الإذلال والسقوط والاحتقار.

* * *

الله الخالق المنعم

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في تخطيطه العملي لحركة الإنسان في الوجود حيث يحتاج إلى السكينة التي تريح الأعصاب ، والهدوء الذي تسكن معه المشاعر وترتاح الأفكار ، مما يتناسب مع أجواء الظلام التي تثير في الجسد النعاس والخدر والسكون (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) حيث يفتح به عيون الناس على كل حاجاتهم من خلال النور الذي تتفاعل فيه الشمس مع البصر ليستطيعوا الحصول على ما يريدون في معاشهم ، (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) في ما أنعم الله به عليهم من مفردات الوجود ومن طبيعة الحركة في داخلها ، مما يوحي للناس بالشكر لله على هذه النعم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) لأنهم فقدوا الإحساس بالنعم المحيطة بهم ، لاعتيادهم على كل الأشياء التي تحرّكت في الكون منذ أن تحركت الحياة فيه.

٦٣

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فلا شريك في خلقه ، لأن كل من عداه هو مخلوق له (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا يستحق العبادة غيره (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي كيف تنصرفون عن طاعته إلى طاعة غيره ، وعن عبادته إلى عبادة سواه؟!

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) لأن غفلتهم عن الله المتمثلة في جحودهم وعدم إيمانهم يدفعهم إلى الاستغراق في مخلوقاته بدلا منه ، والانصراف عنه إلى غيره.

* * *

٦٤

الآيات

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦٨)

* * *

معاني المفردات

(قَراراً) : مستقرّا.

(فَتَبارَكَ) : تقدّس وتعالى.

٦٥

(عَلَقَةٍ) : العلقة : قطعة من الدم.

* * *

عقيدة الوحدانية في القرآن

حديث القرآن عن الله ، حديث متنوّع في أسلوبه ومفرداته ، غايته جعل العقيدة في وعي الإنسان متنوعة على الكون الممتدّ الذي يستوعب قضاياه في حاجاته الوجوديّة ، وفي حركته الروحية ، لئلا تبقى معادلة تجريديّة في الفكر ، بل تصبح إلى جانب ذلك ، حركة منفتحة على الحياة ، تتحرك مع الإنسان فتتحرك معها كل آفاق الحياة المحيطة به ، والمتصلة بوجوده ، وتغدو طعامه وشرابه الذي يتناوله في كل يوم ، من خلال ما يعيشه في كل لحظة .. وبذلك تكون علاقة الإنسان بالله جزءا من تكوينه الذاتي الذي لا ينفصل عنه ، في أي من الأوضاع الطارئة في حياته.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) تستقرون فيه ويؤمن استقرار حياتكم بطريقة مريحة متوازنة ، (وَالسَّماءَ بِناءً) تستظلون فيه (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) في ما يوحي به ذلك من جمال المنظر ، ودقّة الأجهزة ، وتنوّع المهمات التي تؤديها ، مما يجعل الإنسان عنصرا فاعلا قادرا على إدارة شؤون الكون كله في الحدود التي أعدّه الله له.

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) التي تستلذونها وتستمتعون بها ، وتستطيبونها ، وتحصلون على القوّة الجسدية التي تؤمن استمرار حياتكم. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) الذي يربّيكم ويدبر أموركم ، ويحيطكم برعايته ، ويتعهدكم باللطف والرحمة والخير العميم ، (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) وتقدّس وتعالى في ربوبيته المطلقة التي تشمل العوالم كلها بالرعاية والتدبير ، في نظام الوجود وحركته ، (هُوَ الْحَيُ) الذي لا يقترب الموت منه ، مما يعطي الحياة معنى مطلقا في ذاته لم يسبقه عدم ولا يقترب منه العدم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وحده

٦٦

المستحق للعبادة ، من خلال المضمون الإلهيّ المتمثل في ذاته في ذاته في علّيّته للوجود كلّه ، وفي هيمنته على الأمر كله ، وفي تدبيره للحياة كلها ، فكيف يتوجه الناس إلى غيره في حاجاتهم وفي قضاياهم ومشاكلهم .. وكل ما سواه محتاج إليه في تدبير حاجاته وفي حل قضاياه ومشاكله ، كما هم مشدودون إليه (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ليكون الاتجاه إليه ـ وحده ـ بالدعاء الذي هو مظهر الشعور بالحاجة والإحساس بالانتماء إليه وإلى نهجه في الفكر والحركة والحياة ، والإخلاص له في ذلك كله. وهو معنى العبادة الخالصة.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وهي الكلمة التي تعبر عن الجوّ الروحي الذي يعيشه المؤمن في تطلّعه إلى قدرة الله وتدبيره ولطفه ورحمته ، وكل صفاته ، فلا يملك إلا أن يذكره بالحمد المطلق الذي يستوعب كل مفردات الحمد ، ويتصوره في ربوبيته المطلقة التي تشمل العالمين جميعا من موقع خلقها لهم جميعا.

* * *

إسلام الأمور لرب العالمين

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) قلها لهم بكل وضوح وصراحة ، لتكون الكلمة الحاسمة ، فقد أنزل الله عليّ البراهين اليقينيّة الواضحة التي تضع كل هذه الآلهة المزعومة في موقعها الطبيعي من حيث هي مخلوقة لله بمادتها وصورتها ، أو مخلوقة له بمادتها ومصنوعة للناس بصورتها ، فلا تملك أيّ معنى من معاني الألوهية ، ولا تتضمن أيّ سرّ من أسرار القدرة ، فلا يمكن أن أعبدها ، لأن العقل نهى عن ذلك ، كما أن الله الذي أكّد ألوهيته بهدايته لي ينهاني عن عبادة هؤلاء.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) في إسلام العقل والروح والجسد ، فلا فكر لي أمام وحيه ، ولا كلمة لي أمام إرادته ، ولا انتماء لي وراء الانتماء إليه ، فله كل شيء من كل كياني ، وليس لي عليه أيّ شيء.

* * *

٦٧

تجلّي القدرة الإلهية في رحلة الخلق

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) هذه الرحلة المتحركة المتطورة للحياة الكامنة في التراب في خلق آدم ، أو في موقع القابلية الوجودية الحيّة المودعة في حبّاته التي تتحول إلى نبات فغذاء فنطفة تختزن الحياة في ذراتها ثم تنمو في العلقة .. ثم تمرّ في تطوّر حي .. لتتحول إلى طفل يتكامل في الرحم ثم يخرج إلى الحياة لتستمر عملية النموّ التي تصل إلى قوّة الشباب وريعانه ، ثم تبدأ في التنازل لتصل إلى مرحلة الشيخوخة بما تمثله من ضعف في كل طاقات الجسد.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي قبل أن يكمل هذه المراحل (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) وهو الأمد المحدد الذي قدّره الله وجعله حتميّا لنهاية كل الناس.

(وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فتدركون ، بالعقل ، حقائق الأشياء وتتحركون ، من خلال ذلك ، في الاتجاه الصحيح الذي ينفتح على الله وعلى رسله.

* * *

إرادة الإله المطلقة ..

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فهو الذي يخلق أسباب الحياة التي حركت الكون كله ، وهو الذي أودع في الحيّ سرّ الموت ، وجعل عمقه الداخلي محكوما لعوامل الموت في كل أجهزة الجسم الحيّ ..

(فَإِذا قَضى أَمْراً) وأراده وحتمه ، فإنه لا يحتاج إلى أيّ جهد أو عناء لإيجاده ، بل تكفي إرادته لتحقيق وجوده.

(فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وهي الكلمة التي تعني الحسم. وتفرض الوجود.

* * *

٦٨

الآيات

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٧٨)

* * *

٦٩

معاني المفردات

(يُسْحَبُونَ) : يجرّون.

(الْحَمِيمِ) : الماء الحار.

(يُسْجَرُونَ) : يحرقون.

(تَمْرَحُونَ) : المرح : شدة الفرح والتوسع به.

* * *

المجادلون بغير الحق واللعب على المشاعر

.. ويعود الحديث إلى المجادلين في آيات الله ، المتعنّتين في كلامهم ، الجامدين في عقولهم ، المتمردين في مواقفهم ، المنحرفين في طريقهم ، لأن مشكلتهم هي أنهم يقفون حاجزا بين الرسالة وبين الناس الآخرين ، فيكذبونها من دون حق ، ويدفعون الآخرين إلى التكذيب بها من دون أساس ، باعتماد أساليب الترغيب والترهيب ، واللعب على المشاعر ، والالتفات على العواطف والغرائز ، وينطلق الحديث عن الأجيال الماضية التي عاشت انحراف هؤلاء وشاركتهم فيه ، وعن الأنبياء الماضين الذين عاشوا هذه الصدمة في حركة رسالتهم ، وعن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما كان يعيشه من ذلك ، وكيف أراد الله للرسل جميعا ، وللرسول بالخصوص ، أن يصبروا ، وينتظروا النصر في نهايات الأمور ، إذا هاجمتهم المشاكل في بداياتها ، وعن مصير هؤلاء في الآخرة في جهنم حيث يذوقون العذاب والذلّ والاحتقار.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) فيخوضون الأحاديث الخالية من مضمون فكريّ التي تنكر التوحيد والبعث وكثيرا من حقائق الشريعة والإيمان

٧٠

بغير علم ، (أَنَّى يُصْرَفُونَ) عن الحق ، ويبتعدون عن دلائله وبراهينه ، فلا يدرسونها من موقع الفكر الباحث عن الحقيقة ، بل يتحركون فيها من موقع الجدل العقيم الباحث عن أسس المكابرة.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) الذي أنزلناه عليك ليكون هدى للناس ، ونورا للحقيقة ، (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من الكتب المنزلة الماضية ، كالتوراة والإنجيل ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عند ما يقفون بين يدي الله ، ويواجهون الحقيقة الحاسمة ، أمام المصير المحتوم ، (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) في ما يمثله ذلك من ذلّ ومن ألم لهؤلاء المترفين المستكبرين ، (وَالسَّلاسِلُ) الممتدة (يُسْحَبُونَ) بواسطتها (فِي الْحَمِيمِ) الذي يغلي ويغلي فيشربه أهل النار ويحرق داخلهم ، (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) فيكونون وقودا للنار يحترقون بها .. وهكذا يواجهون السقوط والإذلال والاحتراق من دون ناصر ينصرهم أو مخلّص يخلّصهم. ثم ينطلق السؤال الذي يفرض نفسه في موقف تعرية لنهجهم كله.

* * *

أين شركاؤكم من دون الله؟

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ليأتوا إليكم ولينصروكم من الله إن كانوا في مواقع الآلهة ، كما كنتم تزعمون؟ فمن الطبيعي أن تنصر الآلهة عبّادها ، إذا كانت تملك قوّة مستقلّة ، أو تشفع لها إذا كانت تملك موقعا مميزا يسمح لها بالشفاعة عند الله.

(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) فقد ضاعت آثارهم ، فلا نراهم أمامنا ، (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) فقد تبخّروا وتحوّلوا إلى لا شيء ، لقد كانوا أوهاما تسيطر على أفكارنا ، لا حقيقة متجذرة في عقولنا ، فليس لهم الآن أيّ وجود في الواقع.

٧١

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) في ما ينتهي إليه أمرهم الذي اختاروه ، مما يفرض ضلالهم ، نتيجة العلاقة التكوينية بين الأسباب والمسبّبات ، وعلاقة المواقف بالنتائج ، فإن الابتعاد عن حركة العقل في العقيدة ، والاستسلام للجهل ، يفرضان ضياع الموقف وخطّ السير.

* * *

فرحهم بالباطل

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) فقد كنتم مستغرقين في الأجواء التي تسجنكم في داخل الغفلة ، فتبعدكم عن الإحساس بالواقع ، وتدخلكم في أوهام الفرح اللّاهي الذي يوهمكم أن الأرض مهتزة بالأنغام والألحان المثيرة للسرور والبهجة ، نتيجة مواقفكم التي توحي إليكم بالانتصار والغلبة والسلطة المطلقة في ما يخدع به بعضكم بعضا ، من كلمات المدح والثناء ، ومواقف الاستكبار والاستعلاء ..

وهذه هي مشكلتكم ومشكلة كثير من الناس الذين غلب الشيطان على عقولهم وزيّن لهم سوء أعمالهم ، وحرّك في داخلهم الأوهام ، ففرحوا بالباطل الذي أعطوه عنوان الحق ، واستسلموا لفرح الدنيا ، ونسوا فرح الآخرة ، بينما كان باستطاعتهم في ساحة الرسالة الحصول على الفرح كله في عمق الفكرة ، وامتداد الحقيقة ، ولذائذ الروح ، فإن الله لم يمنع الإنسان من الفرح ، ولكنه أراد منه أن يبحث عنه في نهايات الأمور لا في بداياتها ، وفي عمق المواقف ، لا في ظواهرها ، وأن يعيشه من خلال عمل الخير وروح الصلاح وانفتاح العقل والقلب على الله.

وقد جاء في مجمع البيان ، «قيّد الفرح وأطلق المرح ، لأن الفرح قد يكون بحق فيحمد عليه وقد يكون بالباطل فيذم عليه ، والمرح لا يكون إلّا

٧٢

باطلا» (١).

* * *

(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)

(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) الذين يحسبون أن استكبارهم ، في ما يختزنونه من مشاعر داخل نفوسهم ، وما يتحركون فيه من مظاهر أمام الناس ، يمكن أن يمنحهم حجما حقيقيّا في مستوى ما يريدونه ، أو ما يعاملهم الناس به ، فيحقق لهم امتيازات تتيح لهم النجاة في الآخرة ، والسعادة في الحياة .. ولكنهم كانوا يعيشون في وهم كبير ، وغفلة مطبقة ، ذلك أن حجمهم الاجتماعي الفخم لم يكن ناشئا من ضخامة حقيقية في الذات ، بل من انتفاخ طارئ فيها مصدره وهم العظمة الذاتية ، وضعف الآخرين من حولهم. لذا فإنهم يرجعون في الدار الآخرة ، إلى حجمهم الطبيعي الذي يساوي أعمالهم ، حيث تصبح الأعمال عنوان المصير وحركته ونتائجه ، ليشعروا بأنهم كانوا صغارا في حياتهم ، لأنهم ارتبطوا بالأشياء الصغيرة في اهتماماتهم ومشاريعهم وعلاقاتهم ، وعاشوا عزة الظلم ولم يعيشوا عزة العدل ، وتحركوا مع قوّة الباطل التي لا تحمل في داخلها شيئا ، وتركوا قوة الحق التي تحمل في مضمونها كل شيء .. وهذه هي العاقبة السيّئة التي ينتهي إليها استكبارهم العدواني على الضعفاء من عباد الله.

* * *

مواجهة الكفر والعصيان بالصبر

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فإن الموقف الرساليّ يفرض المعاناة الروحية والجسدية ، وتحمّل الكثير من المشاكل والآلام ، ولكنها معاناة تتصل ببدايات

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي ، الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار المعرفة ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م ، ج : ٨ ، ص : ٨٢٨.

٧٣

الحركة ، ولا تبقى إلى نهاياتها ، لذا فإن الصبر ، وهو مظهر قوّة وعنوان صمود ، سوف يؤكد المفاهيم الإيمانية في وعي المؤمنين والكافرين ، لأن الشكوك تعمّق الفكرة في قلق المعرفة ، تماما كما تعمّقها حالة اليقين ، ولأن علامات الاستفهام التي تبحث عن جواب ، سوف تصل إلى الإيمان على المدى الطويل.

.. وإذا كان هؤلاء يستمرون في تمرّدهم فإنهم سيلاقون الله ، ليلقوا جزاء أعمالهم في الآخرة إذا لم يلاقوا الجزاء في الدنيا.

(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من بلاء الدنيا وعذابها ، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) بالموت فلم تبصر ذلك في حياتك ، (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ليواجهوا النتائج القاسية لما هم فيه من كفر وعصيان.

وتلك هي القضية التي لا بد أن يعيها العاملون الرساليون في حركتهم الرسالية إزاء ما يواجهونه من حالات التمرّد والجحود والكفران .. وما يعيشونه من ضغوط صعبة ، وتحديات شديدة ، ذلك أن التغيير يحتاج إلى الكثير من الجهد والألم والتضحية والمعاناة.

* * *

الرسل وخط الرسالات

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) في حديث الأنبياء الذين عاشوا في وعي الناس ، وتعمقوا في حياتهم ، وكان لهم تأثير كبير في حركة التاريخ من أصحاب الرسالات الكبيرة والصغيرة ، فانظر إلى تجربتهم الحيّة ومعناها الرسالي ، وتابع خط السير الذي تحركوا فيه ، وادرس النتائج الإيجابية التي حصلوا عليها وحصلت عليها الرسالة من خلالهم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) من أولئك الذين أرسلهم الله إلى أمم لم تصلنا أخبارها ، أو لم تكن في مستوى حضاري يصل بها إلى بلاد الحضارات ،

٧٤

ولكنهم ـ بالرغم من ذلك ـ يلتقون معك ، ومع سائر الأنبياء ، بالفكر التوحيدي ، والنهج العادل ، والخط المستقيم ، والدعوة للتوقي التي فيها صلاح أمر الإنسان ، والحياة من حوله ، في كل مجالاتها العامة والخاصة ، كما يلتقون معك ، في ما تلقاه من معاناة في سبيل الرسالة ، التي هي حركة في مواجهة التيار الكافر والضالّ ، في مجتمع الكافرين والضالّين ، وكما جئت بالمعجزة بأمر الله ، وتحركت بإذنه ، فإنهم جاءوا بالآيات بأمر الله وتحركوا بإذنه.

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لأنه لا يملك القدرة الذاتية على تغيير المألوف من أسباب الأشياء ، لما تمثله المعجزة من خرق للعادة ، بل يملكون قدرة محدودة طارئة محكومة لمقتضيات الحكمة الإلهية التي يحدد الله على أساسها المصلحة في إيجادها فينزلها بحساب ، ويمنعها بحساب.

(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بالعذاب (قُضِيَ بِالْحَقِ) في ما يفرضه من نتائج سلبية على مصير الكافرين ، ونتائج إيجابية على مصير المؤمنين ، (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) لأن الباطل لا ينتهي إلا إلى الضياع والعذاب الدائم.

* * *

٧٥

الآيات

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥)

* * *

معاني المفردات

(الْفُلْكِ) : السفن.

٧٦

(وَحاقَ بِهِمْ) : نزل بهم.

* * *

آيات الله وأفضاله على خلقه

وتنتهي السورة بهذا الفصل الذي يوجه مجتمع الدعوة ، وغيره من المجتمعات ، إلى ما أنعم الله به على الناس من الأنعام التي يستفيدون منها للأكل والشرب والركوب ونحو ذلك ، ومن السفن التي يسّر الله لهم استعمالها في البحر ليركبوا فيها ، وهو أمر يدفعهم إلى التأمّل في تلك النعم ، كما يثير فيهم التفكير في آيات الله ، وليقودهم إلى متابعة تجارب الأمم التي سبقتهم ممن ساروا في مسيرتهم ، ليكون هذا الحديث كله ، منطلق يقظة ، ودعوة تفكير ، وحركة فكر يريد أن يبلغ الهدى من أقرب طريق.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) من الإبل والبقر والغنم ، (لِتَرْكَبُوا مِنْها) و «من» هنا للتبعيض أي لتركبوا بعضها مما يستعمل للركوب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) حيث تنتفعون من لحمها ، (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) بما تنتفعون من ألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها ، (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) من أغراض التنقل من مكان إلى آخر ونحوه ، (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) في ما أعدّه الله لكم من وسائل ركوب البحر ، حسب القوانين التي أودعها فيه وفي حركة السفن فيه.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) في السماء والأرض ، مما يفرض نفسه على العقل في دلالته على توحيد الله وعظمته ، (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) وهي ماثلة أمامكم عيانا ، فكيف تنكرون الله الذي تدل عليه.

* * *

٧٧

هزء الكفار يرتد عليهم

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً) إذ كانوا يشعرون بأن قوّتهم تؤكد ذواتهم ، وتبرّر لهم تمرّدهم وعصيانهم ، أو تجعلهم يشعرون بالأمن في كل ما يقومون به من أعمال سيئة ، أو يقومون به من مشاريع ظالمة في حق أنفسهم وفي حق الآخرين.

(وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) في ما عمّروا من قصور ، وشيدوا من قلاع ، وخلّفوا من علم ، وأحرزوا من فتوحات ، وحققوا من أرباح وانتصارات وغير ذلك من الآثار التي يتركها الإنسان لمن بعده أو يقوم بها في حياته كدلالة على عظمته وقوّته ، إذ كانوا يفكرون بأن تحقيق كل تلك الإنجازات يمنحهم الامتياز الكبير الذي يعطيهم الدرجة الرفيعة عند الناس ، أو المستوى الكبير في الحياة ، بما يبرر لهم الشعور بالكبرياء والجبروت ، (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من ذلك كله.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) رفضوا الرسالة ولم ينفتحوا على البينات ، وواجهوا الدعوة بطريقة غير مسئولة واستخدموا أساليب السخرية والاستهزاء .. واستسلموا للجوّ الفرح اللّاهي العابث.

(فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الذي اكتسبوه من تجاربهم ، ومن الخبرة العملية التي أوجدت لديهم انتفاخا ذاتيا في الشخصية بحيث ابتعدوا عن الموضوعية في تقويم الأمور ومحاكمة الأفكار في جو من الطغيان العلمي ، فإن للعلم طغاته ، ويتجلى في ما يتبناه هؤلاء من نظرة فوقية إلى الآخرين ، بحيث لا يعترفون لغيرهم بأي موقع علميّ بل يواجهونه بالهزء والسخرية ، فكان جزاؤهم على ذلك الأسلوب الساخر بالرسالة ، وبالإنذار لعذاب الله وبالمعاد ، أن حمّلهم الله مسئولية ذلك ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)

٧٨

من عذاب الله في الدنيا.

* * *

مصير منكري آيات الله

(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) المتمثل بالعذاب الذي حلّ بهم ، (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) فقد وضحت لنا الحقيقة الإيمانية بكل قوّتها ، بعد أن شاهدنا العذاب الدال على غيب الله في الكون.

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) لأن المهلة قد انتهت بنزول العذاب ولأن الله يريد لهم أن يختاروا الإيمان من موقع القناعة المستندة إلى أسس الحقيقة ، لا إلى الضغط النفسي الناتج عن العذاب.

(سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) مما أجراه الله في تقديره وتخطيطه في مسألة حدود التوبة ، أن لا تقبل التوبة بعد نزول العذاب ، (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) لأنهم لم يتعلقوا من رحمة الله بشيء ولا خسارة أعظم وأشد من خسارة الإنسان لرحمة الله سبحانه.

* * *

٧٩
٨٠