تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

البساطة بكل معانيها والوحدة بكل أبعادها ، والغنى بكل مجالاته ، ولكن سيطرة التخلّف على العقل توحي له بتصورات لا أساس فكريا لها عند ما يقيس الله بخلقه وينسب إليه ما ينسب إليهم.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل نسبوا إلى الله البنات ، فقالوا إن الملائكة بنات الله ، بينما يرون للبنين قيمة وميزة وشرفا لا يرونه للبنات ، فكيف اتفق لهم ـ من خلال مفهومهم هذا ـ الوصول بتفكيرهم إلى أن ينسبوا لله ما هو دون القيمة المثلى ـ بقطع النظر عما إذا كان ذلك صحيحا أو غير صحيح ـ مع أن التصور الدقيق لله الذين يعتقدون ألوهيته وسيطرته على الكون عبر خلقه له ، وتدبير نظامه ، يفرض أن يكون المثل الأعلى والقيمة الكبرى.

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) كما تقولون (وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) فأخلصهم لكم في ما تريدونه لأنفسكم ، فكيف اعتقدتم بأن لله البنات ، وهو لديكم عيب وعار كما تشير إلى ذلك الآية التالية.

* * *

قيمة المرأة في الجاهلية

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) في ما نسبه إليه من اعتبار الملائكة إناثا (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) جراء ما يحس به من غم وهمّ وكرب بسبب القيمة المنحطّة للأنثى في نظره ، فهي قد تجلب الذلّ والعار لوليها في حياته في المستقبل فيتجمع الغيظ في صدره ، وهو غيظ لا يملكون رده في الواقع.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) أي في الزينة التي تربّى الأنثى على اعتبارها القيمة التي تحملها في وعيها الفكري ، فينحصر طموحها الذاتي ، في دائرة التزين وتحصيل الجمال الجسدي لا العقلي والروحي.

٢٢١

(وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) وهو بالتالي نتيجة استغراقه في الجمال الجسدي غير واضح الحجة ، أو قويّ الموقف ، لأنه لا يملك الفكر القويّ الذي يمكنه من ذلك ، فكيف ينسبون هذا المخلوق إلى الله في عقيدتهم؟

* * *

هل الضعف سمة المرأة قرآنيا؟

وقد نتساءل : هل هذا الوصف القرآني للمرأة يمثل تحديدا مفهوميا لشخصيتها ، يعتبرها إنسانا مستغرقا في الزينة ، في إيحاءاتها الرخيّة الناعمة المنفتحة على الجمال الجسدي بخشوع وانبهار في مستوى الطموح ، وكيانا يملك الضعف فلا يستطيع الدفاع عن نفسه .. أم أن هذا الوصف يمثل تحديدا واقعيا لصورة المرأة من خلال التربية التي تتربّى عليها ، لتعيش حياة تسيطر عليها عناصر الضعف بدلا من عناصر القوّة.

قد نستفيد من التعبير بكلمة (يُنَشَّؤُا) بأن هذا الوصف متعلق بالتنشئة والتربية والإعداد الذي تتلقاه الأنثى ، في الوقت الذي تملك فيه قابلية الأخذ بأسباب القوّة الفكرية والحركية .. كما نلاحظه في ما حدثنا به القرآن من النماذج القويّة في مجمل الحياة الاجتماعية التي تضم (الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) [الأحزاب : ٣٥] وغير ذلك ، وفي ما حدثنا به عن امرأة فرعون ومريم بنة عمران اللتين ضربهما الله مثلا للذين آمنوا من الرجال والنساء ، في قوّة الموقف حيث تتجسد حركية صفات الإيمان والصبر .. داخل الشخصية وخارجها بما تفرضه من معاناة وتمرد على نقاط الضعف ..

هذا ، مع ملاحظة أننا نعرف في التاريخ وفي الحاضر ، كثيرا من النساء

٢٢٢

اللّاتي يملكن القوّة في الجدل ، والشدّة في الدفاع ، والإرادة الحديديّة في مواجهة التحديات .. مما يبعد الضعف عن أن يكون من لوازم شخصية المرأة ، ويقرّبه من أن يكون من مقتضيات التربية التي تنمي نقاط ضعفها الغريزية وتهمل تنمية نقاط القوّة فيها ، في الوقت الذي لا ننكر فيه قوّة الجانب العاطفي فيها ، ولكن لا بالمستوى الذي يلغي إمكانية التنمية الفكرية والعملية للجانب العقلاني لديها. وفي ضوء ذلك يمكننا أن نفهم أن الآية توجه النظر إلى الواقع الذي تعيشه المرأة ، مما يخلق الانطباع السلبيّ عنها في نظر المجتمع ويثير التساؤل حول المبرّر لنسبة البنات إلى الله في ظل هذا المفهوم لديهم.

* * *

أشهدوا خلق الملائكة؟!

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ) وهي صفة يتصف بها الملائكة كما يتصف بها غيرهم من عباده من الجن والإنس ، من دون أن ترتفع بهم خصوصياتهم عن هذا المستوى ، فإن خصوصياتهم قد تجعل لهم بعض الميزة عن غيرهم ، ولكنها تبقى في دائرة التنوع والتفاضل بين عباد الله ، ولا تقترب من خصوصيات الألوهية لتجعل المخلوق قريبا إلى الله ، بالمعنى النسبي أو ما يشبه ذلك ، كما يتصور هؤلاء الذين دفعتهم خيالاتهم في تصورهم ملائكة أن يجعلوهم (إِناثاً) من دون دليل حسّيّ على ذلك (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) حتى يكون حضور خلقهم هناك مبرّرا لادعاء كونهم إناثا باعتبار إمكانية اطلاعهم الحسيّ على جنسهم في تلك الحال ، (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) في ما يكتبه الله من كلام عباده في ما يعتقدون وفي ما يقولون ، وفي ما يعملون (وَيُسْئَلُونَ) عن صحة ما شهدوا به ، ولن يستطيعوا أن يدافعوا عن ذلك ، لأنهم لم يكونوا عند خلق الملائكة ، ولم يملكوا موقعا خاصا للمعرفة يميزهم عن الآخرين ، مما

٢٢٣

يجعل القضية في موقع الإنكار ، لا في موقع المناقشة.

* * *

الشرك ومشيئة الله

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) فهو الذي يملك السيطرة على عباده ، وبالتالي يملك منعهم عما لا يريده منهم ، وإبقاءهم على ما يريد ، ولا سيّما في مسألة العبادة التي تمثل العمق في وجود الإنسان ، لاتصالها بأجواء الألوهية في ذاتها ومتعلقاتها ، مما يجعل الانحراف عن الخط المستقيم فيها ، خطرا على المسيرة الإنسانية كلها ، الأمر الذي يفرض التدخل المباشر من الله ، الذي يجمّد إرادة الإنسان تحت تأثير إرادته التي لا تختلف عن المراد ..

وفي ضوء ذلك ، كانت عبادتهم موضع رضى من الله ، لأنه تركهم وشأنهم في ما يريدون .. ولكنهم لا ينطلقون في ادعائهم ذاك من موقع الاقتناع بالفكرة ، بل من موقع التهرب واللعب على الألفاظ ، والاحتيال على المواقف (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) فإن الله هو الذي يسيطر على الأمر كله ، فلا يشاء الإنسان إلا ما يشاء الله.

ولكن المشيئة الإلهية لا تعني التدخل المباشر الذي يفرض الإرادة التكوينية التي تتصل بالوجود المباشر ، بل تعني انطلاق الأشياء من تقديره ضمن حركة السنن التكوينية التي أودعها في الحياة في دائرة الأسباب والمسببات ، التي قد تتحرك في نطاق الإرادة الإنسانية في ما يريد الإنسان أن يفعله أو يتركه ، مما جعل الله اختياره الوجودي بيد الإنسان .. مع الإيحاء له بما يجب أن يفعله أو يتركه في خط المسؤولية التي تختزن النتائج السلبية أو الإيجابية .. فإذا انسجم مع الإرادة التشريعية ، فاختار خط الاستقامة في أمر الله ونهيه ، كان موضع رضى الله ، وإذا انحرف عنه ، كان موضع سخطه ، من دون

٢٢٤

أن يسيء ذلك إلى مقام الله في جلال قدرته وسيطرته على الوجود كله .. وهذا ما يطلق عليه العلماء الخلط بين الإرادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد ، وبين الإرادة التشريعية التي توحي بما يريده الله .. في ما يحب للإنسان أن يقوم به في دائرة حرية الإرادة.

وبذلك كانت كلمتهم هذه منطلقة من منطق الجهل (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ويركزون أمورهم على أساس التخمين والحدس غير المبنيّ على قاعدة من فكر أو علم.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) مما أنزلناه على الناس من الوحي الذي يحدّد لهم حقائق الأمور ، ليكون حجّة لهم على ما يعتقدونه أو يحرّكونه في انتماءاتهم (فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) كأساس فكريّ أو شرعيّ لذلك ..

* * *

منطق المترفين في تقليد الاباء

وهكذا يريد القرآن أن يحدّد للإنسان أسس المعرفة ، من الحضور الحسي ، أمام الأشياء أو المصادر الإلهية ، أو المعادلات العقلية القطعية .. ولكن هؤلاء الكافرين أو المشركين لا يرجعون إلى شيء من ذلك (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على طريقة معينة في التفكير والعبادة (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) فهذا هو السبيل الذي نقتفيه للوصول إلى الحقيقة فنهجنا امتداد لنهجهم ، لأن ذلك هو الامتداد التاريخي للعائلة أو العشيرة ، في ما يلتزم الأبناء بعقائد الآباء وعاداتهم وتقاليدهم من موقع الثقة والإخلاص والانتماء.

وهذا هو المنهج الذي يمنع التغيير والتطور والتصحيح لأخطاء الماضي ،

٢٢٥

عند ما يتحوّل التاريخ إلى حالة فكرية أو روحية أو عملية مقدّسة لا تسمح بأيّ نقاش حول المضمون الفكري أو الروحي أو العملي الذي تلتزمه .. وقد أكّده المترفون الذين يقفون أمام عملية التغيير الاجتماعي أو الفكري أو السياسي التي قد تلغي امتيازاتهم نتيجة ما تحدثه الأفكار الجديدة من إعادة نظر في كثير من المفاهيم المألوفة أو المتوارثة بعد عرضها على ميزان الفكر والواقع ، المراد تطويره أو تغييره ، لينطلق الجيل الجديد بعقلية جديدة ونهج جديد.

وعلى ضوء ذلك كان الجمود هو الطابع الذي يعمل المترفون الطغاة على إحكام سيطرته على الفكر الإنساني ، بإعطاء فكر الآباء والتاريخ قداسة ، تسلط سيفا على مطلب الحرية الفكرية في كل القضايا التي يمكن أن يدور فيها الخلاف ، في ساحات الحوار ..

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) يطلق الصرخة الفكرية والروحية التي تهز جمود الإنسان في فكره ومنهجه ، وخطّه العبادي ، وحركته الاجتماعية والسياسية ، وتوجّه الناس إلى المستقبل المشرق الواعي المنفتح على الله ، ليناقشوا كل مرتكزاتهم وموروثاتهم ، على ضوء رسالات الأنبياء التي تريد لهم أن يؤسسوا فكر التوحيد في العقيدة والعبادة ، انطلاقا من النتائج السلبية التي تتأتى عن الفكر المضاد.

(إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) الذين يملكون قرار الضغط على الحريات ليحددوا للناس خط السير الذي يتحركون فيه ، (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) فهم القدوة التي لن ننفصل عنها في كل ما نريد أن نأخذ أو ندع ، لأن ذلك يحقق لنا الثبات في مواقعنا العائلية ، وقيمنا التاريخية. وهو أسلوب انفعاليّ عاطفيّ هدفه خلق أجواء الإثارة وتحريكها وهو منطق يعتمده المترفون في مواجهة الفكر لتأكيد التقليد ، والمحافظة على مواقعهم في الشهوات واللذات والامتيازات غير العادلة .. أمّا منطق الرسالة التي يحملها الأنبياء فهو منطق يوجه الفكر إلى الفصل بين الجانب العاطفي الذي يربط الأبناء بآبائهم

٢٢٦

والجانب العقلي الذي يقوّم المضمون العقيدي الذي يلتزمونه ، فالفكر لا يرتبط بالذات وأحاسيسها ، بل بالحقيقة الموضوعية التي يصل إليها العقل عبر إقامة معادلة عقلية تتحرك في أجواء الفكر وفي ساحات الحوار ، للوصول إلى النتائج التي تكشف للناس إحدى السبيلين ، وأقوى الفكرين .. وهذا ما عبرت عنه الآية التالية : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) مما أقدّمه إليكم من وحي الله أو في ما أثيره من الفكر الذي يهز قناعاتكم ليثبت لكم أنه أهدى من فكر الماضي ، فهل مسألة التقليد لديكم مسألة قناعة ، فلا بد للقناعة من إعادة النظر في الفكر الجديد المطروح عليكم لتكتشف ملامح الحقيقة فيه ، أم أن المسألة مسألة تعصب ، والقضية قضية انسجام مع الذات ، في امتداداتها التاريخية ، وفي امتيازاتها الواقعية (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فهذا هو موقفنا وقرارنا أمام كل طموحاتكم الفكرية والاجتماعية ، ولسنا مستعدين للدخول معكم في حوار.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) لأنهم تمردوا على الله من دون أساس ، أو حجّة يملكونها ، ولأنهم لا يسيئون إلى أنفسهم بل يسيئون إلى الحياة كلها عند ما يجعلون هذا النهج الفكري المتخلف حاجزا أمام السائرين في طريق المعرفة ، ليعطّلوا خططهم ، وليسقطوا كل حركة التغيير بذلك.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) وعرّف قومك ـ يا محمد ـ ذلك ليعيدوا النظر في منطقهم وفي موقفهم الذي يؤكدونه في سلوكهم العملي ضد الرسالة.

* * *

٢٢٧

الآيات

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٨)

* * *

معاني المفردات

(بَراءٌ) : بريء.

(فَطَرَنِي) : خلقني.

(عَقِبِهِ) : ذريته.

* * *

إبراهيم يتحدى أباه وقومه

وهذا موقف حاسم اتخذه إبراهيم عليه‌السلام ضدّ عبادة قومه للأصنام ، وفي مقدمتهم أبوه ، فقد رفض تقليدهم في عبادتهم تلك ، وأعلن رفضه ذاك بكل قوّة ليفتح مجال الرفض المتحدي للوثنية الفكرية والعبادية في المستقبل ، من

٢٢٨

أجل أن يركز قواعده على أساس خط الأيمان.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) من هذه الأصنام التي لا تملك أيّ سرّ من أسرار الألوهية ، في ما تحاولون أن تتخيلوه لها من ذلك ، لتقنعوا أنفسكم بذلك ، أو لتقنعوا غيركم به ، فقد صنعتموها بأيديكم ، أو صنعها آباؤكم من قبلكم ، فكيف جاءتها هذه الأسرار؟ وكيف حصلت على هذا الموقع المميز في العبادة؟

وهكذا أعلن إبراهيم أنه ـ بكل فكره وروحه ـ يجسد البراءة من الأصنام بكل معانيها وأبعادها ، فلم يعد موقفه من الأصنام موقفا للذات ، بل هي الذات كلها في الفكر والحركة والشعور ، في ما يوحي به الإخبار عن الذات بالمصدر الذي يتضمن المبدأ كله ، (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وأوجدني بعد أن كنت عدما ، كما فطر الآخرين ، وأنتم منهم ، لأنني لست بدعا من الناس في ذلك ممّا جعل ارتباط الناس به ، ارتباط المخلوق بالخالق ، لحاجته في كل حركة وجوده وامتداده إليه ، تماما كما كان محتاجا إليه في أصل الوجود ، الأمر الذي يجعل التوحيد ، في عبادته ، أمرا طبيعيا منسجما مع حقيقة الوجود الإنساني .. وتلك هي الحجة على موقفه ، فإن الخالق هو الذي ينبغي للمخلوقين أن يعبدوه.

(فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) ويوجهني إلى الحق في العقيدة والعبادة والسلوك لأن الخلق ليس حالة مجرّدة ، تنتهي بها علاقة الخالق بالمخلوق ، بل هي حقيقة وجودية تبدع الإنسان في وجوده ، وتدبره في كل امتداداته ، لأن رحمة الله هي سرّ الخلق والهداية والامتداد في انفتاح الفكر ، وفي حركة الحياة ، فهو الذي ألهم كل شيء هداه ، في بنية وجوده ، وألهم الإنسان بالإضافة إلى ذلك ، سرّ الهداية في حرية الإرادة في تحريك الفكر والعمل للوصول إلى مواقع الحقيقة في العقيدة والحياة ..

* * *

٢٢٩

الانتماء الإبراهيمي إلى الإسلام

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) وهي كلمة الإسلام لله في كل شيء وتوحيده في الفكر والعبادة وحركة الحياة ، لتكون قاعدة لتصورات الناس وانتماءاتهم وممارساتهم العملية ، بما تمثله الهداية الإلهية المنطلقة من موقع الفطرة التي تطل على حركة الوجود ، وفي ما تثيره في الشخصية من أفكار ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الله ، عند ما تبتعد بهم الطريق عنه ، بفعل العوامل المضادة للحق.

* * *

٢٣٠

الآيات

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٣٢)

* * *

جاءهم الحق فكفروا به

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) فعاشوا مدّة طويلة في رغد ورخاء ونعمة وافرة.

(حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ) وهو القرآن الذي يحمل حقائق العقيدة والحياة ، (وَرَسُولٌ مُبِينٌ) يهديهم إلى سبل السلام الروحي والفكري والعملي من خلال الإسلام ، وهو محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) الذي أراد أن يفتح عقولهم على التوحيد ، قابلوه

٢٣١

بالكلمات اللّامسؤولة التي لا تحمل أيّ معنى معقول في دراسة الحق الذي جاءهم ، وموقع الرسول في رسالته وفي ذاته ، (قالُوا هذا سِحْرٌ) لأنه يجذب الناس إليه بطريقة لا شعورية ، كما يحدث لهم عند ما يواجهون تهاويل السحر في مواقع أخرى ، ولكن ذلك كلام لا معنى له ، لأن للسحر قواعده وأشكاله التي لا تنسجم مع القرآن الذي يدخل إلى العقول ليدفعها إلى التفكير والتأمل ، تماما كما هي القضايا الفكرية التي تفرض نفسها على الناس كقناعات يتبنونها بعد تفكير واع فيها .. غير أن غايتهم كانت إيجاد كلمة مثيرة ، لإبطال تأثير الرسالة على تفكير الناس ، باعتبارها وحيا إلهيا ، ليوجّهوهم إلى عناوين أخرى لا تملك من القداسة ما تملكه النبوّة في وجدانهم. فكانت كلمة السحر إحدى هذه الكلمات التي أطلقوها بطريقة انفعالية من دون أن يفسحوا المجال للدخول في نقاش حولها ، كما تفعل الدول المستكبرة في عصرنا الحاضر ، فهي تحرّك الكلمات المثيرة ضد بعض التيارات الإسلامية أو السياسة المضادة لسياستها ، لتشوّه صورتها في نظر الرأي العام العالمي ، مثل نعوت التطرف والتعصب والإرهاب ونحوها ، التي لا يرتاح الناس إلى إيحاءاتها السلبية ، ولكنهم لا يناقشون ، ولا يدخلون في حوار حول تلك النعوت مع الجهات المقصودة بها ، لأن اهتماماتهم الخاصة تمنعهم من ذلك ، وتبقيهم في دائرة الاستهلاك السريع للفكرة أو للخبر الذي تقدمه ، في نطاق السياسة الإعلامية.

وقد يحتاج العاملون إلى مواجهة ذلك كله ، بالموقف الواعي القوي الذي يعتبر الاعلام أداة من أدوات الصراع ضد الإسلام وأهله ، ليدرسوا الظروف السياسية العامة التي تحدد وسائل الردّ بطريقة تكفل احتواء السلبيات في هذا المجال ورد الحرب الإعلامية ، بحرب مماثلة متحركة في كل الساحات الفكرية والعملية بوعي واتزان ، على نهج الأسلوب القرآني الذي واجه المسألة بدقة وحكمة.

* * *

٢٣٢

تسلح المشركين بمنطق الطبقية

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وهذا أسلوب جديد من أساليبهم المثيرة التي يستهدفون ـ من خلالها ـ احتواء تأثيرات الدعوة الإيجابية على الناس ، وإرباك الوجدان العام حولها ..

ويعتمد هذا الأسلوب التركيز على العنصر الطبقي في عقلية المجتمع الجاهلي ، الذي يرى أن الرجال الكبار الذين يملكون الموقع الاجتماعي المميز ، هم وحدهم الذين يحق لهم أن يتولوا قيادة المجتمع بما يحملونه من أفكار وبما يحركونه من أوضاع ، وهم الموقع الطبيعي الذي يجب أن تنزل عليه الرسالات من الله ـ إذا كانت مسألة الوحي في الرسالة أمرا واردا بالنسبة للعقل ـ لأنهم يملكون تحريك الرسالة في وجدان الناس من خلال قوّة تأثيرهم على مواقع حياتهم ، في ما يملكونه من أمورهم الاقتصادية والاجتماعية التي تمكنهم من الضغط عليهم.

وفي ضوء ذلك ، كانوا يشيرون إلى فقر النبي وفقدانه الموقع الاجتماعي البارز الذي يملكه أصحاب رؤوس الأموال ، ليؤكدوا للناس أن الرسالة التي يكلف الله رب العالمين بها بعضهم ، فينزل الوحي عليهم ، وهو القرآن الذي يدّعي النبي أنه منزل من الله ، لا يمكن أن تنزل على هذا الفقير اليتيم المعدم الذي لا يستطيع حماية نفسه من العدوان ، فكيف يحمي دعوته ، كما أنه لا يملك الوسائل التي يستطيع بها التأثير على الناس لأنهم لا يسمعون إلا من الكبار في المجتمع ، ولهذا كان لا بد من أن ينزل القرآن ـ لو كان حقيقة ـ على رجل عظيم من القريتين ـ مكة والطائف ـ وقد تحدث المفسرون عن أسماء عديدة ، كالوليد بن المغيرة وعتبة بن أبي ربيعة من مكة ، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف ، وغيرهم .. وربما كان ذلك صحيحا ، وربما كانوا لا

٢٣٣

يقصدون شخصا بعينه ، وهذا هو الأقرب ، لأنهم تحدثوا عن رجل عظيم من القريتين ، باعتبارهما البلدين اللذين يعيشون فيهما مما يوحي ، بأن الميزان الطبقي هو مبدأ يشيرون إليه ، لا شخص بعينه.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) وهذا هو التعليق القرآني على هذه المقولة ، فإن الرسالة ليست شأنا بشريّا يرجع أمره إلى الناس ، ليحدّدوا ملامح الرسول ، على أساس طبقي ، بل هي شأن إلهيّ ، يرحم الله به من يشاء فيمن يصطفيه لكرامته ، ويختاره لرسالته ، ممن تتوفر في فكره الصفات الرسالية وأخلاقه ، ومنهجه .. ولهذا فإنهم عند ما يتحدثون بهذه الطريقة ، فإنهم يتدخلون في شؤون الإرادة الإلهية لجهة ما يقسم الله فيه رحمته بين عباده من خلال ما يعرفه من أمور صلاحهم وفسادهم ، مما لا مكان لإبداء الرأي فيه ، ولا أساس للاعتراض عليه.

* * *

الناس درجات

(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وجعلنا لكل واحد منهم موقعا ورزقا محدودا ، وطاقة معينة ، لا يملك أيّ واحد موردا يستغني به عن الآخرين ، في ما تقوم به حياته ، أو تخضع له حاجاته ، وذلك من خلال النظام المتوازن الذي تفرضه الحاجات الإنسانية في الواقع .. فهناك جماعات تملك من المال والطاقة ما لا تملكه جماعات أخرى مما يجعلها تحتاج إليها في ذلك ، على مستوى القضايا الأساسية ، أو القضايا الطارئة المتصلة بالمواقع الجزئية في الحياة ..

(وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) فالتوازن الطبيعي يفرض اختلاف الناس في مواردهم وطاقاتهم ومواقعهم وحاجاتهم وتنوعهم في المهمّات والأدوار ، مما يجعل درجة بعضهم أعلى من درجة البعض الآخر .. ولكن هل

٢٣٤

هذا التمايز في القيمة الروحية؟ وهل هو موقع يتميز به البعض عن غيرهم بشكل مطلق؟ أم هي مسألة الواقع الخاضع للأسباب الطبيعية بعيدا عن الامتياز الذاتي أو الطبقي عند الله ، وعند الناس؟

الظاهر ، أن هذا التمايز يعود إلى الواقع التنظيمي للحياة الإنسانية الذي يستدعي توزيع الأرزاق ، وتنويع الطاقات ، واختلاف الحاجات ، وتعدّد المواهب ، فلم يجعل الله لأيّة حالة طبقيّة أو فئوية ميزة بحسب ميزان القيمة عنده أو في حركة التشريع ، بالمعنى التسلّطي المفروض على الناس .. وهذا ما أشارت إليه الفقرة التالية في الآية : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي ليسخّر كل واحد من الناس في حاجاته من يملك أمر تلبيتها بحسب ما لديه من مال وجهد وموقع .. وهذه سنّة طبيعية في الكون ، فإن أحدا ليس مستغنيا عن أحد ، وكل شخص مسخر للآخر ، بحيث تصبح الحاجة التي تفرض التسخير أمرا نسبيا ، لا مطلقا .. وقد أثبتت التجربة الإنسانية أن تساوي الجميع على صعيد واحد ، ليس أمرا واقعا ، فإن طبيعة الحياة تفرض التنوّع في كل شيء حتى في عالم الحيوان والنبات والجماد ، كما تفرض تبادل الخدمات واستخدام بعض الناس لبعضهم الآخر .. مما يجعل القيمة المشتركة ، في عمق الأمور ، شاملة للناس جميعا ، ولذلك فقد لا يكون من الطبيعي الحديث في مجال التقنين والتنظيم عن مساواة مطلقة بين الناس ، بل المفروض هو الحديث عن المساواة في الحقوق وتوفير الفرص للجميع ، بحيث لا يفضل شخص على آخر إلا من خلال كفاءته ودوره المميّز في ما يقدمه للحياة وللناس ، لتتحرك المساواة في دائرة التنوّع ، لا في دائرة إلغاء الخصوصيات .. وتبقى قضية التمايز والمساواة محكومة لمدى التطلع إلى القيمة الكبيرة عند الله ، وذلك في آفاق رحمته التي هي سرّ وجود الإنسان من حيث المبدأ والتفاصيل ، لأنها رحمة لا تقتصر على ساحة الدنيا ، بل تمتدّ إلى ساحة الآخرة ، ولا تؤمّن حاجات الإنسان المادية فقط ، بل تتسع لحاجاته الروحية ..

٢٣٥

عند ما ينفتح على الله حيث يجد السعادة الروحية في انتظاره في مواقع رحمته التي وسعت كل شيء (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) مما يتنافسون فيه ويتفاضلون ، ويجعلون له حدودا فاصلة ، وحواجز عازلة ، وقيما زائفة ، لأن ذلك كله لا يمثل شيئا في مواقع الثبات في المصير ، بل يبقى مجرد حالة طارئة ، وحاجة محدودة في متاع الحياة الدنيا ، أمّا رحمة الله فهي الخير كله الذي لا ينفد ولا يتحدد في مدى محدود.

وهذا ما ينبغي للإنسان المؤمن أن يعيشه في فكره وروحه وعمله وعلاقاته ، فلا يكون طموحه الحصول على متاع الحياة الدنيا ، والتنافس للوصول إلى مواقع متقدمة ، في هذا النطاق ، لأن ذلك يسيء إلى روحية الإيمان في وجدانه ، وعمق شخصيته ، عند ما يفضّل الحاجات المادية على القيم الروحية فإن الإيمان لا يستدعي الرفض المطلق للدنيا ، فهو أمر غير داخل في التخطيط الفكري والعملي الإسلامي ، بل يستدعي أن لا يستغرق الإنسان في حاجات الدنيا بحيث تكون كل هدفه ، وكل همّه ، فيخلد إليها ويطمئن إلى قضاياها .. بل أن يكون طموحه الحصول على رضى الله ورحمته ونعيمه في الدار الآخرة ، مع الالتفات إلى الدنيا كساحة مسئولية أمام الله ، لتكون الدنيا مزرعة الآخرة ، كما جاء في بعض الأحاديث المأثورة.

* * *

٢٣٦

الآيات

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٥)

* * *

معاني المفردات

(وَمَعارِجَ) : جمع معرج ، وهو الدرج.

(يَظْهَرُونَ) : يصعدون.

(وَسُرُراً) : سرر وأسرة جمع سرير.

(وَزُخْرُفاً) : الزخرف : الذهب أو مطلق الزينة.

* * *

٢٣٧

لولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا الدنيا للكافرين

إن الحياة الدنيا لا تمثل لدى الله موقع القيمة بحيث يكون الحصول عليها دليلا على المنزلة الكبيرة عنده ، ولهذا فإنه قد يمنحها لأعدائه أكثر مما يمنحها لأوليائه ، وهذا ما يريد القرآن أن يصوّره في هذه الآيات.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) لو لا احتمال اجتماع الناس على الكفر طلبا للامتيازات التي قد يحصلون عليها في الدنيا جراية ، لأن الإنسان يرتبط بالأمور الحسية ـ عادة ـ أكثر مما يرتبط بالأمور الروحية المعنوية ، (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) أي لجعلنا للكافرين درجات (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) ليواجهوا الآخرين من موقع هذا الامتياز الواقعي الذي يظهرون به على غيرهم (وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً) يمثل الزينة الذهبية أو مطلق الزينة التي يتزينون بها في بيوتهم.

(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الذي يمثل حالة طارئة لا تلبث أن تزول عند ما تحدث بعض الأسباب الموجبة لذلك ، أو عند ما يزول الإنسان من الحياة ، فلا ينبغي له أن يستسلم لذلك أو يعتبره القيمة العظيمة في حياته بحيث ينافس الناس عليها (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) الذين يخافون الله ويحسبون حساب طاعته في كل مواقع حياتهم ، فالقيمة الروحية والمادية التي تمثل النعيم الخالد عند الله المنفتح على رضوانه ، المتحرك في خط رحمته ، مما يجعل من الارتباط بالتقوى ارتباطا بالنتائج الكبيرة في مسألة المصير.

وهكذا تؤكد هذه الآيات أن مثل هذه المظاهر المادية التي قد يعطيها الله للكافرين الذين يريد تعذيبهم في الآخرة لا تمثل هدفا للمؤمنين ، ولا امتيازا

٢٣٨

للكافرين ، ولو لا ما يمكن أن يحققه تخصيص الكافرين بزخارف الدنيا من نتائج سلبية على مستوى تشجيع الناس على الكفر لكان هذا من التنوّع في طبيعة الأوضاع العامة للكافرين والمؤمنين حالة طبيعيّة لا تثير أيّ موقف إيجابيّ لمصلحة الكفر ، لأنهم يرون مسألة الغنى والفقر مسألة مشتركة بين الجميع ، من دون أن يتقدم أحد منهم على آخر.

وربما احتمل بعض المفسرين ، أن يكون المراد بالأمة الواحدة ، الوضع الواحد في طبيعة الحياة المعاشية الناشئة من الأسباب المألوفة للعيش ، فقد أراد الله أن يختلف الناس في معاشهم من دون فرق بين المؤمن والكافر ، تبعا للظروف الموضوعية المحيطة بهم الخاضعة للنظام الكوني ، ولولا ذلك لأعطى الكافر أعلى المواقع في ترف الحياة بعيدا عن الأسباب المختلفة ولكن الوجه الأول أقرب للظهور ؛ والله العالم.

* * *

٢٣٩

الآيات

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٩)

* * *

معاني المفردات

(يَعْشُ) : العشو : من كان ببصره آفة لا يبصر مطلقا أو بالليل.

(نُقَيِّضْ) : نهيّئ.

* * *

تهيئة الشيطان قرينا للكافر

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) ممن لا يملك البصر السليم الذي يستطيع بواسطته رؤية الأشياء في كل وقت ، ومن يبصر بالنهار دون الليل ، أو من لا يبصر مطلقا ، على سبيل الكناية عمن لا يملك وضوح الرؤية القلبية لله في عظمته وفي حضوره الدائم في حياته كلها ، فينساه وينسى ذكره في أعماله وأقواله وعلاقاته بسبب الغفلة المطبقة (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) أي نهيّئ له شيطانا يفتح نوافذ عقله على الباطل ليتحرك فكره في نطاق تأكيد الباطل فكريا ، ويغلق

٢٤٠