تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٠

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٤

حديث أهل النار مع الله تعالى

هذا حديث أهل النار الذين يتوسلون إلى الله أن يخرجهم من هذا المأزق الذي وضعوا فيه أنفسهم بكفرهم وعنادهم ، وردّ عليهم بأنه لا مجال لذلك ، وأن الأمر لله الذي يملك الأمر كله ، ويرجع إليه الخلق في كل شيء. (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) فقد كانت هناك حالتان من الموت وحالتان من الحياة ، واختلف المفسرون في تحديد هاتين الإماتتين ، وهذين الإحياءين .. فذهب بعضهم إلى أن الموتة الأولى هي التي تسبق وجود الإنسان ، والموتة الثانية هي التي تأتي بعد وجوده ، لتكون الحياة الأولى ، هي الحياة في الدنيا ، أمّا الحياة الثانية فهي حياة الإنسان بعد البعث في الدار الآخرة.

* * *

ما المراد بالموتتين والإحياءين؟

وذهب بعضهم إلى أن الموتة الأولى ، هي الإماتة عن الحياة الدنيا ، والإحياء للبرزخ ، ثم الإماتة عن البرزخ والإحياء للحساب يوم القيامة ، وقد ذكر هذا البعض أن هؤلاء «لم يتعرضوا للحياة الدنيا ولم يقولوا : وأحييتنا ثلاثا وإن كانت إحياء ، لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح ، لأن مرادهم ذكر الإحياء الذي هو سبب الإيقان بالمعاد وهو الإحياء في البرزخ ثم في القيامة ، وأما الحياة الدنيوية فإنها وإن كانت إحياء ، لكنها لا توجب بنفسها يقينا بالمعاد ، فقد كانوا مرتابين في المعاد ، وهم أحياء في الدنيا» (١).

ولعل الأقرب إلى الذهن من خلال بعض الآيات القرآنية هو المعنى الأول ، فقد جاء في قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ١٧ ، ص : ٣١٤.

٢١

يُحْيِيكُمْ)ما يعني أن الله يعبر عن الحالة التي تسبق الحياة الدنيا ، بالموت ، مع ملاحظة أنّ القرآن لم يذكر شيئا واضحا عن حياة البرزخ وموته إلا في قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الأمر الذي يجعل الذهن متطلعا إلى هذا العالم في حياته وموته من خلال الأسلوب القرآني ..

وقد ذكر صاحب الكشاف الذي اختار الوجه الذي استقربناه ، تعليقا على ذلك : «فإن قلت : كيف صح أن يسمّي خلقهم أمواتا إماتة؟ قلت : كما صح أن تقول : سبحان من صغّر جسم البعوضة وكبّر جسم الفيل ، وقولك للحفّار : ضيّق فم الركية ووسّع أسفلها ، وليس ثمّ نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر ، ولا من ضيق إلى سعة ، ولا من سعة إلى ضيق. وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات ، والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معا على المصنوع الواحد ، من غير ترجح لأحدهما ، وكذلك الضيق والسعة ، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه» (١).

أما ما ذكره صاحب الميزان شاهدا على تفسيره ، بأن المراد ذكر الإحياء الذي هو سبب الإيمان بالمعاد ، وهو الإحياء بالبرزخ ثم في القيامة دون الحياة الدنيا التي لم تكن سببا في الإيمان بالمعاد لأنهم كانوا مرتابين ، وهم في داخلها ؛ فقد نلاحظ عليه ، أن هذا التحوّل من الحياة الدنيا إلى الآخرة ، بالموت ، ربما جعلهم يعيدون التفكير في أمر الحياة والموت بالطريقة التي تثبت قدرة الله على إرجاع الإنسان إلى الحياة بعد الموت ، كما كان قادرا على إحيائه بعد الموت الذي كان غافلا عنه في الدنيا لاستغراقه في المألوف ، مما جعل الآيات تتكرر تذكيرا للإنسان بأن الله الذي بدأ الخلق ، قادر على أن

__________________

(١) الزمخشري ، أبو القاسم ، محمود بن عمر ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، ج : ٣ ، ص : ٤١٨.

٢٢

يعيده .. وبذلك تتكامل النظرة عندهم للمسألة الإلهية في قضية الحياة والموت ، ليفكروا بعد التجربة الحيّة في الدار الآخرة ، بحركة الحياة والموت في قدرة الله ، والله العالم.

* * *

اعتراف أهل النار بذنوبهم

(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) ورجعنا إليك في إيمان صادق وتوبة خاشعة لأننا أدركنا الحقيقة الإيمانية الواضحة بعد أن كنا غافلين عنها (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) لنتبع دعوتك من جديد ، من خلال هذا الوضوح في الرؤية الذي تحوّل في وجداننا إلى فيض من الإشراق الروحي بعظمة الله. وقد لا يكون هذا الكلام سؤالا يبحث عن جواب ، بل هو تعبير عن حيرة وإحباط إنسان غلبه اليأس والقنوط.

* * *

(فَالْحُكْمُ لِلَّهِ)

(ذلِكُمْ) ذلك الواقع الذي لا سبيل لكم إلى الخروج منه (بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) وجحدتم وحدانيته (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) بكل رموز الشرك ومواقعه ، ولم تكفروا من موقع حجة ، ولم تشركوا على أساس برهان ، ولم تغلق عنكم أبواب المعرفة ، بل كانت مفتوحة لكم بكل رحابة الحقيقة في الطرق الموصلة إليها. فكانت لله عليكم الحجة ، وليست لكم أيّة حجة في ذلك كله ، (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) الذي يحكم على عباده الكافرين المشركين الخاطئين بما يستحقونه دون أن يملك أحد معارضته ، لأنه العليّ الذي علا على كل خلقه ، الكبير الذي يصغر الكون وما فيه أمام حجم قدرته وعظمته.

* * *

٢٣

بين آيات الله وعمق الإيمان

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) في الكون ليهديكم إلى معرفته من موقع الحسّ الذي ينقل الصورة ، ومن موقع العقل الذي يحرّك كل مفرداتها في ساحة الإيمان بالله الواحد (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) في ما ينزله من مطر يحيي الأرض بعد موتها ، ويمنح الحياة فيها لكل شيء يدبّ عليها ، ويعيش فيها .. أو في ما يقدّره الله من رزق للناس جعله بتدبيره ورحمته وحكمته ، وأنزله إليهم بأسبابه مما يفرض عليهم أن يتذكروا ربهم ليعرفوه وليؤمنوا به ، وليواجهوا المسؤولية أمامه فيطيعوه في ما أمرهم به ونهاهم عنه .. ولكن الكثيرين لا يتذكرونه بل يظلون سادرين في غيّهم ، مستغرقين في غفلتهم ، (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) ويرجع إلى الله في وعي المعرفة وعمق الإيمان.

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) فهذا هو التعبير الحيّ عن الموقف الإيماني ، والشعور العميق بالحضور الإلهيّ الشامل الذي يستوعب الكون كله فيشرق فيه بنوره ، ويرعاه برحمته وقدرته وحكمته ، ويشرف على الإنسان في وجوده في ما يطّلع عليه من خفايا نفسه ، وأسرار حياته ، ويدبّر له كل شؤونه الماديّة والمعنوية .. بما يجعل كل حاجاته الخاصة والعامة خاضعة لإرادته ، الأمر الذي يدفع الإنسان إلى الرجوع إليه في ذلك كله في ابتهال خاشع ، وإخلاص عميق ، تعبيرا عن إخلاص الدين كله لله ، فإن الدعاء يمثل الارتباط الحيّ بالله في ما يوحي به من انفتاح الروح بحاجاتها ومشاعرها ، على الله ، ليكون ذلك التحدي العملي للكافرين الذين يتحركون بعيدا عن الله ، كما لو لم يكن الله موجودا أو مهيمنا على الكون ، أو للمشركين الذين يستغرقون في عبادة غير الله ويغفلون عن عبادته (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) في مواقع ملكه بحيث لا يستطيع أحد أن يبلغ درجات هذا العلو الذي يعبّر عن عظمته وعلوّه ، (ذُو الْعَرْشِ) الذي يمثل الموقع الأعلى في السماوات،

٢٤

باعتبار أنه مظهر السلطة. وربما كان كناية عن السلطة المطلقة (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ربما كان المراد بالروح ، الوحي أو الرسالة التي تنزل بأمره ، وهو المظهر الحيّ لإرادته ، على من يشاء من رسله الذين اصطفاهم لرسالاته (لِيُنْذِرَ (١) يَوْمَ التَّلاقِ) فيعرّفهم يوم القيامة ، ليفكروا فيه ، وليذكروه دائما وليحسبوا حسابه في كل أعمالهم وأقوالهم ، ليتحملوا المسؤولية فيه ، (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) لا يحجبهم حجاب (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) لأن الله مطّلع على كل خفاياهم وأسرارهم ، بما لا يعرفونه من أنفسهم.

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ويتطلّع الجميع إلى السؤال الذي يتحدى كل الواقع الإشراكي الذي يلتزمه الكثيرون في عقيدتهم وانتماءاتهم في الدنيا .. وينطلق الجواب الذي يفرض مضمونه على الموقف كله ، والجمع كله ، في ما يرونه من الواقع المهيمن على الأمر كله (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) الذي تنطلق وحدانيته من موقع خلقه للكون كله كما ينطلق قهره من سيطرته المطلقة على الدنيا والآخرة.

* * *

(لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ...)

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) فهذا هو منطق العدل في الآخرة ، كما هو في الدنيا منطق العدل ، والقيمة الروحية والاجتماعية والأخلاقية ، فشعار يوم القيامة (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) لأن الله غنيّ عن ظلم أحد ، لأن الظلم ينطلق من موقع ضعف الظالم أمام المظلوم وما يعيشه تجاهه من عقدة تأكل حسّ الطمأنينة في داخله .. ولذا فلا معنى للظلم هناك ، كما لم يكن هناك معنى للظلم في الدنيا. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فلا يشغله حساب أحد عن حساب غيره ، فهو يحاسب الخلق جميعا كما خلقهم جميعا من دون خطأ في الحساب ، لأنه لا ضغط في هذه المسألة في أيّ شيء.

* * *

٢٥

الآيات

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٢)

* * *

معاني المفردات

(الْآزِفَةِ) : القريبة الدانية ، والمقصود بها يوم القيامة.

(كاظِمِينَ) : من الكظم : شدة الاغتمام.

(حَمِيمٍ) : صديق أو قريب.

(واقٍ) : حافظ.

* * *

٢٦

(أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ)

وتتوالى الآيات التي تنذر وتذكر وتتوعد وتلامس القلب والشعور بطريقة توحي بالصدمة ، وتجعل الإنسان يقف حائرا وحده ، يلتفت ذات اليمين وذات الشمال ، فلا يرى أحدا ينجده ، ولا وليا ينصره .. فليس هناك إلا الله ، وحده ، هو الذي يملك المصير كله.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي يوم القيامة القريبة الدانية التي يرونها بعيدة ونراها قريبة ، لأنها آتية لا ريب فيها ، وحدّثهم عن أهوالها (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) وذلك كما لو كانت القلوب تقفز من مقرّها وتبلغ الحناجر من شدّة الخوف ، وهم يعيشون الغمّ الشديد الذي يحتبس في نفوسهم فلا يملكون أن يخرجوه أو ينفّسوا عنه بالتعبير عن أحاسيسهم ومشاعرهم الدفينة (ما لِلظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية (مِنْ حَمِيمٍ) حيث لا صديق يشاركهم مشاعرهم ، (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فيستمع إلى شفاعته ، لأن الشفاعة لله وحده الذي (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) فيرصد النظرة الخائنة التي تتلصص وتتجسس وتخون مشاعر العفة في الإنسان ، مما لا يطلع عليه أحد (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) في ما تختزنه الصدور من أسرار وخفايا ، وفي ما تخفيه المشاعر من عواطف وانفعالات .. مما لا يستطيع الناس اكتشافه إلّا بوسائل خاصة ، ولكن الله يعلمه بعلمه الذي لا يخفى عليه شيء.

* * *

القضاء لله

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) لأنه يملك الفصل بين الناس يوم القيامة بالحق

٢٧

الذي يمنح كل واحد حقه على مقتضى عدله (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) لأنهم لا يملكون أيّة سلطة تسمح لهم بالقضاء ، أو أيّ موقع يفسح لهم مجال ذلك لأنهم مملوكون لله ، لا يملكون إلّا ما ملّكهم من أمورهم أو أمور الآخرين. وربما كانت الآية توحي بالمعنى الشامل الذي يتحدث عن قضاء الله في حكمه وتدبيره للخلق من الناحية التكوينية والتشريعية (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الذي يحيط بكل المسموعات والمبصرات إحاطة ذاتية من موقع علمه المطلق بالأشياء.

* * *

لا واقي من الأخذ الإلهي

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة و (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء المشركين المكذبين بالله ورسوله ورسالته (قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) في ما يملكونه من القوّة الجسدية والمالية والمعنوية ، ومن الطاقات التي يبنون فيها المدائن الحصينة والقلاع المنيعة والقصور العالية ، (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) في ما كانوا يعيشون فيه من طغيان وتعسف وكفر وشرك وجحود وعصيان (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) فليس هناك في الكون كله من يستطيع أن يقي الناس من الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا) فهذا هو الأساس في الأخذ الإلهيّ ، (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) أخذ عزيز مقتدر ، (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) فليفكر الجاحدون المتمردون بقوّته وشدته في العقاب ، لتتوازن خطواتهم في خط التقوى ، ولتتجه إلى الصراط المستقيم.

* * *

٢٨

الآيات

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ) (٢٩)

* * *

٢٩

معاني المفردات

(وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) : حجة واضحة.

(عُذْتُ) : لذت واعتصمت.

(مُسْرِفٌ) : المسرف هنا : من تجاوز الحد في معاصي الله.

(ظاهِرِينَ) : غالبين.

* * *

فرعون في مواجهة موسى عليه‌السلام

وهذه صورة من قصة موسى ، قد تختلف في بعض ملامحها عن القصة المذكورة في الآيات السابقة ، وتبرز فيها شخصية نموذجيّة للإنسان المؤمن الذي يتحفز لمواجهة كل الواقع الطاغي ، الذي ارتفع طغيان الظالم فيه إلى مستوى ادعاء الألوهية في وحشية وتسلط ليصدم اعتزاز ذاك الظالم بموقعه ، وطريقته الاستعراضية في إثارة الناس ضد الرسول والرسالة. مع ملاحظة مهمّة وهي أن هذا المؤمن جزء من العائلة المتألّهة ، وبذلك فإن لانفصاله عن تلك العائلة قيمة كبيرة بما يؤكده في ذلك من قوّة إيمان ، وصلابة موقف ، وشخصية مميّزة قويّة ، استطاع بها أن يتخلص من كل الإغراءات التي قدّمت إليه على طبق من ذهب.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) التي تمثل المضمون الفكري والروحي للرسالة في ما يريد ـ من خلاله ـ أن يقنع فرعون وقومه والناس جميعا بالإيمان به والانتماء إليه ، (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) مما مكنه الله عليه من معجزات خارقة للعادة كاليد البيضاء والعصا ونحوهما.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ) اللذين كانا يمثلان المركز الأعلى في السلطة

٣٠

السياسية الطاغية ، (وَقارُونَ) الذي كان يمثل القوّة المالية في المجتمع ، وهذه هي الآية الوحيدة التي يتحدث فيها القرآن ، عن قارون باعتباره إحدى الشخصيات البارزة التي أراد الله لموسى أن يبلغها الرسالة ، بشكل مباشر.

ولعلّ الحديث عن هؤلاء الثلاثة ، يعود إلى قوّة تأثيرهم على المجتمع لكونهم يمثلون رموز المجتمع السياسية والمالية التي ألف الناس الخضوع لها في الفكر والانتماء والممارسة.

(فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) لأن هاتين الصفتين تسقطان عن موقف موسى الرسالي صبغة القداسة ، في الكلمة ، وفي الخط والموقف .. ليكون وصفه بالساحر سبيلا لإدخاله في نادي السحرة الذين يحترم الناس ألا عيبهم المثيرة ، ولا يرتبطون بفكرهم وخطّهم في الحياة ، فإذا أضيفت إليها صفة الكذاب ، أصبح بعدهم عنه أمرا حاسما .. فقد خان هذا الساحر جمهوره عند ما اندفع إليهم من موقع السحر ، ليدّعي دعوى غريبة تربطه بالسماء كذبا وبهتانا (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) في ما تتميز به الرسالة من مضمون الحق كعنوان للفكر والمنهج والحركة والموقع .. لم يقابلوه بالتأمّل والحوار الناقد ؛ بل قابلوه بالقوّة المتعسفة المعاندة المتوحشة ، و (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) فهذا هو المنطق الذي استخدمه فرعون في حكمه الطاغي قبل ولادة موسى ، اضطهادا لبني إسرائيل .. وهو المنطق نفسه الذي واجه به موسى ومن آمن معه ، فقد أمر بقتل الأبناء ، لئلا يمتد الإيمان إلى الجيل القادم ، وليكون ذلك عقوبة رادعة للمؤمنين ليتراجعوا عن هذا الإيمان ، (وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) لإبقائهنّ للخدمة ولغير ذلك من الأغراض الفاسدة .. وقد نلاحظ ـ في هذا الموضوع ـ أنّ هؤلاء الطغاة لم يأمروا بقتل المؤمنين أنفسهم ، بل بقتل أولادهم في سبيل الضغط عليهم ، مما قد يوحي أن هناك مانعا يمنع إجراء كهذا وهو الإجراء الطبيعي في مثل هذه الحالات.

(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) فلن يستطيعوا بلوغ غاياتهم في ما

٣١

يكيدون وفي ما يخططون ، لأنهم لا يتحركون من قضية حقّ وعدل بل يتحركون من عقدة باطل وظلم ، لإسقاط الحياة ، لا لتقويمها وإسعادها.

* * *

فرعون يؤلب الناس على موسى عليه‌السلام

(وَقالَ فِرْعَوْنُ) ـ وهو يستشير قومه ـ ليبقى له الموقع المميز بينهم .. (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) فيبدو ، أنه كان يواجه معارضة منهم ، ولهذا فإنه يطلب منهم أن يوافقوه على قتله (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) فهذا الرب لن يستطيع أن ينصره علينا. ثم بدأ عملية الإثارة التي تخاطب مشاعرهم ، وتستثير غرائزهم ، وتحرّك عصبيتهم (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) الذي درجتم عليه منذ بداية تاريخكم وينقلكم إلى عبادة الإله الواحد (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) الذي قد يسيء إلى النظام العام ، وإثارة الفتنة ، وتحريك المشاكل ضد الحكم الطاغي. هذا هو الأسلوب الذي يستعمله الطغاة في تأليب الناس ضد من يعملون على إصلاح الواقع وإسقاط حكمهم وتغيير النظام الفاسد .. فهم يتهمونهم بالكلمات المثيرة للمشاعر ، كالتخريب ، والإفساد وتبديل الدين ونحو ذلك .. وهذا ما حاول فرعون فعله في مواجهة موسى ليحصل على تأييد قومه لفكرة قتله.

* * *

موسى عليه‌السلام يبطل تأثير كلام فرعون في النفوس

(وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) فليست قوّتي الذاتية هي التي أواجه بها هذا المنطق التهديدي الذي تستخدمونه ضدي بما تملكونه من قوّة كبيرة ، بل إنني أستجير بقوّة الله منكم ، وأنا واثق بأني سأحصل منها على ما أريد ، لأني لا أتحرك من موقع ذاتي ، بل من موقع رساليّ ، وهو موقع يحقّق لي الشعور بالأمن منكم و (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) ولا يخاف

٣٢

نتائج عمله ، لاستغراقه في الأنانية والكبرياء اللتين تبعدانه عن التفكير في الواقع بموضوعية وفي النتائج بمسؤولية ، وتلك هي مشكلة الاستكبار التي تمنع الإنسان من الإيمان بيوم الحساب.

ومن خلال ما ذكرناه ، فإننا نلاحظ أن موسى لم يقل هذا الكلام من موقع ضعف ، بل حاول التأثير على نفسياتهم ومواقفهم عبر الإيحاء بأن الله الذي هو ربّه وربّهم يدعم موقفه ، ليبطل تأثير كلام فرعون في نفوسهم ، وليبعث الخوف في نفس فرعون بالذات ، كردّ على كلامه في مواجهة موقع موسى عند ما قال : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ).

* * *

مؤمن آل فرعون : نموذج إنسانيّ إيمانيّ

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) .. وهذا نموذج إنسانيّ إيماني ، يريد القرآن أن يقدمه لنا عبر ما يمثله من مواقف في تاريخ العقيدة الإلهيّة وحركة الأنبياء وتأثيرها في حياة مجتمعاتهم الكافرة والضالّة ، ويضعه في مستوى الظاهرة البارزة بسبب الموقف الرائع الذي اتخذه في عملية التحدي.

فليس من المستبعد أن ينشأ إنسان مؤمن في مجتمع الكفر بصورة عامّة ، ولكنّ من المستبعد جدّا أن يكون هذا الإنسان المؤمن جزءا من الجهاز الحاكم الذي يرعى حركة الكفر وينمّيها ، ويحارب كل من يعارضها أو يقف في وجهها باعتبار أن الكفر هو مصدر امتيازات الحكم التي حصل عليها ، وبالتالي فإن سيادة الإيمان في المجتمع تفقده قداسة الشخصية وقداسة المركز ، وهو أمر نلاحظه في وضعيّة فرعون بالنسبة لمجتمعه ، فهو كان يحكم المجتمع من موقع شعور الناس بقداسته ، لأنه يجسّد الألوهية أو يحمل جزءا منها ، يبرّر

٣٣

مطالبتهم بالخضوع له وتقديسه.

* * *

المؤمن ـ الظاهرة

وعلى ضوء هذا ، نستطيع أن نقرّر أن مؤمن آل فرعون يمثّل ظاهرة مشرقة جديرة بالتأمّل والدرس ، وباعثة على الأمل في ظلمات اليأس ، عند ما يجد الداعية الأجواء مكفهرّة أمامه ، فإنه سيلتقي أملا أخضر لظهور وجه جديد غير منتظر ، يحمل الرسالة معه ، ويجاهد من أجله ، من دون التفات للامتيازات أو الإغراءات المطروحة أمامه ، أو الموجودة لديه.

وقد صوّر لنا القرآن الكريم ، هذا المؤمن ـ الظاهرة بصورة الإنسان الرساليّ الذي يمتلئ قلبه بالحزن على قومه ، فتزحف مشاعره على كلماته لتتلمسها بحذر وهدوء ، لتفتح نافذة على الحق هنا ، أو هناك ، وتفسح مجالا للضوء ، كي يخترق بعض خيوط الظلام ، لينطلق الضياء خطوة خطوة لمعة في الأعماق ، وإشراقة في الضمير ، قبل أن يشعر جنود الظلام بأن جحافل الفجر تعدّ في مقالع الضوء أعمدة الشروق.

ثم يندفع في رسالته ، وتتصاعد الكلمات بقوّة ، وتتفجّر الآلام بحزم ، وتنطلق الكلمة الحاسمة ، لتكشف عن الحق ، فيحسم الموقف بالنداء القويّ الهادر الذي يترك الحذر خلفه ، ليستقبل المجابهة بقوّة.

ولعل قيمة هذا المؤمن الكبيرة تتمثل في هذه الانطلاقة الإيمانية التي عاشت في نفسه فعبّأت داخله بكل معاني الحياة الكبيرة ، حتى تحوّل إلى إنسان لا يكتفي بالجانب الذاتي للإيمان الذي يضمن مصيره في الآخرة من دون أن يترك أيّ أثر حركيّ في موقفه تجاه الآخرين ، كما هي حال كثير من المؤمنين الذين يشعرون بأن مسئوليتهم تجاه الإيمان تنتهي عند ما يقومون بما يفرضه

٣٤

عليهم من أعمال وعبادات أو ممارسات فرديّة ، لأنّ ذلك هو سبيل النجاة في الآخرة .. أمّا الأعمال التي تعرّض الإنسان للخطر ، بفعل واقع المواجهة القويّة للتحديات الفكرية والاجتماعية والعسكرية ، فليس مما تفرضه عليهم مسئولية الإيمان ، فإن لتلك الأعمال أهلها وأصحابها.

أمّا هذا المؤمن فلم يكتف بهذا الجانب ، بل اعتبر الإيمان مسئولية المؤمن ، لارتباطه بقضية الخلاص الشخصي في الدنيا والآخرة ، وعلاقته بخلاص الآخرين ، لأن من طبيعة الإيمان أن يعيش المؤمن ـ في نفسه ـ حركة الرسالة وامتدادها في حساب المسؤولية التي تحوّل كل المؤمنين إلى رسل صغار ، بحسب طاقتهم وقدرتهم ، كما تحوّل الأقوال والأفعال إلى رسالات تتحرك في أكثر من اتجاه لتلتقي ـ بعد ذلك ـ في نطاق الهدف الواحد الكبير ، وهو سعادة الإنسان في ظلّ شريعة الله ورسالته.

* * *

سبب كتمه لإيمانه

.. وكان يكتم إيمانه ، لا بسبب الخوف ، فقد كان ، في ما يبدو ، يملك الموقع القويّ الذي يكفل له الحماية من قومه ، ولكن كي يحصل على حرية الحركة في خدمة الرسالة من خلال الإيحاء بالحياد والاعتدال ، إزاء واقع التطرّف المتمثل في موقف فرعون المتوتر والحاقد ضد الرسالة والرسول ... فقد بدأ العمل على تفشيل مخططات فرعون ضد موسى بهدوء ، من خلال نثر الكلمات التي توحي بالتفكير وتبعث على اليقظة ، هنا وهناك ، مع هذا الشخص أو ذاك ، ولدى هذه المجموعة أو تلك ، حتى نستطيع أن نرجع إلى تأثيره في موقف فرعون الخائف الذي كان يستجدي تأييد أتباعه لاتخاذ موقف شديد ضدّ موسى ، ولكنه لم يحصل على شيء من ذلك ، فقد يظهر لنا ، من خلال دراستنا للحوار الذي كان يديره مع قومه ، أنه كان يعمل على تفريغ القوّة

٣٥

من الداخل حتى يرتفع الضغط عن الرسالة من جهة ، وتقوى خطوات الرسول من جهة أخرى .. وكان يتابع عمله هذا من موقع القوة التي يتمتع بها لا من موقع الضعف ، لأننا نلاحظ ـ في ما يأتي من حديث القرآن عنه ـ أنه كان يعبّر عن رأيه في كثير من المجالات بصراحة وقوة من غير أن يجابه بأيّ ردّ ، أو محاولة للرد من أحد.

وقد تحدث القرآن عن هذا المؤمن ، وعن مواقفه في إطار حديثه عن قصة موسى مع فرعون ، حيث نلتقي به في هذا الجو الجديد من الحوار الذي نرى فيه فرعون مجتمعا بقومه ، طالبا منهم إعطاءه الحرية في قتل موسى ، متذرّعا بالأسباب التي يتذرّع بها الطغاة ـ عادة ـ للقضاء على خصومهم من أصحاب المبادئ والرسالات والأفكار الإصلاحية ، وهي المحافظة على النظام وصلاح أمر البلاد والعباد.

* * *

الحوار غير المباشر بين المؤمن وفرعون

وهنا يقف هذا المؤمن ، لينطلق صوته من الداخل ، في أسلوب لايجابه فيه فرعون بشكل مباشر ، بل يتجه به إلى قومه ليمنعهم من التجاوب مع فرعون في طلبه .. فنلتقي بالموقف الرائع الذي يرسم لنا صورة جديدة من الحوار الذي لا يلتقي فيه المتحاوران وجها لوجه ، بل يطرح أحدهما الفكرة في حياة المجتمع ، وينطلق الآخر مع أفراد المجتمع لرد الفكرة وإظهار فسادها وخطئها ، لأن الطرف الأول للحوار لا يمكن أن يخضع لروح الحوار في أجواء البحث عن الحقيقة ، لأن القضية عنده قضية سلطان يجب أن يدوم ويستمر ، لا قضية حقّ يجب أن يقوم وينطلق ، ولهذا فإن مواجهته بالنقد والحوار لا تحقق أية نتيجة ، لأنها قد تشارك في خنق الصوت وقتله ، أو في إقامة الحواجز بين المجتمع وبينه ، لذا فإن الخطة العملية تقضي بالتوجه إلى المجتمع بعيدا عن

٣٦

أجواء الحاكم وضغوطه ، ليلقي إليه بما يواجه الفكرة المطروحة ، فإن ذلك هو السبيل الأفضل للوصول إلى النتيجة ، بدون سلبيات. ولعل روعة هذا الأسلوب الجديد في الحوار تكمن في أنك لا تلتقي فيه بصوت فرعون يرنّ في القاعة في جانب ، وصوت هذا المؤمن ينطلق في جانب آخر ، بل تسمع صوت موسى ينساب هادئا رساليا في بعض الحالات ، لتعطينا الصورة الرائعة للرسالة ، وهي تتحرك بين الرسول والطاغية من جهة ، وبين الطاغية والمؤمن بالرسالة من جهة أخرى. وهم جميعا يحاولون إيصال المجتمع إلى ما يريدون ، في الوقت الذي نشعر فيه أنه يمارس في المجتمع دورا حركيا مضادا بل يبقى خاضعا للتأثيرات النفسية والفكرية التي تأتي من هنا وهناك ، من دون أن يمارس دورا مستقلا ، لأنه لم يستطع التخفف من ضغط الجو الحاكم عليه تماما ، ولذلك ، كان يتأرجح بين رواسبه ومصالحه ، وبين مشاعره وأفكاره في عملية تجاذب وصراع.

(أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) نلاحظ أن هذا المؤمن يتخذ في البداية مظهر الإنسان الحيادي البعيد ـ نسبيّا ـ عن موضوع الخلاف ، فيناقش المسألة المطروحة باعتباره فردا من أفراد العائلة الحاكمة ، بأسلوب هادئ خفيف ، فقد كان فرعون يطلب من قومه ، إعطاءه الحرية في قتل موسى دفاعا عن العقيدة والنظام ، اللذين جاء موسى لتخريبهما حسب ادعائه. وهنا يتدخل هذا المؤمن ـ في أسلوبه الواقعي الحذر ـ ليواجههم باستنكار فكرة قتل موسى لأنه قال : إن ربي الله ، في حشد من البيّنات والبراهين التي تدعم دعواه وتؤيّدها ، فهو لا يملك الرجال والسلاح لتخافوا منه على الملك ، فهو يطرح الفكرة من خلال الرسالة ، فاتركوه وشأنه ، فإن كان كاذبا فسيجني جزاء كذبه دون أن يصيبكم منه شيء ، وإن كان صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ، وهذا ما عبرت عنه الفقرة التالية : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ

٣٧

هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) فلا تكونوا من المسرفين الذين يتجاوزون حدود الحق في تفكيرهم وفي موقفهم فيدّعون ما ليس لهم بحق ، ولا تكونوا من الكذابين الذين يكذبون على الناس بالباطل في ما يدّعونه من ربوبية من ليس ربّا ، وفي ما يثيرونه بين الناس من أكاذيب في قضايا الحياة العامة والخاصة.

* * *

المؤمن يثير الخوف من بأس الله

ثم بدأ في إثارة الخوف بالمقارنة بين ما يملكون من قوّة وسطوة ، وبين ما يصوّره موسى من قوّة الله المطلقة التي لا يملكون إزاءها أيّ دفاع لأنها فوق ذلك كله : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) في ما تملكونه من غلبة وعلوّ في الموقع وفي السلطة ، ولكن ما حجم قوتكم هذه ، مهما كانت كبيرة ، أمام قوّة الله الذي يهددنا موسى بعذابه (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) فأخذنا بعذابه ، فهل نستطيع دفاعا ، وهل نستطيع مواجهة بأس الله لتكون لنا الغلبة ، أو لندفع عن أنفسنا العذاب.

* * *

فرعون يطلق حكمه المتعسّف

ولم يشأ فرعون ـ في ما يظهر ـ أن يجيب عن هذا اللّون من الكلام ، بل استعمل أسلوب الحاكم الذي يطلق حكمه من دون مناقشة ، بأسلوب حاول فيه التخفيف من تأثير كلام المؤمن عليهم ، معلنا للناس أنه يريهم ما يراه ولن يهديهم إلا سبيل الرشاد (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) فتلك قضية لا ينتظر لها جوابا ، لأن دور الأتباع أن يتلقّوا كلامه ، كحقيقة لا تناقش ، كما يفعل كل الطغاة أمثاله ، في عملية إيحاء بما يملكونه من قوة تطلق أوامرها من الموقع الأعلى الذي يفرض الطاعة على الجميع.

* * *

٣٨

الآيات

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣٥)

* * *

معاني المفردات

(دَأْبِ) : عادة.

٣٩

(يَوْمَ التَّنادِ) : المقصود يوم القيامة.

(عاصِمٍ) : مانع.

(صَرْحاً) : الصرح : البناء الظاهر.

(الْأَسْبابَ) : السبب : كل ما يتوصل به إلى شيء يبعد عنك.

(تَبابٍ) : هلاك وخسار.

* * *

مؤمن آل فرعون يخوّف قومه ويذكّرهم مصير الأمم السّالفة

.. ووقف مؤمن آل فرعون مجدّدا أمام الناس ليرد على فرعون بأسلوب جديد ، يطرح فيه قضية موقفهم من موسى ليخوّفهم من المصير المظلم الذي قد يستقبلهم كما استقبل غيرهم من الأمم التي وقفت الموقف نفسه ، فحاربت أنبياءها واضطهدتهم من دون أن تعطيهم حرية التعبير عما يحملونه من فكر وما يدعون إليه من رسالة.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) من الأمم التي سبقتكم وتكتلت أحزابا للكفر ، وجماعات للضلال ، وتمرّدت على الله وواجهت رسله ، وحاربت رسالاته ، (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) هؤلاء الذين عذّبهم الله في الدنيا قبل الآخرة ، بعد أن أقام عليهم الحجة ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) بل العباد هم الذين يظلمون أنفسهم بالكفر بالله والتمرد على رسله.

(وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) وهو يوم القيامة الذي ينادي فيه الظالمون بعضهم بعضا أو ينادون بالويل والثبور على ما اعتادوا به في الدنيا ،

٤٠